الاتفاق السعودي الإيراني وأُفق التسوية في المنطقة: حوار مع فاطمة الصمادي

الأحد 04 حزيران 2023
الاتفاق السعودي الإيراني
صحف إيرانية تعرض أخبارًا عن الصفقة التي توسطت فيها الصين بين إيران والسعودية لإعادة تطبيع العلاقات. تصوير أتا كيناري. أ ف ب.

بعد قرابة عقد من قطع العلاقات الدبلوماسية والهجمات الإعلامية المتبادلة، تفاجأ كثيرون بإعلان السعودية وإيران، من بكين، عن الاتفاق على إعادة تطبيع علاقاتهما الدبلوماسية وتبادل السفراء، فضلًا عن فتح الباب لتطوير العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، ما وضع المنطقة برمتها أمام مرحلة من التسوية الإقليمية المحتملة. 

من أجل فهم أعمق للعلاقة السعودية الإيرانية، والأسباب التي قادت إلى التوصل لهذا الاتفاق، وما يحمله من فرص للطرفين، والحدود التي يمكن أن يقف عندها، وموقف قوى كالولايات المتحدة و«إسرائيل» منه، فضلًا عن تداعياته على المنطقة بما فيها الأردن، قابلنا الباحثة والأستاذة الجامعية الأردنية فاطمة الصمادي، وهي باحثة أولى في مركز الجزيرة للدراسات، مختصة في الشأن الإيراني، وحاصلة على درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة العلامة الطباطبائي في إيران. للصمادي عدد من الكتب والأبحاث المتعلقة بالشأن الإيراني، وهي تشرف في مركز الجزيرة للدراسات على الأبحاث المتعلقة بإيران وتركيا ووسط آسيا.

حبر: شهدت الأعوام الأخيرة عدة مبادرات لتسوية العلاقات بين القوى الإقليمية في المنطقة، كان آخرها عام 2019، لكنها لم تصل لنتيجة. ما الذي تغير بين عامي 2019 و2023 ليحمل القيادتين السعودية والإيرانية على إبرام الاتفاق الآن؟

فاطمة الصمادي: ما يزال لدي كثير من الأسئلة حول لماذا حدث هذا الاتفاق الآن، رغم أني أتابع هذا الملف منذ سنوات. لكن على أي حال، لنفهم هذا التحول ربما نحتاج لفهم أرضيات مهمة في العلاقة بين السعودية وإيران. 

أحد العوامل المهمة جدًا في بناء وتأطير العلاقة، وأحد المعوقات الكبيرة التي عصفت بها كذلك، هو موقع كلا البلدين في السياسة الخارجية الأمريكية. علينا أن نتذكر أنه قبل الثورة الإسلامية في إيران، سادت نظرية نيكسون حول «الركيزتين التوأمين» لضمان النفوذ العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة. إذ وزعت المهام بحيث تضمن إيران لها الجانب الأمني والعسكري والسياسي، في حين تضمن السعودية المصالح الاقتصادية الأمريكية. لذلك، في فترة الشاه، صيغت السياسة الخارجية الإيرانية وفق الأجندة الغربية فيما يتعلق، مثلًا، بمواجهة الاتحاد السوفييتي، وهذا كان له تأثير كبير على مجمل العلاقات العربية الإيرانية، وعلى وجه الخصوص العلاقات السعودية الإيرانية. 

التطور الذي أحدث خللًا في هذه المعادلة الأمريكية كان انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، وما أعقبه من السيطرة على السفارة الأمريكية في طهران ومسألة الرهائن وقطع العلاقة مع الولايات المتحدة. أطاح ذلك بواحدة من الركيزتين التوأمين، وانتقلت بعض الأدوار التي كانت تلعبها إيران في زمن الشاه للسعودية، لكن بقيت العلاقة بين إيران والسعودية متأثرة بالعامل الأمريكي. 

أحد أهم الأحداث التي أوجدت تحولات كبرى في العلاقة السعودية الإيرانية ودفعت نحو الاتفاق كان استهداف أرامكو عام 2022. أحدث هذا الاستهداف نوعًا من التحول في الوعي السعودي، لأنه طرح أسئلة كبرى حول مدى جدية الحليف الأمريكي في رعاية مصالح السعودية.

المسألة الأخرى المهمة كأرضية لفهم العلاقة بين البلدين هي مسألة التنافسية، على مستوى الإقليم، وعلى مستوى العالم الإسلامي. فكلتا الدولتين حاولت أن تجعل نفسها محورية في العالم الإسلامي، وهذا أوجد تنافسًا كبيرًا أخذ أبعادًا صراعية بسبب البعد المذهبي. يضاف إلى ذلك مسائل أخرى تتعلق بالبنية الأيديولوجية لكل دولة، وخاصة للجمهورية الإسلامية، والطروحات الثورية المتعلقة بتصدير الثورة، وخطاب المستضعفين، ومركزية القضية الفلسطينية. 

شكلت هذه العوامل أرضية حكمت العلاقة على مدى عقود، وكانت السبب في أن مبادرات تحسين العلاقة تفشل أو تنتكس، وكانت الثورات العربية واحدة من التجليات الكبرى لهذه الحالة. لذا فإن هذا الصراع الذي تواجد في أكثر من دولة هو مؤشر على التنافسية العالية بين الدولتين، وليس بالضرورة على موقف كل دولة من هذه الثورات.

لكن في ظني، أحد أهم الأحداث التي أوجدت تحولات كبرى في العلاقة ودفعت نحو الاتفاق كان استهداف أرامكو عام 2022. أحدث استهداف أرامكو نوعًا من التحول في الوعي السعودي، لأنه طرح أسئلة كبرى حول مدى جدية الحليف الأمريكي في رعاية مصالح السعودية. كنت أستمع إلى مقابلة مع مسؤول سعودي يتحدث فيها عن يوم استهداف أرامكو، واصفًا إياه بأسوأ يوم مرّ على المملكة العربية السعودية. فقد أصبحت جماعة أنصار الله تشكل تهديدًا أمنيًا مباشرًا للسعودية، والحليف الأمريكي غير قادر أو ليس لديه الرغبة في أن يقدم لها الحماية. لذلك، أظن أن هذه نقطة جوهرية ربما تؤشر إلى تحول في السياسة الخارجية السعودية، وهذا ما سنختبره في الأيام القادمة. 

المسألة الأخرى تتعلق بالطموحات الاقتصادية الناشئة في العهد الجديد في السعودية. هناك مشاريع وخطط اقتصادية كبيرة جدًا، وهذه الخطط لا يمكن أن تنجز في بيئة متوترة إقليميًا، خاصة مع دولة مثل إيران. لأنه إذا كانت السعودية واحدة من مصادر الطاقة الحيوية في العالم، فإن إيران تسيطر على مضيق هرمز، ومن الممكن أن تحدث نوعًا من الخلل في سريان الطاقة، بمعنى أن تحرم السعودية من مصادر دخل كبيرة جدًا. لذلك، هذه التسوية ضرورية من أجل الطموحات الاقتصادية السعودية.

في المقابل، الطرح الذي جاء به الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يقوم على تحييد العقوبات ضمن خطة سياسية اقتصادية تقوم على التوجه شرقًا، بالتركيز على العلاقة مع روسيا والصين، وأولوية الجوار، من أجل الوصول إلى مخارج اقتصادية وسياسية. وأولوية الجوار لا يمكن أن تتم وإيران على خلاف كبير مع دولة مثل السعودية. لذلك كانت إيران تحتاج هذه الحلحلة للتعامل مع العقوبات، وكانت السعودية تحتاجها لوقف التهديد الأمني الذي بات يشكله أنصار الله.

بالنظر إلى ما سبق، إلى أي مدى يعبّر الاتفاق السعودي الإيراني عن تحول جوهري في نظرة البلدين تجاه بعضهما؟ 

منذ سنوات، أجريتُ دراسة حول الصورة الإدراكية التي يحملها كل طرف عن الآخر خاصة عند النخبة السياسية. تناولتُ النخبة السياسية الإيرانية، ونظرتها للعلاقة مع السعودية، وكنت أتتبع الصورة عمومًا عند الجانبين. كان هناك مشكلة كبيرة في هذا الموضوع. على سبيل المثال، إذا عدنا لتسريبات ويكيليس، سنجد خللًا عميقًا في الصورة الإدراكية يتمثل في أن هناك دولًا في المنطقة تعتقد أن بإمكانها إزاحة إيران من المعادلة. بالمقابل، هناك داخل إيران من يعتقد بأن المد الثوري يجب أن يصل لمكة والمدينة. 

اليوم، أعتقد أن هناك تحولًا في هذه الحالة الإدراكية. ففي السعودية، نرى تحولًا من فكرة نقل المعركة إلى داخل إيران إلى فكرة أن إيران جارة يجب التفاهم معها. أما في إيران، فبحسب دراسة مهمة أجراها مركز دراسات العالم الإسلامي في إيران عام 2019، هناك أيضًا تحول لدى النخبة الفكرية والسياسية الإيرانية بشأن التوجه نحو السعودية. فالدراسة شملت مسؤولين من الخارجية الإيرانية، وأساتذة جامعات غالبيتهم من التحصيل العلمي العالي ومن تخصصات العلوم السياسية والعلاقات الدولية. وغالبيتهم قالوا إن العلاقات السعودية الإيرانية ذات أهمية كبيرة جدًا، ولا أحد تقريبًا قال إنها قليلة الأهمية أو ليس لها أهمية. كما اعتبر معظمهم السعي للتحول إلى القوة الأولى في المنطقة العامل الأهم كسبب الخلافات الجوهرية في العلاقة بين البلدين. 

ما الآفاق الممكنة للاتفاق بخصوص ملفات الخلاف الكبرى؟ 

هناك مجموعة من الاتجاهات تحكم الإجابة على هذا السؤال. أولًا: إلى أي حد يعكس هذا الاتفاق تحولًا جوهريًا في السياسة الخارجية السعودية؟ علينا أن نراقب تطور العلاقات إلى حدود أعلى مما كانت عليه حتى في أفضل حالاتها السابقة. وهناك شكوك حول مدى قدرة السعودية على الذهاب بعيدًا عن الغرب والولايات المتحدة. المسألة الأخرى تتعلق ببنية النظامين، لأننا إن كنا نتحدث عن تحول جوهري، فهذا يعني أننا نبحث عن إيران مختلفة تمامًا عما هي عليه اليوم. 

على سبيل المثال، إذا كان موضوع المليشيات أحد الملفات الخلافية في علاقة التنافس بين البلدين، والذي تجلى في سوريا والعراق واليمن، فهل يمكن أن تضحّي إيران بورقة مهمة في ملف نفوذها الإقليمي؟ لا أعتقد ذلك. لكن في ظني، موضوع المليشيات مرتبط بشكل كبير بالحالة السياسية. فإذا ضمنت جماعة أنصار الله حصة سياسية محترمة في التسوية السياسية في اليمن، فهذا سيكون حلًا مناسبًا جدًا لإيران. وبالنسبة لسوريا، إذا نضج الحل السياسي، فهذا يعني أن الميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق ستدخل في حالة من الخمول.

يمكن أن يصل هذا الاتفاق إلى حده الأعلى، بمعنى أن يترجم إلى علاقات اقتصادية قوية، وعلاقات ثقافية وتبادل تجاري واسع وانفتاح غير مسبوق بين البلدين، وهذا سيكون له تأثير على مجمل المنطقة. ومن الممكن أن يكون في حدوده الدنيا، بمعنى «السلام البارد»، أو أن يكون في حدود متوسطة لا تصل معها العلاقة إلى مستويات الصراع لكنها تحافظ على حد من التنافس. 

لكنني أعتقد أن الحاجة ستدفع البلدين إلى إدارة حالة التنافس بينهما وتخفيض مستوى النزاع. سيبقى التنافس قائمًا لكن مستوى الصراع بين البلدين سينخفض. ففي مرحلة من المراحل، وصل الصراع إلى مستويات تنبئ بحالة خطرة في الإقليم، وكان له تأثيرات على مجمل دول المنطقة. لذلك، فإدارة الصراع والتنافس من وجهة نظري هو في مصلحة المنطقة.

بدأت المحادثات الإيرانية السعودية في الوقت الذي تسعى فيه «إسرائيل» لعقد المزيد من اتفاقيات السلام مع بعض الدول العربية، وكانت تأمل أن تصل للسعودية. كيف سيؤثر الاتفاق باعتقادك على هذا المسار؟ 

انخراط السعودية في التطبيع سيعني سحب «إسرائيل» أكثر إلى منطقة الخليج، الأمر الذي تنظر له إيران على أنه تهديد أمني مباشر لها. لذلك، المسألة لا تتعلق فقط بتبادل العبارات الدبلوماسية، بل تتعلق بقدرة البلدين على تحويل الاتفاق إلى واقع عملي ملموس يضمن مصالح كل منهما. في ظني، إيران قادرة على إدارة هذه المسألة، لكن هذا مرتبط أيضًا بحرب الظل بين إيران و«إسرائيل». 

هناك أفكار أسمع عنها كثيرًا، مثل التخادم بين «إسرائيل» وإيران، أو الصراع الوهمي بينهما، وهذا شيء صراحةً لا يحترم عقل الإنسان ولا يحترم الواقع. هناك صراع حقيقي بين إيران و«إسرائيل»، على المستوى الأيديولوجي وعلى مستوى النفوذ في المنطقة والقوة التنافسية. إحدى المسائل المهمة، مثلًا، هي الحساسية الإسرائيلية العالية تجاه احتمال أن تصبح إيران قوة نووية، لأن هذا يؤثر على ميزان القوة بينهما لصالح إيران ومكانتها في المنطقة. لذا، فهذا صراع حقيقي، وهناك حرب ظل دائرة بينهما منذ سنوات، وهي تأخذ أشكالًا مختلفة. عندما يخوض حزب الله حربًا مع «إسرائيل» فهي بالجوهر حرب إيران أيضًا. كذلك، حرب السفن التي خاضتها إيران، وإن لم تعلن مسؤوليتها عنها، واستخدمت فيها طائرات مسيرة. الاغتيالات أيضًا مظهر من مظاهر حرب الظل هذه، سواء داخل إيران أو في سوريا. لذلك، يجب ألا نغفل العامل الإسرائيلي في موضوع تطور العلاقة بين إيران والسعودية، خاصة أن «إسرائيل» كانت تعول على مزيد من التطبيع مع الخليج وكانت تسعى أن تكون السعودية المحطة القادمة. 

«إسرائيل» كانت تسعى لبناء تحالف أمني مناهض لإيران مع دول الخليج، وبعض المنظرين في الخليج كانوا يعتقدون أن «إسرائيل» يمكن أن تكون حلًا لمواجهة التهديد الإيراني، وهذا أيضًا مرتبط بالحالة الإدراكية التي تحدثنا عنها. فحين يظن البعض أن من الممكن مواجهة دولة ذات استقرار عميق تاريخي وجغرافي في المنطقة من خلال كيان محتل طارئ، فهذا خلل في الإدراك، لكنه خلل مؤثر في البناء السياسي. 

في فترة من الفترات، كانت «إسرائيل» تقدم نفسها على أنها يمكن مثلًا أن تقدم للخليج أسلحة ومنظومات دفاعية وتبني نظامًا أمنيًا. أستعير هنا من الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله تعبير «الحوسلة»، أي التحويل إلى وسيلة. أعتقد أن ما تسعى إليه «إسرائيل» هو حوسلة الخليج بأوجه متعددة: تحويله لوسيلة لمواجهة إيران، ووسيلة للاستثمار الاقتصادي، ولسوق للبضائع الإسرائيلية، وهذا لا يصب في مصلحة دول الخليج. لذلك، فإن نزع فتيل التوتر مع إيران لا يصب في مصلحة «إسرائيل»، لإنه إذا كانت العلاقات جيدة مع إيران، فإن مستوى التهديد يتراجع ولا تعود هذه الخطط ذات قيمة، ولا يعود هناك من يشتريها، وهذا مؤثر جدًا من وجهة نظري. 

بالتالي، إذا اتُخذت خطوات عملية لإنجاح الاتفاق، ستُجمد خطط التطبيع بين السعودية و«إسرائيل»، فالتطبيع حينها سيكون مكلفًا بالنسبة للسعودية على أكثر من صعيد، إضافة إلى أن بعض الشروط الموضوعة للتطبيع لا أظن أن «إسرائيل» ستحققها. فهي لن تقبل بسعودية نووية كما لا تقبل بإيران نووية.

برأيك، كيف يتعارض الاتفاق مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة؟ ولماذا لم يكن هناك فيتو أمريكي عليه؟ وهل ستكتفي الولايات المتحدة بمراقبة تطورات الاتفاق، أم يمكن أن تعرقله؟

الاتفاق الإيراني السعودي بالتأكيد يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لأن عزل إيران، إن لم يكن إسقاط النظام، كان على الدوام هدفًا في السياسة الخارجية الأمريكية. كما أن واحدة من مداخل بيع السلاح الأمريكي هي إيجاد حالة من التوتر الدائم بين السعودية وإيران. لكن كما قلت سابقًا، الاختبار الحقيقي للمنظومة الدفاعية الحقيقية كان في أرامكو، والقوة الدفاعية الأمريكية فشلت في صد الطائرات المسيرة. 

أولويات الولايات المتحدة تغيرت، ورغم كل ما يقال عن بقاء الولايات المتحدة في المنطقة، أعتقد أن اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة سيتراجع، لأنها تواجه تحديًا كبيرًا جدًا وهو الصين. فهي تشاهد هذا الصعود الصيني في كل العالم، خاصة مع مشروع الحزام والطريق الذي تسميه بعض الدراسات «مشروع مارشال الصيني»، لأنه يخلق نفوذًا صينيًا في كثير من الدول، ويطرح خطوط مواصلات تمر من وسط آسيا إلى إيران إلى الهند إلى أوروبا. لذلك أيضًا، إحدى النقاط التي تبيّن أن هذا الاتفاق لا يسرّ الولايات المتحدة هي أن الضامن له هو الصين، المنافِسة القوية وصاحبة العلاقة القوية مع الدولتين.

السياسات الإيرانية في مجملها تقوم على فكرة أن نفوذ الولايات المتحدة يتراجع في المنطقة، أو أنها تستعد لتخفيض نفوذها في المنطقة، وعلى إيران أن تتهيأ للعب دور أكبر في الإقليم. لذلك، واحدة من القضايا الخلافية بين إيران ودول المنطقة هي قضية القواعد العسكرية الأمريكية. فدول الخليج تحتل المرتبة الثانية من حيث تواجد هذه القواعد بعد الولايات المتحدة. وإذا أضفنا إليها القواعد في وسط آسيا، نجد أن هذه القواعد العسكرية الأمريكية تحيط بإيران إحاطة السوار بالمعصم. لذلك، فالهدف الإيراني بعد اغتيال قاسم سليماني بإخراج القوات الأمريكية من المنطقة ليس هدفًا اعتباطيًا، وله أسبابه. فيلق القدس بحد ذاته جاء استجابةً للتهديد الأمريكي في المنطقة. 

الآن، إذا كان هذا الاتفاق الإيراني السعودي سينجح، فيجب التعامل مع مسألة العقوبات. لا يمكن بناء علاقات اقتصادية جيدة بين البلدين إذا بقي سيف العقوبات مسلطًا على من يريد التعامل اقتصاديًا مع إيران. إذا كان هناك نية حقيقية، وكما فعلت الصين، لن تلقي السعودية بالًا للعقوبات الأمريكية، وهذا سيكون مؤشرًا على تحول في السياسة الخارجية السعودية.

مسألة وجود فيتو أمريكي من عدمه مرتبطة بمستوى الاستقلال السياسي، فإن كنا نتحدث عن تحول في السياسة الخارجية، فهذا يعني تحرير القرار السياسي السعودي من سيطرة الولايات المتحدة، والسعودية تستطيع فعل ذلك إذا توفرت الإرادة السياسية. حتى إذا رصدنا مثلًا التوجهات السعودية تجاه الحرب في أوكرانيا، نجد أنها ليست على نفس الصفحة مع الغرب، لذلك وجهت الولايات المتحدة انتقادات كبيرة لموقف السعودية من الحرب، ولعلاقتها مع روسيا. لذلك، بصورة أو بأخرى، نحن نشهد تحولًا في السياسة الخارجية السعودية. 

كيف يمكن للاتفاق أن يعزز الفرص الاقتصادية للبلدين؟

من ناحية الاستثمار السعودي في إيران، أحد الأسئلة المهمة هو هل ستقبل إيران فعليًا باستثمار سعودي في مجالات حيوية مثل الطاقة؟ هذا سؤال جوهري، خاصة وأنه مرتبط بشكل مباشر بالحرس الثوري الإيراني. خذ مثلًا قطاع الاتصالات، في السابق طُرح عطاء للاتصالات فازت به شركة تركية، لكن الحرس أخرجها من السوق الإيراني بقرار قضائي لأنه اعتبر أن مسألة الاتصالات مرتبطة بالأمن القومي ولا يمكن أن يعطى لشركة خارجية. 

وحتى إذا كانت الإرادة متوفرة، فهل البنية القانونية والسياسية في إيران تسمح بالاستثمار الخارجي؟ واحدة من الإشكاليات التي واجهها الرئيس السابق حسن روحاني (فضلًا عن العقوبات) هي أن البنية القانونية والاقتصادية غير مهيأة للاستثمار الخارجي، فهذا يستلزم منظومة قوانين تساعد على ذلك. كما أن الكثير من المؤسسات الإيرانية وُضعت على القائمة السوداء لأسباب تتعلق بموضوع «تمويل الإرهاب». ولذلك مسألة البنية مهمة جدًا في أي مبادرة استثمارية، لأنها مرتبطة بشكل أساسي بالسويفت والتبادل المالي، وهذا معطل تمامًا في إيران. 

هناك جانب أيضًا متعلق بإدارة ملف النفط داخل أوبك. أعتقد أن الاتفاق السعودي الإيراني في هذا الملف يمكن أن يؤثر على أسعار النفط داخل أوبك بشكل كبير جدًا. أحد الخلافات بين الطرفين كان أنه حين أصبحت إيران عاجزة عن إنتاج النفط أو تصديره، زادت السعودية إنتاجها النفطي، وزيادة الإنتاج النفط تعني انخفاض الأسعار. لكن إذا وصلت السعودية وإيران إلى اتفاق بخصوص كميات الإنتاج مع كل البلدان فهذا سيؤثر على أسعار النفط.

كذلك هناك موضوع السياحة، خاصة السياحة الدينية، سواء في السعودية أو في إيران. فإيران بلد سياحي بامتياز. وفي المقابل، لدى الإيرانيين رغبة متواصلة لزيارة مكة والمدينة. وإذا فتح هذا المجال، سيكون هناك أعداد هائلة من الإيرانيين ترغب في زيارة مكة والمدينة وأماكن أخرى في السعودية.

هناك أسئلة كثيرة تحتاج للإجابة عليها. لكن مما لا شك فيه أن هناك مجالات اقتصادية مبشرة إذا نضج القرار السياسي، خاصة وأن إيران تحتاج إلى النقد الأجنبي. إيران بلد خصبة للمشاريع الاستثمارية، فاحتياطياتها من النفط والغاز كبيرة، وحقولها النفطية والغازية بفعل العقوبات تحتاج إلى تطوير وتكنولوجيا، وهي تقع على طريق الحرير الجديد. هذه كلها مداخل استثمارية كبيرة جدًا، لكن كما قلت، يجب أن تكون الأرضية مهيأة لهذا. 

محليًا، رحّب الأردن باستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، واتفق وزيرا الخارجية الأردني والإيراني على السعي نحو علاقات «طبيعية كاملة» بين البلدين. برأيك، كيف سيكون شكل العلاقة، وإلى أي مدى يعدّ الانفتاح الدبلوماسي والسياسي الأردني نحو إيران ضروريًا؟

الأردن متأثر بالعامل الأمريكي بصورة أساسية، ومتأثر كذلك بالعلاقة مع السعودية. من المفروغ منه أن التوتر الأردني الإيراني مرتبط بالتوتر السعودي الإيراني. لكن، إذا أرادت الأردن أن تعزز مصالحها الاقتصادية مع العراق، فهي بحاجة لتحسين العلاقة مع إيران. 

هناك عامل آخر له جانب أمني، برز بشكل كبير خلال الحرب السورية. ففي فترة من الفترات، كان حزب الله على الحدود مع الأردن. لكن باعتقادي هناك أيضًا ملف حساس جدًا عالق بين إيران والأردن، يتعلق باغتيال قاسم سليماني، لأن واحدة من القواعد التي استخدمت لاغتياله كانت قاعدة موفق السلطي في الأردن. ومع التأكيد الإيراني المتكرر بأن ملف اغتيال سليماني لم يطوَ، أعتقد أن هذه واحدة من القضايا الإشكالية التي يحتاج الأردن إلى أن يتحاور بشأنها مع إيران وينهيها. 

أظن أن هناك ملفات اقتصادية يمكن أن تكون جيدة في العلاقة بين البلدين. هناك بعض القضايا الإشكالية التي تتعلق بفتح باب الزيارة الدينية في الأردن، وهذه المسألة فيها جانب حساس، لكنني أعتقد أنه يمكن ترتيبها ضمن قيود تضعها الأردن. 

لكن المسألة الجوهرية هي أن تحسن العلاقات بين السعودية وإيران سينعكس على الأردن، وتحسن العلاقات مع إيران سينعكس على المصالح الأردنية مع العراق. وأيضًا التحول في الموقف الأردني تجاه النظام السوري سيكون إحدى القضايا الإيجابية في العلاقة.

لكن أعود وأقول إن العلاقات الأردنية الإيرانية من الجانب الأردني متأثرة دائمًا بعوامل خارج حدود الأردن، وهذه واحدة من الإشكاليات التي تحول دون تطور العلاقة. قد يعود السفير الأردني إلى طهران، لكنني دائمًا أنظر إلى الأمور بناء على بنية الدولة؛ إذا لم يحدث تغيير في بنية صناعة القرار السياسي، ستبقى الكثير من الإشكاليات قائمة. لكن إذا كان هناك إمكانية لإدارة التنافس الإيراني السعودي، فهناك إمكانية لإدارة ملف العلاقة الأردنية الإيرانية بشكل يؤمن بعض المصالح الأردنية، خاصة الحاجة الاقتصادية الأردنية لذلك.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية