في صناعة الحياة والحرية: أساتا شكور والنضال الثوري الأسود

الخميس 14 تموز 2022
أساتا شكور
أساتا شكور.

«حديقة الحيوان، حديقة الحيوان، لندخل حديقة الحيوان»، هتفت جوان بعينيها الرّاجيتيْن قبل أن ينطقَ لسانها. لكزت جدّتَها أولًا ثم حاولت ابتزازها واستجداءها، لكن الجدّة كررت ما كانت تعدها به كل يوم: «يومًا ما يا صغيرتي، سأصحبك إلى حديقة الحيوان يومًا ما». لم يأت هذا اليوم ولم يكن أمام الجدّة، دافعةً عنها اتّهاماتِ حفيدتها بالقسوة والشدّة، إلا الاعتراف لها أن حديقة الحيوان في مدينة وِلمِنغتن، حيث تقيم العائلة، محرّمةٌ على السود؛ شأنها شأن مرافقَ عديدةٍ في ولاية كارولاينا الشّماليّة، شأن مدينة الملاهي والمتنزّهات ومعظم الشواطئ والفنادق والمطاعم والمقاعد والعربات الأمامية في المواصلات العامة؛ محرّمةٌ عليهم كمدارس البيض وكنائسهم وأرصفتهم وأحيائهم وطرقهم المعبّدة. كان ذاك السياج الذي يمنعها من دخول حديقة الحيوان أو من ركوب الزوارق الصغيرة في مدينة الملاهي -لا لسبب إلا لأنها سوداء – لقاءَ جوان الأول بقوانين «جيم كرو» التي جهلت اسمها حينها ولكنها رأتها في أعين الأطفال البيض وفي وجوه آبائهم. لم يكن اللقاء الأوّل عنيفًا كذاك الذي فُرض على أطفالٍ ويافعين سود في مدن الجنوب في الولايات المتحدة، ضُربوا وعُذّبوا ونُكّل بهم لأنّهم تجرّؤوا على السّير في شوارع البيض والاقتراب من مساحاتهم المحصّنة بقوانين العزل العرقي.

بعض هذه القوانين والأحكام مدوّنٌ في سجلات القوانين ومحفوظٌ في قرارات المحاكم، ومعظمها من إرث عصر العبودية الذي أنهته الحربُ الأهليّة رسميًّا في العام 1865، ورسّخته نخب ما بعد الحرب فعليًّا. هذا الإرث اكتسب اسمًا آخر مع محافظته على جوهر سيادة البيض وهيمنتهم المطلقة؛ إرثٌ حولّه البيض في الجنوب إلى إنجيلهم الشفوي، إلى دستور الجنوب المقدّس الذي يضاهي بقداسته دستور «الآباء المؤسسين»، وباركه معظم بيض الشّمال بالرضا الصامت والحياد، وما كانت النخب الحاكمة من الشمال لتحرّكَ ساكنًا أمام هذا الوضع القائم القديم الجديد لولا نضالات السود أنفسهم. 

لم يكن لقاء جوان بمنظومة «جيم كرو» وسياسات الفصل العنصري التي كرّستها كلقاء «إِمِت تِل»، وهو فتىً من شيكاغو زار أقرباءه في مِسيسيبّي، كي يقضي إجازة صيف عام 1954 معهم، وعذّبته عصابات الكو كلوكس كلان (KKK)، ميليشيات تفوّق العرق الأبيض الرّافضة أيَّ شكلٍ من أشكال الاختلاط، وأعدمته واستباحت جسده لأنه مازح أو ربما غازل ببراءة فتاةً بيضاء في متجر. كان إِمِت في الـ14 من عمره، حين حملت والدته نعشه المكشوف لتُجبر الجميع على التحديق في آثار الوحشية على جسده المهشّم المنتهك -هذه ثمار صمتكم، قال الجسد المشوّه- وكانت جوان في السابعة. رأت في ذاك النعش ما يمكن أن يكونَ عليه مصير أي فتىً أسود يخرج عن تعاليم عهد العرق المقدس.

خبرت جوان في طفولتها المبكرة التي قضتها مع جدتها القوةَ التي يمكن أن تكتنزها روح امرأة سوداء عاركت الحياة لتعيش بكرامة سعى العالم الأبيض إلى تجريدها منها. كانت محظوظةً لأن جدتها امتلكت قطعة أرضٍ صغيرة على الشاطئ أقامت عليها مقصفًا وغرفة تبديل ملابس ومساحة للرقص والتنزه. «شاطئ الأحرار» كان الاسم الذي أطلقته جدتها على المكان، تيمنًا بلقب «فريمن» الذي تبناهُ الكثير من السود كنيةً لهم بعد انعتاقهم من العبودية. كان الشاطئ الوحيد في المنطقة المتاحَ أمام السود. مسنّون لم يروْا المحيط يومًا كانوا يزورون شاطئ الأحرار ليلقوا نظرة. امرأة عجوز بالكاد تقوى على المشي جاءت برفقة مطران الرعية كي تشاهد المحيط، قد تكون تلك لحظة الحرية الوحيدة التي استلّتها من حياةٍ كاملة أمضتها بين العبودية والفصل العنصري. تشبّه جوان الخشوع الذي يسيطر على متأمّلي المحيط للمرة الأولى بمن «يقفون وجهًا لوجه أمام الرب أو الكون بكل رحابته».

ورغم صلابتها وقوتها ومساحة الحرية التي توفرها جدة جوان للكثير من السود، لم تستطع اصطحابها إلى حديقة الحيوان. كان من الصعب أن تفهم طفلةٌ صغيرة كيف يمكن لامرأة أن تفتح باب المحيط للجميع وتعجز عن أخذ حفيدتيها إلى حديقة الحيوان المجاورة.

أرادت أمّها التي اضطرت إلى ترك طفلتيها برعاية جدتهما كي تواصل دراستها تعويض غيابها بمنحهما قسطًا من السعادة على طريقتها هي. أخذتهما إلى مكانٍ محرّمٍ آخر، إلى مدينة الملاهي. توجّهت إلى شباك بيع التذاكر ووضعت قطعها النقدية ثمنًا لتذاكرَ ثلاث ولكن البائعة أكدت أنهن ممنوعات من الدخول، ونادت المدير لينفض الزائرات غير المرغوب بهنّ، وكأنها تلعن سوء الطالع الذي جلب في هذا اليوم تحديدًا، يوم دوامها، امرأةً سوداء لم تعرف أن مكانها ليس هنا. ألا يتعلمون؟ بدأت الأم بالمجادلة بلغة أجنبية لم تفهمها ابنتاها، بل خالت جوان الكلمات التي خرجت تباعًا من جوفها الحانق كلماتٍ مختلقةً من لغة اخترعتها أمها خصّيصًا لهذه المناسبة. أذعن مدير مدينة الملاهي أمام إصرار الأم وسمح لها ولابنتيها بالدخول، ودخلن ولعبن. القارب الصغير الذي لطالما حلمت الطفلتان بركوبه، الأراجيح والمنتفخات ومثلجات بائعة البوظة، كلها كانت متاحة، ولم تثنهن عنها نظرات الازدراء وهمسات الاستهجان التي غشيت مدينة الملاهي يومها. وماذا عن الحيلة التي استخدمتها الأم لتحقيق حلم ابنتيها بزيارة مدينة الملاهي؟ حدّثت بائعةَ التذاكر ومدير الملاهي بالإسبانية، أو بلغة تشبه الإسبانية، كانت التقطت بعض مفرداتها من زميلاتها المهاجرات في كلية إعداد المدرّسات. ادعت الأم أنها من إحدى الدول الناطقة بالإسبانية وهددت إدارةَ الملاهي بنقل الخبر إلى سفارة دولتها وإلى الأمم المتحدة إن اقتضى الأمر وإذا لم يُسمح لها بالدخول. تعلمت جوان يومها درسًا لم تنسَه قط، أن أيّ شخص، أيًّا كانت هويّته وأصله وفصله، يمكن أن يجيء إلى الولايات المتحدة ويحصل فورًا على حقوقٍ أكثر من تلك التي يحظى بها السود مّمن ولدوا في الولايات المتحدة، بل ويعامل باحترامٍ أكثر منهم. أدركت معنى أن يُحكمَ عليها بالوقوف على أدنى درجات السلم وأن يكون هذا الحكم قدرًا. 

حين سألت يولندا والدها مارتن لوثر كنغ مرافقتها إلى مدينة الملاهي في أتلانتا، أخبرها أن بعض البيض، ليس كل البيض، ولكن ما يكفي منهم، يقودهم تفكيرهم المضلّل إلى عزل السود واحتكار مساحاتٍ كمدن الألعاب، ونصحها بمقاومة إغراء الكراهية والمرارة؛ نصيحة سيصعب على جوان تقبّلها. 

ستكبر جوان وتنتقل للعيش في نيويورك. ستكون الطفلةَ السوداء الوحيدة في مدرسةٍ كل طلابها بيض، وستُلقَّنُ نسخة النخبة البيضاء المهيمنة من التاريخ، ستكبر لترفض هذه النسخة وتحارب معايير الجمال والأنوثة البيضاء التي توهم السود، والنساء منهم تحديدًا، أنهم أدنى مرتبة وأقل جمالًا. ستدرك أن المدرسة، والعالم الأبيض الذي مثّلته، فرضت عليها حياةً مزدوجةً، «حياةً كانت فيها دمية دون أن تعرف من يحرك الخيوط». ستحجم عن كيّ شعرها وتسريحه على طريقة الفتيات البيضاوات» انصياعًا لمعايير الأناقة والجمال التي يستبطنها السود، وستدرك أن القارّة التي سيقَ منها أسلافها مستعبدين قبل مئات السنين، هي بوصلتها القيمية والجمالية. «في وقت آخر، عندما يصبح الجميع متساوين وأحرارًا، قد لا يكون مهمًا كيف يسرح أحدنا شعره وماذا نرتدي وكيف نبدو. حينها لن يكون ثمة مضطهِدون ينبغي تقليدهم أو تحاشي تقليدهم. أما الآن فأعتقد أن من المهم أن نظهر ونحس بأننا رجال ونساء سود أقوياء وفخورون، ينظرون نحو إفريقيا كي ترشدهم».

ستواجه في الشمال تمييزًا يختلف في شكله عن العزل والفصل في الجنوب، ولكنه ممأسسٌ هو الآخر، ومتجذر ومقبول، ليس بذات البشاعة والفجاجة التي تتجلى في الجنوب، ولكنه يرسّخ دونيّة السود وتهميشهم. ستحترم مارتن لوثر كنغ وسيُترع قلبها بالأسى والغضب يوم اغتياله، ولكنها سترفض نهجه في المقاومة الهادئة الرزينة، لن تستطيع ولن تقبل مقاومة الكره بالحب، بل بغضبٍ سيجعلها واحدةً من أبرز المناضلين السود في الولايات المتحدة وأكثرهم تفردًا. «تصرّفي باحترام وتهذيب، تصرّفي كالبيض»، كانت نصيحة أمها وجدتها لأنهما خشيتا أن تكون البنت سوداء أكثر من اللزوم، لأنهما تفضّلان أن تمتثل لأوامر النظام الظالم على أن يكسرها. ولذلك حاولتا توفيرَ حياةٍ مريحة لها، بيد أن وعيها السياسي وانغماسها في حراكاتٍ جذرية في حي هارلم بنيويورك في النصف الثاني من الستينيات سيبعدها عن «امتيازات» الطبقة المتوسطة السوداء التي حاولت أمها تأمينها لها، وسيدفعها لنبذ النجاح الفردي والبحث عن خلاص جمعي للسود، خلاص يتمثّل في كيانٍ مستقلٍّ للسود والملونين، ويستندٍ إلى مفاهيمَ يسارية وأفريقية. سيكون عليها الانتظار طويلًا حتى تفهمَ دوافع أمها، وحتى تفتر نقمة الشابة على أمها المهادنة «الراضية» بالواقع، وتدرك قسوة التناقضات التي شكّلت شخصيتها. وستكتب:

«إلى ماما
التي ابتلعت الحلم الأميركي
واختنقت به.
إلى ماما،
التي تصارعت أحلامها
وماتت.
التي ترى،
ولا تطيق أن ترى
بركانًا يأكلُ حممَهُ.
إلى ماما، التي لم تستطع تحويل
الجحيم إلى جنة
فلامت نفسها.
التي رأت دائمًا
في انعكاس صورتها في المرآة
فرخ بطٍ قبيح

إلى ماما الحلوة الخجولة،

التي لا تعامل الناس بارتياح
لأنها لا تعرف التصنّع
وتخشى التصرف على حقيقتها.
التي تتوق لحدائقَ منحوتة
بينما تموتُ نبتتها المحفوظة في وعاء
على عتبة النافضة.
جميعنا ابتُلينا
بدوارٍ
يمكن تقفّي أثره
إلى سوق النخاسة.
عليكِ ألّا تشعري بالذنب
لما صُنعَ بنا
الأقوياء وحدهم يفقدون صوابهم
والضعفاء ينسابون
وما خلته منك قسوةً
اتّضح أنه خوف
من أنّ يدين، أصلب من يديكِ
وأكثرَ بياضًا منهما
ستسحقان حياتي الغضّة
حتّى النسيان.
ليسَ على المصابين لومٌ
لنلم الذين يؤذون».

سنواتٌ كثيرة ستمرُّ قبل أن تتصالح جوان مع أمها، وقبل هذا البوْح ستزيح عنها اسم «جوان تشيسيمارد» وتختار لنفسها اسمًا أفريقيًّا وكنيةً أخرى، ليؤرّخ الاسم الجديد ميلادًا ثانيًا. أساتا شكور، هو الاسم الذي سنعرف به العضو السابقة في حركة الفهود السود وفي جيش التحرير الأسود، الجناح العسكري المنشق عن هذه الحركة. أساتا، الملاحَقة بتهمة سطوٍ مسلّح على مصرف واختطاف تاجر مخدّرات، تهمتان ستُبرَّأ منهما لاحقًا في محاكمتين منفصلتين لانعدام الأدلة. أساتا، المطاردة والمتوارية مع رفاقها، التي شاهدت الشرطة تطلق النار على رفيقها زيد شكور وترديه قتيلًا أمام عينيها ثم تُتّهم هي بإطلاق النار عليه. أساتا التي أصابها رصاص الشرطة بيدها اليمنى على حاجز تفتيش في نيو جيرسي، في الثاني من أيار 1973، واتهمت بقتل ضابط الشرطة فورستر. أساتا التي احتُجزت في سجن الرجال لـ«خطورتها» والتي أنجبت طفلتها الوحيدة في السجن. أساتا، الأسيرة الهاربة من سجن شديد الحراسة في نيو جيرسي بمساعدة رفاقها في الثاني من تشرين الثاني 1979، واللاجئة السياسيّة في كوبا منذ العام 1984. أساتا شكور، الكاتبة والمقاتلة الأممية السوداء، المطلوبة لمكتب التحقيقات الفيدرالي حيّةً أو ميتة، منذ هروبها من السجن، ورصدت لمن يحضرها للـ«عدالة» مكافأة بقيمة مليون دولار.

تكتب أساتا شكور في سيرتها الذاتيّة أن الـFBI لم يعثر على أي دليل بأنها ولدت. يذكر ملصق المطلوبين الذي نُشر بعد هروبها من السجن أنها وُلدت في 16 تمّوز 1947 ويشير، بين قوسين، أن ما من شهادة ميلاد تؤكّد ذلك. تختار أساتا استهلال سيرتها الذاتية باللحظة التي غيرت حياتها إلى الأبد، حين أوقفت الشرطة السيارة التي كانت تستقلها مع زيد شكور على إشارة مرورية في نيو جيرسي في الثاني من أيار 1973. كانت أساتا تحاول التواري عن الأنظار بعد الاشتباه بها بالسطو المسلّح على مصرف، شبهة مبنيّة على صورة يُزعم أنها تشبهها. أصيبت أساتا بيدها اليمنى خلال عملية إطلاق النار، وقُتل زيد شكور وضابط شرطة آخر، اتُهمت هي بقتل الضابط رغم أنها تؤكد أن يديها كانتا مرفوعتين إلى الأعلى خلال عملية الاعتقال بأوامر من الشرطة. 

لن نخوض في صحّة هذا الادّعاء من عدمها، ولكننا سنحاول متابعة رسم ملامح هذه المرأة التي تعرّضت لأقسى أشكال التعذيب النفسي والعزل الانفرادي والعمالة القسرية خلال اعتقالها ونقلها من سجنٍ إلى آخر؛ ملامح نستدل عليها من كلمات أساتا في رسائلها وسيرتها الذاتية وقصائدها البسيطة المعبرة.

لخّصت أساتا في رسالتها «إلى شعبي»، التي سجلتها من محبسها في الرابع من تموز 1973 بعد شهرين على اعتقالها وإطلاق النار عليها، بنى الظلم التاريخي والقائم التي شيّدها النظام الأميركي الحاكم ضد السود والملونين والشعوب الأصلية وأبناء وبنات العالم الثالث من فيتنام إلى إفريقيا. فتكتب:

«يدعوننا باللصوص وقطاع الطرق. يقولون إننا نسرق ولكننا لم نكن نحن الذين سرقنا ملايين السود من قارة إفريقيا. لقد سُلبنا لغتنا وآلهتنا وثقافتنا وكرامتنا الإنسانية وعملنا وحيواتنا (..) يدعوننا باللصوص ولكننا لم ننهب ولم نقتل ملايين الهنود وانتزعنا وطنهم ومن ثم سمينا أنفسنا روّادًا. يدعوننا بقطاع الطرق ولكننا لسنا نحن من ينهب إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية من مواردها الطبيعية وحرّياتها وأهلها يعيشون الجوع والمرض. لقد ارتكب حكّام هذه الدولة وأعوانهم أكثر الجرائم وحشية وبشاعةً في التاريخ وهم قطاع الطرق والقتلة ويجب أن يُعاملوا على هذا الأساس».

شخّصت أساتا في رسالتها المفتوحة الجرائم التي ارتكبتها النخب الحاكمة في الولايات المتحدة، التاريخية والراهنة، من قتلٍ وسرقة وإرهاب دولة واعتقالاتٍ تعسفية وإفقار وحروب، وربطت ربطًا مباشرًا معاناة السود والملونين والسكان الأصليين في الولايات المتحدة بمعاناة أبناء وبنات العالم الثالث. أكدت أنها لا تعترف بأي عدالة آتية من محاكمَ يشكلها هذا النظام ويصممها لاغتيال الحراك الثوري الأسود، وأنهت رسالتها بأحد أكثر المقاطع تأثيرًا في تاريخ خطابات الثوريين السود، لتحمل هذه الرسالة قيمة نضالية ورمزية لا تقل أهمية عن الخطاب الذي ألقاه فريدريك دغلس في الخامس من تموز 1852، خطاب «ما الرابع من يوليو بالنسبة للعبد»: 

«مهمة جيش التحرير الأسود الرئيسة في هذا الوقت هي خلق قدوة جيدة والنضال لأجل تحرير السود والتحضير للمستقبل. علينا الدفاع عن أنفسنا وألا نسمح لأحد بالانتقاص من احترامنا وعلينا استعادة حريتنا بكل الطرق المتاحة. من واجبنا الكفاح لأجل التحرير. من واجبنا أن ننتصر. علينا أن نحب بعضنا البعض وأن ندعم بعضنا البعض. ليس لدينا ما نخسر إلا قيودنا».

تعمّدت أساتا توجيه رسالتها الأولى من السجن إلى شعبها، إلى السود وأبناء وبنات العالم الثالث لأنها كانت تدرك أن النخبة السياسية والإعلامية دأبت على تشويه صورتها وعلى محاولة إقناع السود بأن نضالها والنضال الثوري الأسود يؤذي السود ولا يحقق مطالبهم. لم تخل الرسالة من الحقائق والمعطيات التي أوضحت عمق التمييز الممنهج الذي يلحق بالسود والملونين في الولايات المتحدة، واستحالة إنهاء هذا التمييز بإصلاحاتٍ تدريجية، ولكن هذه المعطيات لم تطغَ على قوة الرسالة العاطفية. «علينا أن نحب بعضنا وأن ندعم بعضنا»، قالت أساتا مؤمنةً بأهمية التضامن بين السود ورفضهم تشتيتهم وتفريقهم؛ هذا التضامن هو الذي سيمكنها من الهرب من السجن بعد ستة أعوام.

كثرٌ هم المناضلون والقادة الثوريّون الذين يعادُ خلقُ سيرهم كي تستسيغها النخب الحاكمة ويُدجّنُ إرثهم كي يصبح مقبولًا وينسجم ومنظومةَ القيم السائدة، بل ويُسخّر في محاربة التحوّل الجذري الذي قاتلوا وفقدوا حياتهم لأجله. هكذا سُلع مارتن لوثر كنغ، مثلًا، واختُزل كل نضاله باقتباساتٍ محافظةٍ منزوعةٍ من سياقها، وأُهملت جوانب عديدة من سيرته، فلم يتبقَّ لنا سوى مارتن لوثر الحالم المنادي بالكفاح اللاعنفي. أصبحت سيرته أداةً سلطوية يستخدمها اليمين المحافظ والليبراليون لإسكات المناضلين السود الجذريين، وتهميش الأصوات الثورية في أي حراكٍ يرفض رؤية العنصرية كمشكلة فردية ويراها قضية بنيوية متداخلةً بسياسات الولايات المتحدة الرأسمالية والاستعمارية. نشرت أساتا شكور سيرتها الذاتية في العام 1988 بينما كانت عملية اختطاف إرث مارتن لوثر كنغ وإرث حركة الحقوق المدنية في أوج نجاحها. كانت أيضًا لحظة يأس عارم سلبت فيها سنوات حكم رونالد ريغن وما يسمى بحربه على المخدرات والجريمة، التي أجمع على دعمها الحزبان الرئيسان، الديمقراطي والجمهوري، الكثير من إنجازات حراكات الحقوق المدنية والحركات السوداء الثورية، وأمعنت في القضاء على ما تبقى من حركاتٍ اجتماعية وثورية برزت في أواسط ونهايات الستّينيات. كانت الهجمة اليمينية التي قادها ريغن امتدادًا لحرب التدمير من الداخل التي شنّها مكتب التحقيقات الفيدرالي، عبر ما عُرف باسم عمليات الـCOINTELPRO، اختصارًا لـ«برنامج الاستخبارات المضادة»، وهي عمليات استخباراتية محكمة قائمة على التجسس على النشطاء اليساريين والسود، وزرع مخبرين في الحركات الثورية والحقوقية، وتدبير تهم مختلقة للناشطين البارزين، وتصفية آخرين إما بالاغتيال أو الاعتقال، وتأجيج الانقسامات الداخلية. استهدفت هذه الحملة في أوجها في نهاية الستينيات أكثر الحركات السوداء جذريةً كحزب الفهود السود وجيش التحرير الأسود، والحراكات الجذرية التي أسسها المعتقلون السود داخل الزنازين في محاولة منهم لتحويل السجون إلى مساحة تشكيل وعي سياسي جمعي تحتضن الفقراء السود الذين يُزج بهم في السجون.

نجحت حملة الـCOINTELPRO، التي امتدت بين الخمسينيات والسبعينيات، في إخماد أهم حراك ثوري وحقوقي شهدته الولايات المتحدة منذ نهاية مرحلة إعادة الإعمار التي أعقبت نهاية الحرب الأهلية، وجاء حكم ريغن ليجهز على ما تبقّى من هذه الحركات. تكمن أهمية سيرة أساتا شكور، كما تخبرنا الكاتبة دونا ميرتش في مجموعتها «أساتا علمتني»، وصدورها في تلك الفترة تحديدًا، في تقديمها سردية مضادة لليأس والانهزام ورفضها بوضوحٍ أن تُوظَّفَ في خدمة نخبةٍ ما؛ سردية تضع السود، نساءً ورجالًا، في مركز تحرير أنفسهم. لم تقدّس أساتا فردًا مهما بلغت أهميته وقياديته، فانتقدت قائد الفهود السود هيوي بي نيوتن واستحواذه على السلطة واستبداده في تقرير سياسات الحزب، وانتقدت اليسار الأبيض، وبعض القادة الرجال السود الذين لا يرون في النساء الثوريات إلا شريكاتٍ ثانوياتٍ في النضال. عن علاقتها باليسار الأبيض تكتب:

«طالما اعتبر معظم اليسار الأبيض أن دوره تنظيمُ وتعليم وتجنيد وقيادة الثوّار السود لا أرى كيف يمكن لصداقة حقيقية النشوء بيننا. شعرت وما زلت أشعر أنه من المهم للثوار السود تنظيم أنفسنا وتحليل تاريخنا وشرطنا الراهن وتعريف أنفسنا ونضالنا. حقّ السود في تقرير المصير هو حق أساسي، وإن لم نمتلك نحن الحق في تقرير مصائرنا فلمن الحق؟ لكي نحصل على حرّيتنا، أومن أن علينا التقدّم من موقع قوة ووحدة وأن حزبًا ثوريًّا أسود، يقوده ثوّار سود، حاجة أساسية. أومن كذلك بالاتحاد مع الثوار البيض لمحاربة عدونا المشترك مع قناعتي بأن يستند ذلك إلى قوتنا ووحدتنا لا إلى الضعف الذي يفرض علينا الاتحاد بأي ثمن». 

وعن جيش التحرير الأسود، الحركة المسلحة المنشقة عن حزب الفهود السود، الذي انضوت تحت جناحه بعد خلافاتها مع قيادات الفهود السود، تكتب:

«جيش التحرير الأسود ليس تنظيمًا، بل يتجاوز ذلك ليشكل مفهومًا وحركة شعبية وفكرة. انطلقت فكرة جيش التحرير الأسود من الظروف التي يعيشها جموع السود في الولايات المتحدة، من الفقر والسكن غير اللائق والبطالة العارمة والرعاية الصحية السيئة ومستوى التعليم المتدنّي. تشكلت هذه الفكرة لأن السود ليسوا أحرارًا ولا متساوين في هذه البلاد، ولأن 90% من الرجال والنساء المعتقلين في سجون الولايات المتحدة هم من السود والملونين ولأن أطفالًا في العاشرة من أعمارهم يتعرضون لإطلاق النار في شوارعنا. لأن المخدرات تُغرق مجتمعاتنا وتعتاش على خيبة وإحباط شبابنا. وُلد مفهوم جيش التحرير الأسود من رحم القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه السود في هذه البلاد، وأين يوجد القهر، تظهر المقاومة، وجيش التحرير الأسود جزءٌ من حركة المقاومة هذه لأنه يمثّل العدالة والحرية للجميع».

قبل انضمامها إلى جيش التحرير الأسود، نشطت أساتا ضمن حركة الفهود السود في فرعها في نيويورك في تعليم الصغار، واعتبرت أن ما كان يحصل هو تعلّم متبادل، وفي تنظيم وجبات الإفطار المجانية للصغار في هارلم. تزوجت حينها من أحد الرفاق في حزب الفهود السود ولكن الزواج لم يدم أكثر من سنة لأن زوجها، رغم ثوريته السياسية، أراد زوجة تقليدية تشبه أمه تنتظره في بيت وتعد له طعامه، فانفصلا بالتراضي لأن تلك لم تكن الشراكة التي تبحث عنها. 

لا تقتصر السيرة التي كتبتها أساتا على التحليل السياسي، بل تنتقل من حاضرها في السجن إلى ماضيها، من شبابها إلى طفولتها، كي ترسم صورة مؤثّرة لها ولعائلتها وأصدقائها، صورة لا تخلو من الفكاهة وحس الدعابة، رغم قتامة الواقع وقسوته. «لقد حزت درجة الدكتوراة في العدالة أو في انعدام العدالة»، تكتب قبيل إدانها بقتل الضابط والحكم عليها بالسجن المؤبد. لم تغب الدعابة كذلك عن اللحظة التي أخبرت فيها أساتا والدتها وأختها بأنها حامل: «وماذا ستسمّين الطفل؟ يسوع؟»، مازحتها أختها التي لم تصدق في البداية نبأ الحمل. أنجبت أساتا طفلتها في العاشر من أيلول 1974، وتظاهر مؤيدوها خارج المشفى الذي نقلت إليه دفاعًا عن حق أساتا في اختيار طبيبها، فقد رفضت أن يولّدها طبيب أبيض. 

لا مكان للميلودراما في سيرة أساتا، ولكنها للمرة الوحيدة في النص ربما، سمحت لنا بتلمّس هشاشة الأم فيها حين زارتها طفلتها للمرة الأولى بعد أربعة أعوام. «أكرهك»، قالت لها ابنتها في تلك الزيارة دون أن تفهم سبب غياب أمها عنها. أيكون قدر الأطفال السود ألّا يفهموا أمهاتهم أبدًا، ألّا يفهموا أن الغياب ليس اختياريًا؟ أيكون قدر الأمهات السوداوات الشعور بأنهن مقصّرات مهما فعلن؟ ألهذا طلبت أساتا من والدتها ألّا تشعر بالذنب؟ أتكون تلك آثار سوق النخاسة الذي باعت فيه امرأة بيضاء أمًّا مستعبدة سوداء لمالكٍ جديد وفصلتها عن ابنتها التي بيعت لمالكٍ آخر، صفقة أبرمتها السيدة البيضاء لتسدد ديونها ربًا؟ ولم تلتق الأم السوداء بابنتها مجددًا؟ أم يكون هذا أثر سفينة العبيد التي اقتيد إليها أجداد أساتا؟ أيكون هذا ثقل التاريخ؟

من يدري أي منحى كانت ستأخذه حياة أساتا لو لم تزرها ابنتها يومها، لو لم تُفصح لها عن غضبها وكرهها، لو لم تودعها وتطالبها بفعل شيء ما كي يُلم الشمل، ولكن الزيارة تركتها مع يقين واحد، أن عليها المغادرة، أنها لن تبقى في السجن.

قد نعرف يومًا تفاصيل هروب أساتا شكور العظيم من السجن، والدور الذي لعبها رفاقها وتفاصيل عبورها الحدود وهروبها إلى كوبا. قد لا تُكشف هذه التفاصيل إلا بعد موت كل من ساهم في عملية الهروب. هذه دراما أخرى، دراما لا يسعنا إلّا الذهول أمام شجاعة أبطالها، كما ذُهلنا أمام شجاعة هروب الأسرى الفلسطينيين الستة من سجن جلبوع.

رغم مرور 43 عامًا على الانعتاق -وأساتا تصف نفسها بالعبدة الفارّة، عبدة في القرن العشرين، لأن ظروف السجن كانت أشبه بظروف العبودية- ما زالت شخصية أساتا شكور تحتفظ بقدرة هائلة على التأثير في أجيال من المناضلين السود الشباب، الذين يقرؤون سيرتها وقصائدها ورسائلها ويسعون لتبني نهجها ونهج الحراك الأسود الجذري: نهج نسوي أممي تحرّري. قد يختلف بعضهم مع أدواتها وقد يرى آخرون بأنها تسرف في إضفاء صورة المجتمع المثالي على كوبا، ولكن التوأمة التي عبرت عنها بين النظري والممارَس، تواضعها وشغفها بالتعلم من الجميع، من السجينات اللواتي التقت بهن في السجن -السياسيات وغير السياسيات- إلى الأطفال الذين درّستهم، وتمسّكها بقيم التحرر والعدالة والمساواة، كلّها حاضرةٌ اليوم في نضالات الشباب والشابات السود ضد وحشية الشرطة وضد منظومة السجون وضد الهيمنة البيضاء؛ حاضرة في الشوارع وعلى اللافتات التي تحمل اقتباساتها، وفي الحلقات التدريسية التي تُقرأ فيها سيرتها، كما كانت حاضرة في نهاية الستينيات. لا أبلغ من السطر الذي اختتمت به أساتا سيرتها كي نختم هذه المقالة: «ما من شكٍّ أن شعبنا سيكون حرًّا يومًا ما. لم يمتلك الكاوبويز وقطاع الطرق العالم».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية