الإيكونومِست والليبراليّة

تصميم ندى جفّال.

الإيكونومِست والليبراليّة

الجمعة 12 شباط 2021

في هذه المقالة يسرد المفكّر بانكاج ميشرا تاريخ الليبراليّة، فيكشف تخبّطها الفكريّ وارتباطها على مدى التاريخ بمصالح النُّخب الغربيّة الحاكمة، فنرى ارتباطها بالعنصريّة والاستعمار والرأسماليّة وتملّقها الدائم للسلطات. هذا التأريخ لليبراليّة يُوضّح فساد منظومتها، خاصةً حين نرى أنّها مع كلّ ما حدث في العالم لم تتغيّر ولم تنفصل عن مبادئها الأولى. يقدّم لنا ميشرا هذا التاريخ الشامل لليبراليّة عن طريق استعراض كتاب «العالم وفقًا للإيكونومست: بقلم الليبراليّة» لألكسندر زيفين،[1] الذي يسرد فيه تاريخ الإيكونومست، المجلّة الليبراليّة الأبرز، المعروفة بتكريس موادّها لخدمة مصالح الليبراليّة.

نُشرت المقالة لأوّل مرّة على موقع مجلّة النيويوركر بتاريخ 4 نوفمبر 2019. ثم نُشرت مرّةً أخرى، مع تعديلات وإضافات، في كتاب Bland Fanatics الصادر سنة 2020. ولقد استندنا في ترجمتنا إلى نصّ المقالة كما نُشر في الكتاب المذكور. تجدر الإشارة إلى أن هوامش المقالة من وضع المترجمة والمترجم.

«صنعتْ الليبراليّةُ العالمَ الحديث» كذلك تحسّرت مجلّة الإيكونومست The Economist سنة 2018، في الذكرى الخامسة والسبعين بعد المئة لتأسيسها، ولكنّ «العالم الحديث ينقلبُ عليها». أوروبّا وأمريكا «في قبضة ثورة شعبيّة ضدَّ النُّخَبِ الليبراليّة» في حين أنّ الصين الشموليّة توشكُ أنْ تصيرَ صاحبة أكبرِ اقتصادٍ في العالم. بالنسبة لمجلّةٍ أسبوعيّة «أُسّست قبل 175 سنة بهدفِ الترويج للّيبراليّة»، ولتكون بمثابةِ دليل إرشادات للنُّخب الليبراليّة، فإنّ هذا «مقلقٌ على نحوٍ عميق». وبالطبع، لقد صارت وجهةُ نظر المجلّة، التي ترى أنّ الليبراليّة في أزمة، حكمةً شائعةً في مختلف الأوساط السياسيّة. لقد أدرج باراك أوباما، أحدُ أبرز الليبراليّين، كتاب باتريك دينين «لماذا فشلت الليبراليّة»[2] في قائمته السنويّة لتوصيات الكتب، بينما أعلن فلاديمير بوتين بسرور «اندثار» الليبراليّة. يتّهم اليمينُ الليبراليّةَ بترويج الفرديّة الأنانيّة والماديّة الفجّة على حسابِ التماسك الاجتماعي والهويّة الثقافيّة. ويزعم الوسطيّون أنّ هوس الليبراليّين بالكياسة السياسيّة[3] وحقوق الأقليّات هو الذي دفع المقترعين البيض باتجاه دونالد ترمب. أمّا بالنسبة لليسار الذي عاد للظهور مؤخّرًا، فإنّ صعود الغوغائيّة يبدو ردًّا على مذاهب الحكومات الصغيرة المؤمنة بالنيوليبراليّة التكنوقراطيّة – خصم الضرائب، الخصخصة، رفع القيود الحكومية،[4] إقرار تشريعاتٍ ضدّ العمّال، تخفيض الضمان الاجتماعيّ – تلك المذاهب التي شكّلت سياسات أوروبا وأمريكا منذ الثمانينيّات.

غالبًا ما تُعرف الليبراليّة بأعدائها المشاهير، ونُقّادها الجُدد يلتحقون بـتراثٍ متنوّعٍ وحيويّ. في سنة 1843، السّنة التي تأسّست فيها الإيكونومست، كتب كارل ماركس: «سقطت الأردية البهيّة عن الليبراليّة، يقف الاستبداد الأبشع الآن عاريًّا أمام العالم كلّه ليراه». لقد استبعد نيتشه جون ستيوارت مِل، مؤلّف «عن الحريّة» (1859) ذاك النصّ المرجعيّ عن الليبراليّة،[5] بوصفه «أحمقَ». أشار نُقّادٌ في آسيا وأفريقيا المستعمَرتين – مثل آر. سي. دوت في الهند وسُن يات سين في الصين[6] – إلى تواطؤ الليبراليّة مع الإمبرياليّة الغربيّة. وكتب محمد عبده مفتي مصر: «ليبراليّتكم، نرى بوضوح، أنّها لكم وحدكم».[7] (وبالفعل، لقد بّرر جون ستيوارت مِل الاستعمار بحجّة أنّه ما سيؤدّي إلى تطوير «البرابرة»). لقد تأكَّدَ هذا التحامل ضدّ الليبراليّة على نطاقٍ أوسع بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى، حين أقرّ الرئيس الأمريكيّ ودرو ويلسون بالتفوّق الأبيض العالميّ وهو يقول إنّ «الليبراليّة هي الشيءُ الوحيدُ الذي يمكنه إنقاذُ الحضارةِ من الفوضى»، وذلك أثناء ترأسِّه اتفاقيّة السلام التي قسّمت غنائمَ الحربِ بين الإمبريالييّن الأوروبييّن.

هيّجت الليبراليّة آراء سلبيّة أخرى في ألمانيا وإيطاليا واليابان – ثلاث دول كانت تحاول حثيثةً أن تضاهي القوة الأنجلو-أمريكيّة اقتصاديًّا وجيوسياسيًّا. ولقد أشار مفكّرون بريطانيّون وأمريكيّون كُثُر، على اختلافِ مشاربهم، مثل رينولد نيبور وجون غراي،[8] إلى أنّ الليبراليّة ذاتُ علاقةٍ مرتبكةٍ بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان، وأنّها أيضًا ذاتُ إيمانٍ مسرفٍ في اطمئنانه إلى العقلانيّة والتقّدم. ولكنّ كلَّ هذه الانتقادات العديدة لليبراليّة، قد جاءت من سياقات اقتصاديّة وسياسيّة مختلفة، فهي تُصعّب علينا إدراك ما الذي يُنتقَد تحديدًا.

ينشأ كثيرٌ من الارتباك حول هذه الفلسفة عن الحريّة الفرديّة؛ ذلك أنّ الليبراليّة تنطوي على معنَيَيْن: التحرّر من تنظيم الدولة للحياةِ الاقتصاديّة – وهو التعريف الأكثر رواجًا في العقود الأخيرة الذي يجعل الليبراليّة مشاكِلةً لليبرتاليّة[9] –وتنطوي أيضًا على مطالبة الحكومة بضمان حدٍّ أدنى من العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وهو موقفٌ يُجسّده تقدميّو «الصفقة الجديدة»[10] في الولايات المتحدة وحكومات ما بعد الحرب العالميّة الثانية في بريطانيا.

يتأرجح أبرز رموز الليبراليّة المرجعيّين بين هذه الالتزامات المتناقضة. لقد وصف جون ستيوارت مِل، الليبراليّ الأوّل في نظر كثيرين، نفسه أيضًا بالاشتراكيّ، مُحدّدًا هدفًا ستجده الإيكونومست – بالتأكيد – غيرَ ليبراليّ: «الملكيّة المشتركة للموادّ الخام في العالم». وصنّف جون ديوي[11] نفسه «ليبراليًّا» ما إنْ صار المذهبُ متداولًا في الولايات المتحدة في بدايات القرن العشرين. والكساد العظيم[12]هو ما فرض عليه أن يستنتج، في سنة 1935، أنّ «الاقتصاد الاشتراكيّ وسيلة تحقيق التطوّر الفرديّ الحرّ». أيّد أيزيا برلين[13] عدم التدخّل من الحكومة بصفته المفهوم الأرفع مقامًا من بين ما سمّاه في محاضرته الشهيرة سنة 1958: «مفهومان للحريّة». وبعد ذلك بإحدى عشرة سنة، صار برلين يرى أنّ مثل هذه «الحريّة السلبيّة» تُنشئ «سياساتٍ مدمِّرة سياسيًّا واجتماعيًّا» يتسلّحُ بها «القادرون والقُساة في مواجهة أولئك الأقلّ موهبةً والأقلّ حظًّا».

من المغري أن نقفزَ عبر ثلاثةِ قرونٍ ونُحدّد موقعَ نواةِ الليبراليّة الرّاسخة في كتاباتِ جون لوك عن العقلانيّة الفرديّة، والتسامح، وحقوق الملكيّة. ففي النهاية، يصرّ أيزيا برلين على أنّ الليبراليّة كانت «ابتكارًا إنجليزيًّا». ولكنّ لوك، المسيحيَّ الملتزمَ صاحبَ الأسهمِ في شركةٍ مبيحةٍ للاسترقاق، ما عُدَّ فيلسوفًا ليبراليًّا إلا مع منتصف القرن العشرين. هذا صحيح، فقد جادل باحثون معاصرون في إنّ الاتساقَ الداخليّ والنَّسَبَ الفكريّ لليبراليّة لم يوجَدا إلا حين اعتُمدت الليبراليّة بصفتها «الآخر» المقابل للأيديولوجيّات «الشموليّة» عند كلٍّ من اليسار واليمين. ومع بدء الحرب الباردة، غدا المصطلحُ مرادفًا لكلّ من «الديمقراطيّة»، و«الرأسماليّة»، و«الغرب» بصفةٍ عامة؛ وأدّت حُظْوَتُه الأخلاقيّة إلى ابتكار مصطلحات مثل «الرأسماليّة الليبراليّة» و«الديمقراطيّة الليبراليّة». وبهذا استطاع ليونِل تريلينغ[14] أن يزعم في سنة 1950 أنّ الليبراليّة في أمريكا «ليست التقليدَ الفكريَّ المُهيمِن فحسب، إنّها التقليد الوحيد». وبعد أن أُعيد انبثاقها بصفتها «الديانةَ المقاتلة»، وذلك إثر هجمات 11-9 الإرهابيّة، بدا أنّ الليبراليّة، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، صارت تُعرِّف الغرب مقابلًا للأعداء غير الليبراليّين، مثل الفاشيّة الإسلامويّة والشموليّة الصينيّة.

تُجنّد مجلّة الإيكونومست نفسَها بفخر في هذا التقليد الأنجلو-أمريكيّ القتاليّ، الذي تبلور، إن لم يكن قد اختُرع، إبّان الحرب الباردة. في السّنة الماضية[15] صرّحت المجلّة من خلال سرديّتها الخاصّة لصناعة العالم الحديث: «انتشرت الليبراليّة في القرنين التاسع عشر والعشرين على خلفيّة هيمنة البحريّة البريطانيّة متبوعةً بالصعود الاقتصاديّ والعسكريّ للولايات المتّحدة». يُلزم ألكسندر زيفين مجلّة الإيكونومست بكلامها في كتابه «العالم وفقًا للإيكونومست: بقلم الليبراليّة» الذي يؤرّخ فيه للمجلّة، ويتفحّص أقوال وأفعال نخبة أنجلو-أمريكيّة لا يُستهان بها، تزعمُ منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى اليوم أنّها ليبراليّة تعمل على تطوير الليبراليّة عالميًّا، وتخدم مصالحها. هذه المنهجيّة تُجلّي الكثير من التشويش المفاهيميّ حول الليبراليّة، وتفتحُ النّظَرَ على الليبراليّات الموجودة بالفعل والمُمارَسة على نطاقٍ واسع على مدى 175 سنة: إنّها توضّح الكيفيّة التي صنعت بها تلك النُّخُبُ العالمَ الحديث – بفضل القوى العسكريّة والثقافيّة والاقتصاديّة البريطانيّة ولاحقًا الأمريكيّة – وإن لم تصنعه على النحو الذي يتوهّمه كُثُر ممّن يصفون أنفسهم بالليبراليّين.

صدّرت الإيكونومست نفسها، منذ بداية تسعينيّات القرن الماضي، بصفتها الصوت اللّبق ذا اللّكنة البريطانيّة النّاطق باسمِ العولمة.

لقد وجد زيفين، الأستاذ في جامعة مدينة نيويورك CUNY، في الإيكونومست – المجلّة المتفرّدة انتشارًا وتأثيرًا – موضوعًا مفيدًا على نحوٍ استثنائيّ، يُتعجّب من إهمال الباحثين له في السابق. في خمسينيّات القرن التاسع عشر عدَّ ماركس هذه المجلّة الأسبوعيّة الصادرة في لندن معبّرةً عن هموم «الأرستقراطيّة الاقتصاديّة» البريطانيّة. في سنة 1895، أعلن ودرو ويلسون أن المجلّة تكاد تكون «عناية إلهيّة اقتصاديّة لرجال الأعمال على جانبيْ المحيط الأطلسي.» (تغزّل ويلسون، المهووس بالثقافة البريطانيّة، بزوجته الصّبورة – كما هو واضح – باقتباسات من والتر باجت، أشهر محرّري الإيكونومست). وعلى الرّغم من كون المجلّة قد افتخرت طويلًا بقرّائها الحصريّين، فإنّها الآن تحظى بما يدنو من المليون مشترك في أمريكا الشماليّة (أكثر مما لديها من قرّاء في بريطانيا)، وثلاثمئة ألفٍ آخرين في باقي العالم. صدّرت الإيكونومست نفسها – إلى جانب صحيفة الفاينانشل تايمز – منذ بداية تسعينيّات القرن الماضي، بصفتها الصوت اللّبق ذا اللّكنة البريطانيّة النّاطق باسمِ العولمة (متجاوزةً بتفوّق مجلة وول ستريت جورنال الأمريكية، الميّالة بشدّة للتحزّب).

وفقًا لإحصائيّات المجلّة ذاتها، فإنّ قُرّاء الإيكونومست هم الأغنى بين قرّاء الدوريّات، والأكثر ترفًا على الإطلاق؛ أكثر من 20% من هؤلاء زعموا مرّةً أنّهم يمتلكون «قبوًا للنبيذ المعتّق». ومثل أستون مارتن وبربري، وغيرهما من العلامات التجاريّة البريطانيّة العالميّة، تستحضر الإيكونومست بريق النخبويّة. يقول أحد إعلاناتها: «حين تبلغ القمّة تصيرُ وحيدًا، ورغم ذلك لديك على الأقلّ شيءٌ لتقرأه». كانت مقالاتها – التي يكادُ أغلبُها أن يخلوَ من أيّ نسبةٍ لمؤلفّين –حتّى زمنٍ قريب تُحرّر في مكتبٍ في منطقة سانت جيمز في لندن، معقل الإنجليزيّة الفاخرة، بما فيها من نوادٍ، وتجّار سيجار، وصانعي قبّعات، وخيّاطين حصريّين. رئيسة التحرير الحاليّة هي أوّل امرأةٍ – على الإطلاق – تتولّى هذا المنصب في المجلّة. فريقُ العمل أكثرُه من البيض، يُوظَّفون غالبًا من جامعتي أوكسفورد وكيمبريدج – وقد جاء العدد الأكبر من رؤساء تحرير المجلّة من كلّية واحدة في أوكسفورد، كلية ماجدلين. ولقد أخبر غيديون راخمان، المحرّر السابق في الإيكونومست الذي صار الآن كاتبًا في الفاينانشل تايمز، زيفين أنّ «نقص التعدّديّة مزيّة»، موضّحًا أنّه السبب في إنتاج وجهة نظر توافقيّة ومتّسقة.

وبالفعل، فإن كُتّاب المجلّة لا يتحرّجون من إضافة وصفاتِهم العلاجيّة (كيفيّة إصلاح مشاكل السُّلطة في الهند، مثلًا) إلى تقاريرهم وتحليلاتهم. المقالات في الغالبِ قصيرة، لكنّ التّغطية شاسعةٌ: عددٌ واحد قد يُغطّي التمرّد في جنوب تايلاند، مواصلات النّقل العام في جاكارتا، أسعار السِّلع، والتطوّرات الحديثة في الذّكاء الاصطناعي. يضمنُ هذا الجوُّ، من المعرفةِ الكليّة في التحرير الموجَز للمجلّة، إمكانيّةَ توفّرها في أيباد خبيرٍ طموحٍ من خبراء مصانع الفكر[16] في نيودلهي بقدر إمكانيّة توفّرها في طائرة بيل جيتس الخاصّة.

إن زيفين – بسبب الخبرة الواضحة التي اكتسبها في أرشيف المجلّة –، يمتلك معرفةً عميقةً بخفايا أعمالها، وعلاقاتها التاريخيّة بالسُّلطات السياسيّة والاقتصاديّة. إنّه يبيّن لنا كيفيّة تسيُّدِ محرّري المجلّة وكتّابها للباب الدوّار بين الإعلام والسياسة والتّجارة والاقتصاد – خرّيجو المجلّة انطلقوا لتولّي أعمالٍ ذات مناصب، مثل حاكم المصرف المركزيّ لإنجلترا، رئيس وزراء بريطانيا، ورئيس إيطاليا – يُبيّن لنا زيفين أيضًا كيفيّة تحديد هؤلاء الأشخاص، في مراحل جوهريّة من التاريخ، علاقة الليبراليّة المتغيّرة على الدوام مع الرأسماليّة، والإمبرياليّة، والديمقراطيّة، والحرب.

إنّنا نجدُ نسخةً مصغّرة من دراسة زيفين في مسيرة جيمس ويلسون المهنيّة؛ الأسكتلنديّ تاجر القبّعات المُتَعثّر في تجارته، الذي أسّس مجلّة الإيكونومست وصار رئيس تحريرها الأوّل. لقد آملَ ويلسون أن تتصدّى المجلّة الأسبوعيّة للضّرائب الزراعيّة، وأن تُطوّر وتنشر مبدأ التجارة الحرّة التي لا يقيّدها شيء – «لا شيء سوى المبادئ النقيّة»، كما وصفها. بعد نجاحه في قضيةٍ تدعمها المصالح التجاريّة – إلغاء الضرائب الزراعيّة سنة 1847 أو قوانين الذُّرة مثلما كانت تُسمّى حينئذ – انطلق ويلسون أكثر نشاطًا، ليُبشّرَ بالتجارة الحرّة ثم بصعود علم الاقتصاد. لقد صار عضوًا في البرلمان وتولّى عدّة مناصب في الحكومة البريطانيّة. لقد أسّس ويلسون أيضًا المصرف الآسيويّ، المعروف اليوم باسم ستانادارد تشارترد، الذي توسّعت أعماله سريعًا بفضل تجارة الأفيون مع الصين. وفي سنة 1859، تقلّد منصب وزير الماليّة البريطانيّ في [مستعمرة] الهند. بعد سنة من تولّيه المنصب محاولًا إعادة تشكيل النظام الماليّ للبلاد، فارق الحياة.

أثناء مهنته القصيرة، صحفيًّا منافحًا بحزمٍ عن معتقداته الليبراليّة، وضّح ويليسون في فترةٍ وجيزة، ما عناه بقوله «مبادئ نقيّة». لقد ناهض حظر التبادل التجاريّ مع الدول التي تمارس الاستعباد متحجّجًا بأنّ الحظر «سيضرّ بالمستهلِكين البريطانيّين ويعاقب المستعبَدين». تجاوبًا مع المجاعة الإيرلنديّة، التي تسبّبت بها التجارة الحرّة إلى حدّ كبير، اقترح ويلسون مداواة الدّاء بالدّاء:[17] المزيد من التّجارة الحرّة. ومع تحوّل العناد الإيرلنديّ إلى مصدر إزعاج، ناشد ويلسون البريطانيّين الردّ «بقمعٍ قويّ، وحازم، ولكن عادل». كان ويلسون صارمًا بذات الدرجة مع أولئك الذين يعانون من تزايد اللامساواة في الوطن. من وجهة نظره، لقد كانت الحكومة خاطئة حين فرضت على شركات القطارات أن تُقدّم خدمةً أفضل للمسافرين في درجات العمّال، وقد كان مفروضًا عليهم حينذاك السّفَر في قاطراتٍ مكشوفة: «متى كانت الأرباح أعلى تحصيلًا، نالت العامّةُ خدماتٍ أفضل … تحدّون من الأرباح، فتقيّدون ممارسة الإبداع بألف طريقة». على هذه الأسس، عُدّ تشريعُ قانون المصانع، الذي قَصَر ساعات عمل النّساء على اثنتي عشرة ساعةً، ضارًّا هو الآخر. أمّا بالنسبةِ للتعليم العامّ، فيجب أن «يُترك [عامّةُ الناس] ليحصلوا على تعليمهم بأنفسهم مثلما يحصلون على طعامهم».

إنّ أقدم موقفٍ تبنّته الإيكونومست ونادرًا ما حادت عنه هو «إذا لم يكن السعي – المتاح بحريّة للجميع – نحو المصلحة الشخصيّة هو ما يضمن تحقيق الرّفاه العامّ، فلن يستطيع أي نظامٍ حكوميّ تحقيق ذلك». ومع هذا، فقد اتّضح أنّ الحكومة كانت دائمًا ضروريّة لهزيمة أعداء الليبراليّة. ومثلما وصف زيفين، فإنّ الحروبَ ضدّ روسيا والصين والنزاعات في الهند «هزّت الليبراليّة البريطانيّة في الوطن وأعادت تشكيلها في الخارج». لقد ادّعى أنصار التجارة الحرّة باستمرار أنّ ما فعلوه كان أفضل وسيلة للتحوّط ضدّ الحرب. ومع ذلك، فقد أثار البريطانيّون النزاعات بالتوسّع بقوّة في جميع أنحاء آسيا، وبفرض التجارة الحرّة بحدّ السلاح في كثيرٍ من الأحيان، وبالنسبة للإيكونومست فأينما تكون مصالحُ بريطانيا «الإمبرياليّة مهدّدة، تصيرُ الحربُ ضرورةً قصوى، يجب احتضانها».

بالنسبة للإيكونومست برئاسة ويلسون، فإنّ الهنود، مثل الإيرلنديّين، يمثّلون «شخصيّة السكّان الأصليّين … نصف طفلٍ، نصف همجيٍّ، تُسيّره غرائز مندفعة ولا عقلانيّة».

هذه الخيانة للمبدأ نفّرت كثيرين، من بينهم ريشتارد كوبدن، رجل الأعمال والدولة، الذي ساعد ويلسون في تأسيس الإيكونومست، وشاركه وجهاتِ نظره المبكّرة حول التجارة الحرّة بصفتها ضامنةً للسلام العالميّ. كانت الهند بالنسبة لكوبدن «بلادًا لا نعرفُ كيف نحكمها»، وكان الهنود مُحقّين في تمرّدهم على استبدادٍ أخرق. ولكن بالنسبة للإيكونومست برئاسة ويلسون، فإنّ الهنود، مثل الإيرلنديّين، يمثّلون «شخصيّة السكّان الأصليّين … نصف طفلٍ، نصف همجيٍّ، تُسيّره غرائز مندفعة ولا عقلانيّة». ناهيك عن أنّ «التجارة مع الهند ستلقى حتفها إذا تراجع النفوذ الإنجليزيّ». لقد رأى كوبدن في هذه المجادلات ضربًا من «السفسطة». لعلّه وجد مبرّرًا لموقفه في وجهة نظر الإيكونومست حول الاستعباد والحرب الأهليّة الأمريكيّة، تحت إدارة ثاني رؤساء تحريرها، والتر باجت، الذي وسّع جاذبية المجلّة التي ابتكرها حماه، وذلك بالإضفاء على سفسطتها بريقًا فكريًّا أكثر إغراءً. لقد كان باجت متعاطفًا شخصيًّا مع الكونفدراليّة، مقتنعًا أنّها لن تُهزم على أيدي الولايات الشماليّة، التي «كانت منازلاتها الأخرى ضدّ هنودٍ عُراة ومكسيكييّن منحطيّن وغير منظّمين». لقد آمن أيضًا أنّ إلغاء الاستعباد سيتحقّق بصورة مثلى إن انتصر الجنوب.[18] والأهمّ من كلّ ذلك، أنّ التجارة مع الولايات الجنوبيّة ستنالُ حريّةً أكبر.

في شرحه التفصيليّ لإساءة تقدير الإيكونومست المتكرّرة بشكلٍ مُذهِل، عبر القرنين التاسع عشر والعشرين، لا ينتهج زيفين نهج ناقدٍ من القرن الواحد والعشرين يتباهى بتفوّقه الأخلاقيّ. إنّه يبدو مهتمًّا حقًّا بكيفيّة «تحوّل» الرؤية الليبراليّة للحرّية الفرديّة والانسجام الدوليّ، حسبما وصف نيبور مرّة، «إلى الواقع المؤسف لرأسماليّة دوليّة لا تعترف بأيّ وازعٍ أخلاقي ولا أيّ ضوابط سياسيّة في مساعيها لبسط هيمنتها على العالم». تعرضُ دراسة زيفين الاجتماعيّة للنُّخب الليبراليّة كيفيّة تحوُّلِ الليبراليّة إلى أيديولوجيّة تُشرعن ذاتها، للأغنياء والأقوياء والطبقات الحاكمة المتشابكة، مثلما تعرض كيفيّة تغيّر المعنى الأصليّ لليبراليّة على يد دعاتها المتأخّرين، تحت ضغوطات التوسّع الرأسماليّ في الخارج والسّخط المتصاعد في الداخل.

 لقد لعب الطموحُ الشخصيّ دورًا رئيسًا في انمساخ الليبراليّة المطّرد. ترشّح باجت للبرلمان أربع مرّات عن الحزب الليبراليّ البريطانيّ. وبصفته ابنًا لعائلةِ مصرفيّين، رأى باجت أنّه يقدّم من خلال مجلّته مشورةً حكيمةً لجيلٍ جديدٍ من الاقتصاديّين البريطانيّين المُغامرين. ولقد تزامنت رئاسته للتحرير مع «عصر رأس المال»، حينما غيّر الاقتصاد البريطانيّ شكلَ الاقتصاد العالميّ، موسّعًا جني الطعام – في أمريكا الشماليّة وأوروبا الشرقيّة –، وتصنيع القطن في الهند، والتنقيب عن المعادن في أستراليا، وشبكات السّكك الحديديّة في كلّ مكان. يقول زيفين: «لقد وقع على الإيكونومست تحت إدارة باجت عبءَ رسمِ خريطةٍ لهذا العالم الجديد، وتوضيحِ الآراء النظريّة حول الاقتصاد السياسيّ للشعوب والأماكن التي كان رجال الأعمال يرسلون أموالهم إليها».

يصف زيفين وصفًا مُثمرًا كيفيّة تأقلم الليبراليّة مع المطالبة المتزايدة بالديمقراطيّة. إنّ باجت الذي قرأ أعمال جون سيتورات مِل وأُعجب به في شبابه، لم يتّفق معه في نهاية المطاف، إلا في الحاجة إلى تمدين السكّان الأصليّين لكلّ من إيرلندا والهند. ولقد رأى أنّ فكرةَ مِل حول توسيع نطاق حقّ الاقتراع ليشملَ النساء فكرةٌ سخيفة.[19] لم يستطع باجت أيضًا أن يؤيّد مُقتَرح مِل لدعم الطّبقات العاملة في بريطانيا، مذكّرًا قرّاءه أنّ «تحالف الطبقات الدُنيا سياسيًّا لتحقيق أهدافها، شرٌّ مستطير». لقد أشادت الإيكونومست – ولا عجب – بموسوليني (القارئ المخلص)، وذلك لأنّه خلّص الاقتصاد الإيطاليّ من اضطراباتٍ عُمّالية كانت تزعزعه.

مع بداية القرن العشرين، كانت المجلّة تتلمّس طريقها نحو إدراك أنّ الليبراليّة الكلاسيكيّة لا بدّ أن تُنظّم في مجتمعٍ صناعيٍّ متطوّر، وأنّ على الطبقات الحاكمة أن تتبنّى الضرائب التصاعديّة وأنظمة الرّعاية الاجتماعيّة الأساسيّة من أجل نزع فتيل السّخط المتصاعد. تَعرِضُ المجلّة هذا الانقلاب في المواقف على أنّه دليلٌ على ليبراليّتها البرغماتيّة. ويفضح زيفين الفعل بصفته استجابةً مُكْرَهَةٌ للضغوطات الديمقراطيّة من الأسفل. إضافةً إلى ذلك، كانت ثمة حدودٌ واضحة لتلك الليبراليّة المتعاطفة التي تبنّتها الإيكونومست حديثًا. حتّى العقد الأوّل من القرن العشرين، كان أحد رؤساء تحرير المجلّة، فرانسيس هيرست، مستمرًا في استهجان «النساء السليطات، الصارخات، المنازعات، المصارعات» اللاتي طالبنَ بحقّ الاقتراع رغم افتقارهنّ للقدرات العقلانيّة (مقارنته النساء المطالبات بحقّ الاقتراع بالعصابات الروسيّة والتركيّة – مثل قوله إنهنّ ينهبن «العهود الصادقة، وروابط الحبّ والمودّة، والشرف، والرومانسيّة» – ساهمت في دفع زوجته ذاتها إلى الانضمام إلى النضال المطالب بحقّ المرأة في الاقتراع).

 تعرضُ دراسة زيفين الاجتماعيّة للنُّخب الليبراليّة كيفيّة تحوُّلِ الليبراليّة إلى أيديولوجيّة تُشرعن ذاتها، للأغنياء والأقوياء والطبقات الحاكمة المتشابكة، مثلما تعرض كيفيّة تغيّر المعنى الأصليّ لليبراليّة على يد دعاتها المتأخّرين، تحت ضغوطات التوسّع الرأسماليّ في الخارج والسّخط المتصاعد في الداخل.

لقد أُرغمت الإيكونومست أخيرًا على التنازل عن مبادئها النقيّة، بفعلِ ارتفاع أعداد الناس الذين نالوا حقّ الاقتراع، وبسبب فشل آليّات السوق، مما أدّى إلى تمكين المستبدّين وتحفيز النزاعات الدوليّة. في كتابٍ صادرٍ سنة 1943 احتفاءً بالذكرى المئويّة للمجلّة، اعترف رئيسُ تحريرها في ذاك الوقت بأنّ عددًا كبيرًا من النّاخبين رأى «انعدام المساواة وتقلقل الأمن» مشكلةً جادّة. لم يَدُرْ الاختلاف مع الاشتراكيّين «حول أهدافهم، وإنّما كان الخلاف حول الوسائل التي اقترحوها لتحقيقها». لقد عكس هذا الموقف توافقًا شائعًا في كلا جانبيْ الأطلسيّ – توافقًا يرى أنّ على الحكومات أن تفعلَ المزيد لحماية مواطنيها من نظامٍ اقتصاديٍّ متقلّب بطبيعته. ولكن منذ ستينيّات القرن العشرين، أخذت الإيكونومست تُعيدُ بمثابرة ترسيخ مبادئها التأسيسيّة.

في خضمّ ذلك، أضاعت المجلّة فرصة إعادة تشكيل ليبراليّتها الإمبرياليّة لعصر ما بعد الاستعمار، بأن تجعل عقيدتها القديمة – المفروضة بالقوّة العسكريّة والتي كانت تدور حول حريّة تداول رأس المال والسّلع –، متوافقةً مع الواقع الجديد لدولٍ قوميّةٍ ذات سيادة تفتقرُ أنظمتها الاقتصاديّة للنّماء. ومثلما يسرد زيفين، لقد رأت الإيكونومست إنهاء الاستعمار ونشوء دول جديدة مستقلّة في آسيا وأفريقيا – الأمر الذي يمكن وصفه بأنّه أهمّ تطوّرات القرن العشرين – عبر ثنائيّة الحرب الباردة المتمثّلة في مقابلة عالمٍ «حرّ» لآخر «غير حرّ». ومع ذلك، فقد فشلت المجلّة، على عكس بعض ليبراليّي الحرب الباردة ذاتهم مثل ريموند آرون،[20] في التفاعل مع التحدّيات والمعضلات التي تواجه غالبيةً عظمى من سكّان العالم. على سبيل المثال، هل كان من الحكمة في شيء، بالنسبة لبلادٍ نالت سيادتها حديثًا، غالبيّة شعبها فقراء وأميّون، أن تُسرِعَ إلى احتضانِ السوق الحرّة قبل بناء الدولة والقدرات الصناعيّة؟ لقد اتّجه محرّرو المجلّة أكثر فأكثر بأنظارهم إلى الغرب المتحضّر لا الشرق النّامي من أجل استلهام الأفكار، وتطلّعوا – منفصلين عن الواقع – إلى كلّيات الاقتصاد ومصانع الفكر التي تسود فيها مبادئ ميلتون فريدمان وفريدريك هايك النيوليبراليّة النقيّة[21] بينما تغيب عنها مبادئ منظّري العدالة الليبراليّين من أمثال جون رولز، ورونالد دوركن، وأمارتيا سين[22].

في ثمانينيّات القرن العشرين، أدّى تشجيع المجلّة لاعتناق مارغريت ثاتشر ورونالد ريغن للنيوليبراليّة إلى ارتفاعٍ شديد في مبيعاتها في أمريكا (لقد شكر ريغن رئيس تحرير المجلّة آنذاك شخصيًّا على دعمه خلال مأدبة عشاء أقيمت في البيت الأبيض). وقد علّق دين أكيسون[23] تعليقًا شهيرًا قال فيه إنّ «بريطانيا العظمى فقدت إمبراطوريّتها ولم تعثر على دورٍ جديدٍ بعد». لم يسْكُن قلقُ المكانةِ هذا الإيكونومست؛ فقد عَبَرَتْ المحيط الأطلسيّ لتكوّن صداقاتٍ جديدة وتؤثّر على المزيد من الناس بمجادلتها في إنّ سبب إعاقة النّمو هو تسويات ما بعد الحرب في بريطانيا وأمريكا. بعد بعض الاستياء الأوّلي من الهيمنة العالميّة الجديدة، وهو أمرٌ شائعٌ بين النُّخَب البريطانيّة بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية، عدّلت الإيكونومست موقفها لملاءمة «السلام الأمريكيّ»؛[24] فصارت تُجِلّ الولايات المتحدة بصفتها – حسب تعبير أحد رؤساء التحرير – «أخًا كبيرًا عملاقًا، مصدرَ طمأنينةٍ وثقةٍ واستقرارٍ لأفراد العائلة الأضعف، وقلقٍ وارتيابٍ لأيّ متنمّر ناشئ».

أشادت الإيكونومست – ولا عجب – بموسوليني (القارئ المخلص)، وذلك لأنّه خلّص الاقتصاد الإيطاليّ من اضطراباتٍ عُمّالية كانت تزعزعه.

كان هذا يعني دعمًا قويًّا للتدخّل الأمريكيّ في الخارج، بدءًا بفيتنام، التي كانت تغطية المجلّة لها «بروباغاندا محضة لوكالة الاستخبارات الأمريكيّة»، حسب قول المؤرّخ والكاتب السابق في المجلّة هيو بورغان لزيفين. ومع تلطيفها اللّغوي لفظائع الحرب مستترةً خلْفَ المجاز – أحداثٌ مثل مجزرة ماي لي وُصفت على أنها «تقاسيم صغرى في اللّحن العام لقابليّة الرجال للخطأ في الحرب» – كانت المجلّة سنة 1972، بعد القصف الساحق لشمال فيتنام، تشتكي رقّة هينري كسينجر المُبالغ فيها تجاه الفيتناميّين الشماليّين. لقد جعلت سياسة الوفاء للأخ الأكبر العملاق بعض المروّجين لليبراليّة قابلين أكثر مما يجب للخداع. يروي زيفين قصصًا نابضة عن بعض محاربي المجلّة الباردين،[25] مثل روبرت موس، الذي عمل بجدٍّ لتهيئة الرأي الدوليّ لقبول الانقلاب العسكريّ في تشيلي بهدف إسقاط رئيسها المُنتخَب ديمقراطيًا سيلفادور أليندي سنة 1973. من وجهة نظر موس، فإنّ «جنرالات تشيلي توصّلوا إلى نتيجة مفادُها أنّ الديمقراطية لا تمتلك الحقّ في الانتحار». (عبّر الجنرالات عن عرفانهم من خلال شراء وتوزيع 9,750 نسخة من الإيكونومست). يقصّ زيفين نبأ تلقّيه خبر وفاة أليندي في لندن، واصفًا رقص موس في أروقة مكتب الإيكونومست وهو يُنشِد «عدوّي مات!». انتقل موس بعد ذلك لتولّي رئاسة تحرير مجلّة يمتلكها أناستازيو سوموزا، ديكتاتور نيكاراغوا المدعوم من الولايات المتحدة.

بعد سقوط الأنظمة الشيوعيّة سنة 1989، تبنّت الإيكونومست بحماس دورًا ناشطًا في روسيا وأوروبا الشرقيّة، مُتسلّحةً بشعارات الخصخصة ونزع القيود الحكوميّة. ابتكر جيفري ساكس، أحد «شباب هارفرد» الذين كانوا يروّجون لفكرة «الأنظمة الاقتصاديّة الانتقاليّة»[26] في أوروبا الشرقيّة وروسيا، مصطلحَ «علاج الصدمات» في مقالة خاصّة كتبها للإيكونومست سنة 1990 تحت عنوانٍ لينينيٍّ ملائم «ما العمل؟».[27] لقد بلغت إعادة الهندسة الاجتماعيّة-الاقتصاديّة العنيفة، التي أوصى بها شباب هارفرد وأوكسبردج،[28] ذروتها في انهيار الاقتصاد الروسيّ على نفسه سنة 1998، مُمهّدةً الطريق لمستبدٍّ شعبويّ، بَزَغَ بشكلٍ رسميّ سنة 2000 متعهّدًا بإعادة النظام. في نوفمبر 1997، قبل تلك الكارثة التي مكّنت بوتين من الوصول إلى السلطة ببضعة أشهر، كانت الإيكونومست مستمرةً في مدح «ديناميكيّة، نشاط، ورؤية» أناتولي تشوبيس، السياسيّ الذي أدّى بيعُه أملاك روسيا إلى الأوليغاركيّين إلى جعله أكثر شخصيّة سياسيّة مكروهة في البلاد آنذاك. في سنة 2009، ذكرت دراسةٌ منشورةٌ في مجلّة اللانست الطبيّة أنّ «علاج الصدمات» ذاك تسبّب في الوفاة المبكّرة لملايين الرّوس، أغلبهم رجالٌ في سنّ العمل. لم تَكُنْ المجلّةُ نادمةً في ردّها، وأصرّت على أنّ «مأساة روسيا هي أنّ الإصلاح جاء ببطءٍ شديدٍ لا بسرعةٍ كبيرة».

في ثمانينيّات القرن العشرين، أدّى تشجيع المجلّة لاعتناق مارغريت ثاتشر ورونالد ريغن للنيوليبراليّة إلى ارتفاعٍ شديد في مبيعاتها في أمريكا.

نالت الإيكونومست في العقود الأخيرة أكثر من أيّ وقتٍ مضى فرصًا متزايدة لقول حقائقها للسّلطة، وذلك حين كان رؤساء تحريرها يتناولون العشاء في البيت الأبيض وفي بيت رئيس وزراء بريطانيا، أو يذهبون إلى العمل في الحكومة البريطانيّة أو في مصرف إنجلترا المركزيّ. الآن، ومع انهيار الطّبقة السياسيّة على ضفّتي المحيط الأطلسيّ، صارت الإيكونومست أكثر وحدةً في القمّة من أيّ وقتٍ مضى في تاريخ وجودها. إنّ السؤال المنشور على غلاف المجلّة في أكتوبر 2019 – «من يستطيع أن يثق في أمريكا ترمب؟» – يُلخّص بحسرةٍ الدمار الذي أحدثته الهزّات الأرضيّة السياسيّة الأخيرة في المسلّمات التي نمت أثناء الحرب الباردة وسمنت على نحوٍ غير صحّي بعد نهاية التاريخ. في سنة 2006 أشاد ملفٌّ منشورٌ على غلاف الإيكونومست بسيطرة بنك غولدمان ساكس على المخاطر، مادحًا «تطوير أسواقٍ ضخمة مبنيّة على المبادلات والاشتقاقات، وغيرها من الأدوات الماليّة المعقّدة التي غالبًّا ما يكتنفها الغموض».[29] حين انفجرت الأزمة الماليّة، تجاوزت المجلّة توجّسها الغريزيّ من التدخّل الحكوميّ لكي تدعم إنقاذ البنوك بأموال دافعي الضرائب، بحجّة أنّ «هذا هو الوقت المناسب لوضع العقيدة والسياسة في جانبٍ واحد». وقد خَلُصَتْ إلى أنّ «اللّوم يقع على الناس الذين يتحكّمون في النّظام، لا على النّظام ذاته». وبناءً على ذلك، استمرّت المجلّة في الدّفاع عن النّظام وعن كلّ ما يجعله غير قابلٍ للهزيمة: الرسوم المتدنيّة، الخصخصة الواسعة، والإسراع في تصغير حجم القطاع العامّ.

بعد أن عوقبت المجلّة أخيرًا، إن لم يكن بسبب الأزمة الماليّة فبسبب عواقبها السياسيّة المروّعة، تنازلت وأقرّت في المانيفستو الذي أصدرته السّنة الماضية [2018] «لتجديد الليبراليّة»، أنّ «الليبرالييّن قد توافقوا أكثر ممّا يجب مع السلطة» وأنّهم يُرَوْن على أنهّم «يخدمون مصالحهم، ولا يستطيعون، أو لا يرغبون في حلّ مشاكل الناس العاديّين». تأملُ المجلّة الآن في إعادة ابتكار «ليبراليّة تخدم الناس». ولكنّ أولئك الذين قد يجدون في أنفسهم ميلًا لقول «هاتوا ما عندكم» لن يشجّعهم مانيفستو يقتبس بإعجاب كلام ميلتون فريدمان عن الحاجة لـ«الراديكاليّة» – لن يشجّعهم مانيفستو يسخر من «الأجيال الأصغر سنًّا» التي لا ترغبُ في القتال من أجل «نظام العالم الليبراليّ» القديم، بينما يُعيد في الوقت ذاته إحياء خيال جون ماكين حول «رابطة دول ديمقراطيّة» تكون بديلًا عن الأمم المتّحدة. حذّر ملفٌّ حديثٌ على غلاف المجلّة «رؤساء العمل الأمريكيّين» من مخططات إليزابيث وارن لمعالجة انعدام تساوي الفرص، بينما أعاد إحياء مفاهيم فريدمانيّة عن قدرة «التدمير الإبداعيّ» و«طاقة السوق الديناميكيّة» على مساعدة «أمريكيّي الطبقة الوسطى».[30]

إنّ الإيكونومست، دون أدنى شكٍّ، صادقةٌ في رغبتها في أن تصير أكثر «تيقّظًا». لقد سارعت المجلّة، سنة 2002، إلى الدّفاع عن بيورن لومبورغ، المُشكّك في التغيّر المناخيّ العالميّ،[31] إلا إنّنا نجدها هذا الخريف تخصّصُ عددًا كاملًا لأزمة المناخ. إنّها تسعى للحصول على عددٍ أكبر من القارئات، وفق إرشادات وجّهتها المجلّة سنة 2016 للراغبين بنشر الإعلانات فيها. وهي أيضًا حريصة على تبديد الانطباع الذي يرى أنّ المجلّة «كتيّب إرشادات مُتَعَجرِف ومملّ لرجالٍ عفى عليهم الدهر». ومع ذلك، فقد تجد الإيكونومست، أكثر من معظم المؤسّسات الأنجلو-أمريكيّة القديمة، صعوبةً أكبر في مراجعة وضبط امتيازاتها. إنّ عجزها لا ينبعُ فقط من ثقافتها الفكريّة ضيّقة الأفق والمتعنّتة في عدم تنوّعها، وإنّما ينبعُ أيضًا من أسلوب المجلّة الخاصّ في التحرير الذي يميل كثيرًا إلى التناقض. في سنة 2014، نُشرت مراجعةٌ لكتاب بعنوان «تاريخٌ ناقص: الاستعباد وصناعة الرأسماليّة الأمريكيّة»؛[32] اتّهمت المراجعةُ مؤلّفَ الكتاب بـ«اللاموضوعيّة» مستاءةً من كون «أغلب السّود في كتابه ضحايا، ومعظمُ البيض أشرار». أزالت المجلّة تلك المراجعة بعد موجة انتقادات. ومع ذلك، فإنّ العنوان[33] الذي نُشر مؤخّرًا لمقالة تؤيّد مساعي الحاكم البرازيليّ في الخصخصة ونزع القيود الحكوميّة «جايير بولسونارو شعبويٌّ خطيرٌ، يتبنّى بضع أفكارٍ جيّدة»، يؤكّد أنّه من الصّعب تخفيف النبرة التي وصف بها الصحفيُّ جيمز فالوز أسلوب المجلّةُ: «الأسلوب الجدليّ لنادي مناظرات أوكسفورد». إنّه أسلوبٌ ذو موقفٍ شديد «الثقة بصحّته وتفوّقه».

كانت الإيكونومست سنة 1972، بعد القصف الساحق لشمال فيتنام، تشتكي رقّة هينري كسينجر المُبالغ فيها تجاه الفيتناميّين الشماليّين.

إنّ استهتارَ الليبراليّين بالواقع ترسّخَ نتيجة قناعتهم أنّهم صنعوا العالمَ الجديد. وإن أحدًا لن يرى تهافت هذه القناعة إلا في المجتمعات البريطانيّة والأمريكيّة المتشظيّة الساخطة. الغوغائيّان أشعثا الشَّعْر اللّذان يحكُمان أقدم دولتين ديمقراطيّتين «ليبراليّتين» في العالم يُثبتان أنّ طبقةً حاكمةً فشلت في استبصار أزمة ماليّة عالميّة – بل حتى إنّها ساهمت في تمكينها أيديولوجيًّا –، وأشرفت بهدوء على مستوياتٍ لا تُطاق من الظلم المتصاعد، ونهبت أجزاءً كبيرة من الشّرق الأوسط ووسط آسيا وشمال أفريقيا بتدخّلات عسكريّة رعناء، قد فقدت سلطتها وشرعيّتها. إنّ سمعة إنجلترا – بصفتها مجتمعًا ليبراليًّا مثاليًّا – تلك السُّمعة التي لعبت دورّا محوريًّا في ليبراليّة الحرب الباردة، قد تحطّمت وسط كارثة خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبيّ.

بالنسبة للشباب والشابّات، على وجه الخصوص، فإن الأُطر القديمة لليبراليّة تُقيّد الإمكانيّات السياسيّة. ومع ذلك، علينا أن نتذكّر أنّ هؤلاء النُقاد الجُدد لليبراليّة لا يرمون إلى تدمير بل إلى تحقيق وعود الليبراليّة بالحرّية الفردية. إنّهم يسعون، كما سعى جون ديوي، إلى العثور على نُظُم سياسيّة واقتصاديّة مناسبة في عالمٍ يتغيّرُ سريعًا – ليبراليّة للناس، وليست لشبكات حكّامهم فقط. من هذا المنطلق، ليست الليبراليّة ذاتها التي تواجه أزمة بقدر ما هم أولئك الذين نصّبوا أنفسهم مدافعين عنها، والذين يراهم كثيرون، على نحوٍ لا يخلو من عقلانيّة، متواطئين في تدمير العالم الجديد.

  • الهوامش

    [1] Liberalism at Large: The World According to the Economist. Verso Books. 2019.
    تم التصرف في ترجمة عنوان الكتاب للحفاظ على المعنى الصحفي/التحريري الذي يشير إليه تعبير «at large».

    [2] Why Liberalism Failed (2018) يزعم مؤلّف الكتاب باتريك دينين، أستاذ العلوم السياسيّة المحافظ، أنّ الليبراليّة تنهار بسبب انتصارها، ويدعو فيه إلى تسليط الضوء على المشاكل التي تغزو المجتمعات الليبراليّة. الكتاب، رغم كونه نقدًا لليبراليّة (حسب زعمه)، استقبله ليبراليّون ومحافظون كُثُر بترحيب، مثل باراك أوباما.

    [3] Political correctness والتي تُترجم عادةً بالصوابيّة السياسيّة، ولكنّنا ارتأينا أنّ «الكياسة» أقرب للمعنى الإنجليزيّ.

    [4] يُقصد برفع أو نزع القيود الحكوميّة تخفيف رقابة الحكومة وتنظيمها للقطاع الاقتصاديّ. تحرص بعض الحكومات على تنظيم القطاع الاقتصاديّ من خلال قوانين تكافح ظواهر سلبيّة مثل التلاعب بالأسواق والتهرّب من الضرائب، أو تهدف لحماية حقوق العمّال أو حماية البيئة. بطبيعة الحال، يرى كثيرٌ من التجّار والشركات أنّ هذه القوانين تقيّد حريّة التجارة، فيسعون للتخلّص منها، بإلغاء القوانين واللوائح الإداريّة ذات الصلة. يُعدّ رفع القيود الحكومية من أبرز سمات النيوليبراليّة.

    النيوليبراليّة هي باختصار مذهب ليبراليّ، يسعى إلى العودة إلى جذور الليبراليّة الأصليّة عن طريق التركيز على «حريّة» الاقتصاد والسوق ولكن مع تفعيل دور الحكومة في تحقيق هذه «الحريّة» وحمايتها، ولذا يدعم أربابُها الخصخصة ورفع القيود الحكوميّة والعولمة الاقتصاديّة عن طريق تبنّي الحكومات لهذه السياسات الليبراليّة الاقتصاديّة وتطبيقها (الأمر الذي يُحقّق مصالح نُخب غنيّة على حساب الطبقات الأخرى). يُعدّ فريدريك هايك وميلتون فريدمان من أبرز منظّريها، بينما يُعدّ رونالد ريغن ومارغريت ثاتشر أبرز من طبّقها من السياسيّين/ات. للمزيد انظر/ي الهامش رقم 21.

    [5] جون ستيورات مِل (1806 – 1873)، فيلسوف إنجليزيّ ومفكّر سياسيّ واقتصاديّ، يُعدّ أحد أبرز مفكّري الليبراليّة الكلاسيكيّة. كتابه «عن الحريّة» من أهمّ الكتب المرجعيّة في التاريخ الغربيّ الليبراليّ، وذلك لترويجه مبدأ الفرديّة ونقده تدخّل الحكومات. يجدر بنا أن نذكر أن «الحريّة» عند مِل لم يُقصد بها إلّا حريّة المجتمع الأبيض، فأفكار مِل لم تخلُ من عنصريّة وإمبرياليّة.

    [6] روميش شندر دوت (1848 – 1909) كاتب واقتصاديّ ومُؤرّخ هنديّ. كتاباته عن المجتمع الهنديّ الصناعيّ والزراعيّ والاستغلال الإمبرياليّ للمستعمرات تُعدّ من أهمّ الكتابات التاريخيّة الاقتصاديّة. سُن يت سين (1866 – 1925) مفكّر سياسيّ ورجل دولة صينيّ. كان له دورٌ كبيرٌ في النّضالات الثوريّة الصينيّة، وفلسفته السياسيّة بعناصرها القوميّة والحقوقيّة والاشتراكيّة تُعدّ من الأسس التي بُنيت عليها الصين الحديثة.

    [7] هذا الاقتباس للإمام محمد عبده هو من مقابلة أجرتها معه جريدة بول مال جازيت Pall Mall Gazette في لندن بتاريخ 7 أغسطس 1884. الكلمة في اقتباس ميشرا هي liberalness، أما في المقابلة الإنجليزيّة الأصليّة يُستخدم مصطلح liberality، وفي ترجمة عثمان أمين تُرجمت الكلمة بالحريّة. التخبّط في معنى المصطلح واستخدامه طبيعيّ، ولكننا نرى أنّ المعنى الذي قصده محمد عبده قد لا يبتعد فعلًا عن الليبراليّة التي كان يُروّج لها في ذلك الزمن بصفتها مذهب التحرّر والحريّة. جاءت ترجمة عثمان أمين للفقرة كاملةً على هذا النحو: «إنّنا معشر المصريّين من أرباب حزب الحريّة كنّا نظنّ أنّ الإنجليز يناصرون قضية الحريّة، ولكننا لم نعد نعتقد بمثل هذه الظنون، فإنّ الحقائق أقوى وأبلغ من الكلام.. إنّنا نرى أنّ انتصاركم للحريّة هو انتصار لما فيه مصلحتكم، وإنّ عطفكم علينا كعطف الذئب على الحمل…»، انظر/ي الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، دار الشروق، القاهرة، 1993، ط1، الجزء الأول، ص715.

    [8] رينولد نيبور (1892 – 1971) عالم دين وأخلاق أمريكيّ، ومُفكّر سياسيّ واجتماعيّ. أثّرت كتاباته التي دعت إلى اعتناق الواقعيّة تأثيرًا كبيرًا على السياسة الأمريكيّة داخليًّا وخارجيًّا، كانت أفكاره السياسيّة والاجتماعيّة في البدايات لا تخلو من اشتراكيّة، ثم انقلب وصار ليبراليًّا. مدحه سياسيّون أمريكيّون كُثُر، من بينهم هيلاري كلينتون، ومادلين ألبرايت، وجون ماكين، وباراك أوباما، وجيمي كارتر. جون نيكولاس غراي (1948) فيلسوف سياسيّ بريطاني، له عدّة مؤلّفات عن الليبراليّة ووضع العالم. بدأ غراي حياته الفكريّة هو الآخر على جانب اليسار، قبل أن ينتقل إلى اليمين ثمّ إلى الوسط. كلا الرجلين ليبراليُّ الهوى، وإن لم تخلُ أعمالهما من نقد لليبراليّة، ولكن على عكس نيبور المسيحيّ الأخلاقيّ، فإن غراي ملحد ينتقد التعلّق بالأخلاق والإنسانيّة وتكاد نظرته للعالم أن تكون عدميّة.

    [9] الليبرتاليّة Libertarianism مذهب سياسيّ يضع الحريّة فوق أيّ اعتبار، وهو بذلك يتقاطع مع الليبراليّة في ترويج مفاهيم الحريّة الفرديّة ونقد التدخّل الحكوميّ، ولكنّه يختلف عنها في موقفه العدائيّ من السلطات والأنظمة السياسيّة والاقتصاديّة، التي تدعمها الليبراليّة وتستفيد منها.

    [10] الصفقة الجديدة (أو بالإمكان ترجمتها: الوضع الجديد)، هي سلسلة من المشاريع الإصلاحيّة التي طبّقها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت بين سنتي 1933 و1939، التي وفّرت دعمًا للمزارعين والعاطلين عن العمل والشباب وكبار السن، كما فرضت قيودًا وضوابط على القطاع الماليّ والمصرفيّ. كان هدف هذه الإصلاحات إنقاذ اقتصاد الولايات المتّحدة بعد الكساد الاقتصادي الذي أصابها، انظر/ي الهامش رقم 12

    [11] جون ديوي (1859 – 1952) فيلسوف وعالم نفس وباحث أمريكيّ، يعدُّ أحد أبرز أصوات الليبراليّة في التاريخ الأمريكيّ المعاصر.

    [12] كان الكساد العظيم انهيارًا اقتصاديًّا ضرب العالم في ثلاثينيّات القرن الماضي. وهو أسوأ انهيار اقتصاديّ أصاب العالم في القرن العشرين، انهارت فيه الأسواق الاقتصاديّة والدخل القوميّ حول العالم، وكانت الولايات المتّحدة إحدى أبرز الدول المتأثّرة بهذا الانهيار

    [13] أيزيا برلين (1909 – 1997) فيلسوف، ومفكّر سياسيّ واجتماعيّ، ومؤرّخ بريطانيّ الجنسيّة مولود في لاتفيا. من أبرز أعماله محاضرة «مفهومان للحريّة» وكتاب «القنفذ والثعلب». انتصر لليبراليّة وانتقد خصومها في أعماله.

    [14] ليونِل تريلينغ (1905 – 1975) كاتب وناقد أدبيّ أمريكيّ. كان أحد أبرز النقّاد الاجتماعيّين، وكان يميل في فكره السياسيّ إلى الليبراليّة، ورغم انتقاده للمحافظين إلا أن البعض عدّوه من المحافظين الجُدد

    [15] يقصد 2018.

    [16] يُقصد بمصانع الفكر think tanks تلك المؤسّسات والجمعيّات الاستشاريّة التي عادةً ما تكون مستقلة، إلا إنّ بعضها لا يصدر التقارير أو يُقدّم الاستشارات إلا وفق مصالح وميول الجهات المموّلة.

    [17] يستخدم ميشرا هنا مصطلح هوميوباثي Homeopathy نوع من الطبّ البديل الذي يحاول معالجة الأمراض بذات الشيء الذي تسبّب بها.

    [18] الحرب الأهليّة الأمريكيّة غنيّة عن التعريف، ولكن على سبيل توضيح السياق، فقد دارت الحرب الأهليّة بين الولايات الشماليّة (الفيدراليّة)، التي كانت تدعم الحكومة المركزيّة وقرار تحرير المستعبدين، والولايات الجنوبيّة (الكونفدراليّة) التي كانت تعارض تحرير المستعبدين.

    [19] تجدر الإشارة إلى أنّ أفكار مِل عن منح المرأة حقوقها كانت محصورة في منحِ بعض الامتيازات السياسيّة/الاقتصاديّة لنساء الطبقات الوسطى والعُليا (أي النساء المتمتّعات أصلًا بامتيازات خاصّة).

    [20] ريموند آرون (1905 – 1983) فيلسوف وباحث اجتماع وسياسة فرنسيّ. دافع عن الليبراليّة، وله كتابات كثيرة ينتقد فيها الماركسيّة، من أبرزها كتاب «أفيون المثقّفين» الذي عدّ فيه الماركسيّة ديانة المثقّفين أو أفيونهم، بتعبير كارل ماركس. يُعدّ من أبرز الفلاسفة الذين دخلوا ساحة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقيّ والغربيّ. في الأغلب يُشير ميشرا هنا إلى تفاعل آرون مع بعض القضايا الاستعماريّة مثل تفاعله مع الثورة الجزائريّة، حيث دعا آرون إلى خروج فرنسا من الجزائر. تجدر بنا الإشارة هنا إلى أنّ موقفه لم يكن مؤيّدًا لمطالب الجزائريّين المشروعة بقدر ما كان نقدًا لجرائم فرنسا ومحاولةً لإنقاذها من ذاتها دون اهتمام حقيقيّ بحريّة واستقلال الجزائريّين. لقد قال آرون: «لقد طالبت بخروج فرنسا من الجزائر. ولم يكن ذلك تأييدًا مُجرّدًا لاستقلال الجزائر، بل كان بسبب ما فعلته الحرب بفرنسا وشعبها ومؤسّساتها ومكانتها في العالم».

    [21] فريدريك هايك (1899 – 1992) عالم اقتصاد وفيلسوف بريطانيّ الجنسيّة نمساويّ المولد حائز على جائزة نوبل. اشتهر بدفاعه عن الليبراليّة الكلاسيكيّة، وأثّرت كتاباته تأثيرًا كبيرًا في الاقتصادييّن الرأسمالييّن والنيوليبرالييّن أمثال ميلتون فريدمان.

    ميلتون فريدمان (1912 – 2006) عالم اقتصاد أمريكيّ حائز على جائزة نوبل. تطرّق في كتاباته إلى مسائل الرأسماليّة والخصخصة ونزع القيود الحكوميّة، فدافع عن الرأسماليّة والسوق الحرّة. عمل فريدمان مستشارًا للرئيس الأمريكيّ رونالد ريغن ورئيسة الوزراء البريطانيّة مارغريت ثاتشر، الشهيرين بترسيخهما للنيوليبراليّة. وقد وصفته مجلّة الإيكونومست بعد وفاته بأنه أكثر الاقتصاديّين تأثيرًا في النصف الثاني من القرن العشرين وربّما في القرن كلّه.

    [22] جون رولز (1921 – 2002) فيلسوف سياسيّ وأخلاقيّ أمريكيّ. رونالد دوركن (1931 – 2013) فيلسوف وفقيه قانونيّ أمريكيّ. أمارتيا سين (1933) فيلسوف وعالم اقتصاديّ هنديّ. ورغم أنّ هؤلاء المنظّرين الثلاثة ليبراليّون سياسيًّا واقتصاديًّا، إلا إنّهم تميّزوا عن هايك وفريدمان ببحثهم في مفاهيم العدالة من نواحٍ أخلاقيّة واجتماعيّة وقانونيّة.

    [23] دين أكيسون (1893 – 1971) محامٍ وسياسيّ أمريكيّ. تولّى منصب وزير الخارجيّة الأمريكيّة تحت رئاسة هاري ترومان بين عامي 1949 و1953، وكان له دور كبير في تحديد سياسات الولايات المتّحدة الدوليّة خلال الحرب الباردة للحدّ من انتشار النفوذ السوفييتيّ.

    [24] السلام الأمريكي Pax Americana مصطلح يشير إلى السلام والاستقرار النسبيّ الذي عمّ العالم الغربيّ في الفترة التي تلت الحرب العالميّة الثانية. يوصف هذا السلام بالأمريكيّ نسبةً إلى صعود الولايات المتّحدة وهيمنتها في تلك الفترة بصفتها القوة العسكريّة والاقتصاديّة الأبرز في العالم. ولذلك قد يُستخدم المصطلح أيضًا للدلالة على مكانة الولايات المتّحدة في العالم.

    [25] المحاربون الباردون، في إشارة للحرب الباردة.

    [26] الاقتصاد الانتقالي أو المتحوّل هو اقتصاد يتحوّل من الاقتصاد المخطّط مركزيًّا إلى اقتصاد السوق.

    [27] الإشارة هنا هي إلى كتاب فلاديمير لينين «ما العمل؟»، وهو الكتاب الذي دعا فيه لينين إلى تشكيل أحزاب ماركسيّة ثوريّة تنشر الماركسيّة بين العمّال والطبقات الكادحة

    [28] يقصد ميشرا هنا النُّخب الغربيّة التي تتشكّل من رجال ارتادوا الجامعات الكبرى في الولايات المتّحدة وبريطانيا مثل هارفرد، وأوكسفورد، وكيمبريدج. مصطلح أوكسبردج منحوت من اسمي أوكسفورد وكيمبريدج.

    [29] هذه الأدوات الماليّة، بما فيها من تلاعب بالديون والقروض، هي التي أدّت في نهاية المطاف إلى الانهيار الاقتصاديّ الذي تسبّب في الأزمة الماليّة العالميّة سنة 2008.

    [30] جون ماكين (1936 – 2018) سياسيّ أمريكيّ يمينيّ محافظ، من الحزب الجمهوريّ. إليزابيث وارن (1949) سياسيّة أمريكيّة من الحزب الديمقراطيّ، لديها أفكار اشتراكيّة ناقدة للرأسماليّة وسياسات السوق الليبراليّة.

    [31] يستخدم ميشرا هنا مصطلح global warming أو الاحترار العالميّ، الذي تشيع ترجمته إلى العربية بمصطلح «الاحتباس الحراريّ». الاحتباس الحراريّ ترجمة أكثر توافقًا مع ظاهرة greenhouse effect، وهي ظاهرة احتباس الغازات والإشعاعات داخل الغلاف الجويّ وانعكاسها باتجاه الأرض. الظاهرة طبيعيّة وتساهم في توازن حرارة الكوكب، ولكن مع الاستهلاك البشريّ المتزايد للمحروقات وغيرها من المواد الملوّثة تزايدت نسبة الغازات والإشعاعات الأمر الذي أدّى إلى رفع حرارة الأرض، وهذه هي ظاهرة الاحترار أو التسخين العالمي global warming؛ فالاحترار العالميّ إذن نتيجة للاحتباس الحراريّ. تزايد الاحتباس الحراريّ وما ينتج عنه من احترار عالميّ يندرجان تحت ظواهر «التغيّر المناخيّ» لكوكب الأرض، ولذلك آثرنا استخدام مصطلح التغيّر المناخيّ لعمومه ولصحّته، تفاديًّا للارتباك في ترجمة مصطلحات الاحتباس والاحترار.

    [32] The Half Has Never Been Told: Slavery and the Making of American Capitalism. Edward E. Baptist. Basic Books. 2014 اخترنا ترجمة النصف الأوّل من عنوان الكتاب معنويًّا؛ ففكرة الكتاب هي كشف مدى ارتباط الاستعباد (بكلّ بشاعة تهجيره القسريّ وتعذيب المستعبدين واستغلالهم) بتطوّر وتوسّع الولايات المتّحدة الاقتصاديّ، وتقويض السرديّة الناقصة التي تعزل ظاهرة الاستعباد تاريخيًّا جاعلةً إياها مجرّد حادثة عابرة لا علاقة لها بموقع الولايات المتّحدة المتفوق اقتصاديًّا.

    [33] العنوان المذكور هنا ليس عنوان المقالة ذاتها، وإنما تعليقٌ مُرفقٌ مع المقالة نشرته المجلّة على حسابها في تويتر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية