إمبراطوريّة الشاي: الورقة الآسيويّة التي غزت العالم

عاملات يقطفن أوراق الشاي أثناء هطول الأمطار، في قرية روهيني في الهند. تصوير ديبتونا دوتا. أ ف ب.

إمبراطوريّة الشاي: الورقة الآسيويّة التي غزت العالم

الإثنين 16 آب 2021

 نُشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس، بتاريخ 30 تمّوز 2015.

خلال أربعة قرون من وجوده في الثقافة البريطانيّة، انتقل الشاي من اعتباره مادّة غرائبيّة غير مألوفة، إلى أن صار محليًّا عاديًّا، ومن اعتباره دواءً يحتمل امتلاكه تأثيرات ذهنيّة قويّة، إلى مجرّد «فنجان يبعث البهجة»، ومن بؤرة طقوس اجتماعيّة، إلى مشروب يُتناول بشكل عَرَضيّ وعلى انفراد في الغالب، ومن تحت سيطرة احتكار شبه كلي من قِبل الدولة، إلى سلسلة من المنتجات ذات العلامات التجاريّة التي تهيمن عليها شركات متعدّدة الجنسيّات إلى حد كبير، ومن منتج حرفي إلى منتج صناعيّ.

ارتبطت فكرة الشاي ذات يوم بشكل وثيق بفكرة الصين، وبحلول القرن الثامن عشر، بدأ استهلاكه يرتبط بفكرة الهويّة البريطانيّة. في العام 1863، تبجّح بقّال بيرمينغهام الذي أسس ابنه العلامة التجاريّة «تايفو» بأن «أبناء العرق الأنغلو-ساكسوني العظيم هم أساسًا شاربو شاي». كان الشاي في يوم من الأيّام ترفًا مخصّصًا للنخبة، وأصبح بعد ذلك -عبر تغيّرات في إدارة التجارة والضرائب بشكل أساسي- أكثر المشروبات جماهيريّة. كما كان الشاي محورًا للاقتصاد السياسي وإدارة الحكومة وممارسات العلاقات الدوليّة لقرون، باحتلاله صدارة مشاهد الحميميّة الاجتماعيّة.

أثناء هذه التحوّلات، احتفظ الشاي بخصائص مميزةً له؛ ففي علم تصنيف النباتات، يأتي الشاي من نبتة محدّدة هي الكاميليا الصينيّة، وهو منتج مجفّف يصنع من أوراق تلك النبتة، ومشروب يحضّر عبر نقع الأوراق الجافّة في الماء الساخن أو ما هو مناسب لاستهلاكه. مشروب يتناوله الجميع تقريبًا، لكنّه لا يزال يتمتّع بقوى التمييز الإقليمي والطبقي. فهناك «شاي العصرونيّة»، و«شاي بالقشطة»، و«وجبة الشاي»، أو «الشاي» كوجبة مسائيّة. هناك شاي في أكياس، مقابل الشاي «الفرط»، وهناك شاي «ثقيل» مع ثلاث قطع سكّر في كوب، مقابل شاي «إيرل غراي» خفيف في كؤوس «رويال دولتون مرسوم عليها باليد نبتة متعرّشة». يمكن أن يكون تقديم الشاي لفتة عاطفيّة (شاي وتعاطف).[1] ولا يزال تناول الشاي في أشكاله المختلفة -كما كانت السجائر سابقًا- عنصرًا رئيسيًّا لممارسة شخصيّة الفرد، أو لممارسة شخصيّته مع الآخرين.

وصل الشاي إلى أوروبا في القرن السابع عشر، في ذات الوقت الذي وصل فيه مشروبان غرائبيّان مهمّان آخران، هما القهوة والشوكولاتة. وبينما تباعدت المسارات الاجتماعيّة والثقافيّة لهذه المشروبات الثلاث، اشتركت جميعها بعدد من الخصائص التي عانى المحلّلون الأوروبيون لبعض الوقت لفهمها والتطبيع معها. فجميع هذه المشروبات تتناول ساخنة (لم يكن الأوروبيون معتادين على تناول المشروبات الساخنة بشكل روتينيّ)، وجميعها تمتلك طعمًا لاذعًا أو مُرًّا غير مألوف، واعتُقدَ أنّها تمتلك تأثيرًا ذهنيًّا وتسبّب الإدمان (بدرجة متوسّطة أو كبيرة). كان كل واحد منها مشروبًا جديدًا، ومثّل أسلوبًا جديدًا في الوجود، وأساليب الوجود الجديدة هذه هي من عملت على تغيير الثقافة، لا المواد الكيميائيّة الجديدة التي كانت تحتويها. جاء كل مشروب إلى أوروبا من طرف مختلف من أطراف الأرض؛ إذ جاءت القهوة من الجزيرة العربيّة، والشوكولاتة من أميركا الوسطى، والشاي من الصين. وارتحل كلّ منها إلى أوروبا عبر قنوات شقّت بالعنف وبالمؤسّسات الاقتصاديّة الجديدة. كما كان كل مشروب مرّ يتطلّب السكّر، وبالتالي يرتبط بمؤسّسة العبوديّة.

كان الشاي في يوم من الأيّام ترفًا مخصّصًا للنخبة، وأصبح بعد ذلك -عبر تغيّرات في إدارة التجارة والضرائب بشكل أساسي- أكثر المشروبات جماهيريّة.

هذه قصّة واسعة النطاق. إذ أصبح تصنيف «الطعام/ المشروب/ التوابل الذي صنع العالم الحديث» كليشيه (الملح، والبهارات، والذرة الصفراء، وسمك القد، والمحار، ولحم البقر المجمّد، ودجاج الأقفاص، ووجبة البيغ ماك)، وأصبحت العروض من هذا النوع ضحلة، أو مبالغ بها، أو ظريفة فحسب. لكن حين يرويه ذوو الثقة، فإن سرد تاريخ المواد الغذائيّة وطرق انتقالها يلبي النداءات الحاليّة لفهم التاريخ ضمن نطاق أوسع: التاريخ طويل المدى؛ تاريخ التبادلات العالميّة والتواصل بين الثقافات، وتاريخ العلاقات بين أعمال البشر، والأشياء، والبيئة. كتاب «إمبراطوريّة الشاي»[2] مثال مهم، مروي ببراعة، ويستحق أن يصنّف إلى جانب العمل الكلاسيكي «الحلاوة والسلطة» (1985) لسيدني مينتز كتاريخ للحداثة، يُروى من خلال إحدى سلعها الاستهلاكيّة.

كان جميع الشاي في العالم يأتي من الصين واليابان (التي علمت عنه من الصين)، عندما واجهه الأوروبيّون لأوّل مرة، في بدايات القرن السابع عشر. رأى المسافرون إلى الصين والتجّار فيها، والذين أرادوا استيعاب ماهية الشاي وآثاره وكيف يجب أن يُستعمل، أنّه كان ذا قيمة عالية، وأنّه يأتي بأصناف مختلفة، وبخصائص وأسعار مختلفة، وأن تناول الشاي كان جزءًا من إيقاع الحياة اليوميّة، وأنّه كانت تحكم استهلاكه طقوس دقيقة، وأن الإمبراطور والبلاط انغمسوا في ملذّاته، وأن أدواته (من أوانٍ وفناجين من البورسلان) كانت أساسيّة لممارسة طقوس الشاي، وأنّه كان يعتقد أن الشاي يمتلك آثارًا نفسيّة مبهجة جليّة. كان مشروبًا اجتماعيًّا، ومحفّزًا معتدلًا للذهن والمحادثات. وقع بعض الأوروبيين في الصين تحت تأثير سحره: فقد جرّبوه وأحبّوه، وأدرك عدد قليل منهم إمكانياته كسلعة تجاريّة مربحة، وصنف جديد يضاف إلى شحنات الحرير والبهارات والبورسلان التي تنقل برًّا إلى روسيا، ومن ثم عبر بواخر الشركات التجاريّة الهولنديّة والبريطانيّة المحتكرة.

مثّل مشهد الشاي الصيني الذي يُصنع في أوانٍ صينيّة ويُصبّ في فناجين صينيّة، أحد مشاهد حياة «الصفصاف الأزرق»[3] العائليّة، والتي تم محو استشراقها الغرائبيّ من الذاكرة الجماعيّة بشكل فعّال. وبينما جذبت القهوة وثقافة المقهى اهتمامًا أكثر في العقود التي تلت بداية تواجده في خمسينيّات القرن السابع عشر، إلّا أن الشاي هو الذي ساد في بريطانيا. لكنّ المسار التاريخي لهذا التدجين لم يكن سهلًا ولا مسلّمًا به على أيّ حال.

في العام 1660، وثّق صامويل بيبيس أوّل لقاء له مع الشاي على أنه «مشروب صينيّ لم أتناوله من قبل»، رغم حبّه للقهوة. بعد عدّة سنوات، أشار إلى أن زوجته تتناول الشاي بناءً على نصيحة طبيّة، «مشروب تخبرها السيّدة بيلينغ العطّارة أنّه مفيد للرشح ونزلاته». ناقشت الكليّة الملكيّة للأطبّاء إذا ما كانت أيّ من المشروبات الساخنة الغرائبيّة الجديدة «تتوافق مع بنى أجسادنا الإنجليزيّة». في القرن الثامن عشر، استمر بعض الأطبّاء وفلاسفة الطبيعة بالوقوف ضد الشاي على أساس آثاره المحفّزة والمضادّة للتخدير -اعتقد ويليام باكن أنّه يجب تجنّب الشاي في حالات الكآبة وانتفاخ البطن- لكن كان إجماع الخبراء لصالحه. إلى الحد الذي كان يعتقد فيه أن الشاي عقار، وكان ينظر إليه عمومًا على أنّه عقار جيّد يقمع «النوبات النفسيّة» ويهدّئ من «الأرواح» ويجعل الذهن صافيًا.

الأمر الجيّد/ السيء بالنسبة للشاي أنّه كان أغلى من القهوة بكثير. وما تمّت خسارته في حصّة السوق الأوليّة جرى تعويضه في حصريته. ولعبت مكانة الشاي الراقية دورًا في اعتناق رجال البلاط والنساء الميسورات له. يمكنك الحصول على فنجان شاي في مقهى لندني صاخب للرجال، بينما في بدايات القرن الثامن عشر، كان مكانه الطبيعي هو المنزل، حيث تشرف المرأة الأعلى مكانةً على تقديمه في التجمّعات الحميميّة. مثّل الشاي أمرًا حضاريًّا، واجتماعيًّا، ومهذّبًا، تقدّمه «الأم» بيديها على نحو لافت. بينما كان الخدم يأتون بالمياه الساخنة من المطبخ، كانت سيّدة المنزل تفتح علبة الشاي بمفتاح يحفظ في حزامها، وتضع الأوراق في أوانٍ ثمينة من البورسلان أو الفضّة، مزينة على الموضة، ثم تصبّ الشاي المتخمّر لضيوفها في فناجين البورسلان (التي كانت أساسًا من دون مقبض)، مع بعض السكّر، وعادةً دون حليب حتّى القرن التاسع عشر.

شكّل طقم الأدوات جزءًا مهمًّا من العرض. إذ كان طقم الشاي ينتمي إلى تاريخ الموضة، لكنّه كان أيضًا محرّكًا مهمًّا للابتكارات الأوروبيّة التقنيّة والتجاريّة في القسم الأوّل من القرن الثامن عشر. نجحت مايسن أوّلًا، ثم سيفر، ثم بو وتشيلسي في حل بعض أسرار البورسلان الصيني التي حفظت بعناية، ليقدّموا إمدادات محليّة لتلبية الطلب الهائل على أوانٍ خزفيّة فاخرة، وخفيفة، وصلبة، ولا تتضرّر من السوائل الساخنة، ولا تسرّب النكهات.

منحت توليفة الموضة والأنوثة ضمن ثقافة الشاي في بدايات القرن الثامن عشر النقّاد الذكوريين هدفًا سهلًا. فتمّت مهاجمة طاولة الشاي لأنّها «مقر الإمبراطوريّة الأنثويّة، حيث مصدر النمائم، والمكان الذي تحاك فيه الفضائح والافتراءات والاختلاقات والأكاذيب». حتّى أن الدكتور جونسون -الذي كان يستمتع بالشاي كثيرًا- سلّم بأن تناول الشاي بشكل جماعي يمكن أن يكون «ذريعة للتجمّع من أجل الثرثرة». كانت النساء تنزعن للثرثرة والنمائم، لكن يمكن للرجال «المتأنّثين» أن يفعلوها أيضًا. وكانت طاولة الشاي تشكّل ذلك النوع من الأماكن، إذ جرى التوافق عليها كنقطة تجمّع مهذّبة للأجناس، وانتُقدت على أنّها مركز البربرة المبتذلة والفضائحيّة.

في بدايات القرن الثامن عشر تمّت مهاجمة طاولة الشاي لأنّها «مقر الإمبراطوريّة الأنثويّة، حيث مصدر النمائم، والمكان الذي تحاك فيه الفضائح والافتراءات والاختلاقات والأكاذيب»

انتقل الشاي إلى أسفل السلّم الاجتماعي عبر القرنين الثامن والتاسع عشر. إذ أشار مسح إنجلز لظروف الطبقات العاملة الإنجليزيّة في العام 1844 إلى أن الشاي كان يعدّ شيئًا «لا يمكن الاستغناء عنه مثل القهوة في ألمانيا، وحيث لا يُستَعمل الشاي، يسود الفقر المدقع». استساغ خدم المنازل طعمه، وكانوا عادةً ما يستخلصون القليل من تفل الطابق العلوي، وعمدت «الخادمات العوام» إلى تضمين اتفاقيّاتهن التعاقديّة بتزويدهن بالشاي مرتين يوميًّا. امتلكت قضيّة تناول الطبقات الدنيا للشاي بعض المناصرين، لكن النّقد كان حادًّا. كان الشاي والسكّر البنّي الخشن الذي يصاحبه من الكماليّات الطائشة، لذلك، قلق أصحاب الأعمال الخيريّة والمصلحون الاجتماعيّون من أن عامّة الناس ينفقون ما بين 5% و20% من دخولهم على هذا «المخدّر الضّار»، دون حساب تكلفة وقود غلي الماء.

أدى إدمان عامّة الناس هذا المشروب الشرقي الدخيل إلى انتزاع طعام أكثر صحّة من نظامهم الغذائي: عليهم أن يأكلوا خبزًا ويشربوا جعّةً إنجليزيّة مفيدة. كان الشاي، بالنسبة لويليام كوبيت في عشرينيّات القرن التاسع عشر، ترفًا غير لائق، وسببًا في ضعف الأجساد وتردّي الأخلاق. «تؤدّي ممارسة شرب الشاي إلى جعل الجسد واهنًا وغير لائق لتولّي الأشغال الشّاقة. ثم تعقبها النعومة، والتأنّث، والاستدفاء بالنار، والاندساس في السرير، باختصار، جميع خصائص الكسل، والتي في هذه الحالة، تؤدي إلى أن يحتاج المرء للاعتذار إذا رغب باستعادة بعض الطاقة. «يفسد [الشاي] الصبيان بمجرّد أن يصلوا إلى عُمر التمكّن من الانتقال خارج المنزل، كما يفعل الشيء نفسه بالفتيات اللواتي تعدّ نمائم طاولة الشاي بالنسبة لهن مدرسة إعداد جيدة لبيوت الدعارة». لا يمكن لأي شخص عاقل الامتناع عن «شتم ذلك اليوم الذي دخل فيه الشاي إلى إنجلترا».

إذا كانت الطبقات البريطانيّة الدنيا مدمنة بشكل مَرَضي على الشاي، فكذلك كان حال الدولة التي حكمتهما. فحتّى العقد الثالث من القرن التاسع عشر، احتكرت الدولة ترخيص وسوق استيراد الشاي، والتي مُنِحَت لشركة شرق الهند البريطانيّة التي احتكرت، تقريبًا، بدورها، تجارة الشاي الصيني العالميّة. خضع الشاي لضرائب جمركيّة لدى رسوّه في لندن، ولضرائب غير مباشرة لدى تخليصه من مستودعات الشركة الجمركيّة للتجّار. أرادت الحكومة أن ترفع مستويات الضريبة بما يكفي لتوليد الإيرادات، لكن ليس بمستويات عالية لدرجة تثبيط الاستهلاك أو تشجيع التهريب.

في منتصف القرن الثامن عشر، ضاعفت الضرائب فعليًّا سعر تجزئة الشاي. وأُرسل «مخمّنو» الحكومة عبر البلاد لتقييم مخزون التجّار، وتدقيق حساباتهم، ومصادرة الشاي المهرّب من فرنسا والدنمارك والسويد وهولندا إلى موانئ غير خاضعة للحراسة، خاصّة تلك التي تقع في اسكتلندا وشمال غرب إنجلترا. تم تجنّب الضريبة بشكل غير قانوني عبر تهريب الشاي إلى بوسطن ولينكولنشاير، ذلك قبل سنوات عديدة من إلقاء الشاي الذي خضع للضريبة قانونيًّا في ميناء بوسطن، ماساتشوسيتس. وجد الكثير من الشاي المهرّب طريقه إلى لندن، وحُققت أرباح ضخمة إذا ما تم غسيل البضائع المهرّبة على أنّها شاي خاضع للضريبة بشكل شرعيّ.

كان الشاي المهرّب أرخص بكثير، ليس بسبب التهرّب الضريبي فقط، بل لأنّه كان يمكن بيعه مباشرة إلى التجّار أو حتّى الزبائن، ما يستبعد حصّة الوسطاء ضمن سلسلة التوريد القانونيّة. كانت تغذية السوق السوداء البريطانيّة دافعًا رئيسيًّا لتكاثر الشركات القاريّة والاسكندنافيّة التي تتاجر مع الصين. وبلغت التجارة غير القانونيّة بالشاي غير الخاضع للضرائب مستويات هائلة: ففي منتصف القرن الثامن عشر، قدّر مبلغ التهريب الضريبي السنوي بثلاثة ملايين باوند. تعرّض ضبّاط الضريبة للهجوم، بينما كان المهرّبون شخصيّات شعبيّة يُحتفى بهم على أنّهم «قطّاع طرق اشتراكيون» (بمصطلحات إيريك هوبزباوم).

أفاد تحقيق حكومي أجري عام 1733 بأن 250 ضابطًا ضريبيًّا ممّن حقّقوا في تهريب الشاي تعرّضوا للضرب، وقتل ستة منهم. لمحاربة المهرّبين، تمّت عسكرة مساحات شاسعة من الريف البريطاني، وتم تجنيد مخبرين ومكافأتهم. وفي جنوب إنجلترا، جرت عمليّات إعدام جماعيّة لمهرّبي الشاي، وتركت جثثهم لتتعفّن أمام الناس. شكّل معدّل الضريبة على الشاي ألعوبة سياسيّة خلال القرن الثامن عشر، وحتّى بعد هزيمة المستوطنات الأميركيّة. تم تخفيض ضرائب الشاي جذريًّا في منتصف أربعينيّات القرن الثامن عشر، ومن ثم في ثمانينيّات القرن نفسه، ما نتج عنه القضاء على التهريب بشكّل فعّال، وانفجار معدلات بيع الشاي.

لكن مصدر الشاي كان لا يزال الصين، وطالب الصينيّون بدفع ثمنه بالسبائك الفضيّة. على مدى طويل، كانت إحدى الانتقادات التجاريّة لإدمان بريطانيا على الشاي تتمثّل في استنزاف الخزينة، بما أن الفضّة كانت هي السلعة الوحيدة التي أرادها الصينيّون من بريطانيا. كان هناك حلّان ممكنان للمشكلة: الأول إصلاح الميزان التجاري مع الصين، أو استيراد الشاي من مكان آخر تسيطر عليه بريطانيا. ومنذ سبعينيّات القرن الثامن عشر، زُرِعَ الأفيون في مزارع في الهند البريطانيّة، وبيعَ بالمزاد لـ«تجّار مستقلّين»، الذين بدورهم شحنوا البضاعة إلى الصين، حيث يتم إصلاح خلل الميزان التجاري عبر بيعه مقابل الفضّة.

كان يُنظر إلى نظام «غسيل الأموال» على أنّه اقتصاد سياسي مفيد، لكن أبدى بعض المحللين البريطانيين مخاوفهم تجاه الأمير. إذ كتبت مجلّة كوارتيرلي ريفيو في العام 1836: «هذه ظروف محيّرة، فنحن نزرع الخشخاش في أراضينا الهنديّة لتسميم شعب الصين، مقابل مشروب مفيد يعدّوه لنا بشكل يكاد أن يكون حصريًّا». ومع تزايد تدفّق الأفيون بشكل كبير، تزايد قلق الصينيين أيضًا. لذلك، حظر إمبراطور سلالة تشينغ التجارة، وصادر ودمّر ما قيمته ملايين الباوندات من المخدّر. تمثّل رد البريطانيين في دبلوماسيّة السفن الحربيّة أثناء حرب الأفيون الأولى (1839- 1842)، والتي انتهت بأولى ما يسمّى «المعاهدات غير المتكافئة»، والتي نتج عنها استعادة تجارة الأفيون والتنازل عن هونغ كونغ لبريطانيا: ثمن كلّف 69 بريطانيًا و20 ألف صينيًا حياتهم.

أدمنت الطبقات البريطانيّة الدنيا الشاي، هي والدولة التي حكمتهما، إذ احتكرت الدولة ترخيص وسوق استيراد الشاي، وأخضعته لضرائب جمركيّة وضرائب تخليص غير مباشرة.

تمثّل الحل الثاني في إيجاد مصدر شاي أقل مشاكسةً وتكلفةً. إذ كان يفترض لفترة طويلة أن جنوب الصين موطن نبتة كاميليا الصينيّة -كما يوحي الاسم اللليني-،[4] لكن في عشرينيّات القرن التاسع عشر، تم اكتشاف مجموعات متنوّعة تنمو بشكل طبيعي وبوفرة في ولاية أسّام التي تقع جنوب الهملايا الهنديّة. هل كانت ذات النبتة؟ هل يمكن تحويل أوراقها إلى شاي بنفس جودة المنتج الصيني؟ أسّس البريطانيون شركة أسّاميّة وقاموا بتصنيع بعض الشاي، إلّا أنه لم يلقَ رواجًا في لندن. تم توفير نباتات وبذور شاي خفية من الصين، وجُلب عمّال شاي صينيون، وأنتجت أصناف هجينة ما بين النباتات الأسّاميّة والصينيّة بتوفير نفس الظروف التي ازدهرت فيها شجيرات الشاي المزروعة في الهند. احتاج الأمير إلى بعض الوقت للحصول على النتيجة، لكن حتّى في ثلاثينيّات القرن التاسع عشر، وثق البريطانيون أنّه «عندما يتم تطبيق مهارة وعلم الأوروبيين في زراعة وتحضير الشاي ضمن ظروف مواتية، لن يمر وقت طويل حتّى يتفوّق على الشاي الصيني بالجودة والطعم».

ترتّب على هذه العمليّة إعادة تشكيل ضخمة للبيئات الهنديّة، وترحيل هائل للسكّان: جرى تطهير الأدغال لإقامة مزارع الشاي أحاديّة المحصول، وتم تجنيد العمّال من جميع شبه القارة الهنديّة لتأسيس صناعة شاي في الهند، والتي جاءت تقريبًا لتحل محل اعتماد بريطانيا على الصين. في ستينيّات القرن التاسع عشر، جاء 96% من الشاي إلى بريطانيا من الصين، وفي العام 1903، كانت النسبة 10%، بينما جاء 59% من الهند، و31% من مزارع جديدة في سيلان. كتب إيليس وآخرون «قبل كل شيء، أدّت المزارع الهنديّة إلى اعتبار الشاي بريطانيًّا بالفعل. وأخيرًا، اتّخذت صناعة الشاي أنماطًا وأشكالًا نبعت من تاريخ بريطانيا التجاري الخاص بها، بدلًا من السير بتنافر موازٍ معها». كان الشاي الهندي شايًا إمبرياليًّا. كتب آلان وآيريس ماكفارلاين في «الذهب الأخضر: امبراطوريّة الشاي»: «لم يكن بالإمكان نشوء الامبراطوريّة البريطانيّة والنظام الاقتصادي الصناعي البريطاني من دون الشاي». لا يصدر إيليس وزملائه الكتّاب تصريحات صارخة للغاية، إلّا أنه يمكن استعمال الكثير مما جاء في كتابهم لدعم ادّعاء من هذا النوع.

أصبح الشاي في بريطانيا الآن أقل غلاءً وأكثر انتشارًا في كل مكان. وارتبط رخص سعره بخطوط السكك الحديديّة الهنديّة التي تنقله مباشرة إلى الموانئ (دون الدفع لوسطاء صينيين)، وبالتقنيّات الحديثة، ما يجعل من الشاي منتجًا صناعيًّا أصيلًا. انطوت التقنيات الزراعيّة على أحاديّة المحصول على نطاق واسع، والمسافات المنطقيّة بين الشجيرات وترتيبها، وفي النهاية، استعمال الأسمدة والمبيدات. شكّلت التقنية البشريّة القسم العقلاني لكدح العمّال الهنديين، وأشكالًا جديدة من الاسترقاق والانصياع لنظام شبيه بالمصنع متفق عليه بعقد. لكن الابتكار الآلي كان أيضًا جزءًا من القصّة، بتأثيرات على الطبيعة المتغيّرة لما كان في فنجان الشاي البريطاني. إذ حُوّلت عمليّات لف، وقص، وتجفيف أوراق الشاي الهندي إلى عمليّات آليّة بحلول سبعينيّات القرن التاسع عشر. وسرعان ما أعقب ذلك اختراع آلات الغربلة والفرز والتعبئة. بحلول العقد الأول من القرن العشرين، استُبدل مليون ونصف المليون عاملًا يدويًّا بثمانية آلاف آلة لف، وبلغت تكلفة الإنتاج ما يعادل أقل من ثلث ما كانت عليه قبل الآلات.

غيّرت الآلات الجديدة من المنتج أيضًا. إذ أدّت إلى أكسدة الأوراق بشكل أكثر فعاليّة، ما أدّى إلى تكثيف نكهة الشاي الأسود المميّزة. كما لم يتم التخلّص من بقايا الأوراق والفتات الذي ينتج عن العمليّات الآليّة في النفايات، بل استخدم في الخلطات الأقل سعرًا، والتي تنتج بدورها التخمّر الأقوى والأكثر قتامة الذي تعلّم المستهلكون البريطانيّون ربطه بالجودة. لم يتم استخراج شاي صنف «تايفو تيبس» من «براعم الأوراق الملفوفة يدويًّا في الغالب، بل من الفتات، المنتج الثانوي الرديء لسلعة أكثر نقاءً». وساهمت خصائص التلوّن السريع للبقايا والفتات في رفع قيمتها بشكل أكبر مع إدخال أكياس الشاي، والتي اخترعها أميركي في عام 1903، والتي اعتُمدت على نطاق واسع في بريطانيا ابتداءً من خمسينيّات القرن العشرين.

لم يكن بالإمكان نشوء الامبراطوريّة البريطانيّة والنظام الاقتصادي الصناعي البريطاني من دون الشاي.

ارتبط تغيّر أنماط تصنيع الشاي الأنغلو-هندي مع تغيّر أساليب تسويق البضائع. يعود تاريخ الشّاي الأصلي، الذي كان يباع بضمان شخصي أو ضمان شركة على أصالته، إلى أواخر القرن الثامن عشر على الأقل، بينما ظهرت العلامة التجاريّة لاحقًا، خاصّة مع ظهور الشاي الهندي. تدخل هنا عدّة عناصر جديدة إلى القصّة، بينها العلوم التطبيقيّة والنظام القضائيّ. إذ كان يُستدعى شهود خبراء للشهادة أمام المحاكم واللجان البرلمانيّة المختارة حول الغشّ. أما الشاي الذي كان يباع للفقراء وللسوق الأميركيّة، فغالبًا ما كانت تضاف إليه مواد زائفة لزيادة وزنه (مثل أوراق شجر الدردار، وشجيرات البرقوق، وأشجار الرصاصيّة، وأشجار البَيهَن، والسوس وغيرها)، ويلوّن بمواد كيماويّة مصنّعة مثل «الأزرق البروسي» (صبغة فروسيانيد)، وكبريتات الحديد، والرصاص الأحمر، والذي يتم تحسينه بإضافة روث الأغنام المجفّف.

في ثلاثينيّات القرن التاسع عشر، تم إحراق أكثر ممّا قيمته مليون باوند من «ورق الشاي البريطاني» في ساحة مركز الضرائب بجانب شارع برود، وهو جزء بسيط من البضاعة المغشوشة التي كانت تباع في الأسواق آنذاك. ذكرت الصحف أنّ «طوقًا حول المكان تقترب مساحته من نصف ميل، تعطّر بالرائحة المنبعثة من أكوام البرقوق والأوراق الأخرى المحترقة، والتي تشكّل عناصر الشاي البريطانيّ». أتاحت الفضيحة الجارية لما كان موجودًا بالفعل في الشاي البريطاني مساحةً للخبرات العلميّة -كتيّبات إرشاديّة ومعدّات لتحديد السلع المغشوشة، وقوانين سياسة ناظمة وعقوبات قانونيّة ملازمة للنتائج العلميّة- وللمنتجات ذات العلامات التجاريّة، والتي أكّد مصنّعوها للزبائن أنّه تم وزنها واختبارها بدقّة صارمة للتأكّد من نقائها. كما سعت العلامات التجاريّة إلى ضمان منتج يتمتّع بمذاق موحّد وقابل للتمييز عن غيره، من علبة إلى أخرى ومن سنة إلى أخرى. واتّخذ المتذوّق المحترف دورًا أهم بكثير من السابق. هنا حيث يتقاطع تاريخ الإمبراطوريّة، والرأسماليّة، والحكومة القاسي مع تاريخ الطعم الناعم.

يسمح إيليس وزملائه لأنفسهم بإصدار بعض التكهّنات المستقبليّة الختاميّة. فبالنسبة لفنجان الشاي البريطاني التقليدي، والذي تتخمّر أوراقه السّائبة في إناء، تتراوح الاحتمالات ما بين متفاوتة ومحبطة. يتزايد استهلاك الشاي بين المجموعات السكّانيّة الميسورة في شبه الجزيرة الهنديّة، بينما يتراجع في المملكة المتّحدة، حيث يتزايد استهلاك القهوة بنوعيها الفوري والإسبريسو المعد في المنزل. يرى البعض في ذلك مثالًا مؤسفًا آخر على الأمركة، مثل أكياس الشاي ذاتها. إذ كان الشاي المصنوع من نبتة الكاميليا الصينيّة يعني الكثير في الولايات المتّحدة، لكنّه لا يتمتّع بنفس القيمة الآن. ففي الولايات المتّحدة، يشير مصطلح «Tea party» إمّا إلى وطنيي القرن الحادي والعشرين (من المجانين الذين ليست لهم علاقة بالشاي)، أو وطنيي القرن الثامن عشر (الغاضبين بشدّة من ضرائب «الوطن الأم»).[5] والآن، 85% من الشاي الذي يتم تناوله في أميركا هو من النوع المثلّج، لكن المملكة المتّحدة تتناول المزيد والمزيد من هذه الأنواع الباردة، وفي أوروبا ككل، تضاعف استهلاكها ثلاث مرّات خلال العقد الماضي.

يقترح مؤلّفو كتاب «إمبراطوريّة الشاي» احتمالين لمستقبل الشاي البريطاني. يتمثّل الأوّل في إعادة إحياء تذوّق الشاي كفنٍّ رفيع، باتّباع خطوات «حملة من أجل جعّة أصليّة» ونوبات الهوس بالقهوة المزروعة بأيدي الفلّاحين، والتي يحمّصها ويعدّها صانع قهوة ماهر ومحترف: قهوة سومطرة كيتيارا العضويّة «الغنيّة، والمدخّنة، والعشبيّة، بنكهات التين المجفّف».[6] هناك بعض الإشارات إلى أنّه يمكن حدوث ذلك في المملكة المتّحدة والولايات المتّحدة الأميركيّة، مع ومضات مبكّرة لجحافل المستقبل من هيبسترز المَحَافظ الوقائيّة[7] وهم ينقرون على كميّات كبيرة من شاي دارجيلنغ الأسود الهندي ثري النكهة وعالي الجودة على أجهزة الآيفون.

لكن عادةً ما يظهر الاحتمال الثاني في صندوق يقدّم للناس الذين يطلبون «شايًا ساخنًا» في المطاعم الأميركيّة، والذي يستعرض مجموعة محيّرة من خلطات الأعشاب المغلّفة، والتي لا تحتوي بعضها على أيّ أوراق كاميليا، وتحتوي على العديد من النكهات غير المألوفة، مثل: القرفة، والفانيلا، والمشمش، والتفّاح، والقرع. «شاي» الزنغر الأحمر الفظيع هو عبارة عن منقوع خالٍ من الكافيين والكاميليا، يحتوي النعناع، والكركديه، وقشر البرتقال، وثمار الأزهار، وعشبة رعي الحمام، وعرق السوس، ولحاء الكرز البرّي، وعشبة الليمونيّة. حتّى في القرن الثامن عشر، اشتُقّت كلمة «tea» من كلمة شاي بالصينيّة للإشارة إلى تدفّقات مياه الأعشاب المحليّة الساخنة، لذلك ستكون شعبيّة الشاي بالنكهات والأعشاب في بريطانيا عودة أخرى لتقليد يتنكّر على أنّه ابتكار في الذوق. أخيرًا، سيصبح الشاي بريطانيًّا خالصًا، مفتقرًا إلى أي أثر لـ«الورقة الآسيويّة التي غزت العالم»، وسيكون المستقبل عالمًا من «الشاي» بدون شاي.

  • الهوامش

    [1] Tea and Sympathy: فيلم أميركي أنتج العام 1956. [المترجم].

    [2] إمبراطوريّة الشاي: الورقة الآسيويّة التي غزت العالم، ماركمان إيليس، وريتشارد كورتون، وماثيو موغر. (2015). [المترجم].

    [3] يشير المصطلح إلى نوع زخرفة معيّن على أواني الطعام والطبخ من الخزف، كان قد انتشر في بريطانيا في القرن الثامن عشر وحتّى الآن في أنحاء العالم. كما يشير المصطلح إلى الحرفة التي ابتدعها الأوروبيون لتقليد الزخرفة الصينيّة التقليديّة لبيعها في الغرب، والترويج لها عبر اختلاق قصص فولكلوريّة صينيّة.

    [4] نسبة إلى عالم النبات السويدي كارل لينيوس الذي كان أول من صنّف النباتات بناءً على جنسها ونوعها. [المترجم].

    [5] الإشارة هنا تعود إلى التلاعب على كلمة party بمعنيها: حزب وحفلة. و«حزب/ حفلة الشاي» المعاصر هو تيار أميركي سياسي محافظ ضمن الحزب الجمهوري، والذي يشير اسمه إلى تيّار «حزب/ حفلة شاي» آخر بدأ بمظاهرة لحركة «أبناء الحريّة» في ميناء بوسطن عام 1773، وذلك احتجاجًا على فرض الحكومة البريطانيّة ضرائب على عدّة سلع ومنها الشاي. ونظرًا لإعفاء شركة شرق الهند البريطانيّة من الضرائب، استهدف المتظاهرون سفنها التي تحمل شحنات الشاي وأحرقوا ما يزيد على 40 طنًّا منها. يعتبر الحدث أول شرارة لانطلاق الثورة الأميركيّة ضد بريطانيا. [المترجم].

    [6] رغم أنّه من الواضح أن الكاتب يسخر من الأوصاف التجاريّة المتداولة لأنواع الشاي الجديدة، فسومطرة وكيتيارا مدينتان في أندونيسيا تنتجان نوعان مختلفان من الشاي، ولا وجود لنكهة «التين المجفّف»، إلّا أن هذه الخلطة المختلقة تتواجد الآن بالفعل. [المترجم].

    [7] مصطلح يُطلق على الشبّان الأغنياء الذين يسعون وراء الربح السهل والسريع من خلال الاستثمار في محافظ ماليّة آمنة لاستغلال رؤوس أموال وعقارات منخفضة السعر، وغالبًا ما يحدث ذلك بعد انهيارات اقتصاديّة أو كوارث طبيعيّة أو أزمات سياسيّة. [المترجم]

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية