أعلام

من العراق إلى أوكرانيا: الولايات المتحدة واندثار المشروع الأوروبي

علم الولايات المتحدة وعلم الاتحاد الأوروبي، أمام مقر المفوضية الأوروبية.

من العراق إلى أوكرانيا: الولايات المتحدة واندثار المشروع الأوروبي

الخميس 23 شباط 2023

كانت حرب العراق عام 2003 أكثر بكثير من غزو دموي ومدمر لبلد مثّل «تهديدًا» للمصالح الأمريكية في المنطقة. فقد شكّل الغزو ذروة مسار خاضته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة لتكريس نفسها كأكبر قوة في الكوكب، ليس فقط في وجه أعدائها، بل في وجه حلفائها كذلك. 

بعد عشرين عامًا على الغزو، لم يعد هناك من داعٍ لتفنيد الادعاءات التي استُخدمت لتبريره. أصبح أنبوب كولن باول الشهير في الأمم المتحدة تجسيدًا ساخرًا لسقوط أكاذيب أسلحة الدمار الشامل، وتحول النهم الأمريكي للنفط إلى مادة خام لعدد لا يحصى من النكات التي تنذرك من أن «الديمقراطية» ستصبح على الأبواب إن حفرت يومًا بالخطأ بئرًا أسود في باحتك الخلفية. أما مزاعم تشكيل العراق تهديدًا لـ«جيرانها» فسقطت عمليًا مع الأيام الأولى للحرب، فضلًا عن أن الإسرائيليين أنفسهم دحضوها باعترافهم قبيل الغزو بأن «القوة العسكرية لكل من العراق وإسرائيل تباعدت بشدة» خلال التسعينيات.[1] لكن رغم ذلك، ما يزال فهم أسباب القرار الأمريكي بالغزو والطريق التي قادت إليه يوضح الكثير مما أرادته الولايات المتحدة حينها وما تزال تريده.

منذ أن كانت الحرب الباردة تشارف على النهاية، والولايات المتحدة تخطط لإعادة تشكيل العالم ما بعدها. قد تبدو مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أشبه بانتقال تلقائي لعالم أحادي القطب، وجدت فيه الولايات المتحدة نفسها على قمة العالم بحكم غياب المنافسين، لكن الهيمنة على العالم ليست مشروعًا يمكن ببساطة أن يحدث «تلقائيًا». فمنذ الأشهر الأولى، كانت الولايات المتحدة تدرك أنه رغم كونها البلد الوحيد في تلك اللحظة الذي يملك القدرات العسكرية والسياسية والاقتصادية لجعله الفاعل الحاسم في أي صراع يدخله في العالم، فإن أمامها بضعة عقود لتأبيد هذا الوضع، ومنع صعود دول كانت دومًا بحكم حجمها ومواردها مؤهلة للتحول لقوى عظمى.[2] ومن هذا الباب، نظرت الولايات المتحدة، حتى بعد نهاية الحرب الباردة و«الصراع الأيديولوجي»، إلى دول مثل الصين وروسيا والهند على أنها «أكبر مما يجب» ويمكن أن تشكل تهديدًا لهيمنتها.

في أوائل عام 1992، أصدر وكيل وزارة الدفاع الأمريكية، بول وولفويتز، ورقة اعتُمدت كدليل للتخطيط الدفاعي، لتصبح فيما بعد أساس ما عرف بـ«عقيدة بوش»، التي جسّدت المسعى الأمريكي لتكريس أحادية القطب والتدخلات العسكرية الاستباقية لمنع أي تهديد للقيادة الأمريكية للعالم. كان الهدف الأساسي لهذه السياسة الجديدة هو «منع أي قوة معادية من الهيمنة على منطقة ذات موارد كافية لخلق قوة عالمية». وبحسب الورقة، فإن هذه المناطق المحتملة تشمل «أوروبا الغربية، وشرق آسيا، ومناطق الاتحاد السوفييتي السابق، وجنوب غرب آسيا». كما تنص الورقة أيضًا على أولوية منع ظهور أي تهديد عسكري لمصالح الولايات المتحدة في المناطق ذات الحساسية الأمنية، والتي تشمل «أوروبا، وشرق آسيا، والشرق الأوسط، وجنوب غرب آسيا، ومناطق الاتحاد السوفييتي السابق.. وأمريكا اللاتينية، وأوقيانوسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء». ليس من الصعب استنتاج أن الخريطة التي تبرز مناطق الاهتمام الأمريكي هذه ليست سوى خريطة العالم. مطلع التسعينيات، عبّر كولن باول، الذي كان حينها رئيس هيئة الأركان المشتركة، عن هذا الاهتمام «العالمي» بوضوح حين قال «لم تعد لدينا رفاهية وجود تهديد نخطط لمواجهته. ما نخطط له هو أننا قوة عظمى. نحن الفاعل الأساسي في العالم، ولدينا مسؤوليات ومصالح في جميع أنحاء العالم». كانت حرب الخليج الثانية أول تطبيق عملي لهذه الرؤيا، وأول مظهر من مظاهر «النظام العالمي الجديد»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر كانت الفرصة التي حولتها إلى عقيدة رسمية.

كان الوجود الأمريكي في غرب آسيا ضروريًا لأسباب عديدة بينها أجل تشكيل حاجز مادي في قلب أوراسيا، يساهم في إبقاء الحلفاء و«الخصوم المحتملين» في موقع أضعف، ويمنع ولادة أي تقارب بين آسيا وأوروبا، يخرج الأخيرة من عباءة الولايات المتحدة.

لكن إن كانت اللغة المستخدمة لوصف الأهداف الاستراتيجية الأمريكية تعبر عن مساعي إقصاء أي تهديد للهيمنة الأمريكية في أي مكان، فإن اختيار العراق كهدف للغزو لم يكن اعتباطيًا بأي حال. لا شك أن النفط هو التفسير المادي المباشر، الذي لطالما كان الدافع الأكبر للوجود والتدخل العسكري الأمريكي في الخليج.[3] لكن صورة الجندي الأمريكي المتعطش لآبار الذهب الأسود تختزل النفط في قيمته كمورد مباشر، وتهمّش الأهمية الجيوستراتيجية له وللمنطقة.

كان الوجود الأمريكي في غرب آسيا ضروريًا ليس فقط للسيطرة السياسية على المنطقة ومنع أي تهديد لمصالح الولايات المتحدة فيها فضلًا عن مصالح قاعدتها الأمامية «إسرائيل»، بل أيضًا من أجل تشكيل حاجز مادي في قلب أوراسيا، يساهم في إبقاء الحلفاء و«الخصوم المحتملين» في موقع أضعف، ويمنع ولادة أي تقارب بين آسيا وأوروبا، يخرج الأخيرة من عباءة الولايات المتحدة، عقب تفكك الاتحاد السوفييتي. وكان التواجد العسكري والتحكم بإمدادات النفط عنصرًا أساسيًا في هذه المعادلة. لذا، فإن الهيمنة على غرب آسيا، كما يقول سمير أمين، كانت تعني توسيع مبدأ مونرو، الذي يعيّن نصف الكرة الغربي كمنطقة نفوذ حصري للولايات المتحدة، ليشمل العالم القديم بأكمله، ويضمن بقاء أوروبا في المجال الأمريكي.[4] فمثلما عملت الحرب الكورية عام 1950 على تثبيت أوروبا في الخندق الأمريكي في عالم الحرب الباردة، عبر بث الروح (والمال والسلاح) في مشروع مكافحة «المد الشيوعي»، كان للحرب على العراق دور كبير في تموضع أوروبا في عالم ما بعد الحرب الباردة.[5] 

أوروبا في العصر الأمريكي

لطالما تمثلت أزمة المشروع الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية في الخلاف حول خيارين: إما أن تكون أوروبا أطلسية، وبالتالي ملحقة بالمشروع الأمريكي، أو لا تكون، وبالتالي ستحتاج بالضرورة لعلاقة متوازنة مع آسيا، وتحديدًا مع روسيا.[6] بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حاولت أوروبا إحياء فكرة «السيادة الاستراتيجية» التي طرحها سابقًا شارل ديغول، والتي تستند إلى رؤيا لـ«أوروبا كبرى» تمتد من المحيط الأطلسي حتى جبال الأورال. ولبعض الوقت، تحركت أوروبا وروسيا باتجاه بعضهما البعض سعيًا لنوع من التلاقي يمكن أن ينتج رؤية مشتركة حول القضايا الأساسية التي تمس الطرفين، ووُقعت خلال التسعينيات سلسلة من الاتفاقيات في المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية.[7] 

لكن هذه المساعي اصطدمت بالحقائق الصلبة لعالم ما بعد الحرب الباردة، فضلًا عن تركة الحرب العالمية الثانية. فقد اعتمدت أوروبا الغربية أمنيًا على الولايات المتحدة طوال الحرب الباردة، في ظل وجود مئة ألف جندي وأسطولين وقوات جوية كبيرة للولايات المتحدة في أوروبا وحولها، وتحديدًا في ألمانيا، مدعومة بأسلحة نووية استراتيجية وتكتيكية. لبس هذا الوجود العسكري الأمريكي قشرة «الشراكة» تحت غطاء الناتو، وقاومت الولايات المتحدة أي تحرك نحو تكوين مجموعة أوروبية مستقلة داخل الحلف. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، بات التوسع الأمريكي شرقًا من خلال الناتو يتعارض جوهريًا مع أي تسوية أوروبية روسية محتملة، فعملية إخراج روسيا من أوروبا كانت هي ذاتها عملية بسط السيطرة الجيوستراتيجية الأمريكية على أوروبا. وحين بلغت الأحادية الأمريكية أوجها بعد هجمات 11 سبتمبر، عُلق مشروع السيادة الأوروبية حتى إشعار آخر، وتقلصت أي تفاوتات في الرؤى كان يمكن أن توجد بين فرنسا وألمانيا وبريطانيا حول هذا المشروع، فضلًا عن تهميش أي اعتراض شعبي. فالخيار الذي طرحته إدارة بوش أمام العالم كان بسيطًا: «إما أن تكونوا معنا، أو مع الإرهابيين».[8]

مع ذلك، لا يمكن اعتبار تموضع أوروبا في الحلف الأمريكي خيارًا أجبرت عليه لضرورات أمنية، وإنما حاجة نابعة من البنية الاقتصادية الأوروبية في القرن الحادي والعشرين. تولت الولايات المتحدة دفة القيادة في أوج مرحلة التكامل في أوروبا، مع توسع الاتحاد الأوروبي وسعيه لأن يكون «نموذجًا مصغرًا للعولمة الفائقة»، بتعبير المفكر الألماني ولفغانغ شتريك، حيث تتحرك رؤوس الأموال والسلع والخدمات وقوى العمل، ليس فقط عبر حدود دول الاتحاد، بل خارجه أيضًا. عنى ذلك أن المشروع برمته يرتكز على استقرار النظام المالي العالمي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة منذ عقود، حتى وإن أدار الاتحاد شؤونه المالية بعملته وعبر مصرفه المركزي ومحاكمه العليا وهيئاته التشريعية والتنفيذية. فعلى عكس الولايات المتحدة التي تعرف جيدًا أن الاقتصاد سياسة، وأن موازين القوى هي التي تحكم الأسواق، وبالتالي لم تكن النيوليبرالية فيها مترادفة مع انسحاب الدولة، كانت النيوليبرالية في أوروبا على النقيض من سيادتها.

تدرك أوروبا أن الحفاظ على استقرار النظام النيوليبرالي المعولم هذا غير ممكن بالأدوات الاقتصادية وحدها، وأن العسكرة ضرورية لاستدامته. ونظرًا إلى أن الولايات المتحدة هي الجهة الوحيدة القادرة على استخدام القوة العسكرية المتمثلة في قواعدها وأساطيلها المنتشرة حول العالم من أجل مصادرة ما يمكن مصادرته من ثروات، سواء عبر فرض الخيارات الاقتصادية على الدول أو التحكم بمواردها أو عبر الغزو والنهب المباشر، فإن هيمنتها على النظام العالمي، بما تستوجبه من حروب وتدخلات عسكرية، تصبح في صميم مصالح النخبة الحاكمة في أوروبا. ورغم التناقضات الداخلية التي خلقتها العولمة النيوليبرالية في أوروبا، سواء بين دول المركز والأطراف أو داخل الدول نفسها، فإن الاصطفاف الأوروبي خلف القيادة الأمريكية سيستمر طالما بقيت النخبة المعولمة الحاكمة في أوروبا هي التي تحدد ما يعد «مصالح أوروبية».

في ظل هذا الواقع، يمكن للاتحاد الأوروبي أو لأعضائه أن يسهبوا في شرح سياساتهم الدفاعية ويحددوا فيها من هو العدو وكيف تجب مجابهته، لكن أعداء أوروبا عمليًا لا يمكن أن يكونوا سوى أعداء الولايات المتحدة.

لم تكن أوروبا بعيدة عن أي من حروب الولايات المتحدة منذ التسعينيات، لكنها ظلت لفترة طويلة تقاوم المطالب الأمريكية برفع إنفاقها العسكري، وبالأخص مساهمتها في الناتو. فبالنسبة لأوروبا، كان الوفر المتحقق عبر تخفيض الإنفاق العسكري أحد أهم «عوائد السلام» التي تمتعت بها عقب نهاية الحرب الباردة. في ظل التضخم المتسارع في الميزانية العسكرية الأمريكية، تعاظمت الفجوة في القدرات والإنفاق العسكريين على جانبي الأطلسي إلى حد بدأ يثير انزعاج واشنطن التي أرادت «توزيع الحمل» بشكل أكثر تكافؤًا، لتقترح في قمة الحلف عام 2002 رفع إنفاق الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو لإنفاقها العسكري إلى 2% من ناتجها المحلي الإجمالي.

لم يعد الاتحاد الأوروبي سوى جهاز مدني ملحق بالناتو مسخّر لخدمة الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، وأصبحت عضويته أشبه بحضانة لتخريج أعضاء الناتو المستقبليين، خاصة جيران روسيا منهم.

من أجل إيجاد حل يرضي واشنطن دون رفع الإنفاق العسكري ويساهم في الوقت نفسه في إنقاذ المشروع الأوروبي من خلال ما سُمّي «التكامل عبر العسكرة»، نوقشت في الاتحاد الأوروبي في السنوات الماضية فكرة تكوين جيش أوروبي موحد، استنادًا إلى مقترح مجموعة من السياسيين الألمان المتقاعدين عام 2018، كان الفيلسوف يورغن هابرماس الأب الروحي له. باختصار، يقوم المقترح على افتراض أنه يمكن لأوروبا أن تكوّن قوة دفاعية أكبر بكثير دون إنفاق إضافي، عبر توحيد الجهود العسكرية و«وضع حد للتشرذم الوطني». ويمكن لهذا الجيش الموحد أن يدفع نحو تعزيز «التضامن والتكامل» داخليًا، و«السيادة المشتركة» خارجيًا، خاصة وأن ما هو على المحك بالنسبة لأوروبا هو «وحدتها واستعدادها للدفاع عن قيمها وأسلوب حياتها».

لكن مجددًا، عجز هذا المقترح «السيادي» الأوروبي، كما يقول شتريك، عن الإجابة عن أسئلة جوهرية: كيف سيتم التعامل مع الأسلحة النووية في ظل منع ألمانيا من امتلاكها ورفض فرنسا لتقاسمها مع بقية أوروبا؟ هل سيعني ذلك توسيع المظلة النووية الأمريكية لتشمل أوروبا كلها؟ والأهم من ذلك، إلى أي مدى سيكون الجيش الأوروبي مرتبطًا بهيكل قيادة الناتو، أي بالجيش الأمريكي؟ هل ستسمح الولايات المتحدة بجيش أوروبي يعمل في استقلال تام عن الحلف؟ وهل هذا ممكن أساسًا في ظل اندماج الجيش الألماني بالكامل في الناتو؟

كان يمكن لهذه الأسئلة أن تشكل تمارين ذهنية تشغل الأوروبيين لفترة أطول، لولا أن الحرب في أوكرانيا أتت لتزيح الكثير منها، وتنهي في أوروبا ترف التفكير في أي خيارات دفاعية «سيادية».

أجوبة الحرب

وضعت الحرب في أوكرانيا حدًا للكثير من الاحتمالات حول مستقبل أوروبا. إذ أقصت إلى غير رجعة دعوات التقارب من روسيا، وكرّست «النزعة الأطلسية» كتوجه يحظى بالإجماع الأوروبي (رغم محاولات ماكرون البائسة لمنحه وجهًا أوروبيًا) وأججت العدائية تجاه الصين، التي كانت مستوياتها في أوروبا، حتى ذلك الوقت، تقلّ عما كانت عليه في واشنطن. لم تكن أوروبا، رسميًا وشعبيًا، موحدة خلف الولايات المتحدة كما عليه هي اليوم. ولم يحظَ الناتو بدور مركزي في صناعة القرار الأوروبي كما يفعل اليوم، بشكل يتجاوز السياسات الدفاعية. فالاتحاد الأوروبي نفسه، بتعبير شتريك، لم يعد سوى جهاز مدني ملحق بالناتو مسخّر لخدمة الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، وأصبحت عضويته أشبه بحضانة لتخريج أعضاء الناتو المستقبليين، خاصة جيران روسيا منهم.

مع حلول الذكرى السنوية الأولى للحرب، لا تعوزنا الدلائل على هذه الوضعية التبعية. ذهبت وعود أوروبا، وخاصة ألمانيا، بعدم رفع الإنفاق العسكري أدراج الرياح، فيما ما زالت التأكيدات على الالتزام بتسليح أوكرانيا تتواتر مداورةً على ألسنة مسؤولي الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية والناتو، في حين يغير المسؤولون المنتخبون آراءهم حول إمداد أوكرانيا بهذه الدبابة أو ذاك الصاروخ في غضون أيام، وبضعة مكالمات مع واشنطن. وبينما يتململ الجمهور الأوروبي في انتظار انقضاء الشتاء وهو يدفع فواتيره مضاعفةً، سيكتب التاريخ عن تفجير خط نورد ستريم للغاز والصمت الأوروبي المطبق حياله، حتى بعد بروز الأدلة على مسؤولية الولايات المتحدة عنه وتخطيطها له حتى قبل اندلاع الحرب، كإحدى أغرب حالات التواطؤ ضد الذات.

من المرجح أن أي نهاية مرتقبة للحرب ستلحقها عملية إعادة إعمار واسعة قد تمثل مشروع مارشال جديد يكرس مستوى متقدمًا من الحضور الأمريكي في أوروبا، حتى وإن لعب الاتحاد الأوروبي دورًا ملموسًا فيه هذه المرة. لذا، فإن السيطرة الأمريكية على أوروبا لن تتراجع في المدى المنظور. لكن إن كانت الهيمنة الأمريكية على مدى العقود الماضية مصلحة أوروبية، بتعريف رأس المال الأوروبي، فإن المدى الذي ستصل إليه الولايات المتحدة من أجل الحفاظ على هيمنتها قد لا يكون في مصلحة أوروبا. ففي عالم ما بعد الحرب الباردة، ساعدت ثلاثة عوامل أساسية أوروبا على استدامة ازدهارها، الذي بلغته عبر مراكمة ثروات جنوب العالم وشرقه على مدى قرون: الوفر في الميزانيات عبر تخفيض الإنفاق العسكري، والطاقة الرخيصة من روسيا والشرق الأوسط، والسلع والأيدي العاملة الصينية. جرّدت الولايات المتحدة أوروبا من أول اثنين، وتمضي نحو تجريدها من الثالث.

منذ أكثر من عقدين، يتحدث سمير أمين عن ضمور المشروع الأوروبي في العصر الأمريكي. لكنه كان دومًا يتحدث عن بديل ممكن لتغيير مسار الأفول الأوروبي، يتوقف على القطيعة مع النيوليبرالية والكف عن اللحاق بالاستراتيجيات السياسية الأمريكية.[10] فالسؤال الذي كانت أوروبا تواجهه هو نفسه الذي تواجهه العديد من الدول التي تدور في الفضاء الأمريكي: هل ستستمر في إنفاق فائض رأس مالها في تمويل العجز الأمريكي، بما يمثله من استهلاك داخلي وإنفاق عسكري، عبر الاستمرار في حالتها التبعية بما تقتضيه من كلف وفرص ضائعة، أم تستثمر هذا الفائض في الداخل وتعيد التفكير في أولوياتها؟

في ظل افتخار أوروبا اليوم بكونها موحدة أكثر من أي وقت مضى، يبدو أنها حسمت خيارها نحو الطريق الأول.

  • الهوامش

    [1] Bleier, Ronald. «Invading Iraq: The Road to Perpetual War.» Middle East Policy 9, no. 4 (2002): 35–42.

    [2] Krauthammer, Charles. «The Unipolar Moment,» Foreign Affairs 70, no. 1 (Winter 1990/1991): 23–33.

    [3] Hinnebusch, Raymond. The US Invasion of Iraq: Explanations and Implications, Critique: Critical Middle Eastern Studies 16, no. 3 (2007): 209-228.

    [4] Amin, Samir. «U.S. Imperialism, Europe, and the Middle East.» Monthly Review 56, no. 6 (2004): 13.

    [5] Tunander, Ola. «Bush’s Brave New World A New World Order — a New Military Strategy.» Bulletin of Peace Proposals 22, no. 4 (1991): 355–68.

    [6] Amin. «U.S. Imperialism, Europe, and the Middle East».

    [7] Huasheng, Zhao. The Pendulum of History: Thirty Years after the Soviet Union. Russia in Global Affairs, 20, no. 1 (2022), pp.12-28.

    [8] Yordán, Carlos L. «America’s Quest for Global Hegemony: ‘Offensive Realism, the Bush Doctrine, and the 2003 Iraq War.’» Theoria: A Journal of Social and Political Theory, no. 110 (2006): 125–57.

    [9] أمين، سمير. ما بعد الرأسمالية المتهالكة. ترجمة فهمية شرف الدين وسناء أبو شقرا. (بيروت: الفارابي، 2003). ص 126.

    [10] أمين. مصدر سابق.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية