عام الأرباح: شركات النفط والغاز الغربيّة في 2022

الخميس 16 شباط 2023
أرباح شركات الطاقة
مصفاة نفط في ويلمنجتون. تصوير بريت هارتمان. رويترز.

مع نشر شركة «توتال إنيرجيز» الفرنسيّة في الثامن من شباط نتائجها الماليّة للعام المُنصرم، تكون شركات النفط والغاز العملاقة في الولايات المتحدة والقارّة الأوروبيّة قد استكملت عمليّة الإفصاح عن أرباحها لعام 2022. سيذكر الناس العاديّون العام الماضي بوصفه أحد الأعوام الحافلة بالأحداث الكبيرة، التي فتحت الباب لمخاضٍ طويلٍ وعسيرٍ قد ينتهي بتغيير جيوسياسيّ عميقٍ في عالمٍ بات أكثر اشتعالًا وجنونًا. سيستذكره الناس عابسين قلقين من احتمالات مستقبلٍ ضبابيّ تُخيّم عليه أشباح الصراعات والفوضى وتختلّ فيه موازين العدل والمساواة وتتضاءل فيه فرص النموّ والازدهار. 

أمّا المُدراء التنفيذيّون لشركات الطاقة وتجار النفط، أصحاب المكاتب الفخمة واليخوت الفارهة البعيدة عن ضجيج الحروب، فسيتذكّرون عام القلق هذا مُنفرجي الأسارير، مُتفائلين بمستقبلٍ واعدٍ يُراكمون فيه المزيد من الثروات، وسيتمنّون لو كان بمقدور عام 2022 أن يُكرّر نفسه إلى ما لا نهاية، لتغدو كلّ السنوات القادمة نسخة منه. والسبب هُنا واضحٌ وبسيط: لقد حقّقت الشركات التي يقودونها أرباحًا تاريخيّة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.  

تُشير الأرقام التي نشرتها شركات النفط والغاز الغربيّة الكبرى خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى أنّها حقّقت مُجتمعة أرباحًا بلغت حوالى 195 مليار دولار في عام 2022، وقد ضاعفت جميعها بلا استثناء، الأرباح التي حقّقتها خلال العام 2021 (في 2019، أي في العام الذي سبق انتشار جائحة كوفيد حول العالم، بلغت أرباح هذه الشركات مُجتمعة 55 مليار دولار فقط). تربّعت شركة «إكسون موبيل» الأمريكيّة على عرش هذه الشركات، مُحقّقة أرباحًا بلغت 55.7 مليار دولار، وهو أعلى من رقم 45.2 مليار دولار الذي حقّقته عام 2008، حين ارتفعت أسعار الخام الأسود إلى 142 دولار للبرميل (تقول التقديرات إنّ الشركة كانت خلال العام الماضي تكسب 6.3 مليون دولار في كلّ ساعة). وعلى المنوال ذاته، فقد كانت أرباح الشركات الأخرى قياسيّة، إذ لم يتحقّق لها طوال تاريخها -ومنها شركاتٌ يزيد عُمرها على أكثر من مائة عام- مثل هذه الأرباح.

هذه الأرباح غير المسبوقة يُمكن عزوها بشكلٍ مباشر إلى تعافي الطلب العالميّ على النفط بعد انحسار جائحة كوفيد، وإلى اندلاع الحرب الروسيّة الأوكرانيّة في شباط الماضي، والتي أشعلت أكبر أزمة طاقة من هذا الحجم والنطاق منذ الحظر العربيّ على صادرات الخام الأسود للأسواق الغربيّة في تشرين الأول 1973. فقد أشاعت الحرب الأوكرانيّة مخاوف عالميّة من نقص إمدادات الطاقة، كما ترافقت مع فرض حزمةٍ من العقوبات على صادرات النفط الروسيّة، ومع خطواتٍ عمليّة للدول الأوروبيّة لإنهاء الاعتماد على إمدادات الغاز الروسيّ التي شكّلت عام 2021 حوالى 45% من واردات أوروبا من هذا الوقود (استفادت شركة «شل» بشكلٍ خاص من ارتفاع أسعار الغاز في السوق العالمي ومن حاجة الدول الأوروبيّة لتقليص الاعتماد على الغاز الروسي، حيث جاءت 40% من أرباحها في عام 2022 من ذراعها التجاري لتسويق الغاز، وتحديدًا المُسال منه). أمّا في الخلفيّة، فإنّ هذه الأرباح جاءت بشكلٍ ما كمحصّلة للنقص المُزمن للاستثمارات المُوجّهة لزيادة الطاقة الإنتاجيّة من النفط لمواكبة الطلب المُتنامي عليه، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع أسعار الخام الأسود بمستوياتٍ كبيرة عند ظهور أوّل مخاوف جيوسياسيّة مُتعلقة بالإمدادات، وهو ما منح شركات الطاقة فرصة ذهبيّة لتعظيم عوائدها إلى أقصى مدى ممكن.

هذه الأرباح غير المسبوقة يُمكن عزوها بشكلٍ مباشر إلى تعافي الطلب العالميّ على النفط بعد انحسار جائحة كوفيد، وإلى اندلاع الحرب الروسيّة الأوكرانيّة وفرض حزمةٍ من العقوبات على صادرات النفط الروسيّة.

وعلى مستوى آخر، فقد أدّت الحرب الأوكرانيّة إلى إعادة مفهوم أمن إمدادات الطاقة إلى جدول الأعمال العالميّ مُجدّدا، وأظهرت هشاشة وعدم واقعيّة الخطط المُقترحة للتحوّل الطاقويّ والحياد الكربونيّ التي سارعت الدول والشركات النفطيّة للإعلان عنها خلال السنوات الماضية. ولا شكّ أن التغيّر في جدول الأعمال هذا سرعان ما سينعكس على استراتيجيّات شركات الطاقة، بعد أن أثبتت لها تطوّرات عام 2022 أنّ الأرباح المُجزية لن تتأتّى من الاستثمارات في مشروعات «الطاقة النظيفة» -التي تُشير تقديراتٌ كثيرة إلى ضعف عوائدها- بل من الاستثمار في عمليّات استكشاف وإنتاج النفط والغاز. ولعل شركة «بريتيش بتروليوم» تقدّم نموذجًا ساطعًا لإعادة النظر في سياسات الحياد الكربوني. فقد تعهدت الشركة في السابق بتخفيض إنتاجها من النفط والغاز بنسبة 40% بحلول العام 2030، إلا أنّها تراجعت عن هذه التعهدات خلال الإعلان عن نتائجها الماليّة مُؤخرًا لتخفض النسبة إلى 25% فقط. 

إنّ الفوائض النقديّة الهائلة التي تحقّقت لشركات الطاقة خلال العام 2022 ستُعطيها الإمكانيّة لسداد جزءٍ كبيرٍ من الديون التي تراكمت في دفاترها المحاسبيّة أثناء عام جائحة كوفيد. لكنّ الجزء الأكبر منها سيذهب لتمويل التوزيعات النقديّة على حملة الأسهم وعلى عمليّات إعادة شراء الأسهم (Stocks Buyback) (وهو تكتيك بدأت الشركات باللجوء إليه بقوّة في الثمانينيات، وتشتري خلاله الشركة جزءًا من أسهمها من السوق المفتوح بهدف رفع العائد لكل سهم، وبالتالي زيادة تقييمها السوقي). وتُشير الأرقام إلى أن الشركات الخمس الكبرى أنفقت ما يُقارب 110 مليار دولار على هذين البندين خلال العام الماضي. وتُخطّط هذه الشركات للاستمرار في هذا التوجّه، حيث أعلنت شركة «شيفرون» أنّها ستُنفق 75 مليار دولار على عمليات إعادة شراء الأسهم خلال السنوات القادمة، بينما ستُنفق «إكسون موبيل» 50 مليار دولار حتى العام 2024. وتلقى هذه السياسة بالذات انتقاداتٍ كبيرة من قِبل الحكومات الغربيّة، إذ يُنظر إلى عمليّات إعادة شراء الأسهم كنوعٍ من التلاعب الماليّ الهادف إلى تعظيم ثروات كبار حملة الأسهم وإلى الاستنكاف عن إعادة ضخّ الأرباح في مشروعاتٍ لتوسيع الإنتاج وبالتالي تخفيض الأسعار، وهو ما دفع الحكومات مؤخرًا لفرض ضرائب إضافيّة على الأرباح الاستثنائيّة لهذه الشركات وانتقال الخلاف بين الطرفين إلى قاعات المحاكم. 

كان عام 2022 عام شركات الطاقة الخمس الكبرى بامتياز، فقد وصلت أرباحها حافة الـ200 مليار دولار. ومع أنّ من المُستبعد إعادة سيناريو العام الماضي خلال هذا العام، نظرًا للاستقرار النسبيّ لأسعار الخام الأسود، فإنّ شبح نقص الإمدادات وتعاظم المخاطر الجيوسياسيّة سيبقى مُخيّمًا على أجواء سوق الطاقة العالميّ، وهو ما يُبقي الباب مفتوحًا لتكرار سيناريو العام الماضي في المستقبل القريب. حتّى ذلك الوقت، سيترقّب مُحللو السوق إنجاز مُحاسبي شركة «أرامكو» لمهماتهم قبل الإعلان عن النتائج الماليّة لعملاق النفط السعوديّ للعام المُنصرم، والتي تُشير التقديرات إلى أن أرباحها ستقترب من أرباح الشركات الغربيّة الكبرى مُجتمعة!

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية