صفقة خاسرة: كيف تؤذي الأسواق الناشئة الدول النامية؟

الأربعاء 10 تشرين الثاني 2021
واجهة محل صرافة في الأرجنتين خلال أزمة مالية عام 2018. تصوير إيتان أبراهاموفيتش، أ ف ب.

نشر هذا المقال لأول مرة بالإنجليزية في مجلة «بوسطن ريفيو»، بتاريخ 13 تشرين الأول 2021.

أصبح من المعروف جيدًا الآن أن ثلاثة عقود من العولمة المالية قد أنتجت زيادات هائلة في عدم المساواة في الدخل والأصول في الولايات المتحدة وأوروبا. أما في العالم النامي، فقد كانت تأثيرات العولمة المالية أسوأ: فإلى جانب الأوضاع الجديدة من عدم المساواة وعدم الاستقرار، أدى خلق «الأسواق الناشئة» من أجل دعم الاستثمار في البلدان الفقيرة إلى تقويض مشاريع التنمية، وخلق علاقة تمد فيها البلدان الفقيرة البلدان الغنية بالموارد المالية. وذلك على النقيض تمامًا مما كان يفترض أن يحدث. إلا أن هذا التفاوت المتزايد في دخول الأفراد عبر الشمال والجنوب العالميين لا يعد خللًا في النظام، بل نتيجة للكيفية التي سُمِح للأسواق المالية العالمية العمل بها.

كان الوعد الأكبر للتمويل النيوليبرالي، الذي دفع به اقتصاديون مثل رونالد مكينون منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، أنه سيؤمّن ويتيح للبلدان الفقيرة إمكانية الوصول لمزيد من الموارد من أجل التنمية، بحيث تولد ما يكفي من المدخرات ضمن اقتصاداتها لتمويل الاستثمار اللازم. ولكي تحصل على المدخرات من الخارج، تم تشجيعها على الاستفادة من الأسواق المالية العالمية.

في الوقت نفسه، أنتجت التغيرات التي شهدتها اقتصادات العالم المتقدم في أواخر ثمانينيات القرن الماضي تمويلًا متنقلًا على استعداد للتجول حول العالم بحثًا عن عائدات أعلى. كما أتاح رفع القيود التنظيمية «أدوات» تمويلية جديدة، مثل مبادلة مخاطر الائتمان (Credit Default Swaps) (والتي من المفترض أن تحول دون العجز عن سداد الديون) وعقود اشتقاقية أخرى، أصبح معها -فجأة- من المغري توفير تمويل للأنشطة والمقترضين الذين كانوا مستبعدين في السابق. أسفر ذلك عن ظاهرة الإقراض «عالي المخاطر» في سوق الإسكان في الولايات المتحدة، إلا أنه شجع كذلك التمويل الدولي على توفير قروض للبلدان التي لم تكن تحصل في السابق كثيرًا على أموال خاصة. وبالفعل، سعى كثير من المقرضين حثيثًا وراء مقترضين جدد، حيث كان نقل رأس المال أحد الطرق الرئيسة لتحصيل ربح أعلى في القطاع المالي.

قادت هذه التطورات إلى ظهور مصطلح «الأسواق الناشئة»، والذي استخدمه لأول مرة في عام 1981 اقتصاديون في مؤسسة التمويل الدولية، وهي ذراع الاستثمار الخاص للبنك الدولي، للترويج لصناديق الاستثمار المشترك في البلدان النامية. ومع مطلع الألفية الجديدة، فتحت مزيد من البلدان النامية والاقتصادات الاشتراكية السابقة نفسها للاستثمار المالي العابر للحدود، وأصبحت بذلك «اقتصاداتٍ ناشئة»، والتي توصف بأنها بلدان نامية يُصاحب فيها الخطر المتزايد للاستثمار عائداتٍ متوقعة مرتفعة. وفي الآونة الأخيرة، دُفعت البلدان النامية -التي كانت من قبل خارج دائرة اهتمام المستثمر الدولي- لتنضم إلى نطاق أسواق رأس المال المدمجة عالميًا بوصفها «أسواقًا وليدة أو مبتدئة» (frontier market).

انخرط المستثمرون العالميون في الأسواق الخطرة للبلدان النامية التي لم يُنظر إليها من قبل قط بوصفها وجهات جاذبة (حتى بعد أن حررت قواعدها للتمويل الأجنبي لكي يدخل ويخرج بسهولة ويشتري الأصول المحلية). بداية من منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أضحت التغيرات في سياسات تلك الأسواق وهيكل النظام المالي العالمي تعني أن تلك الاستثمارات تتضمن عائدات أعلى ومخاطر منخفضة نسبيًا. كما أنها ولّدت أشكالًا جديدة من الربح من خلال عمولات ورسوم مفروضة على المعاملات في البلدان النامية.

حُددت أسعار الفائدة والعائدات الأخرى عند مستويات أعلى في البلدان النامية، بدعوى مراعاة ارتفاع خطر التخلف عن السداد، رغم ندرة حالات التخلف عن سداد الدين الخارجي. خلال أزمة الدين الخارجي لأمريكا اللاتينية في ثمانينيات القرن الماضي، وأزمات شرق آسيا في أواخر التسعينيات، وأزمات الأسواق الناشئة الأخرى عقب ذلك، استفاد مستثمرو القطاع الخاص الذين غامروا بالدخول إلى تلك الأسواق بشكل عام من العائدات المرتفعة، ونادرًا ما عانوا من مخاوف بشأن عمليات السداد. لقد استفاد الوكلاء الماليّون العالميّون في الواقع لأقصى حدّ من انتشار التمويل النيوليبرالي في البلدان النامية، بينما عانت تلك البلدان ومواطنوها في أغلب الأحوال. فكما يجري ضخّ المياه إلى أعلى، قامت استثمارات الأسواق الناشئة بتحويل الموارد المالية من الاقتصادات النامية إلى تلك المتقدمة، وفاقمت من حالة عدم المساواة في الأصول والدخل القائمة بالفعل.

تنطبق هذه الدينامية على البلدان النامية باختلاف أنواع اقتصاداتها: سواء البلدان الأفقر المجبرة على الاعتماد على التمويل الخارجي، مثل بلدان إفريقيا جنوب الصحراء؛ أو تلك التي عانت من أزمات ديون خارجية دورية وسَعَت إلى تخفيف الديون، مثل الأرجنتين؛ أو «قصص النجاح» المفترضة التي يُعتقد على نحوٍ واسع أنها استفادت من التحرير المالي، مثل البلدان الآسيوية. دعونا نتناول هنا بعض الأمثلة البارزة.

مَن المستفيد من حزم «تخفيف الديون» في إفريقيا؟

تتعامل السردية الموحدة حول تخفيف الديون اليوم مع الأمر باعتباره وصفة للبلدان النامية منخفضة الدخل التي تنفق ما يتجاوز إمكانياتها. وحتى عندما يستحيل على تلك البلدان سداد الديون لظروف خارجة عن سيطرتها (مثل جائحة كوفيد-19 المستمرة والانهيار الاقتصادي الناجم عنها)، عادة ما يقدم الدائنون الرسميون حزم تخفيف الديون باعتبارها «هدية» للبلدان التعيسة أو الضالة. في حقيقة الأمر، ليس تخفيف الديون سوى عرض ممنوح لتقليل الديون الإجمالية والمدفوعات المستحقة عليها، بهدف تحرير موارد البلد المدين من أجل استيراد السلع الضرورية وتحقيق سعة مالية أكبر، خاصة من أجل الاستثمار الحكومي في البنى التحتية المادية والاجتماعية، والحماية الاجتماعية. كما يهدف أيضًا إلى السماح للبلد بالتفاوض على ديون جديدة بشروط أفضل.

كانت هناك مبادرات ناجحة لتخفيف الديون في الماضي، مثل تخفيف عام 1951 الذي منحه الدائنون الرسميون لألمانيا، والذي خفض إجمالي الديون المستحقة للنصف، وحدد نسبة مدفوعات الفوائد عند 3% من الصادرات السنوية. أما الكثير من مبادرات تخفيف الديون عن البلدان الفقيرة اليوم فهي على النقيض من ذلك تمامًا، إذ تتضمن مجرد تأجيل لعمليات السداد أو إعادة جدولتها (أي تغيير فترة السداد المطلوبة). ما يعني أنه بمثابة تأجيل فحسب، الأمر الذي يسمح للديون بالتضخم مع مرور الوقت.

تنحاز القواعد والأنظمة القانونية التي تحكم التمويل العالمي للمؤسسات المالية الموجودة في الشمال العالمي، فحوالي 90% من عقود الديون الدولية تخضع لولاية مدينتَيْ لندن ونيويورك.

وجدت معظم الدراسات حول جهود تخفيف الديون منذ تسعينيات القرن الماضي أن البلدان المدينة لم تنتفع في حقيقة الأمر، مع مرور الوقت، من وجود أعباء ديون يمكن تحملها. فقد خلصت دراسة شملت موزمبيق وتنزانيا وأوغندا وزامبيا، إلى أن جهود تخفيف الديون تركز بصورة أكبر على إعادة الجدولة بدلًا من قيامها بإعادة الهيكلة. وتحمل التخفيضات الصغيرة نسبيًا مقارنة بإجمالي الديون أثرًا ضئيلًا على مجموع أرصدة الديون. وتضمنت جهود التخفيف اشتراطاتٍ فرضها وأشرف عليها صندوق النقد الدولي، وتطلبت تقشفًا ماليًا. ويشمل ذلك عادة تخفيض الإنفاق العام، حتى على مجالات حيوية مثل الصحة، واعتمادًا أكبر على الضرائب التنازلية، مثل ضريبة القيمة المضافة، بدلًا من ضرائب الدخل على الأغنياء. وكانت المحصلة أوضاعًا أسوأ على مستوى الاقتصاد الكلي، وتراجعًا في حجم وجودة الخدمات العامة.

لكن الأهم من ذلك، وبسبب استمرار حصول معظم دائني القطاع الخاص وغيرهم من الدائنين على مدفوعاتهم، سمحت البرامج «بالاستفادة المجانية» لدائنين آخرين. ففي مبادرة «البلدان الفقيرة المثقلة بالديون» لعام 1996، قامت حكومات بلدان غنية عديدة بالعفو عن بعض الديون الرسمية الثنائية المستحقة لها، لكن الفوائد المترتبة عليها آلت إلى الجهات الدائنة متعددة الأطراف، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وبنك التنمية الإفريقي، والتي نجحت في إنقاذ جزء كبير من قروضها. وفي عالم ما بعد كوفيد، حيث ينخرط كل من الدائنين الثنائيين ومتعددي الأطراف في جهود تخفيف الديون، سوف يستفيد دائنو القطاع الخاص -الذين رفض معظمهم أن يكونوا جزءًا من تلك الجهود- أكثر من غيرهم، في حين ستُجبر الحكومات على الدفع لهؤلاء الدائنين أو مواجهة إجراءات صارمة من المحاكم الدولية المعروف عنها محاباة الدائنين.

الدين الخارجي كطريقة لنقل الموارد

تنحاز القواعد والأنظمة القانونية التي تحكم التمويل العالمي للمؤسسات المالية الموجودة في الشمال العالمي، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى أن حوالي 90% من عقود الديون الدولية تخضع لولاية مدينتَيْ لندن ونيويورك. وتكون تلك القواعد أكثر صرامةً عامةً مع المدينين الدوليين منها مع المحليين، كما تميل السوابق القضائية بشدة نحو دائني القطاع الخاص. وقد زادت على نحو هائل العقوبات التي تفرضها البلدان الدائنة عند التخلف عن السداد، لدرجة أن معظم الحكومات تبذل ما في وسعها لتجنب الوصول إلى تلك الحالة، مهما كان كلفة ذلك على مواطنيها. ويعلم الدائنون الدوليون أنهم سينجون -بغض النظر عما يصيب اقتصادات وشعوب البلدان المدينة- وسيحصلون أيضًا على فوائد العائدات المرتفعة المنتزعة من العالم النامي.

علاوة على ذلك، لا يهتم المستثمرون الماليون المتنقلون، الذين يشترون الأوراق المالية ويملكون السندات في كثير من الأحيان، بمدفوعات الفوائد أو أرباح الأسهم على استثمارهم الدولي. فهُم يتطلعون إلى أرباح رأس المال التي تعتمد على أسعار الأصول المتغيرة. ونتيجةً لذلك، يرحب بعضهم بفقاعات المضاربة ودورات الازدهار والركود (الانتعاش والانكماش) في الأسواق الناشئة المختلفة، خاصة إذا كان في استطاعتهم الشراء بسعر رخيص والبيع بسعر أعلى. لهذا السبب، ورغم الأزمات الدورية في بعض البلدان، تستمر شهية شراء الأصول المالية في الأسواق الناشئة والوليدة. إضافة إلى أن ذلك يفسر لماذا تتسم تدفقات رأس المال عبر الحدود الوطنية بالاضطراب الشديد بالنسبة لمعظم الأسواق الناشئة: لأنها تسعى وراء أرباح المضاربة قصيرة الأجل.

يتجلى هذا النمط في أوضح صوره وبشكل صارخ عندما تمر اقتصادات الأسواق الناشئة بأزمات ديون، حيث يتوقف تدفق رأس المال الداخل ولا تتمكن البلد من استيفاء متطلبات خدمات الديون. وتقدم الأرجنتين مثالًا واضحًا على أزمات الدين الخارجي الدورية. فمنذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عصفت بالاقتصاد دورات انتعاش وانكماش ضخمة وأزمات ديون في آنٍ واحد وعلى مدار سنوات، ويرجع ذلك إلى حد كبير للطرق التي يتآمر بها هيكل الاقتصاد الدولي والإطار القانوني لمنع البلدان النامية من حل مشكلات الدين الخارجي.

لا تمنح النظم القانونية البلدان النامية الحد الأدنى من شروط تسوية الديون التي تمنحها عادة للمدينين من القطاع الخاص والشركات في الاقتصادات المتقدمة.

تفجرت الأزمة المالية للأرجنتين عام 2001 عندما فشل نظام سعر الصرف الثابت المفترض (بيزو واحد يساوي دولار واحد) نتيجة العجز المتنامي في الحسابات الجارية وعدم كفاية تدفقات رأس المال الداخل. تلى ذلك تخفيض كبير في قيمة العملة، وتخلُف عن سداد نحو 100 مليار دولار من الديون الخارجية. وفي عام 2005، عرضت حكومة نيستور كيرشنير، التي تمكنت من إنعاش الاقتصاد نسبيًا، على دائنيها إجراء مبادلة الديون، الأمر الذي أعاد هيكلة الديون بصورة كبيرة. وجرى تداول السندات الأرجنتينية بجزء بسيط من قيمتها الوجهية (الاسمية) في السوق الثانوية، ما خفض من قيمة الديون بنحو 75%. وأقدمت البنوك متعددة الجنسيات ودائنون آخرون ممن يملكون 93% من السندات الحكومية على المشاركة في عمليات مبادلة الديون عامي 2005 و2010.

لكن أقلية صغيرة من الدائنين رفضوا القبول بالتسوية التي تم التفاوض بشأنها. وباع هؤلاء ما يملكونه لصناديق التحوط (تُعرف في هذه الحالة باسم «الصناديق الانتهازية» التي تستحوذ على الأصول المتعثرة على أمل استرداد عائد أعلى منها لاحقًا). واحد من هذه الصناديق، والذي يتبع شركة إليوت لإدارة رأس المال (التي يديرها الملياردير الأمريكي باول سينجر)، اشترى سندات أرجنتينية بحوالي 20% من القيمة الوجهية (الاسمية) لها في عام 2008، ثم تابع القضية قانونيًا في نيويورك حيث كان مصدر عقود الديون. وطالب الصندوق بالسداد الكامل للديون (بقيمة وجهية تقدر بحوالي 1.5 مليار دولار)، الأمر الذي يُدر عليه عائدًا بأكثر من 1600% على الاستثمار الأولي. وفي عام 2012، حكمت إحدى المحاكم المحلية في الولايات المتحدة لصالح صناديق التحوط، بل وذكرت أن أي طرف ثالث -بما في ذلك البنوك التي تيسر تلك المعاملات- حاول الدفع لحاملي السندات الآخرين سيواجه تهمة انتهاك حرمة المحكمة. ورفضت المحكمة العليا للولايات المتحدة استئناف حكومة الأرجنتين. منع هذا الحكم فعليًا الأرجنتين من تسديد الديون لحاملي السندات الآخرين (الذين كانوا قد حصلوا بالفعل على 90% تقريبًا من مستحقاتهم) ما لم تدفع أيضًا كامل المستحقات لهؤلاء الرافضين، رغم وعدها لحاملي السندات الآخرين بعدم فعل ذلك.

سخر هذا الحكم من جميع اتفاقات إعادة التفاوض حول الديون، حيث لغى الحافز لدى الدائنين بقبول أي شيء أقل من القيمة الكاملة لديونهم. والحقيقة أنه لا يوجد نظام ائتمان عَمِل بهذه الطريقة من قبل، فاحتمالية التخلف عن سداد الديون تكون متضمنة في عقود الائتمان من خلال سعر الفائدة، الذي يرتفع مع تزايد احتمالية التخلف عن السداد. ولا يمكن للدائن الذي حصل على سعر فائدة مرتفع بناءً على الاحتمالية الكبيرة للتخلف عن السداد أن يطالب بالسداد الكامل للدين باعتباره حقًا له، بما أن تلك الاحتمالية بحد ذاتها لها انعكاس في العقد. علاوة على ذلك، فإن الحكم متعارض أيضًا مع قوانين الإفلاس الأمريكية للمقترضين من البلديات والشركات.

لقد أُجبرت الأرجنتين فعليًا على التخلف عن السداد، وبالتالي أُرغِمت على الخروج من أسواق الائتمان الدولية، رغم عدم معاناة أي من الدائنين في الواقع. وفي عام 2015 أقدم الرئيس ماوريسيو ماكري بعد فترة وجيزة من توليه منصبه على عقد صفقة مع الدائنين الممانعين والمتعنتين ليدفع لهم ما طالبوا به، ضمن أجندة نيوليبرالية. ومع عدم إمكانية الوصول لأسواق رأس المال العالمية مجددًا، أسرف حينها في الاقتراض (ملاقيًا الكثير من الترحيب وقتها من التمويل العالمي) ما أدى إلى زيادة الدين العام للأرجنتين بأكثر من الثلث، ليصل إلى 321 مليار دولار عام 2017.

وفي غضون أشهر قليلة، سريعًا ما قاد العجز المالي والعجز في الحساب الجاري بأكثر من 5% من الناتج المحلي الإجمالي إلى أزمة مالية واقتصادية، فتضخّم الدين العام ليصل إلى حوالي 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وانهارت العملة مع هروب رأس المال، وارتفع معدل التضخم بشكل جنوني. وفي منتصف 2018 وافق صندوق النقد الدولي على تقديم قرض للأرجنتين هو الأكبر في تاريخها، بحوالي 57 مليار دولار. ذهب معظمه لسداد أموال الدائنين أو ابتلعته هجرة رأس المال. وفي مقابل هذا السخاء المريب، طالب صندوق النقد الدولي بالتخفيضات المعتادة في الميزانية، التي قلصت نسب التوظيف، ودمرت الخدمات العامة، وخفّضت دخول العمال.

حاولت حكومة يسار الوسط الجديدة في الأرجنتين إعادة هيكلة الديون وسط جائحة كوفيد. ومرة أخرى، تسبب دائنو القطاع الخاص الرافضون في تأخير العملية ودفعوا بها إلى حافة الهاوية، قبل أن يوافقوا أخيرًا على تخفيض الديون. فمع غياب إجراءات محددة وثابتة لإعادة هيكلة الديون الدولية، لا تمنح النظم القانونية البلدان النامية الحد الأدنى من شروط تسوية الديون التي تمنحها عادة للمدينين من القطاع الخاص والشركات في الاقتصادات المتقدمة.

تجربة الاقتصادات الآسيوية «الناجحة»

حتى تلك الأجزاء من العالم النامي التي يعتبرها الكثيرون «قصص نجاح» خسرت في التمويل العالمي. إذ تعدّ بعض الأسواق الناشئة في آسيا من بين تلك الأكثر اندماجًا على مستوى العالم، سواء في أسواق التجارة أو رأس المال. وشهدت معظم تلك الاقتصادات تحريرًا ماليًا كبيرًا على مدار العقود الثلاثة الماضية، حيث سمحت بمزيد من تدفقات رأس المال المتنقل عبر الحدود ومزيد من الملكية الأجنبية للأصول المالية المحلية.

لكن التحرير المالي بإمكانه أن يخلق أزمات حتى في «اقتصادات المعجزة»، كما أظهرت الأزمة الآسيوية في عامي 1997 و1998، ولأكثر من عقد بعدها لم تسترد الاقتصادات المتأثرة حيويتها كما كانت قبل الأزمة. وأصبحت حكومات تلك المنطقة حساسة للغاية تجاه احتمالية حدوث أزمات مستقبلية، لدرجة تبنيها سياسات تقييدية على مستوى الاقتصاد الكلي، لتتجنب حالات العجز المالي قدر الإمكان، من خلال تقييد الإنفاق العام والمشاريع الإنمائية حتى مع تخفيض معدلات ضريبة الدخل على الشركات والأغنياء.

لكن الأشد إدهاشًا من ذلك كان تزايد معدلات الادخار المرتفعة بالفعل لشرق وجنوب شرق آسيا بعد الأزمة المالية، حتى مع هبوط معدلات الاستثمار. وأصبحت بلدان مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا أكثر «انفتاحًا» من ناحية السياسات -خاصة تلك المرتبطة بقواعد الاستثمار الأجنبي- إلا أنها أصبحت مصدّرة صافية لرأس المال بعد عام 1998. انتزعت هذه العملية مدخرات الأفراد وصدّرتها، إما من خلال تدفقات رؤوس الأموال إلى الخارج أو بإضافتها إلى الاحتياطيات الأجنبية للبنوك المركزية، والتي عادة ما كانت تُحفظ في أصول آمنة للغاية خارج البلاد (مثل سندات الخزانة الأمريكية).

وصف بن برنانكي في عام 2005، والذي كان حينها رئيسًا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، هذا التغيّر -خطأً- على أنه «تخمة في الادخار». وذهب إلى أن البلدان الآسيوية لديها «نظم مالية قمعية» لم تقدم عوائد محلية كافية على الاستثمار، الأمر الذي يفسر تصديرها رأس المال إلى الاقتصاد الأمريكي الأكثر «حيوية» وطفرة الإسكان (سوق الرهن العقاري) عالي المخاطر. في الواقع، كان الأمر أشبه بمجاعة استثمارية، حيث خَفضت الشروط النقدية الصارمة وارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية من إمكانية الحصول على قروض بنكية للاستثمار المحلي. واختارت الحكومات الإبقاء على العجز في الميزانيات تحت السيطرة، من خلال خفض إنفاقها أو فرض ضرائب مثل ضريبة القيمة المضافة التي يقع عبئها على الفقراء بشكل غير متناسب. ومع ذلك، خُففت تدريجيًا القواعد المنظمة لإرسال المقيمين المحليين أموالهم إلى الخارج، بحيث تصبح أكثر اندماجًا من الناحية المالية مع بقية العالم.

كجزء من الترويج للتمويل النيوليبرالي، أصبح هناك مؤخرًا تحول نحو مزيد من الوجود الأجنبي في أسواق الديون والأسهم المحلية. كما بات الأجانب يمتلكون حصة متزايدة من السندات السيادية في آسيا.

وفي الوقت نفسه، استمر الارتفاع الكبير في إجمالي تدفقات رأس المال الداخل إلى البلدان الآسيوية النامية، وجاءت معه ضغوطات جديدة من أجل التحرير المالي. أصبحت النظم المالية الآسيوية نتيجة لذلك أشبه بتلك الموجودة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، مع تنامي أهمية مؤسسات جديدة (مثل الأسهم الخاصة وصناديق التحوط) وأدوات جديدة (مثل العقود الاشتقاقية والاستحواذ المدعوم بالقروض). وفتحت أسواق السندات المحلية أبوابها مؤخرًا أمام المستثمرين الأجانب. أنتجت هذه التوجهات أشكالًا جديدة من الضعف والهشاشة المالية، والتي (كما هو الحال في الاقتصادات المتقدمة تمامًا) جعلت من الصعب استحداث قواعد وأنظمة من دون إدخال تغييرات هائلة على الملكية والهياكل التنظيمية في مجال التمويل.

هذا الاندماج القوي في أسواق رأس المال العالمية جعل الأسواق الناشئة في آسيا عرضة للآثار الجانبية لسياسات الاقتصاد الكلي في البلدان المتقدمة. فتبني سياسات نقدية متساهلة للغاية، مثل التوسع الهائل في العرض النقدي (من خلال «التيسير الكمي») وأسعار فائدة منخفضة جدًا (وأحيانًا حتى سلبية)، يعني أن بعضًا من الأموال السهلة المتولدة من الاقتصادات المتقدمة وجدت طريقها إلى الأسواق الناشئة.

اعتُبرَت البلدان الآسيوية النامية «مستفيدًا» كبيرًا من هذه العملية، حيث حصلت على زيادات هائلة في تدفقات رأس المال الإجمالي الداخل. لكن رغم وجود «تدفقات إجمالية» كبيرة لرأس المال تتحرك في كلا الاتجاهين، لم يعنِ ذلك أن صافي تدفقات رأس المال الداخل كانت كبيرة. فقد أصبحت البلدان الآسيوية النامية ظاهريًا الوجهة «الأفضل» للأسواق المالية العالمية. لكن كانت هناك أيضًا زيادات كبيرة في تدفقات رأس المال الخارج، ويرجع ذلك إلى السماح بصورة متزايدة للمقيمين المحليين من القطاع الخاص بالاستثمار خارج البلاد، وإلى سعي البنوك المركزية في المنطقة لزيادة حصتها من الأصول الأجنبية.

وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، حصلت ماليزيا، على سبيل المثال، بين عامي 2010 و2018 على ما يتراوح بين 308 و430 مليار دولار من تدفقات رأس المال الداخل سنويًا، في حين تلقت تايلاند كل عام من نفس الفترة ما بين 305 و498 مليار دولار. تبدو تلك الأرقام وكأنها تدفقات ضخمة لرأس المال الداخل. إلا أن ماليزيا أرسلت تدفقات أكبر إلى خارج البلاد، وأصبحت مصدّرًا صافيًا لرأس المال. أما تايلاند فتراوحت صافي التدفقات الداخلة إليها بين 11 و80 مليار دولار فقط، وهو جزء ضئيل من القيمة الإجمالية لما تلقته. وتعد الهند وإندونيسيا بلدين آخرين حصلا على تدفقات صافية كبيرة داخلة، لكن حتى حصتهما كانت أقل بكثير بسبب تزايد التدفقات الخارجة.

بمعنى آخر، كانت هذه التدفقات مكلفة، إذ إن العائدات التي تدفعها تلك البلدان على رأس المال المتدفق إلى الداخل أعلى بكثير من العائدات التي تحصل عليها من رأس المال المتدفق إلى خارجها. وتخصص البنوك المركزية حوالي نصف التدفقات الخارجة (وأحيانًا أكثر) لمراكمة احتياطيات النقد الأجنبي، وفقًا لاستراتيجية «الحماية الذاتية» التي سبق وصفها، ويتم حفظها عادة في أصول منخفضة العائد وأوراق مالية آمنة، مثل سندات الخزانة الأمريكية، التي تمنح أسعار فائدة متدنية. هناك أيضًا اختلافات في العائدات على الأصول الأخرى، بما في ذلك الأسهم التي تمتلكها الجهات الخاصة، التي لا تحقق فيها البلدان النامية الأهداف المرجوة. فقد قدّر الاقتصادي يلماز أكيوز أن تلك التحويلات إلى الاقتصادات المتقدمة بلغت ما نسبته 2.3% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات الناشئة الـ11 في مجموعة العشرين، في الفترة بين عامي 2000 و2016. بينما قدّرت منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) بلوغ تلك الخسائر بين عامي 2010 و2018 نسبة 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة لتايلاند، و4.1% بالنسبة لإندونيسيا، وهي نسب أعلى بكثير من صافي تدفق رأس المال الداخل.

في الوقت نفسه، ليس من الواضح أن الاحتفاظ بكل احتياطيات النقد الأجنبي هذه يوفر حماية فعلية. وكجزء من الترويج للتمويل النيوليبرالي، أصبح هناك مؤخرًا تحول نحو مزيد من الوجود الأجنبي في أسواق الديون والأسهم المحلية. كما بات الأجانب يمتلكون حصة متزايدة من السندات السيادية في آسيا. ويرى واضعو السياسات أن إصدار السندات بالعملة المحلية والخضوع للتحكيم المحلي من شأنه أن يحول دون عدم التوافق في قيم العملات وتفاوت آجال الاستحقاق اللذان أديا في السابق إلى أزمات ديون سيادية. لكن الأمر في الواقع ليس كذلك. فالمقيمون الأجانب لا زال بإمكانهم بيع السندات سريعًا استجابة للتغيرات في أسعار الفائدة العالمية أو الصدمات المفاجئة للاقتصاد المحلي، ما يؤدي إلى انخفاض كبير في قيمة العملة.

لم يعد كافيًا في حقيقة الأمر الاحتفاظ باحتياطيات كافية لتغطية الدين الخارجي قصير الأجل أو حتى الدين الخارجي الإجمالي، طالما أن المقيمين الأجانب المتطلعين للخروج من ذلك السوق بإمكانهم بيع الديون بالعملة المحلية سريعًا. ولن يحول أي مستوى من احتياطيات النقد الأجنبي دون هروب رأس المال ولن يمنع عدم استقرار العملة.

التمويل النيوليبرالي والمشروع التنموي

تكشف هذه الأمثلة كيف أدى التحرير المالي، بما في ذلك فتح الاقتصاد لتدفقات رؤوس الأموال العابرة للحدود، إلى زيادة الهشاشة المالية للبلدان النامية وجعلها عرضة لأزمات العملات والأزمات المالية الدورية. وتجسد بعض النتائج تلك الأزمات في الاقتصادات المتقدمة، مثل عدم الشفافية المتزايدة للتعاملات المالية، وظهور «ابتكارات» مثل عقود المقايضة المالية وإصدار الأوراق المالية التي تخفي المخاطر، وغيرها من التجاوزات والسلوكات غير المسؤولة، وجميعها أمور ترتبط بمزيد من الأزمات المالية. وقد ألحقت أضرارًا بالاقتصادات الحقيقية، والتوظيف، والظروف المعيشية الأساسية، في حين تحافظ عمليات الإنقاذ المالي على المؤسسات المالية المسؤولة عن المشكلة. ويخلق ذلك تفاوتًا في الدخل والأصول، كما هو الحال في الاقتصادات المتقدمة. لكن التمويل النيوليبرالي حمل آثارًا أسوأ للدول النامية، حيث قوّض مشروع التنمية نفسه من الأساس؛ وقد فعل ذلك عبر أربع طرق.

إذ أدى التمويل النيوليبرالي أولًا إلى تراجع قدرة الحكومات على توجيه التمويل لقطاعات معينة، وهو العامل الذي كان حاسمًا في عملية التصنيع في جميع الاقتصادات المتقدمة اليوم، من إنجلترا الثورة الصناعية، مرورًا بألمانيا والولايات المتحدة واليابان، ومؤخرًا كوريا الجنوبية والصين. وبمجرد «تحرير» القطاع المالي للسماح للبنوك الخاصة واللاعبين الآخرين بفعل ما يحلو لهم، تتضاءل كثيرًا فرص تمويل المشاريع طويلة الأجل، والتي قد تكون محفوفة بالمخاطر إلا أنها ضرورية (مثل الاستثمار في المواصلات والطاقة النظيفة والصحة والتعليم). ويصبح من الصعب حينها تعزيز القطاعات المترابطة الرئيسة المهمة لتنويع الأنشطة الاقتصادية وخلق فرص العمل. ومن خلال القضاء على إمكانية العمل وفق سياسة الائتمان الموجه، فإن التمويل النيوليبرالي يقيد أيدي الدول النامية التي ترغب في تشجيع التصنيع.

يعرّض الاندماج في أسواق رأس المال العالمية البلدانَ النامية لدورات الانتعاش والانكماش التي تقودها سياسات وعمليات الاقتصاد الكلي في الاقتصادات المتقدمة.

ثانيًا، كما رأينا في مثال الأسواق الناشئة في البلدان الآسيوية، يجبر التحرير المالي الحكومات على محاولة استرضاء المصالح المالية من خلال خفض معدلات الضرائب على الأرباح وعلى الأغنياء، حتى مع تحرير التجارة الذي يقلل من إيرادات ضريبة الواردات. ويصبح على الحكومات أن تسيطر على العجز المالي لديها من خلال خفض إنفاقها. وبذلك تجد الحكومات في الأسواق الناشئة صعوبة في تكثيف الإنفاق في فترة الركود، أي «الإنفاق لمواجهة التقلبات الدورية» الذي أصبح واضحًا جدًا اليوم في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويعني ذلك أن فترات الركود الاقتصادي في الأسواق الناشئة تكون أطول وأكثر حدة.

ثالثًا، يعرّض الاندماج في أسواق رأس المال العالمية البلدانَ النامية لدورات الانتعاش والانكماش التي تقودها سياسات وعمليات الاقتصاد الكلي في الاقتصادات المتقدمة. وحتى من دون عدم الاستقرار الذي تخلقه سياسات الاقتصادات المتقدمة، بمجرد «اختيار» الأسواق المالية لسوق ناشئة بوصفها وجهة جاذبة، غالبًا ما تحل عليها الأزمة. كما ينتج عن الارتفاع المفاجئ لتدفقات رأس المال الداخل ارتفاع لسعر الصرف، الأمر الذي يجعل الواردات أرخص والصادرات أغلى. ونتيجة لذلك، تتراجع دافعية الاستثمار المحلي لإنتاج سلع قابلة للتداول التجاري (بدائل الصادرات والواردات)، في حين يتزايد الاستثمار في السلع غير القابلة للتداول التجاري، خاصة في سوق الأوراق المالية والعقارات. كما أن البلدان النامية التي تشهد تدفقات كبيرة لرأس المال الداخل يتزامن معها انتعاش في أسواق الأوراق المالية والعقارات والملكية. وقد يُفسَر هذا الأمر كعلامة على الازدهار (حتى عندما يكون إجمالي الإنتاج والتشغيل في حالة ركود أو حتى هبوط)، لكنه ببساطة يعكس استخدام القطاع الخاص لتمويل أرخص متاح حديثًا لكي يزيد من ديونه الخاصة.

بمجرد وجود اختلال التوازن هذا في الاقتصاد الكلي، يمكن لأي عامل أن يتسبب في تدفق رأس المال إلى الخارج. وتخلق تدفقات رأس المال الداخل الظروف لنفسها لتتراجع وتنتكس في نهاية المطاف، عندما يتم فجأة اعتبار العجز في الحسابات الجارية كبيرًا جدًا أو غير محتمل. فقد يدرك المستثمرون العالميون فجأة أن العجز في الحساب الجاري أصبح كبيرًا، أو ربما تؤثر أزمة ما في بلد مجاور بالسلب على شهية المستثمرين على المخاطرة، أو تهدد التغيرات السياسية بعدم الاستقرار، أو أن تحدث تغيرات ما في البلدان المتقدمة فتجعل منها أكثر جذبًا للتمويل المتنقل. يدفع تدفق رأس المال الخارج حينها بأزمة مالية، لا تتمثل فقط في ميزان المدفوعات بل أيضًا في البنوك المحلية والاقتصاد الحقيقي.

يتلخص السبيل الوحيد لتفادي هذا المسار في منع تدفقات رأس المال الداخل من أن تؤثر على سعر الصرف، وذلك من خلال شراء البنك المركزي للعملات الأجنبية وتخزينها على هيئة احتياطيات. وهذا ما قامت الأسواق الناشئة الآسيوية بفعله بالضبط: عدم استخدام تدفقات رأس المال الداخل لزيادة فرص الاستثمار المحتمل في الاقتصاد.

لكن ذلك ما يفضي بنا إلى المشكلة الرابعة للتحرير المالي؛ فعلى مدار عقدين، تحرك صافي التدفقات في الاتجاه المعاكس. وحتى الأسواق الناشئة التي تلقت تدفقات كبيرة من رأس المال الداخل لم تشهد زيادات في إجمالي معدلات الاستثمار، لكنها راكمت احتياطياتها من النقد الأجنبي. وأصبحت العديد من المناطق النامية مصدرة صافية لرأس المال إلى العالم المتقدم، خاصة إلى الولايات المتحدة، والتي كانت في لحظةٍ ما قبل الأزمة المالية العالمية تبتلع 70% من مدخرات العالم. فأن تجني الأسواق الناشئة من رأس المال الذي ترسله إلى الخارج أقل مما تدفعه على تدفقات رأس المال الداخلة، يعنى ذلك أنها تحوّل إيرادات الاستثمار إلى الشمال العالمي. وسواء كان البلد النامي مستقبلًا صافيًا للتمويل أو مزودًا صافيًا له، سيظل يعاني من آثار الاندماج المالي.

لهذا السبب، ظلّت الأسواق الناشئة -التي أصبحت اليوم معتمدة فعليًا على أهواء المستثمرين العالميين- مترددة بشأن الإنفاق على أسواقها ومواطنيها، حتى في مواجهة جائحة كوفيد-19 والأزمة الاقتصادية الأكبر في حياتنا. من الصعب التفكير في استراتيجية اقتصادية أكثر مازوخية يمكن للحكومات تبنيها من الامتثال لقواعد التمويل النيوليبرالي.


يود المترجم التعبير عن امتنانه للباحثة نهى مجدي على مساعدتها المخلصة في مراجعة وتدقيق المصطلحات المتخصصة الواردة في المقال.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية