إمبراطورية القطن: تاريخ النبتة التي غيّرت وجه الاقتصاد العالمي

الخميس 06 تشرين الأول 2022
زراعة القطن
إحدى مزارع القطن في مالي. تصوير فلورنت فيرجنيس. أ ف ب.

ابتداءً من عام 2019، يحتفل العالم كل عام في 7 تشرين الأول باليوم العالمي للقطن، والذي يعد، بعد القمح، المحصول الأكثر أهمية لحضوره مع مختلف استخداماتنا اليومية، فهو يتواجد في الملابس التي نرتديها والأغطية التي ننام عليها وتحتها والأوراق النقدية والصابون والكتب، وحتى البارود الذي نستخدمه في الحروب.

ولكن أهمية القطن لا تقتصر على حضوره الواسع اليوم، إنما تمتد إلى الآثار العميقة التي تركها تاريخيًا على الاقتصاد العالمي، بوصفه أحد أساسات النهضة الصناعية في أوروبا وصعود الولايات المتحدة، وعاملًا أساسيًا في استعباد واضطهاد وإفقار عشرات الملايين حول العالم، ضمن تاريخ ملطخ بدماء العبيد والسكان الأصليين.

في كتاب «إمبراطورية القطن»، الصادر عام 2014، يحاول المؤرخ الأمريكي سفين بيكرت الإحاطة بتاريخ هذه السلعة العالمية، ومن ورائها الإحاطة بتاريخ تكوّن الرأسمالية بشكليها؛ الحربي القائم على نهب الأراضي واستعباد البشر والصناعي القائم على إدارة شبكة عالمية متشابكة من الموارد والأسواق، ويرى أنه لا يمكن فهم تاريخ زراعة وصناعة القطن بشكل معقول بدون النظر إليه من منظور عالمي.

تكمن فرادة هذا الكتاب في التحليل الذي يقدّمه لتشكل الرأسمالية والاقتصاد العالمي في مرحلة الاستعمار الأوروبي والثورة الصناعية، حيث لا يكاد القطن يكون سوى مرآة لهذه العملية، يوضّح بيكرت من خلالها العوامل الخفية والثمن الباهظ الذي دفعته البشرية للوصول بصناعة القطن إلى شكلها الحالي اليوم، وينقض الأفكار السائدة حول تفوق الصناعات الأوروبية على منافسيها من خلال الابتكار العلمي والتكنولوجي، موضّحًا الدور الذي لعبته القوّة العسكرية والعبودية واستغلال البشر في تفوّق الغرب على منافسيه.

في اليوم العالمي للقطن، من المفيد إلقاء نظرة على هذا الكتاب الذي بات مرجعًا لتاريخ القطن عالميًا، والتعرّف معه على المسيرة الشاقة التي قطعها العالم نحو إتاحته بهذا الشكل الواسع، والثمن الذي دفعه ويدفعه مئات ملايين البشر في سبيل توفير واحدة من أهم السلع وأكثرها تأثيرًا في تاريخ البشرية.

سلعة عالمية 

كان القطن لمدة ألف عام على الأقل سلعة عالمية الانتشار ومحلية الإنتاج في الوقت نفسه، إذ كانت تعتمد غالبًا على الورشات المنزلية للفلاحين الذين يزرعون القطن كمحصول جانبي، ومن ثم يغزلونه ويحولونه إلى خيوط، ويحولونه إلى أنسجة وأقمشة، في الفترات التي لا تتطلب عملًا في الزراعة بمساعدة أفراد عائلاتهم، وهي مهمة اضطلعت بها إلى حد كبير النساء، وكان هذه هي الحالة بدرجات متفاوتة في أفريقيا وآسيا والأمريكيتين حتى قبل غزوهما في القرن الخامس عشر.

على عكس السلع الأخرى واسعة الانتشار في القرون الثلاثة التي يحيط بها هذا الكتاب، مثل التبغ والسكر، اتسم قطاع القطن بحاجته الماسة لليد العاملة في مختلف مراحل الإنتاج، من الزراعة والحصاد وإزالة البذور إلى الغزل والنسيج، ما جعله على عكس السلع الأخرى ذا أثر عميق في نهوض وانهيار الاقتصادات المختلفة، وتحقيق تغييرات جذرية مع كل تطوّر يشهده أو عقبة تواجهه.

ونظرًا لكمية الجهد والوقت الذي يحتاجه إنتاج القطنيات، فقد كانت تكتسب أهمّية كبيرة كوحدة مقايضة وحتى لأداء الضرائب للدول في كثير من الحالات، وهذه الأهمية بالذات هي ما جعلت المنتجات القطنية تضطلع بدور مركزي في حسابات الدول الأوروبية في بدايات توسعها الاستعماري، وبحلول عام 1766، شكّل القطن مثلًا أكثر من 75% من صادرات شركة الهند الشرقية. 

ولكن هذه الشهية الأوروبية للقطنيات الهندية لم يكن مردّها فقط للاستهلاك المحلي في الأسواق الأوروبية، التي كانت لا تزال غير معتادة على هذه الأنسجة الجديدة وتخلو من مستويات الطلب المرتفعة، إنما لاستخدامها كوحدة مقايضة في أكثر جوانب تاريخ القطن ظلمة؛ تجارة العبيد.

عبودية الحقول

كان الارتباط بين القطن وتجارة العبيد باتجاهين، فمن ناحية أدّت تجارة العبيد لزيادة هائلة في الطلب على القطنيات، إذ كان الأوروبيون يدفعون منتجات قطنية للحكام الأفريقيين مقابل القبض على اليد العاملة واستعبادها، ووفقًا للتاجر البريطاني ريتشارد مايلز مثلًا، فإن «نصف مدفوعات الحصول على 2,218 عبدًا من ساحل الذهب (غانا حاليًا) بين عامي 1772 و1780 كانت من القطن». ومن ناحية أخرى أدت زيادة الطلب على القطن إلى تزايد العبودية بشكل كبير لاعتماد زراعة القطن بشكل أساسي على جهد العبيد في الأمريكتين وجزر الكاريبي.

مع بدء تطوّر الصناعة القطنية في بريطانيا وأوروبا عمومًا، بدأت أوروبا بالتخلي عن القطنيات الهندية الجاهزة، التي كانت مهيمنة عالميًا حتى ذلك الحين، وأدّت التقنيات الصناعية الجديدة التي ضاعفت عدة مرات، وعلى مراحل متقاربة، سرعة عمليتي الغزل والنسيج إلى حاجة ماسة لكميات كبيرة من القطن الخام، والذي جاء في معظمه بداية من جزر الكاريبي حيث بدأ البريطانيون باستخدام الأراضي المستولى عليها من السكان الأصليين لزراعة القطن بشكل واسع، معتمدين على عمل العبيد.

أدّت تجارة العبيد لزيادة هائلة في الطلب على القطنيات، إذ كان الأوروبيون يدفعون منتجات قطنية للحكام الأفريقيين مقابل القبض على اليد العاملة واستعبادها

ما بين عامي 1781 و1791 تضاعف حجم الواردات القادمة من جزر الكاريبي التي تسيطر عليها بريطانيا أربع مرات، ومن بينها جزر الباهاماس التي لم يُزرع القطن على أراضيها حتى سبعينيات القرن الثامن عشر، لتبلغ مبيعاتها من القطن عام 1787 للتجار البريطانيين حوالي 226 طن.

ولكن المصدر الأهم للقطن بالنسبة لأوروبا كان جزيرة سانت دومينج (هايتي حاليًا) التي كانت تحتلها فرنسا، حيث صدّرت هذه الجزيرة في عام 1791 أكثر من 3,084 طنًا من القطن إلى فرنسا، بزيادة بلغت حوالي 58% خلال خمس سنوات، وكان إنتاج سانت دومينج الفرنسية يشكل 36% من إنتاج جزر الكاريبي من القطن، وزاد على مجمل إنتاج جزر الكاريبي البريطانية مجتمعةً.

حقق إنتاج القطن في سانت دومينج هذا الزخم عبر ترحيل أكثر من ربع مليون عبد أفريقي بين عامي 1784 و1791، والاعتماد على جهودهم للعمل في زراعة وحصاد وإزالة بذور القطن، إلى حين قيام الثورة التي أدّت إلى هزيمة النظام الاستعماري الفرنسي في الجزيرة وتحرير مئات آلاف العبيد، وقيام دولة هايتي.

ولكن هايتي لم تكن حالة فريدة، فكما يقول بيكرت كانت العبودية بالنسبة لإمبراطورية القطن «بأهمية الطقس والتربة المناسبين. العبودية هي التي أتاحت لمزارعي القطن الاستجابة سريعًا لارتفاع الأسعار واتساع الأسواق، إذ لم تتح فقط حشد أعداد كبيرة من العمال في فترات قصيرة، ولكن وفرت أيضًا نظام إشراف عنيف واستغلال مستمر يلبّي حاجات صناعة كثيفة المجهود». لقد «اشترى» الأوروبيون ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر أكثر من ثمانية ملايين عبد أفريقي تم نقلهم إلى الأمريكيتين، وفي القرن الثامن عشر وحده تم تهجير أكثر من خمسة ملايين نسمة من غرب ووسط أفريقيا للعمل بشكل خاص في مزارع القطن والتبغ والسكر في جزر الكاريبي وجنوب الولايات المتحدة.

وتمّتْ إدارة عمل هؤلاء العبيد بقسوة مفرطة تضمن انضباطهم وزيادة إنتاجيتهم، وينقل الكتاب عن هنري بيب، الذي كان عبدًا في خمسينيات القرن التاسع عشر، العنف المفرط الذي كان يتعرض له، قائلًا: «على وقع صوت بوق المشرف، تقدم جميع العبيد ليشهدوا على عقابي. جُرّدتُ من ملابسي وأجبرت على الاستلقاء ووجهي على الأرض، وتم نصب أربعة قضبان في الأرض رُبطت يداي وقدماي إليها، ليقف المشرف فوقي مع السوط».

كما تعرض العبد جون براون للعقاب بسبب محاولته الهروب عبر تعرّضه للجلد المفرط بسوط من جلد البقر، ويصف ارتباط القسوة على العبيد بسوق القطن قائلًا إن المراقبين كانوا «يصطادون الزنوج الشاردين عندما ترتفع أسعار القطن في السوق الإنجليزية»، وحين ترتفع هذه الأسعار «يشعر العبيد المساكين بآثارها فورًا، لأنهم يُساقون بقسوة أكبر ويتم استخدام السوط بشكل أكثر تكرارًا».

عبودية المعامل

أمّا على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، حيث لم تكن العبودية بشكلها المباشر ممكنة، فقد واجه العمّال في الصناعة الصاعدة ظروفًا يمكن وصفها بأنها أشبه بالعبودية، فمعامل القطن الأوروبية الصاعدة كانت بحاجة مستمرّة لليد العاملة في مختلف مراحل الإنتاج، وكما شكلت العبودية عاملًا ضروريًا للحفاظ على انخفاض تكاليف إنتاج القطن الخام، شكلت اليد العاملة الرخيصة وكثيفة الإنتاج عاملًا ضروريًا للحفاظ على انخفاض تكاليف إنتاج الخيوط والأنسجة القطنية. 

اتسمت حياة عمّال معامل القطن الأوروبية بظروف معيشة رديئة وأجور منخفضة وممارسة واسعة للعنف، إلى جانب بيئة قانونية توقع أقسى العقوبات على العمال الذين ينتهكون شروط عقود عملهم أو يحاولون التنصل منها، وعلى الرغم من أن الفقر المدقع كان سمة هذا العصر، يقول بيكرت أنه «لم يسبق أن رأينا بحرًا من البشر ينظمون كل جانب من حياتهم حول إيقاع إنتاج الآلات. لمدة اثنتي عشرة ساعة، ستة أيام في الأسبوع، كانت النساء والأطفال والرجال يطعمون الآلات ويشغّلونها ويصلحونها ويشرفون عليها».

من الشهادات القليلة التي وصلتنا من عمّال تلك المعامل شهادة طفلة في العاشرة أمام لجنة حكومية عام 1833، واسمها إيلين هوتون، والتي كانت تعمل يوميًا من الساعة الخامسة ونصف صباحًا حتى الثامنة مساءً، وتقول في شهادتها إنها كانت تتعرض للضرب مرتين يوميًا من قبل المشرف عليها، وفي أحد المرّات حين تأخرت، قام بربطها من عنقها بثقل حديدي وأجبرها على جرّه أثناء تجوّلها في المعمل، وهي مجرّد عينة من الفظائع التي تعرّض الأطفال لها.

«بالنسبة لإمبراطورية القطن، كانت العبودية بأهمية الطقس والتربة المناسبين. وهي التي أتاحت لمزارعي القطن الاستجابة سريعًا لارتفاع الأسعار واتساع الأسواق، إذ لم تتح فقط حشد أعداد كبيرة من العمال في فترات قصيرة، ولكن وفرت أيضًا نظام إشراف عنيف واستغلالًا مستمرًا يلبّي حاجات صناعة كثيفة المجهود»

كان الأطفال والنساء يشكلون معظم اليد العاملة في هذه الصناعة لانخفاض أجورهم مقارنة بالرجال البالغين، الأمر الذي جعل صناعة القطن –برأي سفين بيكرت– أقل شهرة من صناعة الصلب والفحم التي يهمين عليها الرجال. وشكّل العاملون في صناعة القطن نسبة معتبرة في مختلف الدول الأوروبية، حيث بلغ عددهم في بريطانيا مثلًا سنة 1861 أكثر من 446 ألف، وكانت هيمنة صنّاع القطن على الحكومات تعمل لصالحهم وتسهل عليهم التضييق على العمال وضمان انضباطهم، حيث تمت مثلًا محاكمة وسجن أكثر من عشرة آلاف عامل بتهمة «انتهاك عقد العمل» في إنجلترا وويلز بين عامي 1857 و1875.

ورغم عدم جاذبية العمل في هذه الظروف، فقد وجد كثيرون من صنّاع القطن اليدويين أنفسهم مضطرين للدخول في معسكرات العمل هذه، فإنتاج الخيوط القطنية، ولاحقًا الأقمشة، عن طريق الآلات تسبب بضغوط كبيرة على عمال النسيج واضطرهم للبحث عن مصدر دخل جديد، وأدّى التحول الصناعي لإنتاج القطن إلى هجرات واسعة من الأرياف إلى المدن خصوصًا، وفي عام 1815 مثلًا، كان 750 عاملًا من بين 1500 عامل في شركة غيبفيلر من غير أبناء منطقة الألزاس التي يقع فيها معمل الشركة.

وعلى عكس الفكرة السائدة بكون التحول للعمل في الصناعة قد حسّن من جودة حياة العمال، تشير تحليلات للتغيرات التي أصابت حياة العمال لعدم حصول تغير يُذكر في استهلاك الغذاء أو طول حياة العمّال أو حالتهم الغذائية أو حتى في جودة مسكنهم. 

ولكن هذه الوضعية لم تستمر طويلًا مع تحسّن وضع العمالة الأوروبية والأمريكية الشمالية – البيضاء– تدريجيًا بفضل تنظيم العمال لأنفسهم والتحرّك لإلزام الحكومات بقوانين أكثر إنصافًا وأرباب العمل بظروف أكثر إنسانية، ومن تحرّكاتهم المشهورة مغادرة النساء العاملات في معمل القطن في بوتوكت، في ولاية رود أيلاند الأمريكية، لعملهنّ سنة 1824، ما يعد أول إضراب في معمل في الولايات المتحدة على الإطلاق.

النهضة الأمريكية

ارتفعت كمية القطن الخام الذي تغزله المصانع البريطانية من حوالي 2,313 طن عام 1781 إلى 25,400 طن عام 1800، وتزامن هذا الارتفاع مع شحٍ في موارد القطن الخام إثر انتهاء العبودية في سانت دومينج وقيام دولة هايتي، وتحييد دور الجزر الفرنسية في توفير القطن الخام إثر قيام الحرب بين فرنسا وبريطانيا عام 1793، وأخيرًا منع بريطانيا لتجارة العبيد في أراضي إمبراطوريتها عام 1807.

وفي خضم ارتفاع بأكثر من 100% في أسعار القطن، وجدت صناعة القطن البريطانية نفسها في ورطة لتأمين القطن الخام، بالتزامن مع توسع صناعي مدفوع بالابتكارات التكنولوجية المتتالية التي تزيد من السعة الإنتاجية للمعامل وبالتالي من حاجتها للقطن، ووجدت ضالتها في الولايات المتحدة، التي كانت قد بدأت بتصدير القطن إلى بريطانيا ابتداءً من عام 1785 حين وصلت أول شحنة من القطن الأمريكي إلى ليفربول. وكان الأمر غريبًا لدرجة أن موظفي الجمارك احتجزوا الشحنة بحجة أنها لا بد قادمة من جزر الهند الغربية (الكاريبي) وبالتالي يجب أن تلقى معاملة جمركية مختلفة عن واردات الولايات المتحدة.

بدأ التوسع بزراعة وتصدير القطن في الولايات المتحدة بمساعدة عدة عوامل، من بينها انخفاض الطلب على التبغ والسكر، المحصوليْن الأكثر رواجًا في مزارع الجنوب الأمريكي حينها، إلى جانب امتلاك هذه المزارع للعبيد الذي سيساهمون بشكل كبير في انخفاض تكلفة القطن الأمريكي، فضلًا عن ملاحظة المزارعين الأمريكيين لارتفاع أسعار القطن واغتنامهم للفرصة.

اتسع إنتاج الولايات المتحدة من القطن الخام من 680 طن عام 1790 إلى 16,550 طن عام 1800، و75,976 طن عام 1820. وفي حين لم تصل عام 1780 أي شحنة قطن من أميركا الشمالية إلى المصانع البريطانية أو الأوروبية، شكّل القطن الخام القادم من الولايات المتحدة 68% من واردات بريطانيا من القطن عام 1857.

هذه القفزة الهائلة في زراعة وتصدير القطن الأمريكي اعتمدت كما يرى بيكرت على ثلاثة موارد غير محدودة: العبيد من أفريقيا والأقاليم المجاورة، وأراضي السكان الأصليين، ورأس المال الذي كان المزارعون يحصلون عليه بوفرة عبر قروض مضمونة قائمة على رهن عبيدهم. 

بين عام 1783 وعام 1808 الذي شهد نهاية تجارة العبيد الدولية تم جلب أكثر من 170,000 عبد من أفريقيا إلى الولايات المتحدة، وهذا الرقم يساوي ثلث العبيد الذين جُلبوا إلى أميركا الشمالية منذ عام 1619، وقد أدّت زراعة القطن إلى نقل ما يقارب مليون عبد إلى الجنوب الأمريكي للعمل في مزارع القطن الآخذة بالاتساع، وكان مزارعو القطن في الولايات الجنوبية يملكون 91.2% من إجمالي عدد العبيد في الولايات المتحدة، الأمر الذي ساهم في الارتباط الرمزي في وقتنا الحاضر بين حقول القطن والعبودية.

كل ذلك ترافق مع قوة سياسية لا محدودة لمزارعي وتجار القطن، ضمنت حفاظ الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات على نظام العبودية ومواصلة التوسع في أراضي السكان الأصليين، الذين ظلوا يسكنون ويُسيطرون على أراضٍ واسعة بعيدًا عن السواحل حتى نهايات القرن الثامن عشر، مع بناء السكك الحديدية والطرق وغيرها من البنى التحتية الكفيلة بالحفاظ على انخفاض تكلفة القطن الأمريكي مع التعمق في زراعته بعيدًا عن السواحل.

يمكن القول إن القطن يعد الأساس الأهم لصعود الولايات المتحدة إلى مصافي الاقتصادات الكبرى في القرن التاسع عشر، إذ إنه عشيّة الحرب الأهلية الأمريكية، التي شكلت نهاية هذا الإنتاج الواسع، شكل القطن 61% من قيمة صادرات الولايات المتحدة، وشكّل القطن الأمريكي في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر 77% من القطن المستهلك في بريطانيا، و90% في فرنسا، و60% في ألمانيا الحالية، و92% في روسيا.

في أبريل 1861 بدأت الحرب الأهلية الأمريكية، وبالنسبة لصناعة القطن لم تكن هذه الحرب حدثًا محليًا، إنما كارثة اقتصادية عالمية زلزلت كل الشبكة العالمية التي قامت صناعة القطن عليها حتى ذلك الحين، وتسببت بدورها بأزمة اقتصادية أوسع تجاوزت قطاع القطن، حيث كان في عام 1862 ما يقدر بعشرين مليون إنسان – واحد من كل 65 إنسان – يعمل في زراعة القطن أو صناعته حول العالم، وفي بريطانيا كانت معيشة ما بين ربع وخمس السكان معتمدة على هذه الصناعة بشكل أو بآخر، مع استثمار ما يقارب 10% من كافة رؤوس الأموال البريطانية فيها، كما شكلت الخيوط والأقمشة القطنية تقريبًا نصف صادرات بريطانيا. 

بعد أقل من عام على اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية انخفضت واردات بريطانيا من القطن الأمريكي بنسبة 96%، ومن القطن عمومًا بأكثر من النصف، وبدأت معامل القطن بالإغلاق، سواءً بشكل نهائي أو لعدة أيام في الأسبوع، وارتفع سعر القطن أربعة أضعاف، وفي بدايات عام 1863 كان أكثر من ربع سكان مقاطعة لانكشر – ما يقارب نصف مليون نسمة – عاطلين عن العمل.

ولكن مع نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، لم تكن عودة الولايات المتحدة كمصدر وافر للقطن الخام منخفض التكلفة أمرًا ممكنًا، وذلك لفقدانها أهم عناصر الإنتاج وهو اليد العاملة المجانية، وحتى لو كان ذلك ممكنًا فقد استطاعت الصناعة الأوروبية الانتقال – أو بدء الانتقال – لمصادر أكثر تنوعًا وذات أساساتٍ أكثر استقرارًا من العبودية والاستيلاء على الأراضي. حيث كانت الأسواق الأوروبية قد بدأت منذ بداية الحرب بالبحث عن مصادر جديدة للقطن الخام، ومن بينها مصر التي كانت قد حاولت في عهد محمد علي باشا توظيف القطن كمصدر دخل أساسي للدولة بنجاح محدود، لتشهد مع الحرب الأهلية الأمريكية انتعاشًا مدفوعًا بغياب أبرز منافسيها، حيث قام محمد سعيد باشا – ابن محمد علي – بتحويل مساحات واسعة من الأراضي التي يملكها إلى مزارع للقطن، معتمدًا بشكل واسع على إجبار الفلاحين المصريين على العمل في هذه المزارع، إلى جانب جلب المزيد من العبيد من السودان.

ووفقًا لوصف الصناعي إدوارد أتكينسون من ماساتشوستس، كان محمد سعيد باشا «أكبر وأفضل زارع للقطن في العالم»، وشكلت الأراضي المزروعة بالقطن عام 1864 حوالي 40% من كافة الأراضي الخصبة في مصر السفلى – أو دلتا النيل – مع ارتفاع إنتاج القطن الخام في مصر بين عام 1860 و1865 من حوالي 23 ألف طن إلى 113 ألف طن.

وبدأت مع صعود مصر والهند وغيرها مركزية صناعة القطن بالتراجع، سواءً مركزية الولايات المتحدة كمصدر للقطن الخام، أو لناحية صناعة القطن التي كانت بريطانيا خصوصًا والدول الأوروبية عمومًا تهيمن عليها بشكل شبه تام، وبدأت صناعات القطن المحلية تتنامى تدريجيًا وتكتسب زخمها مع نهايات الاستعمار الأوروبي لدول الجنوب الفقيرة بعد الحربين العالميتين، وبعد أن قضت إمبراطورية القطن على صناعة القطن في شبه القارة الهندية وعادت بها للمرحلة الزراعية كمصدر للقطن الخام، استطاعت الهند استعادة موقعها كمركز عالمي لصناعة القطنيات، لتحتل اليوم المركز الأول عالميًا كأكبر مصنّع للقطنيات.

رغم أن هذا الكتاب بسعته وتفاصيله يتعمّق في التطورات والجوانب المختلفة لصناعة القطن على مر القرون الثلاثة الماضية، إلا أن صناعة القطن في هذا الكتاب ليست سوى نافذة نطل منها على حكاية الثورة الصناعية، وكيفية حصول ما يعرف اليوم باسم «التباعد العظيم» (The Great Divergence)، أي اتساع فجوة الثروة بين الدول الغربية وبقية العالم، والأسباب الحقيقية التي تقف خلف هذا التباعد.

هذا الكتاب الصادر منذ أقل من عشر سنوات يأتي ضمن موجة من كتابات اقتصادية وتاريخية غربية ترفض قبول الروايات التقليدية التي تعتبر الثورة الصناعية سببًا مجرّدًا أو ذاتيًا للهيمنة الغربية على العالم، وتغوص في أعماق الدور الأعظم الذي لعبته القوّة العسكرية والغزو والعبودية وأساليب الرأسمالية المبكرة المتناقضة مع قيم السوق الحرة والمنافسة الشريفة التي تروّج لها. وتأتي أهمية الكتاب عبر تتبع القطن تاريخيًا كرد على الآراء التي تنظر لهيمنة الغرب كنتيجة طبيعية لتفوقه العلمي والتكنولوجي، ويقدم رواية أكثر تناسقًا وعقلانية لتاريخ البشرية، لا تنطلق من دوافع وطنية بقدر ما تسعى لتوصيف دقيق ومنصف لا يمكن بدونه تحديد الجذور الحقيقية لواقعنا الحاضر عالميًا ومحليًا، كمقدّمة لتغييره نحو الأفضل.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية