أزمة النقل العام: مظاهر لصراع غير معلن

السبت 17 كانون الأول 2022
إضراب النقل الأردن معان
حافلات متوقفة في معان أثناء إضراب قطاع النقل في 16 كانون الأول 2022. تصوير خليل مزرعاوي، أ ف ب.

ما زالت أزمة قطاع النقل والشحن تتفاعل وتؤثر في قطاعات أخرى تآكلت مداخيلها. فعلى الرغم من تباين المطالب الخاصة بكل فئة في هذا القطاع، إلا أن العنوان العام لها والمطلب الذي يجمعها هو ارتفاع فاتورة الطاقة. فقد أدت الرفعات المتتالية لأسعار المحروقات لهذا العام إلى إنقاص المداخيل المتحققة، وخفض القدرة الشرائية لشرائح وفئات اجتماعية عديدة، والغياب التام للادخار العام على صعيد هذه الفئات. كل ذلك يثير المخاوف إزاء هندسة الاقتصاد الوطني والسياسة المالية والنقدية في الأردن، في ظل الغياب التام للمرونة من قبل الفريق الحكومي في الاستجابة للأزمة، كمؤشر على غياب القدرة على التفكير في البدائل.

تحتل هذه الأزمة موقعًا لا يمكن التغاضي عنه نظرًا إلى أنها تثير مسألة أساسية في بنية الاقتصاد الأردني، وهي أن السلطة الحاكمة تعتمد اعتمادًا مباشرًا في تمويل إنفاقها، الذي لا يخلو من الطابع الزبائني، على إيرادات الضريبة الخاصة للمشتقات النفطية والتي زادت عن 1.15 مليار دينار السنة الماضية، أي 16% من مجمل الإيرادات المحلية، الأمر الذي يقف على النقيض من اعتماد سياسات تنمية آمنة وخضراء وفاعلة، نظرًا للانخفاض الذي قد يطرأ في استهلاك الطاقة وما قد ينتج عنه من تراجع في الإيرادات. هذا ما يجعل هذه الأزمة تتجاوز حالة تمس قطاعًا أو فئة بعينها، بل تمس في الجوهر الخزينة العامة والسياسة النقدية والمالية في البلد.

قطاع مشتت و«تطوير» فوقي

يتسم قطاع النقل عمومًا بانتشار الملكية الفردية، إذ تعود ملكية 85% من وسائل النقل العام لأفراد، وكثيرًا ما تأتي هذه الملكيات كجزء من شبكة تنفيعات. من جهة أخرى، شهدت السنوات الماضية عدة احتجاجات في هذا القطاع طالبت برفع أجور العاملين فيه حتى تتوافق مع الرفعات المتكررة لأسعار المحروقات. كل ذلك أصبح اليوم يشكل عائقًا حقيقيًا تجاه تطوير القطاع، ويخلق إشكالات في كفاءته وجودته في تقديم الخدمة إذا ما قورن ببلدان أخرى. حيث يبلغ متوسط مدة رحلة الذهاب والإياب 2.5 ساعة، فيما يزيد متوسط إنفاق الأسرة الأردنية على النقل عن 2000 دينار سنويًا (بما يشمل استخدام السيارات الخاصة)، أي ما معدله 17% من دخلها بشكل عام، وترتفع هذه النسبة بين الشباب لتصل إلى 23% من دخلهم. تتناقض هذه الأرقام مع ما هو موجود في بلدان أخرى مثل المغرب، حيث ينفق المواطنون 9.9% من دخلهم على النقل والاتصالات مجتمعين.

وانعكاسًا لتعدد جهات ملكية وسائل النقل، فنحن اليوم لسنا أمام احتجاج للعاملين في قطاع النقل فحسب بل لملاكه أيضًا. وفي هذا الواقع، يبرز ضعف وحدة المحتجين وغياب الرؤية الشمولية لهم، مما قد يدفع نحو تقديم المطلبي/الفئوي على العام/الوطني، ويقود إلى مشهد مشتت وفوضوي. وهذا بدوره ليس سوى انعكاس لضعف القدرة التمثيلية للنقابات العامة للعاملين في النقل والشحن، وعجزها عن أخذ زمام المبادرة وتوحيد المطالب والفعل، بعد استهانة السلطة على مدار عقود بدور الاتحادات والنقابات العمالية وتحجيمها لهذا الدور، ما أدى إلى تراجع فعاليتها التمثيلية وانحسار تأثير قياداتها في واقع الأمر.

أدت الرفعات المتتالية لأسعار المحروقات لهذا العام إلى إنقاص المداخيل المتحققة، وخفض القدرة الشرائية لشرائح وفئات اجتماعية عديدة، والغياب التام للادخار العام على صعيد هذه الفئات.

لكن مهما يكن من ضرورة في تصويب بنية قطاع النقل وملكيته وتطوير خدمته، فإن هناك أجندات غير معلنة تدفع باتجاه إحداث تغييرات في القطاع، قد تقود إلى جولات أخرى من الاحتجاج فيه، وصراع مع المشغلين والعاملين على حد سواء. ففي دراسة البنك الدولي الصادرة في شباط الماضي، والمعنونة «الدراسة التشخيصية والتوصيات الخاصة بالنقل العام في الأردن»، تُظهر التوصيات نزعة واضحة نحو مأسسة القطاع على المستوى التشغيلي وسحب تراخيص الملكية الفردية أو دمجها، وفقًا لمساعي «تطوير» السياسات والتدابير التي تقترحها الدراسة، خاصة وأن التكاليف السنوية جراء عدم كفاءة القطاع تقدر بما لا يقل عن 6% من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب الدراسة.

قد يظهر هذا الصراع وكأنه اختلاف بين نزعات «تحديثية» وأخرى «مترهلة وغير آمنة» تبتغي الحفاظ على مكتسباتها، لكنه ينم فعليًا عن نزعة نحو مركزة القطاعات الخدمية في يد شركات كبرى وفتح نافذة للاستثمار بإنشاء شركات جديدة في زمن الركود، فضلًا عن إيجاد مصادر إيراد جديدة تستفيد من أزمة النقل. هذا ما تعبر عنه دراسة البنك الدولي بوضوح، إذ يأتي فيها أن النقل العام يمكن أن يكون «قطاعًا جذابًا للاستثمار»، معتبرة أن «المشاركة الحالية للقطاع الخاص في النقل العام ما تزال منخفضة».[1] من جهة أخرى، تقترح الدراسة تقييد استخدام السيارات الخاصة وفرض رسوم عليها في أوقات الازدحام، من أجل «إيجاد الموارد التي يمكن استثمارها في تحسين النقل العام».[2]

توصّف دراسة البنك الدولي باستفاضة وبالاستناد إلى كمّ من البيانات أحوال قطاع النقل العام في الأردن بشكل لا يخلو من الصواب. إلا أنه يبدو أن السلطة تتعامل مع توصيات البنك الدولي باعتبارها شروطًا غير معلنة للتمويل أو لتحصيل منح خارجية مستقبلية، دون محاولة دراسة أثر تلك التوصيات بشكل مستقل.

بين هذه النزعات التي يعبر بعضها عن القديم السائد وبعضها الآخر عن المستحدث الفوقي، قد تختلط علينا القدرة على تصنيف حركات الاحتجاج في قطاع النقل. فهي وإن جمعها السخط على السياسات الاقتصادية الليبرالية المتبعة، إلا أن نتائجها والمعالجات التي ستحكم مسارها هي الكفيلة بتحديد ما إذا كانت ذات أثر تقدمي.

عوامل خارجية للتسكين وللتأزيم

وسط هذا الجو المتشنج، قد يأتي «التسكين» إذا ما قدّمت دول إقليمية جملة من التسهيلات المالية والإجرائية لتخفيف الضغوطات الملحة في الأزمة الحالية، كرفع العمر التشغيلي لبرادات الشحن، وصولًا لجذب منح واستثمارات تعمل على تطوير القطاع عبر امتيازات متنوعة. وفي هذا السياق جاءت زيارة الفريق الحكومي للرياض. لكن هذه الزيارة التي أتت في ظل إضراب تجاوز العشرة أيام لقطاع حيوي كالنقل والشحن، تدل على عجز السلطة الحاكمة عن الاعتماد على قاعدة اقتصادية وطنية في مواجهة التقلبات في الأسواق العالمية، والأزمات التجارية والمالية العابرة للحدود.

في الوقت نفسه، تعبر الزيارة عن احتمال إعادة تموضع الأردن في الإقليم، فإذا ما استجابت السعودية لزيارة الفريق، قد تخفت أضواء طريق «الشام الجديد»؛ المبادرة الثلاثية لدول كانت قبل عام لا تجد فضاء لها بين المركزين الإقليميين، طهران والرياض، في الوقت الذي يصعب فيه حسم خيارات العراق وسط حالة من عدم الاستقرار فيه داخليًا وإقليميًا.

لا يقل هذا العامل الخارجي عن العوامل الداخلية تأثيرًا. فإذا ما استطاع الأردن الرسمي عبر الحوار مع السعودية والولايات المتحدة أن يمرر أو يسهّل ملف تصدير فائض الطاقة إلى لبنان عبر سوريا، سيساهم ذلك أيضًا في فتح منفذ حرم منه الأردن طوال السنوات الخمس الماضية جراء تبعات قانون قيصر وعدم وضوح الدور السعودي المقبل في لبنان.

إن استحداث رؤية جديدة والتحلي بسلوك مرن، يرصد الآثار الاجتماعية للرفعات المتتالية على أسعار المشتقات النفطية، بات أمرًا في أمس الحاجة ليس للتعامل مع وقع هذه الأزمة فحسب، بل كاستعداد لمواجهة تقلبات أشد وطأة في الأسواق العالمية قد نشهدها بدايات العام القادم من جهة، وضغوطات كبيرة ستتعرض لها الموازنات العامة لدول الإقليم من جهة أخرى.

لقد أصبحت 60% من البلدان الأشد فقرًا معرضة لخطر كبير يهدد ببلوغها مرحلة المديونية الحرجة، إن لم تكن قد بلغت هذه المرحلة بالفعل. فارتفاع أسعار الفائدة وتباطؤ وتيرة النمو العالمي يتسبب في دفع عدد كبير من البلدان إلى أزمات الديون والعجز عن الوفاء بها، فضلًا عن ضغوطات متنوعة لتأمين العملة الصعبة، خاصة الدولار الذي يشهد الطلب عليه ارتفاعًا كبيرًا، خلق تزاحمًا تشارك فيه الدول لا البنوك والشركات الخاصة وحدها، ما يعطيه أبعاد سياسية تتجاوز المؤشرات الاقتصادية المحلية.

إن حس المواطن السليم في الدفاع عن لقمة عيشه وسبل تأمينها يجعله يدرك أن السياسات المالية والنقدية المتبعة انعكست بشكل مباشر على قدرته في تلبية الاحتياجات الرئيسية لأسرته، وهذا ما يفسر امتداد الاحتجاج من إضرابات فئوية/قطاعية لأخرى أعم وأشمل.

قد يدفع خيال الاقتصاديين الليبراليين بشأن تحسين الأدوات المحاسبية للمالية العامة نحو تكثيف التسييل المالي و«التقشف» في الإنفاق لضمان قروض مستحدثة أو طارئة، لكنه سيجلب للاقتصادات النامية المزيد من الآثار السلبية. وفي ظل مقترحات مثل فرض رسوم الازدحام وغيرها من مقترحات البنك الدولي لقطاع النقل، لنا أن نتخيل ما سيترتب على الانسياق التام لتوصيات المؤسسات المالية والنقدية الدولية من ازدياد في التأزيم محليًا وعلى كافة الصعد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية