إيلون ماسك ورأسمالية «الكوميكس»

الثلاثاء 28 حزيران 2022
تصميم محمد شحادة.

نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مدونة سايد كار، بتاريخ 15 حزيران 2022.

من الصعب للغاية إخفاء تشفينا المحتّم ونحن نشاهد انهيار البيتكوين. حين تناولت الموضوع في مدونة «سايد كار» (Sidecar) آخر مرّة قبل نحو سبعة أشهر، كان إجمالي رأسمال العملات المشفّرة قد انخفض من 2.6 تريليون دولار -أي ما يعادل إجمالي الناتج المحلي لفرنسا-، ليصل إلى 984 مليار دولار فقط، وإلى 901 مليار دولار اعتبارًا من 15 حزيران. يرثي المرء -قليلًا فقط- لحال أولئك السُذّج الذين استثمروا مدخراتهم المتواضعة في العملات المشفرة أملًا بالربح السهل، إلا أنها جُزّت من خلال مخطط هرمي آخر، في نسخة مُحدّثة من حمى التوليب في القرن السابع عشر في هولندا، وهي أول فقاعة مالية فارغة في التاريخ.

هذه الشماتة هي الأكبر منذ أثّر انهيار العملة المشفرة بسبب إيلون ماسك تحديدًا، الرجل الأغنى في العالم نظريًا، الذي تقدر أصوله بنحو 268 مليار دولار. يصوّر إيلون ماسك على أنه توني ستارك الرأسمالية المعاصرة، الأنا الأخرى (alter ego) لبطل مارفل الخارق آيرون مان (الرجل الحديدي)، أحد ملوك المال، المستهتر والخيّر والمخترع والعالم. قرر إيلون ماسك، عام 2019، قبول العملات المشفرة كوسيلة لدفع ثمن السيارات الكهربائية التي تنتجها شركته تيسلا. وفي العام التالي، استثمر 1.5 مليار دولار في عملة دوجكوين (Dogecoin) المشفّرة. يعتمد ماسك على حقيقة كون سوق العملات المشفرة يجري التحكم به من قبل عدد صغير من الأشخاص القادرين على التلاعب بمده وجزره (باستثناء موجات الذعر المباغتة)، حيث دعم هؤلاء الرأسماليون، لسنواتٍ عديدة، قيمة استثماراتهم في البيتكوين من خلال الاستمرار في مراكمة العملات المشفرة، تمامًا كما تفعل الشركات العامة حين تُضخّم أسهمها من خلال عملية «إعادة الشراء».

ومع ذلك، فقدت دوجكوين 80% من قيمتها في غضون عام، حيث انخفضت قيمتها من 40 مليار دولار لتصل إلى 6.9 مليار دولار. إلا أن ماسك مضى قُدمًا في تأكيد إيمانه بالمشروع، غير عابئٍ بأي شيء، وأعاد إطلاقه في أيار [الفائت] كوسيلة لدفع تكلفة تسويق شركته الفضائية «سبيس إكس» (SpaceX). كل إعلان يطلقه ماسك يتلوه ارتفاع في سعر دوجكوين: حقيقة تسلط الضوء على الآلية التي يزيد بها هذا الشكل الجديد من الرأسمالية ثروات حاملي لوائه. يدشن الرأسمالي إعلانًا على وسائل التواصل الاجتماعي يوضح فيه أنه سيشتري حصةً معينة. ليسرع متابعوه (أو المؤمنون به، في حال أردنا أن نكون أكثر دقة) لشراء الأسهم عينها، التي تشهد موجة عارمة من التقلب، ليحصل بعد ذلك الرأسمالي على النقد من خلال بيع جزءٍ من الأسهم المتضخمة، مما يغطي تكلفة الشراء الأولى بكل سهولة.

إن التأثير (Influence) هو ما يُنتج الربح هنا. وفي حالة ماسك، فإن تأثيره نابع من شخصيته الهزلية:  سيواصل جمع الثروة طالما يُنظَر إليه على أنه شخصية شبيهة بستارك. وعلى هذا النحو تبقى صورته بوصفه رأسماليًا حديديًا ذات مصداقية. ولهذا السبب، يعد تويتر أداته المالية الأكثر كفاءة، إذ إن متابعيه الـ91 مليونًا، والموزعين في جميع أنحاء العالم، هم رأس ماله الحقيقي. ولهذا ارتفعت قيمة أسهم تويتر بنسبة 27% بعد أن أعلن ماسك أنه اشترى 9% من أسهم الشركة (كما ارتفع دوجكوين بنسبة 20% نتيجةً لذلك). ومن المنطقي إذن أن الرجل الحديدي يريد السيطرة على مصدر ربحه من خلال الاستثمار فيه.

عند ماسك، يكمن السر في إطلاق مشروعٍ جديد قبل اكتمال السابق؛ إذ إن الاستثمارات الجديدة تجعل السابقة تبدو مُربحة، وبالتالي ترفع من قيمة أسهمها.

وبالتالي فإن تشبّث ماسك بشخصية البطل الخارق ليس مجرّد زهوٍ عقيمٍ، وإنما مسألة ذات أهمية اقتصادية حرفيًا. لقد أولى ماسك عناية كبيرة، طوال حياته المهنية كريادي أعمال، لخلق صورته بصفته مخترعًا وعالمًا، حتى وإن توقّف عن الدراسة العليا في اختصاص علم المواد في جامعة ستانفورد بعد يومين فقط. وحسب تصريح مجلة ڤوربس القاطع، فإن «إيلون ماسك يعمل على إحداث ثورةٍ في وسائل النقل في كلٍ من الأرض، من خلال شركة تصنيع السيارات الكهربائية تيسلا، وفي الفضاء، من خلال شركة تصنيع الصورايخ سبيس إكس». يتوجب على ماسك تجديد أوراق الاعتماد الخارقة باستمرار، وكذلك الاستثمار في مشاريع خيالية مستقبلية تذكّر بالخيال العلمي: سيارات كهربائية واستكشاف الفضاء والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا العصبية. إن السرّ يكمن في إطلاق مشروعٍ جديد قبل اكتمال السابق؛ إذ إن الاستثمارات الجديدة تجعل السابقة تبدو مُربحة، وبالتالي ترفع من قيمة أسهمها.

قصة تيسلا من الأمثلة النموذجية في هذا الصدد، شركة تصنيع السيارات الكهربائية التي أطلقت نفسها في مجال السيارات ذاتية القيادة، دون أن يكون لها موطئ قدم في تلك الصناعة (فما عدد سيارات تيسلا التي رأيتها تتجول؟)، يرافقها نتائج كارثية متوقعة. فحتى 20 شباط، تسببت سيارات تيسلا في 11 حادثًا ووفاة واحدة. لكن من وجهة نظر ماسك، فإن مجرد الوعد بسيارة آلية يعزز التعتيم على فشل أوسع نطاقًا لمركباته الكهربائية. طُرحت تيسلا للاكتتاب عام 2010، بعد أن تلقت تمويلًا بقيمة 500 مليون دولار من الحكومة الأمريكية. ارتفعت قيمتها في الفترة الممتدة بين عامي 2010 و2019، ولكن ذلك كان بوتيرةٍ نموذجية مُرضية لشركة تكنولوجيا مبتكرة في فترة التيسير الكمي. كان بإمكان صناديق الاستثمار، في ذلك الوقت، الحصول على قروض بالمليارات دون فوائد، ودون أن تعرف تمامًا أين توجه كل ذلك، لتستثمرها في شركاتٍ كان يُنظر إليها على أنها شركات واعدة؛ وهذا ما عزز الطفرة الهائلة في الأسهم، رغم الاقتصاد الحقيقي شبه الراكد. ومن ثم خلال العامين التاليين، دخلت الشركة بالفعل ضمن المدار، لتصل ذروتها عند 1.2 تريليون دولار في تشرين الثاني 2021، قبل أن تنحدر إلى 662 مليار دولار اعتبارًا من 15 حزيران.

إن هذا التقييم لا يتوافق بأي شكلٍ كان مع الحجم «الحقيقي» لشركة تيسلا الذي ظلّ متواضعًا من حيث عدد السيارات المُنتَجة (305 آلاف سيارة طوال العام الماضي) وكذا المبيعات (54 مليار دولار). وبالمقارنة، فقد بلغت عائدات مجموعة فولكس فاجن 250 مليار دولار وأنتجت 5.8 مليون سيارة، إلا أن رسملتها بلغت 167 مليار دولار فقط. لقد كان صعود تيسلا مدعومًا بنمو البتكوين وكذلك بالوعد باستكشاف الفضاء، و«رحلة» السياحة على متن الصواريخ الفضائية، عام 2021، التي حظيت بتغطيةٍ إعلامية كبيرة، وهو الأمر الذي ساعد سبيس إكس على تجاوز عتبة التقييم البالغة 100 مليار دولار. وبهذا، أدى ازدهار سبيس إكس وبيتكوين بأثر رجعي إلى صعود تيسلا.

وكما رأينا، فإن تقييم مشروعات ماسك، بالإضافة إلى التقديرات الاحتمالية لثروته، كانت مبنيةً على الدوام على الوعد بالتوسع المستقبلي: إنجازات بعيدة المنال، موجودة خلف الهضبة التالية. وبالتالي، فإن ثقته بالبتكوين تشير إلى ما هو أبعد من مجرد المضاربة الانتهازية؛ إذ إنها تجسيد لنموذج الأعمال الذي يعمل عبر صناعات ماسك المختلفة. كما تشير أيضًا إلى أن التأثير الذي يمارسه ماسك من خلال تويتر لا يؤثر على المستثمرين الصغار فحسب (أولئك الذين ينعتهم تجار الأسهم الإيطاليون بـ«القطيع»)، بل يمتد إلى «المحترفين»: سماسرة البورصة والمستشارين الماليين ومديري الصناديق [الاستثمارية] وما إلى ذلك.

إن تقييم مشروعات ماسك، بالإضافة إلى التقديرات الاحتمالية لثروته، كانت مبنيةً على الدوام على الوعد بالتوسع المستقبلي: إنجازات بعيدة المنال، موجودة خلف الهضبة التالية.

لكل حقبة رائد أعمال يرمز إلى أسلوبها الرأسمالي الخاص. ففي نهاية القرن التاسع عشر، وخلال حقبة البارونات اللصوص، كان أندريو كارنيغي المبشر بالعمل الخيري المليارديري الحديث، من خلال مقاله «إنجيل الثروة» (Gospel of Wealth)، عام 1889. ثم جاء هنري فورد، رجل الصناعة المتعاطف مع الفاشية، والمنتج لسيارة فورد موديل تي، الذي صدم العالم بدفعه خمسة دولارات في اليوم لعماله، وعدّه أليكساندر كوجيف «الماركسي الأرثدوكسي العظيم الوحيد في القرن العشرين». افتقرت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع ما رافقها من تسوية ديمقراطية اجتماعية، إلى رواد أعمال ثائرين، يشبهون طراز الشخصيات التي صورها فيرنر سومبارت[1] وجوزيف شومبيتر.[2] ولكن رغم ذلك، بُعثت أسطورة رائد الأعمال من جديد في ثمانينات القرن الماضي مع بزوغ «الريجانية» (Reaganism). وبرز ريتشارد برانسون بوصفه الربيب المناسب لثاتشر، التي مهدت خصخصتها ورفع القيود الذي قامت به الطريق أمام شركتيه فيرجن أتلانتك وفيرجن هيلث كير. أوكلت ثاتشر إلى برانسون عام 1986 مسؤولية التخلص من النفايات، حيث كُلف بـ«الحفاظ على نظافة بريطانيا». ولاحقًا، عهدت إليه حكومة توني بلير بإدارة جزء من البنية التحتية للسكة الحديدية المخصخصة حديثًا.

لقد افتتح برانسون حقبة رائد الأعمال-الممثل، أي رائد الأعمال ذي الصلة بصناعة الترفيه أكثر من الأعمال، مؤذنًا بجيل جديد من الأباطرة الذين يعملون من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. كان مارك زوكربيرغ هو الأول، حيث استثمر موقع فيسبوك ببراعة ليبني علامته التجارية الخاصة. ثم دخل إيلون، الرجل الحديدي، الساحة بطريقة سينمائية حقًا. ومع ذلك، فإن تلك الشخصيات الرمزية ليست الأكثر أهمية بالضرورة. فقد كان جون روكفلر أو جون بيربونت مورجان على قدر أعلى من الأهمية من كارنيغي، حتى لو لم يجسدا أسلوبًا تأريخيًا. إن بيل جيتس لم يكن أقل أهميةً من ستيف جوبز (ذو الشخصية الأسطورية، رغم وفاته قبل موجة وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة). وبالطريقة ذاتها، شكّل جيف بيزوس، مؤسس موقع Amazon، حياتنا على نحو يفوق ذلك الذي قام به إيلون ماسك، رغم أن حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي يكاد يقترب من الصفر، وهو أقل تمثيلًا لما يمكن أن نسميه «رأسمالية الكتب الهزلية».

وفي حقيقة الأمر فإن أهمية ماسك ذات بعدٍ سياسي أكثر من كونها اقتصادية. أعرف بحكم الخبرة الشخصية بأن الشخصيات العامة -مهما بدت مواقفهم المعلنة ساخرة- ينتهي بهم المطاف إلى الاعتراف بالدور الذي يلعبونه وبالإيمان الذي يولونه للمبادئ التي يعتقدون أنهم يستغلونها. إذ إن توني ستارك يبدأ لزامًا بالنظر إلى نفسه بوصفه عوليس، «ذلك الرجل الحاذق بكل الطرق»، الذي تمكّن شعبه من تأدية مهمتهم التاريخية بفضل براعته. ومع ذلك، وعلى النقيض من رفيقه وزميله بيتر ثيل المتحمس لباي بال والعملات المشفرة، فإن ماسك قلما يُستخدَم في الإعلانات السياسية. إذ إن أفعاله تتحدث عن نفسها، وتكشف عن مرء مقتنعٍ بحقه في تغيير مصير العالم، ليس من خلال ثروته في المقام الأول، ولكن من خلال عضويته في «أرستقراطية معرفية»، وقلة منتخبة أكثر ذكاءً ومعرفة وإدراكًا من البقية.

إننا هنا ندخل العالم الغرائبي لكتاب الرأسماليين الهزلي، الذين غالبًا ما يستخدمون ثرواتهم الهائلة لتحقيق خيالاتهم المراهقة. يرتبط التأثر غير المتكافئ بأرض الأحلام هذه، خاصة في الثمانينيات، وذلك من خلال رواية آين راند «حينما هز أطلس كتفيه» (1957)، حيث يصف منفي روسي «الولايات المتحدة في حالة من الديستوبيا التي تعاني الشركات الخاصة فيها تحت وطأة قوانين وأنظمة ترهق كاهلها على نحو متزايد»، كما تصف الرواية مقاومة بعض الرأسماليين الأبطال، الذين هاجروا في نهاية المطاف وأسسوا مجتمعًا حرًا في مكانٍ آخر (كان آلان جرينسبان من أشد المعجبين بهذا الكتاب الممل للغاية).

لقد سددت أزمة 2008 ضربةً قاضية لأنصار الأنانية العقلانية التي رفعت راند لواءها (والتي تنكرّ لها جرينسبان نفسه في النهاية). لكن سرعان ما استُبدلت بعمل عقدي آخر، صدر في عام 1997، تحت عنوان «الفرد السيادي: كيف ننجو وننمو أثناء انهيار دولة الرفاه» (The Sovereign Individual: How to Survive and Thrive During the Collapse of the Welfare State)، شارك في كتابته جيمس ديل ديفيدسون، وهو مستشار مالي خبير في كيفية التربّح من الكوارث، وويليام ريس موج، وهو محررٌ ذو باع طويل في جريدة ذا تايمز. يلخص مقال نُشر في الجارديان عام 2018 الأطروحات الرئيسية الأربعة للكتاب. أولها أن الدولة القومية الديمقراطية تعمل بشكل أساسي كما لو أنها عصاباتٍ إجرامية، ترغم مواطنيها الشرفاء على التنازل عن حصص كبيرة من ثروتهم لدفع تكلفة أشياء من قبيل الطرق والمستشفيات والمدارس. وثانيها أن مع ظهور الإنترنت ومجيء العملات المشفرة، سيكون من المستحيل على الحكومات التدخل في المعاملات الخاصة وفرض ضرائب على الدخل، وهو ما يعني بالتالي تحرير الأفراد من ابتزاز الحماية السياسية للديمقراطية. وثالثها أن الدولة ستصبح بالتالي كيانًا مُتقادمًا. ورابعها أنه سيظهر من هذا الحطام إدارة عالمية جديدة، حيث تصعد «نخبة معرفية» إلى السلطة والنفوذ، بوصفهم طبقةً من الأفراد ذوي السيادة «يتحكمون بموارد كبيرة جدًا» لن تكون خاضعة لسلطة الدولة القومية، كما سيعيد هؤلاء الأفراد تشكيل الحكومات بما يتناسب مع غاياتهم.

رغم أن «الفرد السيادي» قد كُتب عام 1997، إلا أنه متزامن مع عالم العملات المشفرة، الذي خُلق بعد عقد في أعقاب الانهيار المالي مباشرة. لقد وجد الكتاب مناصرًا مبكرًا في بيتر ثيل، العضو فيما يسمى «مافيا باي بال»، وهي مجموعة من رواد الأعمال الشباب- من بينهم ماسك- أطلقت باي بال عام 1998، وأنتجت من ثم مجموعة كاملة من الشركات؛ حيث أسس ريد هوفمان شركة لينكد إن، وأسس كل من راسيل سيمونز وجيريمي ستوبلمان موقع Yelp، كما كان كيث رابويس من أوائل المستثمرين في يوتيوب؛ وأصبح ماكس ليفيتشن المدير التنفيذي في Slide، ورولوف بوتا شريكًا في Sequoia Capital. ظهروا جميعًا، باستثناء ماسك، في صورة شهيرة معًا نشرتها مجلة Fortune عام 2007، جالسين في حانة، مرتدين زي رجال عصابات إيطاليين-أمريكيين.

أعضاء مافيا باي بال، باستثناء إيلون ماسك، في صورة نشرتها مجلة Fortune عام 2007.

لم يصبح كل أفراد تلك الزمرة من مريدي الفرد السيادي: فنجد بعضهم قد مضى قدمًا في تمويل القضايا الليبرالية والمرشحين الديموقراطيين. بيد أن الانقسام الحقيقي داخل المجموعة يكمن بين أنصار العملات الرقمية والآخرين. دعونا نتذكر أن البيتكوين يقدم نفسه بوصفه أداة تجعل الدولة لا لزوم لها بوصفها ضامنًا للعملة، وهو ما من شأنه أن يقوض واحدًا من أمرين متبقيين ضمن احتكارها (الآخر هو احتكار العنف المشروع). لقد كان البيتكوين وسيلة لفهم فكرة روبرت نوزيك حول «دولة الحدّ الأدنى من الصلاحيات» (ultra-minimalist state) في المجال الاقتصادي والمالي، بما يتجاوز أكثر رؤى فريدمان جرأة، حيث يُعهد بتوريد الأموال إلى السوق.

يعدّ ثيل الأكثر راديكالية من بين كل هؤلاء، الذي تكهن حسب ما قرأنا في مقال حديث نُشر في مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» (London Review of Books):

«تنبأ بزوال الدولة القومية وظهور مجتمعات تحررية منخفضة أو معدومة الضريبة حيث يمكن للأثرياء أخيرًا أن يحرروا أنفسهم من «استغلال العمال للرأسماليين»، إذ يحاجج منذ فترة طويلة بأن تقنية سلسلة الكتل (blockchain) والتشفير-بما في ذلك العملات الرقمية كالبتكوين- تمتلك القدرة على تحرير المواطنين من قبضة الدولة، وذلك من خلال جعله مستحيلًا على الحكومات مصادرة الثروات عن طريق التضخم».

عُين سيباستيان كورتس، المستشار النمساوي السابق والسياسي المحافظ الأقرب إلى اليمين الليبرالي المتطرف، مؤخرًا في منصب مستشار استراتيجي عالمي لدى شركة ثيل. لقد أصبح ثيل أيضًا مُناصرًا لـ«التنوير الحالك/ الرجعية الجديدة» (Dark Enlightenment)، الفلسفة الجديدة التي تبناها اليمين البديل وبعض أنصار ترامب (كان ثيل أحد ممولي ترامب الأوائل)، والتي تقترح خلق نظام إقطاعي جديد تحكمه مجموعة صغيرة من النخب المتفوقة معرفيًا.

يكشف سلوك ماسك عن مرء مقتنعٍ بحقه في تغيير مصير العالم، ليس من خلال ثروته في المقام الأول، ولكن من خلال عضويته في «أرستقراطية معرفية»، وقلة منتخبة أكثر ذكاء ومعرفة وإدراكًا من البقية.

يحجب هؤلاء النبلاء أنفسهم تحت أنبل رداء، ألا وهو مجتمع الاستحقاقية. وبعد كل هذا، مَن سيكون ضد فكرة أن المستحقّ للمزيد يجب أن ينال المزيد؟ تكمن المشكلة هنا في أن هذا المنطق يحدث دائمًا بشكلٍ عكسي، أي أنه يسير من النتائج إلى الأسباب لا العكس، ما يسمى بحكم الاستحقاق، وبعيدًا عن المحاججة بأن الجزاء يجب أن يكون متسقًا مع الاستحقاق، إلا أنه أبقى في الواقع على ما هو نقيض تلك الفكرة. ذلك أن حيازة الثروة دليل لا مراء فيه على حقيقة استحقاقها. فالأغنياء أغنياء لأنهم جديرون بذلك، وكل مَن سواهم فقير لا يستحق. ماسك هو الخرافة الحية لهذا المبدأ، وماسك هو تجسيد لهذا المبدأ ضمن المشاهير. مع ذلك، ولهذا السبب تحديدًا، ليس بحاجة للتعبير عن مواقف متطرفة مثل شريكه السابق ثيل. فمفهوم الإقطاع المعرفي ذو صلة بالنسبة له، حيث يمكنه ممارسة استبداد مماثل على موظفيه بكل بساطة. وبدلًا من التفاخر براديكاليته، فإن يحولها إلى ممارسة. فهو لا يتبجح بـ«الفضائل الأيديولوجية» للعملات الرقمية؛ بل يستخدمها بكل بساطة لتضخيم قيمة شركاته. أو لنستخدم تعبير وول سوينكا، الحائز على جائزة نوبل، في نقده اللاذع للزنوجة «النمر لا يُعلن عن نهجه، إنه ينقض».

ومع ذلك فإن حدود هذا النهج واضحةٌ للعيان. يعكس أداء تيسلا في السوق أداء العملات الرقمية بتماثلٍ مُذهل (تزامن انهيار تيسلا من 1 تريليون دولار إلى 662 مليار دولار منذ تشرين الثاني الماضي مع الانهيار الأخير للعملات المشفرة). إن نهاية التيسير الكمي والقيود النقدية التي ستنفذها البنوك المركزية للتصدي للتضخم ستعجل بانهيار الشركات المبالغ في تقييمها، وكذلك مخططات بونزي بشتى أنواعها. يتعين، في هذه المرحلة، على الرأسمالية أن تخلق لنفسها أبطالًا آخرين (أو كوميديين آخرين).

ملحوظة: إذا كان انهيار بيتكوين خبرًا جيدًا هذا الربيع، فهناك قصة أخرى أيضًا. بدا، في أيار الماضي، كما لو أن منتدى دافوس الاقتصادي العالمي لم ينعقد؛ إذ لم يعره أحدٌ أدنى اهتمام، وبالكاد ظهر في أي تقرير إخباري. كان منتدى دافوس، قبل الجائحة، يبدو كما لو أنه لقاء سادة الكون السنوي. إن تصميمه الباذخ يفترض أن نجوم الفن ورؤساء الدول آتون في زيارة إلى منتجع جبال الألب للتزلج، لا أنهم بيروقراطيون رأسماليون ومسهلو أعمال. وعلى النقيض من ذلك، فإن هذه الرصانة الجديدة هي بمثابة نسمة هواء نقي، عزاء هزيل في وجه الحرب، ربما، لكنه ما يزال بصيصًا صغيرًا من الأمل.

  • الهوامش

    [1] فيرنر سومبارت عالم اقتصاد وعالم اجتماع ألماني، ورئيس «أصغر مدرسة تاريخية في الاقتصاد»، وأحد علماء الاجتماع القاريين الأوروبيين الرائدين خلال الربع الأول من القرن العشرين.

    [2] جوزيف ألويس شومبيتر عالم أمريكي في الاقتصاد والعلوم السياسية من أصل نمساوي. اشتهر بترويجه لنظرية الفوضى الخلاقة في الاقتصاد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية