أزمة الليرة التركية: الاقتصاد كخصم سياسي

الخميس 06 كانون الثاني 2022
صورة ليرات تركية بين يدي امرأة
امرأة تعدّ ما بحوزتها من ليرات تركية، إسطنبول. تصوير ياسين أكغول، أ ف ب.

حضرت الأزمات الاقتصادية بشكل واضح في تاريخ تركيا الحديث، وتقريبًا لم يخل عقدٌ منذ تأسيس الجمهورية من أزمة -أو أزمات- اقتصادية أثرت ليس في ظروف وخيارات الأفراد على الصعيد الخاص فحسب، بل لعبت على الصعيد العام دورًا فاعلًا في توجيه الحياة السياسية وحتى إعادة تشكيلها أحيانًا. مثلًا احتلت الأزمة الخانقة التي عصفت بالاقتصاد التركي عام 2001 مكانة مركزية في السياسة التركية حينها كما يُلاحظ في انتخابات عام 2002 التي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. حيث قدم العدالة والتنمية، الحزب حديث التأسيس آنذاك، نفسه كبديل جديد للنخب السياسية التي أوصلت البلاد إلى حالة متردية خاصة على الصعيد الاقتصادي، بل مثّل ميدانُ الاقتصاد وجهود تنميته أهم وسائل الحزب في مساعيه لتدعيم شرعيته في الداخل والخارج.

واليوم، بعد قرابة عقدين من حكم حزب العدالة والتنمية، تواجه تركيا وقيادة العدالة والتنمية بالذات أزمة اقتصادية حساسة ليس فقط بمعايير الاقتصاد بل بمعايير السياسة أيضًا، خاصة مع اقتراب انتخابات عام 2023 المصيرية التي لم يتوقف الحشد لها طوال السنوات الأخيرة. ومن أبرز ملامح هذه الأزمة، الممتدة منذ سنوات، تراجع قيمة الليرة التركية المستمر وارتفاع معدلات التضخم والغلاء المعيشي لمستويات قياسية وزيادة نسب البطالة والفقر الأمر الذي جعلها تحتل مكانة مهمة على رأس قائمة نقاشات الشعب وأولويات الساسة في تركيا. 

عوامل سياسية للأزمة التركية

إن الأزمة الحالية التي بدأت إرهاصاتها بالظهور ببطء طوال العقد الماضي، لا سيما في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، دخلت منحىً تصاعديًا حادًا منذ عام 2018 خاصة مع الأزمات السياسية المتلاحقة بين تركيا وإدارة ترامب. تسببت أزمات مختلفة، وخاصة قضية القس الأمريكي برونسون عام 2018، وتهديدات ترامب بتدمير اقتصاد تركيا في حال تدخل الأخيرة ضد القوى الكردية في شمال سوريا عام 2019 في توتر العلاقات التركية الأمريكية. الأمر الذي انعكس على الاقتصاد التركي بشكل سلبي خاصة مع ما رافق هذه الأزمات من عقوبات أمريكية على بعض الشخصيات السياسية التركية كوزير العدل ووزير الداخلية، إضافة إلى فرض الإدارة الأمريكية ضرائب على الواردات من تركيا لتساهم كل هذه العوامل في إقلاق الأسواق والمستثمرين، وكذلك في الهبوط الحاد الذي شهدته الليرة التركية أمام العملات الأجنبية. 

رغم أهمية التوترات السياسية في إذكاء نار الأزمة الاقتصادية، إلا أن هنالك أسبابًا اقتصادية ساهمت في ما وصلت إليه تركيا اليوم.

اعتبرت وسائل إعلام تركية حينها هذا التراجع الحاد في قيمة الليرة التركية هجومًا أمريكيًا متعمدًا يستهدف إخضاع تركيا، خاصة مع تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي حينها جون بولتون بأن أزمة الليرة التركية «ستنتهي فورًا» في حال إطلاق سراح برانسون. ومنذ أزمة القس برونسون اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما تعيشه تركيا من أزمة اقتصادية «مؤامرة سياسية»، مؤكدًا في عدة مناسبات خاصة في ظل النزيف المستمر في قيمة الليرة التركية على أن بلاده تخوض «حرب استقلال اقتصادية» في إحالة إلى رمزية «حرب الاستقلال» 1919-1922 التي انتصر فيها مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه وأسسوا بعدها الجمهورية التركية والتي تعتبر إحدى أهم العناصر المركزية في الهوية التركية المعاصرة. لكن، في ظل العلاقة المتداخلة إلى حد كبير بين السياسة والاقتصاد، وعلى أهمية التوترات السياسية الداخلية والخارجية في إذكاء نار الأزمة الاقتصادية في الحالة التركية، إلا أن هنالك العديد من الأسباب الاقتصادية التي ساهمت على مدار السنين في الوصول إلى هذه النتيجة التي وصلتها تركيا اليوم.

عوامل اقتصادية للأزمة التركية

يمكن اعتبار الصراع الجلي بين القيادة السياسية ورؤساء البنك المركزي في تركيا أحد الأسباب الأساسية لأزمة الليرة الحالية. حيث تراجع حجم احتياطيات النقد الأجنبي في البنك المركزي بشكل واضح نتيجة استمراره بالتدخل المباشر مرارًا في السوق من خلال ضخ كتل دولارية ضخمة في إطار سعيه للسيطرة على التراجع المستمر في قيمة الليرة التركية دون تأثير فعال على قيمتها ومعدل تراجعها مقارنة بحجم التدخل وامتداده[1]. ولذلك اتجه البنك المركزي إلى استعمال أداة رفع نسبة الفائدة في محاولة للسيطرة على نزيف قيمة الليرة التركية حيث رفعها مرارًا خلال السنوات الماضية. 

بيد أن هذا التوجه لم يلق ترحيبًا من القيادة السياسية التي تبنت نهجًا مختلفًا ومعاكسًا ترى فيه أن سياسات البنك المركزي يجب أن تتناغم مع الرؤية السياسية في البلاد. تجلى هذا الصراع بين رؤية القيادة السياسية وتوجهات بيروقراطية البنك المركزي من خلال إقالة القيادة السياسية لعدة رؤساء للبنك المركزي غير المتوافقين مع توجهاتها خلال فترة قصيرة بحيث أصبحت استقلالية البنك المركزي محل شك، الأمر الذي انعكس سلبًا على ثقة المستثمرين وعلى قيمة العملة التركية أيضًا، كما يلاحظ مثلًا من خلال أسعار الصرف وحالة مؤشر بورصة إسطنبول بعد إقالة ناجي أغبال في مارس 2021. في الوقت نفسه يرى العديد من المراقبين في تركيا بأن إصرار أردوغان على خفض سعر الفائدة وتبنيه رؤية اقتصادية غير تقليدية هو «السبب البسيط» لتراجع قيمة الليرة التركية التي فقدت هذه السنة 45% من قيمتها أمام الدولار.

إضافة إلى ذلك، يعتبر العديد من الاقتصاديين عجز الحساب الجاري التركي الذي استمر بنسب مختلفة طوال سنوات حكم العدالة والتنمية أحد أهم الأسباب المزمنة للأزمة التركية اليوم. رغم التحسن في نسب العجز هذا العام مع ارتفاع الصادرات وتعافي قطاع السياحة في الفترة الأخيرة، إلا أن التراجع المستمر في قيمة العملة التركية خلال السنوات الماضية أدى إلى ارتفاع قيمة ديون القطاع العام والخاص المستحقة بالعملات الأجنبية وزيادة ضغط فوائدها على الاقتصاد التركي، ما أثر بشكل خاص على الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم. حيث اتجهت تركيا منذ أزمة 2008 العالمية -كالعديد من الدول- نحو الاقتراض من الخارج ليصل مجموع ديون القطاعين العام والخاص بحلول شهر تشرين الثاني من عام 2021 إلى 446 مليار دولار. 

ساهم انخفاض قيمة الليرة التركية في تآكل مدخرات المواطنين وإضعاف قدرتهم الشرائية ورفاههم الاقتصادي.

وعلى عكس القيادة التركية التي ترى بأن الاستثمارات الأجنبية مستمرة في التدفق بثبات إلى تركيا، يرى العديد من الاقتصاديين في رؤية جدلية أن الصدامات السياسية التي دخلتها تركيا منذ الربيع العربي -بالأحرى منذ ترك سياسة «صفر مشاكل»- إضافة إلى أزمة الليرة التركية والسياسات والتصريحات الجديدة التي تبناها أردوغان أدت إلى إقلاق المستثمرين الأجانب بما يؤثر على الاستثمارات الأجنبية في تركيا وينعكس سلبًا مع الوقت على الاقتصاد التركي. لكن هذه الرؤية الجدلية بذاتها تهمل حقيقة أن الأزمات التي تعيشها تركيا وخاصة آثارها على العملة المحلية خلقت فرصًا جديدة لتدفق استثمارات المغتربين الأتراك والأجانب خاصة في قطاعات العقارات والصادرات والسياحة.

الرؤية الاقتصادية الجديدة

ترتكز الرؤية الاقتصادية الجديدة التي يتبناها الرئيس التركي على رفض الفائدة واعتبارها مرضًا اقتصاديًا يجب التخلص منه وليس علاجًا يمكن استخدامه لمواجهة الأزمات، وذلك في إطار رؤية تقوم على أن «الفائدة هي السبب والتضخم هو النتيجة»، مؤكدًا على أن «الفائدة لعنة تزيد الفقير فقرًا والغني غنىً». أشار أردوغان أيضًا في مناسبات عدة إلى أن موقفه المعادي للفائدة ينبع من التزامٍ بأحكام الشريعة الإسلامية الواضحة في رفضها للفائدة (الرّبا)، وأنه كمسلم «سيقوم بما تستوجبه نصوص الشريعة».[2] وفي السياق نفسه، فإن أردوغان الذي أشار مرارًا إلى ضرورة خفض نسب الفائدة في تركيا أسوة بالدول المتقدمة ذات نسب الفائدة المنخفضة كالولايات المتحدة وألمانيا أكد أن وصول نسب الفائدة إلى مستويات مرتفعة كـ19% أو 24% عامل سلبي يعوق الإنتاج والاستثمار، وذلك لكونه يدفع الأفراد والشركات إلى إيداع أموالهم في البنوك وإغلاق أعمالهم مكتفين بما يأتيهم من فوائد على أموالهم.

 وعليه فإن رؤية أردوغان الاقتصادية المخالفة لنظريات الاقتصاد التقليدية ترتكز على أن الفائدة المرتفعة تضعف المقومات الإنتاجية للاقتصاد التركي وتجعله اقتصادًا ريعيًا عالقًا في حلقة مفرغة من انخفاض الصادرات وزيادة الواردات وارتفاع معدلات البطالة والتضخم. وقد وصف أردوغان الفائدة وأسعار الصرف والتضخم بـ«مثلث الشيطان»، مشيرًا إلى قناعته بأن حل مشاكل التضخم وانهيار قيمة العملة لا يمكن أن يتحقق من خلال رفع نسب الفائدة بل من خلال إخراج الأموال من البنوك ومن «تحت الوسائد» وضخها في الاستثمار والاقتصاد الحقيقي.

إثقال كاهل المواطنين، وسعيٌ لاحتواء الأزمة

رغم انعكاس هذه الرؤية الجديدة إيجابيًا على قطاع الصادرات والسياحة[3]، ونسبيًا بنفس الشكل على الناتج المحلي وعجز الحساب الجاري، إلا أن استمرار تمسك النخب السياسية بهذه السياسة، وتصريحات أردوغان المستمرة عن متابعة خفض الفائدة، ساهمت في استمرار نزيف الليرة التركية مع تزايد شدة تداعيات التضخم والغلاء على المواطنين. إذ رغم استمرار سياسة خفض الفائدة (السبب الرئيس للتضخم بحسب الرؤية الاقتصادية الجديدة) لم تشهد معدلات التضخم أي انخفاض، بل ارتفعت لتصل في شهر كانون الأول 2021 إلى معدل 36% على أساس سنوي -بحسب الأرقام الرسمية- في أعلى مستوى لها طوال سنوات حكم العدالة والتنمية. 

وقد ساهم انخفاض قيمة الليرة التركية المستمر وتذبذبها الملحوظ في تآكل مدخرات المواطنين الأتراك بالعملة المحلية، الأمر الذي أثر بشكل سلبي واضح على حياتهم اليومية لاسيما مع ما رافق هذا التآكل من زيادة مرهقة وملحوظة في معدلات التضخم والتكاليف المعيشية. إذ ساهم نزيف الليرة التركية والارتفاع المستمر في أسعار مختلف السلع والخدمات وإيجارات المنازل في إضعاف القدرة الشرائية وبذلك مستوى الرفاه الاقتصادي بشكل ملحوظ لدى شرائح متعددة في المجتمع التركي. وفي الوقت نفسه، ومع تراجع قيمة الليرة التركية فإن تركيا، الدولة التي تعتمد على الاستيراد بنسبة كبيرة في تلبية احتياجاتها من الطاقة، شهدت زيادة كبيرة على أسعار خدمات أساسية كالكهرباء والغاز والمحروقات، الأمر الذي زاد الضغط بشكل كبير على المواطنين.

كما أن تركيا، الدولة التي ترتكز ماليتها العامة بالأساس على الجباية، رفعت نسبَ مختلف أنواع الضرائب والرسوم لما يصل إلى 36% الأمر الذي يعني انعكاس الأزمة بشكل أكثر على جيوب المواطنين ما يجعلهم عالقين بين مطرقة التضخم في كل شيء وسندان استمرار الأزمة. أدت كل هذه التطورات إلى دفع المواطنين الأتراك نحو العملات الأجنبية والذهب ليساهم بذلك في بروز «ظاهرة الدولرة» في المجتمع التركي؛ أي استخدام الدولار الأمريكي (وما شابه من عملات أجنبية) عوضًا عن الليرة التركية أو إلى جانبها في الأسواق المحلية. كما أثر الانخفاض الحاد في قيمة العملة التركية طوال السنوات الماضية بشكل جدي على الصناعات المحلية التي تعتمد على استيراد المواد الخام بالعملات الصعبة في عملية تصنيعها، الأمر الذي ساهم أيضًا في رفع أسعار العديد من السلع والمنتجات الاستهلاكية وإثقال كاهل المواطنين. 

في ظل هذه الأزمة المتصاعدة اتجهت الحكومة التركية إلى توظيف أدوات مختلفة لمحاربة الغلاء المعيشي مثل رفع الحد الأدنى للأجور وفرض غرامات على رافعي الأسعار ومحتكري السلع. حيث أعلنت تركيا، البلد التي يعمل أكثر من 40% من عمالها بالحد الأدنى للأجور، عن رفع هذا الحد بنسبة 50% ليصل إلى 4250 ليرة شهريًا في عام 2022 في أكبر زيادة حتى الآن. كما نظمت الحكومة حملات تفتيش على أسعار السلع لتفرض غرامات باهظة على العديد من السلاسل التجارية الكبرى بسبب رفع الأسعار. وفي الوقت نفسه طرح حزب العدالة والتنمية مشروع قانون جديد للبرلمان ينص على غرامات مالية ضخمة تصل إلى 2 مليون ليرة ضد من يقومون بتخزين المنتجات واحتكارها.

ساهمت الأزمة الاقتصادية في نزيف حزب العدالة والتنمية لمؤيديه، ومنحت المعارضة فرصةً لتقديم نفسها كبديل.

يرى العديد من قادة وقواعد حزب العدالة والتنمية بأنه لا يمكن تقييم الاقتصاد بحسب أسعار الصرف فقط، وأن أزمة العملة الحالية مفتعلة وهي نتيجة عوامل خارجية وسياسية، بل وتأتي بسبب التلاعب في أسعار صرف و«مضاربات الدوائر المالية العالمية ضد تركيا». إضافة إلى ذلك يدافع الحزب عن أن ارتفاع معدلات التضخم والغلاء المعيشي مرتبط بالأساس بآثار الجائحة على مستوى العالم، وليست مخصوصة بتركيا فقط. في حين ترفض المعارضة بمختلف أحزابها هذا التفسير للأزمة المتصاعدة حيث تربطها بالرؤية الاقتصادية الجديدة التي تبناها العدالة والتنمية. وتتهم المعارضة، كما ورد على لسان كمال كلتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية، حزب العدالة والتنمية وحكومته بالفشل في إدارة تركيا وبتحميل «فاتورة هذا الفشل» للشعب مضيفًا بأن «هدف أردوغان هو إفقار تركيا».

أداة مالية جديدة

في ظل استمرار نزيف الليرة التركية وتذبذب قيمتها أمام العملات الأجنبية، خاصة مع خفض نسبة الفائدة إلى 14% في منتصف شهر كانون الأول 2021، فإن خطوات محاربة التضخم والغلاء التي اتخذتها الحكومة التركية ظلت غير كافية، خاصة مع وصول العملة إلى مستويات تراجع قياسية بلغت في أشدها 18 ليرة لكل دولار. وأمام هذه المتغيرات التي أثارت استياءً عارمًا في المجتمع التركي توجه أردوغان وحكومته إلى توظيف أداة مالية جديدة لتعزيز قيمة العملة المحلية وحماية الاقتصاد التركي من ظاهرة الدولرة. حيث أعلنت تركيا عن أداة «وديعة الليرة التركية المحمية من تقلبات أسعار الصرف» التي تشجع الدولة من خلالها الإيداع بالليرة التركية من خلال ضمان عدم وقوع المودعين ضحية للتقلبات في أسعار الصرف، وحصولهم على الفائدة المعلنة رسميًا، إضافة إلى دفع الفرق في سعر الدولار بين وقت الإيداع والسحب من خزينة الدولة.

 شهدت الليرة التركية بعد تصريحات أردوغان حول هذه الأداة حالة انتعاشٍ ملحوظة أمام الدولار، إذ ارتفعت قيمتها فورًا بنسبة 33% لتصعد في 20 كانون الأول 2021 من أكثر من 18 ليرة لكل دولار إلى حوالي 12 ليرة لكل دولار، مع استمرار تحسنها -أو بالأحرى تماسكها- منذ ذلك الوقت. لم ينعكس بعد هذا التحسن الملحوظ في قيمة العملة التركية بشكل ملموس على الأوضاع المعيشية في تركيا رغم الدعوات المتكررة والضغوط الرسمية من أجل خفض الأسعار «بنفس سرعة رفعها»، حيث يرجح العديد من المراقبين بأن هذه العملية قد تستغرق وقتًا.

 وقد أثارت الأداة المالية الجديدة نقاشًا جديدًا داخليًا، فعلى هامش تأكيد أردوغان المستمر على محاربة الفائدة لتحريمها الصريح في نصوص الشريعة الإسلامية، أفتت العديد من الجماعات والهيئات الدينية التركية بما فيها مجلس الإفتاء الأعلى في رئاسة الشؤون الدينية التركية بحرمة هذه الأداة على اعتبارها «رِبًا مقنّعًا»، بينما صرح مختص الشريعة المعروف بقربه من أردوغان خير الدين كارامان باختلافه مع هذه الفتوى على اعتبار أن مدفوعات الدولة ليست رِبًا بل «هبة». ورغم الانتقادات المختلفة لهذه الأداة خاصة فيما يتعلق بإمكانية تحميلها عبئًا كبيرًا لميزانية الدولة العامة إلا أنها نجحت على المدى القصير في كبح جماح السقوط الحر الذي كانت تعيشه الليرة التركية في الفترة الأخيرة. 

الأزمة الاقتصادية والاستقطاب السياسي

شكلت الأزمة الاقتصادية، خاصة مع استمرار تذبذب قيمة الليرة التركية، نواة الاستقطاب السياسي الحالي في تركيا، إذ تحولت هذه الأزمة إلى أبرز أسباب نزيف العدالة والتنمية لمؤيديه، وأكبر ميادين المعارضة في انتقاد الحكومة وتقديم نفسها كبديل. وكررت قوى المعارضة المختلفة دعوتها لعقد انتخابات مبكرة في ضوء الانهيار المتكرر لقيمة العملة بل وبدأت هذه القوى، المتوافقة بالدرجة الأولى على إسقاط تحالف العدالة والتنمية-الحركة القومية والنظام الرئاسي، التعامل مع وصولها إلى السلطة كنتيجة شبه محسومة كما يستشفّ من تصريحات زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلتشدار أوغلو، الذي بدأ منذ الآن الإعلان عن خططهم وبرامجهم في ما يتعلق بقضايا مصيرية مختلفة مثل الاقتصاد والسياسة الخارجية واللاجئين.

وفي السياق نفسه يبرز في الجدل الاقتصادي-السياسي المحتدم في تركيا اليوم اسم السياسي التركي علي باباجان، زعيم حزب «الديمقراطية والتقدم»، المعارض الحالي والقيادي المؤسس السابق في حزب العدالة والتنمية ووزير الاقتصاد الأسبق. يقدم باباجان، أحد أبرز رموز الفريق الذي صنع نهضة العدالة والتنمية الاقتصادية، نفسه وحزبه الناشئ كمنقذين للبلاد، حيث يتبنى خطابًا يستثمر الأزمة الحالية لتعزيز وجوده السياسي أمام التحديات المختلفة التي تواجهه كمنشق عن العدالة والتنمية، سواء في عيون جماهير الموالاة أو المعارضة. وقد أثرت الأزمة الاقتصادية على التوجهات السياسية لملايين الناخبين الجدد من جيل «زِد» الذين قد يحددون مستقبل البلاد في الاستحقاق الانتخابي المصيري المقبل عام 2023. إذ تشير العديد من استطلاعات الرأي بأن هذا الجيل الذي وُلد وكبُر في عهد العدالة والتنمية، والفاعل بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، يتميز باهتمامه بالرفاه الاقتصادي أكثر من الصراعات الأيديولوجية التقليدية والمظلوميات التاريخية في تركيا.

ورغم ذلك، يمكن القول بأن أردوغان، ومن خلال الانتعاش الحالي وحالة الاستقرار النسبي الذي حققته قيمة الليرة التركية والزخم السياسي الذي رافق ذلك، قد نجح في ترميم شعبيته أو في وقف نزيفها أمام قواعده على الأقل، إضافة إلى حصوله على فرصة ثانية لدى الناخبين المترددين ما يستبعد حاليًا أي نتيجة محسومة مسبقًا للانتخابات المقبلة. في هذا السياق، لا يواجه أردوغان وحزبُه المعارضةَ بمختلف أحزابها فقط، بل يواجهون أيضًا خصمًا سياسيًا صعبًا يتمثل في الأزمة الاقتصادية الحالية، وليست مبالغة إن قلنا بأن الخصم الأول للقيادة التركية الحالية أمام قواعدها وشعبها هو الاقتصاد، ويبقى رهان كافة القوى السياسية في تركيا مستمرًا على المفاجآت التي قد تحملها الأيام القادمة.

  • هوامش
    [1] انخفض صافي الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي التركي في 24 كانون الأول الماضي إلى أدنى مستوى له منذ 2002 ليصل إلى 8.63 مليار دولار.
    [2] طوال سنوات حكم العدالة والتنمية لم تكن الفائدة وبعدها الديني قضية مركزية في برنامج الحزب الرسمي، بل يُذكر أن أردوغان نفسه صرح في بدايات حكمهم عام 2004 وفي سياق قبول الفائدة بأنهم لا يمكنهم رفضها وبأنها «حقيقة عالمية».
    [3] ساهم تراجع قيمة الليرة التركية في زيادة جاذبية تركيا في هذين القطاعين، بالذات حين سجل حجم الصادرات رقمًا قياسيًا بلغ 221 مليار دولار حتى تشرين الثاني من عام 2021، إضافة إلى ارتفاع أعداد السياح بنسبة 93% في الأشهر التسعة الأولى من نفس العام مقارنة بالعام السابق.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية