أردوغان وانتخابات 2023: سياسة «صفر مشاكل» كطوق نجاة

الأربعاء 20 نيسان 2022
أردوغان الإمارات
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يلقي كلمة خلال حدث وطني في الجناح التركي لمعرض إكسبو 2020 في دبي، في شباط 2022. تصوير كريم الصاحب. أ ف ب.

«انتخابات 2023 تُمثّل مفترق طرق حقيقيًا بشأن مصير بلدنا وأمتنا».
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، آذار 2022

يستعد الشعب التركي في حزيران 2023 لخوض استحقاق انتخابي مصيريّ سيحدد مستقبل البلاد في المرحلة القادمة. قد تكون كل انتخابات «مصيرية» بطبيعتها، لكن ما يمنح انتخابات 2023 في تركيا هالة مميّزة تجعلها مصيرية بشكل خاص هي قدرتها الملحوظة على التأثير على السياسة التركية، ليس في القضايا الداخلية فقط، بل وفي القضايا الخارجية أيضًا. إن تحولات السياسة الخارجية التركية في الفترة الأخيرة لا سيما على مستوى الخطاب والمواقف والعلاقات، كما هو الحال في موجة التطبيع مع خصوم الأمس التي لم يكن من الممكن تخيّلها قبل عدة سنوات، مرتبطة بشكل مباشر باقتراب هذه الانتخابات.

تُعقد الانتخابات في سنة تمر فيها الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية، رمزية تمنح الانتخابات أهمية كبيرة في تحديد مستقبل البلاد وقياس مدى رضا الناخبين عن خطها الحالي. أمّا هيكليًا فهذه الانتخابات ليست مجرّد صراع على اختيار قادة البلاد ونخبها فقط، بل يمكن اعتبارها أيضًا استفتاءً على تحديد هوية النظام السياسي في تركيا. فمنذ تغيير النظام السياسي في تركيا إلى نظام رئاسي في استفتاء دستوري عام 2017 والسجالُ مستمرٌ بين العدالة والتنمية من جهة والمعارضة من جهة أخرى، خاصةً مع وعد المعارضة وتوافقها على تغيير النظام الرئاسي إلى نظام برلماني معزز في حال فوزهم في الانتخابات.

ليس هذا وحسب فتركيا تعاني اليوم من أزمة اقتصادية خانقة تظهر بشكل واضح من خلال مؤشرات مختلفة، مثل تراجع وتذبذب قيمة الليرة التركية وارتفاع الديون وزيادة الغلاء والتضخم في البلاد إلى مستويات قياسية.[1] وهذه الأزمة المتفاقمة المستمرّة منذ عدة سنوات هي الهمّ الأكبر للمواطنين الأتراك على اختلاف طبقاتهم وتوجهاتهم السياسية. أزمة تشكّل للساسة في السلطة والمعارضة اختبارًا صعبًا كفيلًا بتحديد مستقبلهم السياسي. وللتعامل مع هذه الأزمة والتخفيف من أعبائها على المواطنين، والتقليل من حدة التضخم وغلاء الأسعار، اتخذت حكومة العدالة والتنمية مجموعة إجراءات مختلفة وتبنّت حزم إصلاحات اقتصادية متعددة. لكن في ظل عدم نجاح هذه الإجراءات في كبح جماح الأزمة، وفي ظل حالة استقطاب سياسي واجتماعي متفاقمة، وفي ضوء منافسة المعارضة المتصاعدة، يقف العدالة والتنمية اليوم أمام تحدٍ كبير يهدد حكمه ويزيد خوفه من الخروج من السلطة.

ضمن خطواته للتعامل مع هذه الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والخوف الحقيقي والمشروع من خسارة الحكم يسعى العدالة والتنمية لحل الخلافات المختلفة التي سادت في العقد الماضي بين تركيا وعدد من الدول في المنطقة، آملًا أن يشكّل هذا التوجه الجديد عاملًا مخففًا من حدة الأزمة ومُعزِزًا لصورته في الداخل والخارج. حيث تشير المساعي الدبلوماسية التركية لتحسين العلاقات مع مختلف الأطراف في المنطقة إلى توجه أكيد لدى النخب التركية نحو فتح صفحة جديدة في سياستها الخارجية. لكن وقبل الانتقال لعرض السياسة الخارجية التركية الجديدة، من المهم التعريج السريع على المقاربات المختلفة التي تبناها العدالة والتنمية في سياسته الخارجية خلال سنوات حكمه، لا سيما سياسة صفر مشاكل.

السياسة الخارجية للعدالة والتنمية

بدأ حزب العدالة والتنمية حكمه عام 2002 على أرضية غير مستقرة، في ظل تحديات داخلية وخارجية متنوعة. وبسبب خلفيته الإسلامية ظل الحزب محل شك كبير في الداخل والخارج، رغم محاولاته للنأي بنفسه عنها، خاصة في ظل التاريخ الطويل من الصراع بين الدولة والإسلاميين في تركيا. تشكّك ارتبط بقدرته على تجاوز الأزمة الاقتصادية التي عانت منها تركيا حينها، وكذلك بمدى التزام الحزب بمبادئ الجمهورية -خاصة مبدأ العلمانية- وطريق عضوية الاتحاد الأوروبي، وقد ساد هذا الشعور في أوساط الجيش والبيروقراطية الكمالية والشرائح المجتمعية العلمانية في الداخل، وعند أطراف مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الخارج.

كانت سياسة صفر مشاكل إحدى أهم أدوات العدالة والتنمية في مواجهة هذه التحديات. وارتكزت هذه السياسة على السعي لحل خلافات تركيا المتراكمة مع دول الجوار والمنطقة من أجل إنهاء مشاكلها وتصفيرها، وذلك للوصول إلى استقرار سياسي إقليمي يساهم في التنمية الاقتصادية المشتركة، ويمكن النظر إلى العلاقات التركية السورية والتركية اليونانية على أنها أمثلة على هذه السياسة. سعت النخب التركية الجديدة من خلال هذه السياسة إلى الانفتاح أكثر على محيط تركيا التاريخي «وعمقها الاستراتيجي» لا سيما في المنطقة العربية، من خلال موازنة العلاقات التركية بين الشرق والغرب بعد عقود من التركيز على الغرب.

ساهمت هذه السياسة المنفتحة في تعزيز مكانة تركيا الإقليمية من خلال دفعها أكثر نحو استكشاف إمكانياتها كدولة مركزية في المنطقة، واتسمت بتركيز أكثر على الاقتصاد وتبني تركيا لدور الشريك والوسيط الذي يقف على مسافة واحدة من مختلف الأطراف. لا يمكن إنكار دور هذه السياسة في دعم الاقتصاد التركي وتطويره من خلال تهيئة البيئة المناسبة لزيادة الاستثمارات وتقوية العلاقات الاقتصادية مع محيطها. كما كان لهذه السياسة دور كبير في زيادة الثقة بالنخب التركية الجديدة على الساحتين الداخلية والخارجية، ما ساهم في تعزيز حضور العدالة والتنمية وتثبيت سلطته.

ارتكزت سياسة الصفر مشاكل على السعي لحل خلافات تركيا المتراكمة مع دول الجوار والمنطقة، وذلك للوصول إلى استقرار سياسي إقليمي يساهم في التنمية الاقتصادية المشتركة.

لكن العدالة والتنمية سرعان ما تخلى عن هذه السياسة، ليتبنى سياسة جديدة[2] تقوم على الانخراط في التحالفات والمحاور -وبالتالي في الصراعات- التي ظهرت على هامش التطورات المختلفة في المنطقة منذ بداية الربيع العربي. حيث تخلت تركيا في هذه المرحلة عن دور الشريك والوسيط المحايد، لتدعم بشكل مباشر أطرافًا مقرّبة من نخبها الحاكمة كما حصل في سوريا، ومصر، وليبيا، وغيرها. مثَّل هذا التحول انقلابًا كبيرًا في السياسة الخارجية التركية، الأمر الذي يمكن ربطه بصورة مباشرة بالآفاق الجديدة والفرص المتنوعة التي ظهرت على هامش الثورات العربية.

سعت تركيا عبر هذه السياسة الجديدة لزيادة نفوذها السياسي والاقتصادي كدولة مركزية في الإقليم، من خلال المشاركة بفاعلية في عملية إعادة تشكيل المنطقة، وهو ما تم عبر دعم الثورات ضد النخب العربية التقليدية، بهدف تمكين نخب جديدة مقربة منها من الوصول إلى السلطة. وقد وظفت النخب التركية في هذه المرحلة نجاحاتها الاقتصادية وصعودها السياسي لتقديم تركيا كنموذج سياسي تحتذي به الثورات العربية، لا سيما لجذب الشباب ذوي الميول الإسلامية في هذه الثورات.

اتسمت هذه السياسة الجديدة، وعلى عكس سابقتها، بدرجة أكبر من الصدامية، خاصةً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016. وتجلت هذه الصدامية ليس فقط على الصعيد الدبلوماسي والسياسي من خلال تكثيف التصريحات النارية ضد بعض دول الإقليم، بل ومن خلال توظيف القوة الصلبة على الأرض أيضًا، لفرض مصالح تركيا ودعم حلفائها، كما حصل في سوريا، وليبيا، وقطر، وأذربيجان مثلًا. وفي ظل هذه السياسة تدهورت العلاقات التركية في العقد الماضي مع العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، كما هو الحال مع مصر، و«إسرائيل» والإمارات العربية المتحدة، والسعودية، وغيرها.

رافقت الأزمات بين تركيا والعديد من الأطراف في المنطقة خلال العقد الماضي محاولةٌ من هذه الأخيرة لفرض عزلة سياسية على تركيا لإقصائها وإضعافها وفرض أمر واقع عليها في بعض الملفات الإقليمية الحساسة كما هو الحال في ملفات مثل ليبيا وسوريا. ويمكن اعتبار ملف شرق المتوسط والصراع على الحدود البحرية والثروات الطبيعية في تلك المنطقة نموذجًا مثاليًا للملفات العالقة بين تركيا ومحيطها في العقد الماضي. حيث شهد هذا الملف تبلور تحالفٍ مدعوم أوروبيًا وأمريكيًا وعربيًا بين «إسرائيل»، واليونان، وقبرص، ومصر ضد تركيا. ويُمكن بسهولة ملاحظة التصاعد القياسي في التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بين هذه الأطراف، إضافة إلى التعاون بين ثنائي اليونان-قبرص ودول الخليج العربي، خلال العقد الماضي، من باب الوقوف ضد تركيا كخصم مشترك في المنطقة.

المقاربة الجديدة القديمة

لكن وفي ظل المعطيات الجديدة -لا سيما الأزمة الاقتصادية والانتخابات القريبة-، اتجهت النخب التركية نحو تطبيع علاقاتها مع الدول -أو المحاور- التي كانت حتى وقت قريب ألد خصوم تركيا ومنافسيها في المنطقة والعالم.

تستهدف تركيا اليوم من خلال سعيها لطي صفحة الأزمات مع محيطها لا سيما مع دول الخليج الغنية، رسم صورة جديدة إيجابية عنها تساهم في توفير بيئة مناسبة للتجارة وجذب الاستثمار.

حيث تشير هذه الخطوات الجديدة إلى تحوّل ملحوظ في السياسة الخارجية التركية نحو مقاربة جديدة-قديمة تستند على ترميم علاقاتها المتداعية في المنطقة، والسعي من جديد إلى «صفر مشاكل». ويعتبر التطبيع التركي مع كل من الإمارات و«إسرائيل»، أبرز خصوم الأمس،[3] إعلاميًا على الأقل، إشارةً جلية على هذا التحول الكبير في السياسة التركية. فقد تبادلت هذه الأطراف الزيارات على أعلى المستويات كما حصل في زيارة ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد إلى تركيا نهايات العام الماضي وزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الإمارات بدايات هذا العام، إضافة إلى زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتصوغ إلى أنقرة الشهر الماضي. وتناولت هذه الأطراف ملفات متنوعة كان من أبرزها تعميق التعاون فيما بينها سياسيًا واقتصاديًا، وبشكل خاص فيما يتعلق بالاستثمار في تركيا ونقل الطاقة عبر تركيا في شرق المتوسط. كما وتستمر مساعي التقارب التركية المصرية ببطء وثبات طوال شهور من المحادثات الاستكشافية والخطوات المتبادلة لبناء الثقة، في ظل تأكيد كلا الطرفين على رغبتهما في تحسين العلاقات المتوترة بينهما.

تعتبر السعودية أيضًا من أبرز الأطراف التي تسعى تركيا إلى تطبيع علاقاتها معها، حيث أكد أردوغان في شباط الماضي رغبة بلاده بتعزيز العلاقات مع السعودية «ودفع الحوار الإيجابي معها قُدمًا بخطوات ملموسة» لتأتي إحالة تركيا لملف جمال خاشقجي إلى السعودية في الأيام الأخيرة كواحدة من هذه الخطوات نحو تحسين العلاقات بين الطرفين.[4] إضافة إلى ذلك، وكإشارة أخرى على هذا التحول في السياسة التركية، تشهد العلاقات المتوترة تاريخيًا بين تركيا وأرمينيا تطورًا ملحوظًا بعد طول جفاء، إذ تستمر منذ كانون الأول الماضي المفاوضات بين مبعوثي البلدين حول تطبيع العلاقات وتأسيس علاقات دبلوماسية وتجارية، وفتح الحدود المغلقة بينهما إضافة إلى قرارهما بإعادة الرحلات الجوية المباشرة في شباط الماضي.

أين تقف المعارضة التركية من هذه التحولات؟

ترى المعارضة أن الأزمات التي تمر بها تركيا أضعفت العدالة والتنمية وخصمت من رصيده المحلي والدولي بشكل كبير، ولذا تنظر إلى هذه الانتخابات بوصفها فرصة سانحة للوصول إلى السلطة. وقد رمّمت انتصارات المعارضة في انتخابات البلديات، كما حصل في بلديتيْ إسطنبول وأنقرة، ثقتها بنفسها ودفعتها إلى العمل بشكل كثيف على توحيد صفوفها والبحث عن أرضية مشتركة (النظام البرلماني المعزز مثالًا)[5] استعدادًا للانتخابات المصيرية المقبلة، كما يحصل في المباحثات المستمرة بين أحزاب معارضة رئيسة تسعى لتشكيل تحالف سداسيّ جديد.

مع التطورات الحاصلة خلال الربيع العربي تخلت تركيا عن دور الشريك والوسيط المحايد لتدعم بشكل مباشر أطرافًا مقرّبة من نخبها الحاكمة كما حصل في سوريا، ومصر، وليبيا، وغيرها.

أما على مستوى السياسة الخارجية، فقد كانت دومًا أحد أوجه خلاف حزب العدالة والتنمية مع المعارضة، التي رفضت التوجهات الرسمية طوال العقد الماضي. حيث لم تعتبر المعارضة خصوم تركيا في تلك المرحلة خصومًا وحافظت على علاقات معهم، كما هو الحال في مثال مصر التي أرسل إليها حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، بعثة رسمية عام 2013، في أوج الأزمة الرسمية بين البلدين. كما وانتقد مرارًا كمال كلتشدار أوغلو، الأمين العام لحزب الشعب الجمهوري، عدم وجود سفراء أتراك في دول مثل مصر وسوريا و«إسرائيل». وفي الوقت نفسه كان أحد الوعود الانتخابية التي كررها كلتشدار أوغلو مرارًا هي التطبيع مع الأسد في سوريا وإعادة اللاجئين السوريين خلال سنتين في حال وصول حزبه إلى السلطة.

إضافة إلى ذلك، تؤكد المعارضة التركية على ألسنة مختلف متحدثيها عزمها إصلاح العلاقات التركية مع المنطقة والعودة إلى الحياد والخروج من «مستنقع الشرق الأوسط»، والتوجه نحو موضعة تركيا في فلك الاتحاد الأوروبي والغرب من جديد. وأمام هذا الخطاب الذي تتبناه المعارضة -أو أحزابها الرئيسية على الأقل- في تصورها للسياسة الخارجية، يمكن القول إن العدالة والتنمية يسعى من خلال سياسته الخارجية الجديدة إلى تقديم أطروحة مضادة ينافس من خلالها المعارضة بشكل عملي في هذا الميدان.

لاقى هذا التحول الجديد في السياسة الخارجية للعدالة والتنمية مع خصوم الأمس ردود فعل متنوعة من الشارع التركي، لا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي. فبينما قابلت قاعدة الحزب ومؤيدوه هذه التحول بترحاب ممزوج بإشادة بقيادة الحزب وتركيز على الآثار الإيجابية المنتظرة من هذا التطبيع، لا سيما على الاقتصاد التركي، ركزت قواعد المعارضة بشكل عام على التندر والمزاودة على براغماتية وتقلب العدالة والتنمية بين اليوم والأمس. حيث تجلت حالة التندر والمزاودة على هذا التحول في السياسة الخارجية بوضوح في تعليق كلتشدار أوغلو على استقبال أردوغان الحافل لولي العهد الإماراتي والذي اتهمه فيه بـ«بيع قضيته مقابل المال».

الأهداف من هذا التحول

بعد مرحلة من السياسة الصدامية وما تخللها من عزلة وأزمات ثنائية، وكذلك بعد عقد تميّز بالاضطرابات الإقليمية والدولية، تتجه النخب التركية الحاكمة اليوم إلى تبني انقلاب كبير في سياستها الخارجية. إذ تستهدف النخب التركية من خلال سعيها لطي صفحة الأزمات والخلافات مع محيطها، لا سيما مع دول الخليج الغنية، رسم صورة جديدة أكثر إيجابية عن تركيا، تساهم في توفير بيئة مناسبة للتجارة وجذب الاستثمار، وتقديم سردية جديدة توحي بالاستقرار والابتعاد عن الصدامية، عبر سعيها إلى تصفير مشاكلها.

يمكن أن تساهم هذه السردية الجديدة بشكل رئيس في عملية جذب الاستثمارات وتعزيز الثقة الإقليمية والدولية بالاقتصاد التركي وربما إلى ترميم العلاقات التركية المتضررة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. كما تسعى القيادة التركية من هذه السياسة نحو تفكيك التحالفات المعادية لتركيا (تحالف الإمارات و«إسرائيل» ومصر واليونان مثالًا) واختراق العزلة المفروضة عليها في العديد من الملفات الإقليمية، خاصة ملف شرق المتوسط،[6] حيث تأمل أن يساهم التحرك الرسمي الكثيف في ملفات مختلفة تحظى باهتمام كبير من الجمهور التركي، مثل الحدود البحرية وغاز شرق المتوسط، بتعزيز موقفها داخليًا وحماية نواتها الانتخابية، من خلال إرسال رسالة ثقة لقواعد الحزب والجمهور التركي بشكل عام بقدرة الحزب على تحقيق اختراقات في هذه الملفات، بغض النظر عن النتائج الفعلية.[7]

أخيرًا

يمكن قراءة التطبيع التركي مع خصوم الأمس في المنطقة بوصفه قبولًا تركيًا بنهاية المحاور والتحالفات التي أنتجتها سنوات الربيع العربي، أو على الأقل إقرارًا بحاجة تركيا إلى تجاوزها لمواجهة التحديات المصيرية في الداخل. حيث تشير هذه الخطوات الحثيثة للعودة إلى سياسة «صفر مشاكل» إلى رغبة النخب التركية بإعادة موضعة تركيا في المنطقة والعالم، لتوفير بيئة الاستقرار والتعاون اللازمة لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعتبر بشكل خاص أهم عامل حسمٍ في انتخابات عام 2023 المرتقبة.

بالتالي يمكن الاسترسال والقول إن هذه العودة لسياسة «صفر مشاكل» عودة اضطرارية فرضتها المعطيات الجديدة، لا سيما في داخل تركيا. لكن الأكيد هو أن هذه السياسة التي منحت العدالة والتنمية الاندفاعة الضرورية لتثبيت وجوده في الرمال المتحركة للسياسة التركية قبل عقدين، ستكون اختبارًا أصعب بكثير هذه المرة، خاصة وأن مهمة إقناع مختلف الأطراف في الداخل والخارج بها ستتطلب جهودًا كبيرة وتغييرات ملموسة في وقت ضيق جدًا.

  • الهوامش

    [1] بلغ معدل التضخم في تركيا في شهر آذار الماضي أكثر من 61% على أساس سنوي، في رقم قياسي جديد هو الأعلى طوال سنوات حكم العدالة والتنمية.

    [2] وصف مستشار الرئيس التركي وأحد أهم أسماء السياسة الخارجية التركية في العقد الماضي «إبراهيم كالن» هذه السياسة في لقاء صحفي عام 2013 باسم سياسة «العزلة الثمينة».

    [3] فمثلًا اتهمت تركيا الإمارات بتمويل محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 كما وتعتبر «إسرائيل» من أبرز أعضاء الحلف المعادي لتركيا في شرق المتوسط عدا عن التراشق الإعلامي بينهما في سياق القضية الفلسطينية.

    [4] هنالك تقارير عن أن الرئيس التركي أردوغان سيؤدي صلاة عيد الفطر في مكة برفقة الملك سلمان وولي عهده ويجري مشاورات معهما.

    [5] كان هذا المقترح أحد أول وأهم النقاط التي اجتمع عليها طيف واسع من المعارضة التركية كمقدمة لمساعي تشكيل تحالف أوسع في الانتخابات القادمة. حيث توافقت 6 أحزاب تركية معارضة في الثامن والعشرين من فبراير الماضي على أطروحة بديلة للنظام الرئاسي المعمول به منذ 2017 حيث تنظر إليه هذه الأحزاب بوصفه نظامًا يعزز سلطة الرجل الواحد ويهمش الآليات الديمقراطية الأخرى خاصة البرلمان.

    [6] في هذا السياق قدمت تركيا بوضوح أزمة شرق المتوسط ورغبتها بتحقيق اختراقات لصالحها كأحد العوامل الرئيسة الدافعة نحو التطبيع لا سيما مع مصر و«إسرائيل».

    [7] فمثلًا ربطت الدعاية الإعلامية في تركيا بين التطبيع مع «إسرائيل» بالذات وتحقيق اختراقات تخدم مصالح تركيا في شرق المتوسط لا سيما فيما يتعلق بنقل الغاز كمسار بديل لمسار اليونان وقبرص. لكن ورغم أن المسار التركي المقترح اقتصادي وعملي أكثر من غيره إلا أنه يواجه تحديات جيوسياسية متنوعة – أبرزها الأزمة القبرصية والحرب في سوريا- تجعل منه مشروعًا مستبعدًا إن لم يكن مستحيلًا من خلال اتفاق منفرد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية