لماذا لا تقول منظمة العفو الدولية إنه «استعمار»؟

الأحد 13 شباط 2022
القدس، فلسطين، الاحتلال
جنود الاحتلال يعتقلون شابًا فلسطينيًا في القدس، في تشرين الأول 2021. تصوير أحمد قرابلي. أ ف ب.

نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة نوفارا ميديا بتاريخ 8 شباط 2022.

نشرت منظمة العفو الدولية الأسبوع الماضي تقريرًا يُقرّ بأنّ «إسرائيل» قد «ارتكبت جريمة الفصل العنصري (Apartheid)»، وبذلك تصبح ثالث منظمة حقوقية كبرى تقر بذلك، بعد منظمة بتسليم (B’Tselem) ومنظمة هيومن رايتس ووتش. وأقرّت، في تقريرها ذي الـ280 صفحة، بأنّ «إسرائيل» قد طوّرت نظامًا للهيمنة والعزل (Segregation) تمارس من خلاله السيطرة على الشعب الفلسطيني عبر السياسات والتشريعات والممارسات الأخرى.

يغطي التقرير فلسطين التاريخية -من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط- راصدًا بذلك أنّ الفصل العنصري «نشأ مع قيام دولة «إسرائيل» في أيار 1948، وقد أُنشئ وأُديم على مدى عقودٍ من قبل الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة في شتى المناطق التي تُسيطر عليها، بصرف النظر عن الحزب السياسي الذي يتولى السلطة». كما يعترف التقرير، على وجه الخصوص، بأنّ الفلسطينيين ليسوا متساوين في الوصول للأراضي والممتلكات والموارد، وبأنّ الرفض الإسرائيلي لحق العودة للاجئين الفلسطينيين يمثل تجسيدًا لسياسات الفصل العنصري التي لا تقتصر على مكان فحسب، بل تواجه كل الشعب الفلسطيني أينما كان.

يُظهر تقرير منظمة العفو الدولية، الذي بنى على حصيلة عقودٍ من العمل الذي قامت به منظماتٌ فلسطينية، مثل مؤسسة الحق ومركز الميزان، كيف تحول الخطاب المقبول. ففي حين أن النشطاء الفلسطينيين كثيرًا يجدون أنفسهم منبوذين ومعتقلين ومضطهدين بسبب نشاطهم في حملات ضد الفصل العنصري، فإنّ المحاولات الإسرائيلية القسرية لتهجير الفلسطينيين من حي الشيخ جراح في القدس والتي بدأت العام الماضي فتحت الباب مجددًا أمام التضامن العالمي مع فلسطين. وللمرة الأولى، دُعي الفلسطينيون على نطاقٍ واسع للتحدث إلى منافذ الإعلام الدولية الرئيسية، والتي بدورها بدلّت خطابها واستحضرت مفاهيم الفصل العنصري والاحتلال وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات في الإعلام.

إنّ نشر تقرير كهذا من قبل أكبر المنظمات الحقوقية شعبية في العالم، يدين الفصل العنصري الإسرائيلي عبر الاحتكام للقانون الدولي، له بلا ريب أهمية بالغة لمواصلة نشر النضال ضد الفصل العنصري، وكذلك لكسب حلفاء دوليين وضمان تحقيق انتصارات. وفي واقع الأمر، تتجلى أهمية التقرير في رد الفعل العنيف المباشر من «إسرائيل». ومع ذلك، فإنّ الإطار الذي تستخدمه منظمة العفو الدولية لشجب الفصل العنصري قاصرٌ للغاية.

عمد تقرير منظمة العفو الدولية مرةً أخرى إلى طرح الفصل العنصري بوصفه قضية ليبرالية، أي كمسألة عدم مساواة بدلًا من مسألة استعمار استيطاني، يتوجب حلها عبر المواطنة الفلسطينية والديموقراطية الانتخابية.

والحال أنّ الفصل العنصري، كمفهوم، له تاريخ أكثر اتساعًا وراديكالية من التعريف المنسوب إليه في التقرير. إذ ولد المصطلح في سياق جنوب إفريقيا، وانتشر في وقت كان فيه التضامن العابر للقومية عبر العالم الثالث -بما في ذلك حركة التضامن الفلسطينية مع جنوب إفريقيا- هو الميدان الرئيسي لنضالات التحرر. لقد أجرى المفكر الفلسطيني فايز صايغ في كتابه التأسيسي «الاستعمار الصهيوني في فلسطين» (1965)، مقارنةً بين أنماط الهيمنة العرقية بين جنوب إفريقيا وفلسطين، ولاحقًا ضغط من خلال عمله الدبلوماسي على الأمم المتحدة للاعتراف بأنّ الصهيونية هي مشروع استيطانٍ استعماري. كما تحاجج لانا طاطور في عملها حول الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، بأنّ هذا هو السياق الذي ينبغي أنّ يُفهم فيه الفصل العنصري: بوصفه أحد أشكال الهيمنة ضمن مشروع استعمار استيطاني.

ومع تزايد استيعاب الأطر الراديكالية والتكنوقراطية في الخطاب الحقوقي، بعد تراجع النزعة العالم-ثالثية ومجيء النيوليبرالية، بُتر مصطلح الفصل العنصري عن جذوره المُناهضة للاستعمار والعرقية في أعمال مفكرين مثل صايغ وإدوارد سعيد. ليتحول، في السياق الفلسطيني، إلى مسألة انعدام المساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بدلًا من أنّ يكون قضية نضال ضد الاستعمار لتحقيق التحرر الوطني.

وتماشيًا مع هذا التحول، عمد تقرير منظمة العفو الدولية مرةً أخرى إلى طرح الفصل العنصري بوصفه قضية ليبرالية -أي كمسألة عدم مساواة بدلًا من مسألة استعمار استيطاني (وهو ما لم يأتِ ذكره في التقرير إطلاقًا) يتوجب حلها عبر المواطنة الفلسطينية والديموقراطية الانتخابية. وبالتالي لا يُنظر إلى نظام الفصل العنصري في هذا السياق بوصفه شكلًا من أشكال الهيمنة ضمن مشروع استعمار استيطاني، وإنما كحدث عائم، ينبغي إدانته من قبل الجميع ولكن يستحيل فهمه وإصلاحه. بيد أنّ نضال التحرر الفلسطيني، في حقيقة الأمر، يعدّ نضالًا مناهضًا للاستعمار يسعى لتحقيق التحرر الوطني. لكن يصبح هذا النضال، ضمن إطار منظمة العفو الدولية، محصورًا في مسألة الحقوق المدنية، حاجبًا بذلك التاريخ الفكري الفلسطيني ومقيدًا لتصور الماهية التي يبدو عليها التحرر. 

تدعي منظمة العفو الدولية أنّها لا تتخذ أي مواقف سياسية، كما تفتخر بكونها محايدةً وغير متحيزةٍ ومستقلة. إلا أنّ هذه القيم على وجه التحديد تمثل خطرًا كبيرًا على الخطاب الحقوقي والعنصر المحدد له. في الواقع، لا ينبغي أن تفاجئنا تحذيرات منظمة العفو الدولية التي توضح أن المنظمة لا تتخذ أيّ موقفٍ من الاحتلال ولا إدانتها لأعمال المقاومة الفلسطينية كذلك -التي تغرّد بشأن «توازن» التقرير الصادر-. حيث إن كلاهما واقعٌ ضمن اختصاص المنظمة، ويشيران إلى محدودية الإطار الحقوقي. 

إذا لم تكن نقطة البدء نابعة من أنّ «إسرائيل» مشروع استعمار استيطاني عنيف لديه مجموعةٌ من الأساليب العنيفة لفرض السيطرة، فإنّه سينظر إلى عنف الاستعمار الاستيطاني ومقاومة ذلك الاستعمار بوصفهما مُدانيْن بالقدر ذاته

فإذا لم تكن نقطة البدء للمرء نابعة من أنّ «إسرائيل» هي مشروع استعمار استيطاني عنيف لديه مجموعةٌ من الأساليب العنيفة لفرض السيطرة، فإنّه سينظر إلى عنف الاستعمار الاستيطاني ومقاومة ذلك الاستعمار آنف الذكر بوصفهما مُدانين بالقدر ذاته. وحتى ضمن الخطاب الحقوقي، إذا اتخذت منظمة العفو الدولية موقفًا من الاحتلال، فإنها ستضطر بذلك للاعتراف بأن العنف بنيوي وسابق لأي مقاومةٍ له. ولن تنظر إلى المقاومة الفلسطينية بوصفها «جريمة حرب»، وذلك لأن حق الفلسطينيين في المقاومة مكفولٌ بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، التي تعتبر بأن حق الفلسطينيين بالمقاومة مكفولٌ قانونيًا لكونهم يرزحون تحت الاحتلال. بيد أنّ هذا استنتاج لا يهدف ولا يرغب التقرير في التوصل إليه.

إنّ هذه ليست واقعةً غير مألوفة. ففي عام 1977، حصلت منظمة العفو الدولية على جائزة نوبل للسلام عن «عام سجناء الرأي»، والذي تضمن الإبلاغ عن انتهاكات حقوق الإنسان في تشيلي. ولكن لم يُعثر بأي حال في تقريرها على روابط بين هذه الانتهاكات وإعادة هيكلة الاقتصاد التشيلي في ظل حكم أوغستو بينوشيه، الذي أطاح عام 1973 بحكومة سلفادور أليندي الاشتراكية المنتخبة ديموقراطيًا بانقلابٍ عسكري. لم يحظَ هذا النموذج الاقتصادي الجديد بشعبيةٍ كبيرةٍ لدى الشعب التشيلي، الذي قاوم تطبيقه وقوبل ذلك بالتالي بعنف من الدولة. ومع ذلك، فإن تقرير منظمة العفو الدولية لم يأتِ على ذكر ارتفاع مستويات الفقر في التشيلي، ولا انعكاس توزيع الثروة الذي حدث. وفي الواقع، لم يتطرق التقرير إلى الاقتصاد على الإطلاق. 

لقد نجحت منظمة العفو الدولية في رفع مستوى الوعي بعنف الدولة، لكنها نجحت أيضًا في فصل تلك الجرائم عن أسبابها الجذرية. وفي حالة تشيلي، ظلّ النموذج النيوليبرالي الاقتصادي غير مطروق. وفيما يخص أحدث تقرير نشرته منظمة العفو الدولية، فإن الاحتلال الإسرائيلي لم يُخدَش. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أنّ الأوضاع في تشيلي وفلسطين متشابهة. لكنه دليل على محدودية الخطاب الحقوقي الذي لا يعدو كونه استقصائيًا، وليس إيضاحيًا على الإطلاق. حيث إنّ تجريد أي جريمةٍ من أسبابها الجذرية، كفيلٌ بسحق أي فرصةٍ لإحداث تغيير بنيويٍ حقيقي. وبالتالي، لا يوجد أي تحررٍ بعد هذه النقطة. وبدلًا من ذلك، تقتصر «الحلول» على الضغط على الحكومة الإسرائيلية لفعل الأفضل، وهو ما تُشير إليه مزنة القطو وكريم ربيع على أنّه «استعمار أفضل بدلًا من نهاية الاستعمار».

وفي حين أنّ رفع الوعي قد يؤدي إلى مكاسب سريعة، إلا أنّه لن يرقى أبدًا إلى مستوى التحرر السياسي والاجتماعي. ولكي يتحقق ذلك في فلسطين، فإنّ على النضال أنّ يتجاوز مستوى الأفكار وأنّ يتجه نحو تقويض استعمارٍ وعودةٍ فعليين حقيقيين. إن ما يقتضي حدوث إنهاء الاستعمار هو أن يُقرر الشعب الفلسطيني، وأن يدعمه حلفاؤه. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية