أوكرانيا: قبل التضامن الإنساني، وبعده

الثلاثاء 15 آذار 2022
أوكرانيا
لاعبو فريق لاتسيو يرتدون قمصان «أوقفوا الحرب» في إشارة إلى غزو روسيا لأوكرانيا عند وصولهم للإحماء قبل مباراة لاتسيو ونابولي في روما، في 27 شباط، 2022. تصوير فينسينزو بينتو. أ ف ب.

إشكالية التضامن

تأتي الأخبار من أوكرانيا إلينا، نحن العرب، مُحَمَّلةً بإشكاليات التضامن الإنساني وتناقضاته. فمن الطبيعي أن نتحمّس لأي هزيمة للناتو أو تهديدٍ للمصالح الإقليمية الأمريكية أو استهداف لعملائها. ومن الطبيعي في الوقت نفسه، أن نتعاطف مع ضحايا الحروب ومع اللاجئين والمهجرين بغض النظر عن الموقف السياسي لحكومتهم أو حتى بغض النظر عن استفادتهم من منظومة الامتيازات العالمية التي تقوم على سحقنا.

إلا أن التغطية العنصرية للأحداث ودعاوى استحقاق التعاطف والتضامن الإنسانيين على أساس أوروبية العرق وبياض لون البشرة، تعودُ لتذكّرنا أن التضامن الإنساني الذي نُدعى إليه قائمٌ على إنسانية تقصينا. هذا المقال لن يكون دعوة لنبذ التعاطف والتضامن ولكن للبحث في إشكالياته.

التضامن مع من؟

كنا ما نزال نعيش في أجواء حماسة ما بعد انتفاضات عام 2011 في مصر وتونس حين اندلعت انتفاضة «الميدان» في أوكرانيا، وتخيلها بعضنا امتدادًا لمدّ ثوري غير مركزي يجتاح العالم؛ وعشنا حالة تضامنية قائمة على هذا الوهم.

وجدت تسمية «الميدان» ذات الأصل العربي (التي أطلقها المحتجون على حركتهم) صداها بيننا، وأخذت الحماسة البعض فظنّ أن التسمية تيمّن بميدان التحرير عندنا؛ فيما بعد سنكتشف المقت الذي يكنه بعض نشطاء هذه الحركة، من ذوي التوجهات النازية الجديدة، لنا ولمياديننا. التسمية الكاملة التي تبنتها الحركة هي «يوروميدان» بما يشي بتمايز ميادينهم عن مياديننا، وبتوجه الحركة نحو الاتحاد الأوروبي.

انتشرت وقتها صور للمظاهرات في أوكرانيا على وسائل التواصل الاجتماعي العربية مع تعليقات متعاطفة، ولم تخل هذه التعليقات من نوع من العنصرية المبطّنة تذهب إلى أن هؤلاء الذين نراهم في الصور لا يليق بهم أن يتعرضوا لنفس أشكال القمع التي تعوّدنا عليها في عالمنا العربي.

ثم عندما تمكنت هذه الحركة من احتلال الميادين الكبرى في بعض مدن أوكرانيا، كان من أول ما فعلوه أن أسقطوا تمثال لينين ودمروه.

نجد أنفسنا الآن وجهًا لوجه مع نوع من التضامن قائم على إقصائنا؛ على أن الدمار يليق بنا وعلى أن أهل أوكرانيا لا يستحقون ما يحدث لهم لأنهم لا يشبهوننا.

مفهوم أن يعنيَ تمثال لينين أشياء مختلفة في أوقات وأزمنة مختلفة؛ وأنه قد يرتبط في أذهان بعض أبناء دول الاتحاد السوفيتي السابق وتوابعه بالنفوذ الروسي -رغم أن لينين كان في الواقع من منحَ هذه الجمهوريات استقلالها-، وبإرث ديكتاتوري يربطونه بالاشتراكية السوفييتية (بمعنى آخر، لا يشترط أن يكون الناس ماركسيين لينينيين أو أن تكون قراءتهم لتاريخ الاتحاد السوفيتي دقيقة لنتضامن معهم أو نقبل بإنسانيتهم أو بحقوقهم المدنية والسياسية). ولكن هذا العداء للإرث اللينيني كان إعلانًا عن المحتوى اليمينيّ لهذه الحركة، وإيذانًا بمرحلة تنقلب فيها أوكرانيا على كل ما تبقى أو نجا من إرث الاتحاد السوفييتي؛ وسيتبعها تقارب مع الناتو وسياسات انفتاح اقتصادي تفرض التقشف على البلاد، وتفكيكًا لبنية الضمان الاجتماعي (التي هي آخر ما تبقى من مكاسب الاشتراكية السوفيتية) لمصلحة رأس المال الأوروبي، وتناميًا لقوة الميليشيات النازية الجديدة التي تتلقى الدعم والتسليح من الناتو ومن الولايات المتحدة ومن العدو الصهيوني. كنا نتضامن، عندما تعاطفنا مع صورة المتظاهرين الأوكران، مع أجندة سياسية تتقدم على حسابنا (لا على حسابنا نحن العرب فحسب، من خلال تقارب أوكرانيا المتزايد مع الإمبريالية، بل على حساب كل المهمشين عرقيًا، بما فيهم الأوكران من ذوي الأصول الروسية الذين ستستهدفهم دولة ما بعد 2014 وميليشياتها؛ وعلى حساب الفقراء الذين ستسحب سياسات التقشف المفروضة أوروبيًا ما تبقى لهم من شبكات ضمان اجتماعي).

دعمَ «المجتمع الدولي» هذا التيار، وأضفى عليه الصبغات الديمقراطية والليبرالية والحداثية منذ الثورة البرتقالية، ثم أعانه على الوصول إلى السلطة في 2014؛ وأصبح الخاضعون لسلطة الإعلام العالمي مطلوبين ومدعوين لكي يتعاطفوا إنسانيًا مع هذا التيار الذي تعادي سياساته قسًما من الإنسانية، أو بالأحرى تقوم على إنسانية انتقائية وإقصائية؛ ليصبح التضامن مع المظهر الإعلامي البراق للثورة البرتقالية ولاحتجاجات 2013- 2014 هو الوجه الآخر للتواطؤ مع السياسات النيوليبرالية والعنصرية والموالية للإمبريالية التي سيتبناها النظام الجديد القادم من رحم هذه الحركات الاحتجاجية.

نفاق الغرب وتراتبيات الإنسانية

مع تسليمنا بأن روسيا تحرك مسألة النازيين الجدد لمصلحة واقعية-قومية روسية وليس لأن روسيا اليوم هي روسيا التي صدّت النازيين من قبل، لا نملك إلا التعجب من النفاق الغربي الذي لم يتضامن مع الأوكرانيين من ذوي العرق الروسي حين كانوا يُقتلون ويحاصَرون بغطاء من حكومة كييف وبدعم وتسليح الإمبريالية (ولا مع شعب الغجر عندما كانت الميليشيات الأوكرانية الفاشية الموالية للنظام تطارده في كييف)، ثم يستدرّ التعاطف اليوم على ضحايا الحرب الروسية (نفس ما حدث عندما نام ضمير العالم عن الحصار الذي فرضته جورجيا على جمهوريتي جنوب أوسيتيا وأبخازيا الجورجيتين حين أرادتا الاستقلال، قبل أن يستفيق في عام 2008 على العملية العسكرية الروسية لفرض استقلالهما).

هذا هو النفاق نفسه الذي يدعو الناس إلى تضامن إنساني مع ضحايا هذه الحرب من باب أنهم لا يشبهون بقية الناس؛ كما ظهر في الكثير من التعليقات العنصرية التي باتت معروفة (والتي لم تظهر فقط في إعلام أقصى اليمين بل على العكس في وسائل إعلام يفترض أنها ليبرالية ووسطية)، والتي لا تكتفي بربط الشفقة نحو اللاجئين الأوكران بكونهم أوروبيين شقر وزرق العيون و«متحضرين إلى حد ما»، بل تذهب إلى أبعد من ذلك فتقول جهارًا بأنهم لا يستحقون أن يحدث ذلك لهم لأنهم ببساطة ليسوا عربًا.

نجد أنفسنا الآن وجهًا لوجه مع نوع من التضامن قائم على إقصائنا؛ على أن الدمار يليق بنا وعلى أن أهل أوكرانيا لا يستحقون ما يحدث لهم لأنهم لا يشبهوننا.

هذه العنصرية لم تقتصر على تعليقات مؤذية تفصح عن نوايا المتضامنين مع أوكرانيا نحونا، ولكنها امتدت إلى ممارسات عنصرية وإجرامية على الأرض؛ إذ تُغلق الحدود في وجه من يشبهوننا، مع تقارير عن طوابير على الحدود الأوكرانية-البولندية تقسم اللاجئين حسب لون بشرتهم لتعطي الأولوية لفاتحي البشرة، ويتعرض اللاجئون العرب والآسيويون والأفارقة الفارّون من أوكرانيا إلى أشكال من التمييز والعنف والإهانة من قبل السلطات المحلية. ويغض قسم من الإعلام الأوروبي الطرف عن هذه الممارسات أو يهمشها لتتصدر المشهد صورة اللاجئة الأوكرانية البيضاء التي تفترش المطار وتعبر الحدود مع أطفالها[1] وتصبح أولى من جموع السمر بالشفقة.

انحيازات الإنسانية

هذه الانحيازات مرتبطة بتاريخ مفهوم «الإنسانية» ذاته الذي نشأ في أوروبا ابتداءً من عصر النهضة؛ ليضع الإنسان (بدلًا من الله) في مركز الكون ثم يجعل الإنسان الأوروبي حصرًا هو سيد العالم، لتنشأ معه درجات متفاوتة من الإنسانية (كرستها إيديولوجية التطور في القرن التاسع عشر، بشقيها البيولوجي والاجتماعي). وإن كانت هذه الإنسانية مفهومًا حديثًا وأوروبيًا فإنهم حين ابتدعوها استدعوا كذلك التراث اليوناني القديم واستشهدوا بكلام أرسطو عندما أراد أن يبرر العبودية فجعل البشر درجات مختلفة.

وعندما ذهب المستعمرون الإسبان إلى أمريكا تناقشوا فيما إذا كانت للسكان الأصليين روح وفيما إن كانوا بشرًا من الأساس، وأصبحت مسألة فيها نظر وجدال. كان الطرف القائل بعدم إنسانية السكان الأصليين وبافتقارهم للروح يبرر قتلهم وسرقة أرضهم ومواردهم، ولم يلجأ هذا الطرف فقط إلى الحجج الدينية المتطرفة و«التكفيرية»، بل استحضر أيضًا المفاهيم «العقلانية» اليونانية القديمة التي تبرر سيطرة القوي على الضعيف، والذكي على الغبي، والمتحضّر على الهمجي، والسيد على العبد، بحجة أن هذا هو «القانون الطبيعي»، بينما جاءت الدعاوى إلى الرأفة بالسكان الأصليين وإلى اعتبارهم بشرًا ذوي أرواح من قلب المنطق الديني المسيحي؛ وفي النهاية تدخل البابا ليقول بأن لسكان أمريكا روحًا ليغير بذلك شكل تعامل الاستعمار الإسباني معهم.

إنّ التغطية العنصرية للأحداث ودعاوى استحقاق التعاطف والتضامن الإنسانيين على أساس أوروبية العرق وبياض لون البشرة، تعودُ لتذكّرنا أن التضامن الإنساني الذي نُدعى إليه قائمٌ على إنسانية تقصينا.

ثم عندما قامت الثورة الفرنسية وأعلنت في عام 1789 أول إعلان لحقوق الإنسان، أثبتت التجربة أن هذه الإنسانية التي نادوا بحقوقها لا تشمل الجزائريين، وفي مرحلة معينة منحوا هذا الشرف لبعض يهود الجزائر ولكن فقط من خلال تجنيسهم فرنسيًا. أي أن حكومة فرنسا، بينما كانت توزع الإنسانية على أساس الديانة، كانت تجعل المواطنة الأوروبية شرطًا لهذه الإنسانية.[2]

لم تمتد هذه الإنسانية كذلك لتشمل أفارقة الكاريبي، إذ شنت الجمهورية الفرنسية الأولى، التي كانت تحمل مبادئ حقوق الإنسان والعدالة والإخاء والمساواة، حربها على هايتي لتقمع ثورة شعبها وتعيد تجارة العبيد إلى الكاريبي (وكان ذلك قبل حتى أن يقوم نابليون بونابرت بانقلابه الشهير ويعلن الإمبراطورية مكان الجمهورية).

كل تاريخ الاستعمار الذي لم يتوان عن ارتكاب المجازر في المستعمرات بينما دافع عن الإنسان وحقوقه في أوروبا،[3] والمعايير المزدوجة للحضارة الغربية الحديثة، وإنكارهم لحقنا في الدفاع عن نفسنا؛ وأفلامهم التي تستعرض قوتهم والقدرة التدميرية لأسلحتهم من خلال دمار مدننا وبلادنا، وكذلك مسألة «التدخل الإنساني» من حيث هو قناع إمبريالي يسمح للدول العظمى أن تتدخل بقوة السلاح لتحدد من هو الإنسان وما هي حقوقه وأي أنواع عنف تمارس من أجل حقوق هذا الإنسان على حساب أنواع البشر الأخرى،[4] هي كلها امتداد لهذه التراتبية في الإنسانية. (وفي العصر الحالي، هذه التحيزات ليست حكرًا على اليمينيين أو الصهاينة أو أحباب الناتو؛ روبرت فيسك على سبيل المثال كتبَ أثناء حرب تموز دفاعًا عن لبنان من باب أن اللبنانيين يشبهون الأوروبيين، وتحديدًا قال إنهم يتحدثون اللغات الأجنبية وإن طعامهم لذيذ ونساءهم حسناوات).

وعندما نشبههم شكلًا، وعندما تصطدم العنصرية الأوروبية بأنه من بين العرب من هم شقر، يُستلَب هؤلاء ويسطو الغرب على صورتهم؛ فقد انتشر على سبيل المثال على وسائل التواصل الاجتماعي الفيديو الشهير لعهد التميمي وهو تواجه الجندي الصهيوني بشجاعة مع تعليق «فتاة أوكرانية تواجه الجنود الروس».

ومقابل هذا الاستلاب لصورة العربي فاتح البشرة (ومن خلاله لشجاعة الفلسطيني) يتم إقصاء سكان أوكرانيا السود من دائرة التعاطف.

قد لا تكون العنصرية، في الخطاب والممارسة، مفاجئة. الأدعى للدهشة (والغضب، ربما) هو الشعور بأننا ندعى إلى التضامن باسم هذه الإنسانية؛ وهو ما يعني ضمنًا القبول بموقعنا المتدني أو الهامشي في هذه الإنسانية (وصلت الوقاحة بأحد المذيعين أن يقول هذا الكلام، ببساطة كأنه أمر مفروغ منه، على قناة الجزيرة الإنجليزية).

هذه بتلك؟ أبعد من التضامن الإنساني، أبعد من أوكرانيا

في خضم هذه التغطية غير المتوازنة، انتشر على بعض حسابات التواصل الاجتماعي العربية فيديو لشاب أسمر يرفع المطواة وينظم، عنوةً، صعود اللاجئين السمر مثله إلى القطار بينما تقول أصوات في الخلفية، بالإنجليزية «نحن طلبة علم، ليس بحوزتنا سلاح»، فيما يبدو كما لو كان احتجاجًا على قوى الأمن التي تريد منع هؤلاء من الصعود إلى القطار المغادر، والتي رفع الشاب الأسمر مديته في وجهها. وقيل إن الشاب مغربي وإنه رفع مطواته عندما أصر الجنود الأوكرانيين ألا يسمحوا للعرب بالصعود إلى القطار المغادر أوكرانيا؛ وإنه قد أجبر الأوكرانيين البيض، للحظات، أن ينتظروا ريثما يصعد العرب.

لم يغفل المشاهد العربي ما في هذه الواقعة من رمزية ومن تكثيف لا يخلو من الكوميديا السوداء للواقع السياسي العالمي، إذ تواجَه البلطجة العالمية التي تمثلها الهيئات الرسمية والحدودية والإعلامية الأوروبية، بالبلطجة المحلية، المحمودة في هذا السياق، التي يمثّلها العربي حامل المطواة. هذا الفيديو أصبح هو الرد الطبيعي على الفيديوهات والتعليقات والممارسات التي تعطي الأولوية لحياة الأوروبيين البيض على حياتنا. إذا كان أبو القاسم الشابي قد قال في مطلع القرن العشرين تعليقًا على تجربة الاستعمار «لا عدل إلّا إن تعادلت القوى (..) وتصادم الإرهاب بالإرهاب»، فإن صورة الشاب المغربي في مطلع القرن الحادي والعشرين تضيف إلى بيت أبي القاسم الشابي «أو تصادمت البلطجة بالبلطجة».

قد لا تكون العنصرية، في الخطاب والممارسة، مفاجئة. الأدعى للدهشة (والغضب، ربما) هو الشعور بأننا ندعى إلى التضامن باسم هذه الإنسانية؛ وهو ما يعني ضمنًا القبول بموقعنا المتدني أو الهامشي في هذه الإنسانية.

من أسوأ ما في هذه المرحلة من الرأسمالية-الإمبريالية أنها جعلت من الإنسانية لعبة صفرية: فلا تأتي امتيازات اللاجئ الأوكراني الأبيض إلا على حساب اللاجئ الأسمر ولا يحصل اللاجئ الأسمر على امتيازاته إلا إن رفع مديته (مجازًا وحقًا) على الأوروبيين البيض؛ إمّا امتداد الناتو ليثبت الخراب والدمار في بلادنا، وإمّا الشماتة في أوكرانيا وغيرها من أحباب الناتو.

المشكلة أن هذه المعضلة لا تترك لنا طريقًا للخلاص: حتى إن تشفينا في انقلاب الآية أو ضحكنا عليها فإن روسيا لا تمثل بأية حال غاية آمالنا؛ ما دامت لا تملك أن تكون قطبًا موازيًا للولايات المتحدة وما دام ما بينها وبين العدو الصهيوني مجرد شدّ وجذب تراعي فيه الخطوط الحمراء للإمبريالية الأمريكية، وما دامت لا أرضية عقائدية مشتركة، ولا حتى مصالح ثابتة بيننا وبينها.

هذا المقال ليس بطبيعة الحال دعوة للتشفي في الأوكرانيين؛ ولا إلى تطبيع معاناة اللاجئين وضحايا الحرب وإن كانوا بيض الوجه أو كانت حكومتهم ناتوية موالية للولايات المتحدة؛ وليس بالضرورة دعوة لتصوير روسيا نقيضًا لعنصرية الغرب ورأسماليته. ولكنه دعوة للوعي بمحاذير التضامن وما يخبّئه مفهوم «الإنسانية» من أجندات عرقية وسياسية تنحاز ضد الضعفاء؛ ودعوة كذلك لاجتثاث الاستعمار من التضامن، ومن «الإنسانية».

في خاتمة كتابه الموسوم «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» يقول فرانز فانون «أنا أتضامن مع الإنسانية ما دمت أستطيع أن أخطو خطوة أبعد». كيف يمكن لنا إذن، ونحن نجد أنفسنا الضحايا الماديين للحروب التي تدور على أراضينا، والضحايا المعنويين (والماديين أحيانًا، كما هو الحال مع الأفارقة والعرب المقيمين في أوكرانيا) للحروب التي تدور خارج أراضينا، أن نتضامن مع الإنسانية ونخطو خطوة أبعد؟

يقول فانون إن «مأساة الرجل الأبيض تكمن في أنه قد قتل، يومًا ما، شخصًا آخر (..) وإلى اليوم وهم يحاولون عقلنة هذا الموقف اللا-إنساني» (كأنه يرمي إلى أن إنسانيتهم، التي حاولنا في هذا المقال نقدها، ليست سوى محاولة لعقلنة موقف لا إنساني لا يستطيع تجاوز تجربة الاستعمار والعبودية). وفي حربهم الآن، نرى إنسانيتهم مجروحة، أولًا بتراتبيتهم هم، فليس كل البيض سواء، فتعود العنصرية ضد الروس والسلاف (التي كانت أحد ركائز النازية إلى جانب العنصرية ضد اليهود والساميين والغجر) لتشكل رؤية الغرب لهذه الحرب الدائرة على حدوده. ثم نراهم، حتى وهم يحاربون بعضهم، يختاروننا نحن، عربًا وآسيويين وأفارقة، ضحية لعنصريتهم.

هذه الأحداث تؤكد الضرورة الملحة لنزع الاستعمار، لا لإنقاذ إنسانيتنا نحن فقط ولكن لإنقاذ إنسانية العالم بأسره؛ هذه الإنسانية اللا-استعمارية التي دعا إليها فانون لا تولد إلا من رحم النضال ضد الاستعمار بكل الوسائل المتاحة؛ يقول فانون: «في ساحة المعركة، التي تحدها من الجهات الأربع جثث الزنوج المعلقين من خصاهم، أرى نصبًا يرتفع رويدًا، وأرى الوعد بأن يكون نصبًا عظيمًا؛ وعلى قمة هذا النصب، أرى بالفعل، الأبيض والأسود كفًا بكف». هذه المعركة خارج موضوعنا، وساحتها بالتأكيد ليست أوكرانيا.

  • الهوامش

    [1] يغفل الإعلام كذلك دور حكومة كييف في خلق هذه الحالة المجندرة إذ تمنع الرجال ممن هم في سن حمل السلاح من مغادرة البلاد.

    [2] ينظر أيضًا مفهوم «الإنسان الحرام» لجورجيو أغامبن (كما وضحه في كتابه الذي يحمل الاسم ذاته) ونقد أغامبن المهم للطريقة التي ينشأ بها مفهوم الإنسان ثم تسلب حقوقه إن لم يكن مرتبطا بدولة في مقاله «نحن اللاجئون»، مع مراعاة أن أغامبن رغم إخلاصه في نقد الاستعمار والإمبريالية الأمريكية والصهيونية لا يعطي مسألة العنصرية حقها.

    [3] النازية هنا تعدت الخطوط الحمراء للإنسانية لأنها تجرأت على أن ترتكب نفس جرائم الاستعمار ولكن في أوروبا، أي ضد الإنسان.

    [4] قد لا نحتاج في العالم العربي إلى مداخلات نظرية لفهم الاستغلال الاستعماري العسكري لمفهوم «التدخل الإنساني»؛ ولكن من المفيد الرجوع هنا إلى التاريخ الذي يقدمه طلال أسد لهذا المفهوم في مقاله «ماذا تفعل حقوق الإنسان؟ تحقيق أنثروبولوجي» (What Do Human Rights Do? An Anthropological Enquiry). إذ يدعونا أسد إلى أن ننظر أبعد من النفاق أو المداهنة في التطبيق غير المتوازن لحقوق الإنسان والتدخل الإنساني، إلى الظروف التي تنتج فيها مثل هذه المفاهيم. ويربط أسد هذا المفهوم بمفهوم «القانون الطبيعي» في أوروبا في القرون الوسطى وكيف استدعى الفكر الأرسطي، وأن هذا المفهوم منذ نهاية عصر الأرستقراطية أصبح مرتبطا بالدولة التي أصبحت المرجع في تعريف الإنسان وحقه.

    وبالنظر إلى السياق الأمريكي مثلًا (الذي أسس فيه مجموعة من المستوطنين من مالكي العبيد دستورًا يتحدث باسم الإنسانية وتذكره أمريكا إلى الآن كلحظة تأسيس إنسانية) فإن اختلاق الإنسانية، بحسب أسد، تم من خلال فصلها عن الطغاة (الإنجليز)، والكفار (سكان أمريكا الأصليين)، والعبيد الأفارقة.

    وبشكل ما فإن أسد يقول بأن المسألة ليست عدم اتساق في التطبيق للمفاهيم القانونية المتعلقة بحقوق الإنسان وإنما المسألة هي أن التطبيق القانوني والسياسي لحقوق الإنسان هو الذي ينتج الإنسان فتصبح شعوب العالم الثالث كأنها لم تصل بعد إلى «الخلاص» (إذ يستخدم أسد هنا هذا المفهوم الديني في سياق علماني كجزء من نظريته في أن العلمانية هي ديانة من بين الديانات)، مع الأخذ في الاعتبار أن أسد، بينما يقدم نقدًا معرفيًا مهمًا، يحرص أشد الحرص ألا تشوب كلامه شبهة النقد السياسي أو الالتزام بأجندة نضالية ضد الاستعمار.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية