«تركيا أغلقت باب التجارة مع إسرائيل واعتبرت حجم التجارة الثنائي البالغ 9.5 مليار دولار غير موجود».
– تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، 3 أيار 2024.
تعتبر الخطوة التركية بوقف العلاقات التجارية مع «إسرائيل» بما يشمل صادرات وواردات جميع المنتجات تحوّلًا جذريًا في مقاربة تركيا تجاه الحرب على غزة بشكل خاص، والعلاقات مع «إسرائيل» بشكل عام. فلطالما اختارت تركيا فصل الاقتصاد عن السياسة في مقاربتها للصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» ما يجعل هذا التحول قفزة كبيرة عما ظل من المسلمات لفترة طويلة. إذ تميزت السياسة الخارجية التركية بمرونة براغماتية لطالما حالت دون تحوّل الأزمات السياسية إلى عائق أمام تطور العلاقات التجارية ونموها. يُلاحظ ذلك بوضوح في نماذج علاقات تركيا مع دول عدة عاشت معها أزمات شائكة في مراحل مختلفة خاصة في السنوات الأخيرة كما هو الحال مع «إسرائيل»، واليونان، والإمارات، ومصر، وغيرها.
لا يخفى على أحد أن أنقرة عاشت أزمات سياسية ودبلوماسية متعددة مع تل أبيب خلال أكثر من عقدين من حكم العدالة والتنمية، لكن العلاقات التجارية بين البلدين ظلت محايدة وفي مسار تصاعدي حتى في أحلك الظروف. فإضافة إلى جميع حروب غزة السابقة واعتداءات «إسرائيل» في الضفة والقدس وما أنتجته من صدامات وتراشق إعلامي إلى حد الشخصنة بين الجانبين، بل وحتى عقب مجزرة مافي مرمرة التي استشهد فيها مواطنون أتراك، استمرت العلاقات التجارية بين تركيا و«إسرائيل» في النمو بشكل لافت جدًا إلى درجة أن العديد من الباحثين اعتبر أنها تحولت إلى شبكة أمان تساهم في منح الجانبين أرضية لتطبيع العلاقات من جديد بعد كل أزمة سياسية. وعليه يمكن القول إن الخطوة التركية التي استهدفت العلاقات التجارية مع «إسرائيل» هي خطوة غير مسبوقة تنذر بتحول تاريخي في العلاقات التركية «الإسرائيلية»، بحيث تنتهي مرحلة حصانة الاقتصاد في أزمات السياسة.
ارتفع التبادل التجاري بين تركيا و«إسرائيل» في العقدين الماضيين بشكل مضطرد من 1.41 مليار دولار في العام 2002 إلى مستوى 9.5 مليار دولار في العام 2022 قبل أن يتراجع في العام 2023 إلى 6.8 مليار دولار بسبب الحرب وتأثير حركة المقاطعة الشعبية بين الجانبين. إذ سجلت الصادرات التركية إلى «إسرائيل» مستوى 5.2 مليار دولار بينما كانت الصادرات «الإسرائيلية» إلى تركيا عند مستوى 1.6 مليار دولار. في العام 2022 كانت تركيا رابع أكبر مُصدّر إلى «إسرائيل» وهو العام الذي شهد ذروة تجارية بين الطرفين. فيما احتلت «إسرائيل» عام 2023 المرتبة الثالثة عشر بين أهم الدول التي تصدر إليها تركيا.
تتميز العلاقات التجارية بين تركيا و«إسرائيل» بأن كفة الميزان التجاري تميل لصالح تركيا بشكل ساحق. فلا تستورد «إسرائيل» موادًا غذائية وخضراوات وملابس من تركيا فقط، بل تعتمد عليها في جزء أساسي من واردات مواد حيوية مثل منتجات الأسمنت والحديد والصلب والنفط والبلاستيك والأسلاك والسيارات والكيماويات. فمثلًا تشير مصادر سياسية وإعلامية تركية إلى أن شركات تركية تلبي 95% من احتياجات «إسرائيل» من منتجات الأسمنت، عدا عن تلبيتها 65% من حاجتها من الحديد والصلب.
وفي الوقت الذي ستخسر فيه تركيا بفعل قطع العلاقات التجارية خسارة مادية لافتة فإنه من المتوقع أن تعاني «إسرائيل» بشكل كبير في تعويض العجز نتيجة الخطوة التركية ما قد يخلق صعوبات ملموسة خاصة في قطاعات مثل الصناعة، والعقارات، والمواصلات خاصة الطيران، والبريد، والسيارات، والمحروقات. بالمقابل تستورد تركيا من «إسرائيل» مواد كيميائية ومنتجات عالية التقنية ومنتجات الزيوت والوقود المعدني، ما يجعل قدرتها على تجاوز التبعات الاقتصادية المباشرة لوقف التجارة أسهل بالمقارنة مع «إسرائيل».
ما الدوافع وراء قطع العلاقات؟
يمكن القول إن الدافع التركي الرئيس لفرض عقوبات تجارية على «إسرائيل» هو السياسة الداخلية أو بالأحرى انعكاسات ملف غزة على الداخل التركي. فقد جاءت هذه الخطوة بعد شهور طويلة من الإبادة في غزة وما تخللها من جرائم إسرائيلية كثيرة وجدل تركي داخلي كبير طالبت خلاله فئات متنوعة باتخاذ خطوات أكثر عملية ضد دولة الإبادة، بما في ذلك وقف العلاقات التجارية معها. تجاهل العدالة والتنمية وحكومته هذه المطالبات حتى تحول ملف التجارة مع «إسرائيل» بشكل لافت إلى أحد أبرز ملفات الجدل التي وظفتها الأحزاب الأخرى ضد الحزب الحاكم خلال الانتخابات المحلية الأخيرة. وربط العديد من المحللين بين الموقف التركي الرسمي من حرب الإبادة ضد قطاع غزة والهزيمة التاريخية للعدالة والتنمية في الانتخابات البلدية الأخيرة وتراجعه لأول مرة إلى موقع الحزب الثاني على مستوى تركيا لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض.
بدا واضحًا في الانتخابات الأخيرة أن النواة الصلبة لكتلة المحافظين الداعمة للعدالة والتنمية كانت غاضبة من عدم اتخاذ الحزب خطوات عملية ضد التجارة مع «إسرائيل». فشهدت الانتخابات عزوف جزء من ناخبي العدالة والتنمية عن التصويت وتوجه جزء آخر نحو خيارات أخرى أبرزها حزب الرفاه الجديد الذي ركز هجومه بشكل مكثف على حكومة العدالة والتنمية لعدم اتخاذها أي موقف تجاه التجارة مع «إسرائيل» بشكل خاص. وفي ظل هذا النزيف الانتخابي اللافت، تأتي العقوبات التجارية التركية ضد «إسرائيل» باعتبارها تجاوبًا سياسيًا مع الرسالة الاحتجاجية الشعبية التي أظهرتها صناديق الاقتراع ومحاولة لاستعادة تماسك القاعدة التصويتية ووقف نزيفها. من اللافت في هذا السياق أن الرئيس أردوغان أشار في أكثر من مناسبة إلى دور ملف التجارة في الانتخابات الأخيرة معتبرًا أن بعض الأحزاب استخدمته «بشكل قاسٍ جدًا» ضد الحكومة من خلال الترويج للأكاذيب على حد وصفه.
ربط العديد من المحللين بين الموقف التركي الرسمي من حرب الإبادة والهزيمة التاريخية للعدالة والتنمية في الانتخابات البلدية الأخيرة وتراجعه لأول مرة إلى موقع الحزب الثاني على مستوى تركيا لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض.
بالمقابل، شدد وزير الخارجية «الإسرائيلي» يسرائيل كاتس على أن الرئيس التركي يخرق الاتفاقيات بإغلاق الموانئ أمام الواردات والصادرات الإسرائيلية متهمًا إياه بأنه دكتاتور يضر بمصالح الشعب التركي ويتجاهل الاتفاقيات الدولية. كما أكد على أن الجانب «الإسرائيلي» سيعمل على إيجاد بدائل للتجارة مع تركيا خاصة محلية ومن دول أخرى في المنطقة. لتعلن وسائل إعلام إسرائيلية رسمية لاحقًا أن تل أبيب قررت تأسيس «لجنة تركيا» لبحث الرد على الخطوة التركية بشكل ملموس بما يشمل دفع الولايات المتحدة للضغط على تركيا. ولذلك يمكن القول إن هذه العقوبات التركية، وإضافة إلى الأزمة التي تخلقها مع «إسرائيل»، قد تؤدي إلى زيادة الضغط الأمريكي على تركيا خاصة في ظل التهديد الإسرائيلي الصريح بتحريض الولايات المتحدة عبر «الأصدقاء في الكونجرس» على حد تصريح الوزير كاتس عقب الخطوة التركية الأولى لتقييد تصدير 54 منتج «لإسرائيل» في التاسع من نيسان الماضي.
تبقى المخاوف من توتر العلاقات التركية الغربية خاصة مع الولايات المتحدة قائمة كأحد أبرز تداعيات الصدام التركي الإسرائيلي المستمر، لكن أنقرة وواشنطن تمكنتا مؤخرًا من بدء مرحلة إيجابية في علاقاتهما عقب إغلاق ملفيْ عضوية السويد في حلف الناتو وصفقة بيع الطائرات المقاتلة لتركيا. لذلك وحتى إن تعالت بعض الأصوات السياسية الأمريكية ضد تركيا فمن المستبعد أن تتبنى الإدارة الأمريكية مقاربة هجومية جذرية مثل فرض عقوبات على تركيا كما تريد «إسرائيل».
إضافة إلى ذلك، تبرز قضية التداعيات الدولية التي قد تفرزها هذه الخطوة على الاقتصاد التركي. فمن المعروف أن تركيا بدأت عملية تعافٍ اقتصادي هشة عبر برنامج تقشفي قاسٍ بهدف خفض التضخم. وعليه وفي ظل هذه العقوبات التجارية على «إسرائيل» وما تحمله من تبعات خارجية، أمام الاقتصاد التركي سيناريوهان رئيسان. فإن ظل الموقف الغربي تجاه تركيا دون صدامية عملية كبيرة فإن الأثر السلبي للخطوات التركية سيكون محدودًا بحيث يظل في إطار خسائر التبادل التجاري على المستوى الثنائي، وإمكانية تحريض اللوبي «الإسرائيلي» لبعض رؤوس الأموال. لكن إن أسفرت الخطوات التركية عن ردة فعل غربية صدامية تصل إلى حد اتخاذ خطوات ضد تركيا فإن ذلك قد يضع الاقتصاد التركي في مأزق يذكر بتهديدات الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، لتركيا وأثرها المدمر.
داخليًا، وبعد تصعيد خطابي كبير على جبهة المعارضة وصل إلى حد اعتبار التجارة مع «إسرائيل» خيانة لفلسطين على حد تعبير زعيم حزب الشعب الجمهوري، كان من اللافت أن المعارضة حافظت على صمتها عقب قرار وقف التجارة. وفي الوقت نفسه، أعلنت أجسام اقتصادية معروفة بقربها من الحزب الحاكم مثل جمعية موسياد وجمعية أسود الأناضول وغرفة تجارة إسطنبول دعمها المباشر لهذه الخطوة التي اعتبرت أنها «ضرورة إنسانية»، مع الإشارة إلى أن جمعية توسياد المحسوبة على المعارضة حافظت على صمتها في حين أن بعض المصدرين الأتراك اعتبروا القرار الرسمي «مفاجأة» مشيرين إلى بحثهم عن طرق بديلة لحفظ مصالحهم.
مستقبل التجارة التركية مع «إسرائيل»
يربط قرار وزارة التجارة التركية وقف المعاملات التجارية مع «إسرائيل» واستمرارها بعملية إدخال المساعدات بشكل كافٍ وبلا انقطاع دون إشارة مباشرة وصريحة إلى قضية وقف إطلاق النار الدائم على عكس خطوات سابقة بما فيها تقييد بعض الصادرات والتي نصت بشكل صريح على قضيتي وقف إطلاق النار والمساعدات معًا. يمكن لهذه الصيغة أن تفسح لتركيا مجالًا أوسع للمناورة والعودة عن هذه الخطوة في المستقبل نظرًا لتداعياتها السياسية والاقتصادية الممكنة على تركيا، لكن ذلك يظل في سياق التخمين، خاصة وأن أردوغان ووزراءه صرحوا رسميًا مرارًا بأن عودة التجارة مرتبطة بوقف إطلاق النار الدائم في غزة.
العقوبات التجارية إحدى أقوى أوراق تركيا في علاقاتها مع «إسرائيل»، وتوظيفها يعني أن العلاقات التركية «الإسرائيلية» تعرضت لزلزال كبير كسر بشكل كامل أحد مسلماتها الحساسة التي استمرت لسنوات طويلة.
بشكل عام تمثل هذه العقوبات التجارية إحدى أقوى أوراق تركيا في علاقاتها مع «إسرائيل» وبذلك يمكن القول إن توظيفها يعني أن العلاقات التركية «الإسرائيلية» تعرضت لزلزال كبير كسر بشكل كامل أحد مسلماتها الحساسة التي استمرت لسنوات طويلة. فلطالما حرص الطرفان على محاولة احتواء خلافاتهما المتكررة بحيث لا تترك ضررًا دائمًا على العلاقات ومستقبلها وفرص تطبيعها من جديد بيد أن وقف تركيا للتجارة في هذه المرحلة هو التعريف الأوضح لخطوة «الضرر الدائم» الذي لا رجعة فيه. فحتى وإن كان من المبكر الجزم بحجم تداعيات الخطوات التركية إلا أن مستوى تعقيد الأزمة بين الطرفين يزداد بشكل متسارع كلما طال أمدها وتراكمت انعكاسات التطورات الميدانية في غزة عليها. بل من الآمن القول إن عملية ترميم العلاقات التركية «الإسرائيلية» مستقبلًا ستكون معقدة جدًا إلى درجة تقتضي حدوث تحولات جوهرية في شكل الحكم لدى الجانبين أو أحدهما وتغيرًا في مقارباتهما الإقليمية والدولية بما يتجاوز القضية الفلسطينية نفسها.
وهنا يبرز سؤال هل يمكن القول إن العلاقات التركية «الإسرائيلية» انتهت؟ إن من الأدق القول إنها اصطدمت بحائط مسدود في هذه المرحلة. فلا زال من الممكن أن يذهب الطرفان إلى حلول مستقبلية صعبة لخلافاتهما خاصة في حال حصول هدوء على الجبهة الفلسطينية، لكنهما أمام معادلة جديدة ازداد فيها تأثير الملف الفلسطيني كمحدد جوهري لعلاقاتهما الثنائية على الأقل في سنوات أردوغان المتبقية وربما بعد ذلك.
ولذلك يمكن القول أن العلاقات التركية «الإسرائيلية» بعد أيار 2024 لن تكون كما كانت قبله. فعلى افتراض أن التجارة ستعود بين الجانبين مستقبلًا سواء بتطبيع سياسي أو بدونه، لا يخفى على أحد أن فرص إقامة علاقات مستقرة ومستدامة بين أنقرة وتل أبيب ستظل مهددة بشكل دائم بشبح تطورات القضية الفلسطينية أكثر من السابق. فمن ناحية، أدركت «إسرائيل» أن عهد فصل الاقتصاد عن السياسة في المقاربة التركية انتهى، ومن ناحية أخرى وظفت تركيا أبرز أوراقها العملية ضد «إسرائيل» بحيث كسرت حاجزًا لطالما تجنبت كسره. وعليه، من المتوقع أن يعمل الجانبان في المستقبل، خاصة الجانب «الإسرائيلي» على البحث عن بدائل وترتيبات أخرى، بما يعني بدأ مرحلة تاريخية جديدة تدفع إلى تقليل مستوى وحجم وثقل العلاقات بين أنقرة وتل أبيب خاصة في ظل التطورات الأخيرة التي يصعب تجاوزها.