الانتخابات الفلسطينية: تجديد شرعية الركود السياسي 

الأحد 07 شباط 2021
محمود عباس خلال ترؤسه اجتماعًا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في رام الله، تشرين الثاني 2018. تصوير عباس مومني، أ ف ب.

أن تنتخب، أن تخرج إلى الصندوق وتضع ورقة كُتب عليها رمز قائمة مُحدّدة، أو شخص مُحدّد، فهذا لا يعتبر بالضرورة ممارسة للديمقراطية، ولا يعني بالضرورة أنّك تمارس حقّك بالتأثير على حاضرك ومُستقبلك السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. فالانتخابات بحد ذاتها ليست إلّا العملية النهائية التي تُتوّج فترة ما قبل الانتخابات، بمناخها السياسي ونظامها القضائي. هذه قاعدة عامّة، يُمكن تعميمها على كُل حالة انتخاب سياسي، خاصة تلك التي تحصل تحت سطوة مستبد، يتحكّم بالأمن والمُخابرات والقضاء وحياة الناس، ويطلب منهم ختامًا، أن يخرجوا لتجديد شرعيته، هُم والأجهزة الأمنية التي توجّههم بدورها عنوة. 

في فلسطين، يزداد الواقع تركيبًا. ومن هُنا، فإن المرسوم الذي أصدره الرئيس محمود عبّاس، وحدّد فيه مواعيد إجراء الانتخابات العامّة الفلسطينية، يفتح الباب لأسئلة عديدة حول الحياة السياسية الفلسطينية في ظل الاحتلال والانقسام، ومعنى وواقعية إقامة «انتخابات فلسطينية عامّة». فحين يطرح هذا الشعار، من الضروري أن نسأل: من هو الفلسطيني؟ وما علاقة هذا الفلسطيني بالنظام السياسي الذي يسعى إلى تجديد الشرعيات؟ وهل ما زال هذا النظام (أو النظامان المنقسمان) يمثلان فعلًا فلسطين عامّة؟ هذه أسئلة ضرورية، تُضاف إلى جُملة من الأسئلة حول الانتخابات ذاتها في ظرف مُعقّد فيه طبقات متعددة من الاستبداد: احتلال عسكري واستيطاني، وسُلطة قمعية أمنية مرتبطة بهذا الاحتلال، بالإضافة إلى انقسام جغرافي، سياسي وعسكري أيضًا. 

جولة في مضمار الحكم الذاتي 

الهدف الأساسي من الانتخابات هو تجديد شرعية الحكم؛ هذه وظيفة الانتخابات المركزية والجوهرية. إنّها الأداة التي يتم التعبير من خلالها عما هو «مشروع»، وإعادة تكليف الدولة كمُحتكرة للعنف المنظم. وبالتالي، فإن وظيفة الانتخابات في ظرف طبيعي هي منح الشرعية لبندقية الدولة وممايزتها عن أي بندقية أخرى تحت سيادتها. ومن خلالها يحمل المواطنون الدولة مسؤولية حمايتهم وحماية القانون. وعلى الرغم من أنّها ليست الوحيدة من بين الأدوات التي تكتسب فيها السُلطة شرعيتها، إلّا أنّها إحدى أهم هذه الأدوات في العصر الحديث. من هُنا، يُشتق السؤال الأساسي في الانتخابات الفلسطينية: أي شرعية سنُجدّد كفلسطينيين؟ ومن يُجدّد الشرعيات؟ وهم سؤالان، يتناولان شقّين رئيسيين من كُل انتخاب فلسطينية كانت أم غير فلسطينية: شكل النظام السياسي الذي ستتجدّد شرعيته، وجمهور المواطنين الذين يمنحون الشرعية.

يكتسب هذان السؤالان أهمية مُضافة بعد التعديل الذي أقرّه الرئيس الفلسطيني على قانون الانتخابات بالتزامن مع إصدار المرسوم الانتخابي، ومن خلاله تم استبدال عبارتي «السُلطة الوطنية» و«رئيس السُلطة الوطنية» بعبارتي «دولة فلسطين» و«رئيس دولة فلسطين»، دون الخوض في سؤال حدود هذه الدولة المُنتهكة يوميًا من قبل الاحتلال، وشرعيتها والاتفاقيات التي أفضت إلى تسمية «دولة»، فضلًا عن إمكانية تسمية سكانها «مواطنين» فلسطينيين. وهُنا، عندما يُقال فلسطيني في هذه المادّة، فسيتم التعامل معه على أنّه كُل إنسان وُلد لأم أو أب فلسطينيين، لاجئ أم باقي، بغض النظر عن الجنسية التي يحملها ومكان تواجده الذي يعيش فيه عنوة أم خيارًا بسبب الاحتلال والتهجير القصري بشكل مُباشر- أي بسبب التطهير العرقي الذي قامت به الصهيونية- أم بسبب التهجير غير المُباشر الذي قامت وتقوم به أيضًا الصهيونية والسُلطة، من خلال تحويل حياة الفلسطيني في وطنه إلى جحيم من الحصار والبطالة والتهميش، وأيضًا من خلال الفساد والمحسوبيات والقمع وانعدام الفُرص. 

الانتخابات، حتّى في أكثر الدول التزامًا بدوريتها وصرامة بمواعيدها الدستورية، تدور بشكل عام على شيء ما، حول قضية ما، لتحديد مصيرها. حصلت أول انتخابات فلسطينية عامّة في العام 1996. ومن خلالها جدّد الراحل ياسر عرفات شرعيته وشرعية منظّمة التحرير الفلسطينية بعد توقيع اتفاق «أوسلو» وعودة المنظّمة إلى الضفّة الغربية وغزّة. أي أن الانتخابات جرت حول تأسيس السُلطة وتجديد مكانة المنظّمة التي أسّستها بعد مسار سياسي وانتفاضة أولى، فكانت بمثابة تجديد شرعية لعرفات والمنظّمة ومنح شرعية لقيام السُلطة ذاتها. أمّا في العام 2006، فدارت الانتخابات في مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية، حول نهجين سياسيين، الأول اتخذ مسار التسوية السياسية ونوى مواصلته، والثاني تبنّى المُقاومة المُسلّحة كبرنامج سياسي، لتنتهي الانتخابات بانقسام سياسي حُسم عسكريًا وتمأسس جغرافيًا واستمر بمُحاصصة سياسية.

أما هذه الانتخابات المرتقبة، التي تأتي الآن للمرّة الأولى منذ العام 2006، بقرار من الرئيس المُستمرّة ولايته دون أي تجديد منذ العام 2005، فتحل في مرحلة تتميز، أولًا، بانعدام أفق العملية السياسية التي آمنت بها «فتح» بعد أن تحوّلت «إسرائيل» برمّتها إلى يمين سياسي وبات نتنياهو فيها الوجه المُعتدل نسبيًا. ثانيًا، انسداد الأفق أمام مشروع «حكم غزّة» الذي قامت به «حماس» وحكمها المُتفرد. ثالثًا، تحوُّل الضفّة الغربية إلى كنتونات ومعازل جغرافية محصورة في مناطق (أ). رابعًا، مُحاصصة بين طرفي الانقسام تحت عنوان كُل في بقعته الجغرافية يسيطر على ما يُسيطر عليه بحُكم القوّة. خامسًا، تشكيك مُستمر بشرعية الطرفين من قبل أطراف تختلف معهما الاثنين، كمحمد دحلان مثلًا وبعض القوى الاقتصادية ورأس المال والأنظمة العربية التي تسعى للتطبيع مع «إسرائيل» وتُريد قيادة أكثر قبولًا للتطبيع دون تقدّم في الملف الفلسطيني. وسادسًا، دخول إدارة أمريكية ديمقراطية جديدة من المتوقّع أن تسأل عن شرعية السُلطة المُرشّحة للتفاوض إن حصل.

هذا ما يُفسّر غير القابل للتفسير للوهلة الأولى: القائمة المُشتركة. وهي النهفة التي خرجت عن طرفي الانقسام «فتح» و«حماس»، بفكرة أن يخوض الطرفان الانتخابات بـ«قائمة مُشتركة». وعلى الرغم من أن هذا الطرح يبدو نكتة بايخة في أفضل الظروف للوهلة الأولى والثانية والثالثة أيضًا، إلّا أنه حقيقي وتم بحثه في محادثات اسطنبول وقطر أيضًا، ولا يزال يُبحث اليوم بين الطرفين وباقي الفصائل. وجاء تصريح عضو اللجنة المركزية، ناصر القدوة، الذي شدد على رفضها، ليؤكّد جدية الفكرة. كيف يمكن أن تخوض «فتح» و«حماس» الانتخابات ضمن قائمة مُشتركة؟ فصائل منقسمة، جغرافيًا وعسكريًا وسياسيًا وتنظيميًا، تتقاتل في الإعلام والسياسة والميدان أيضًا، اعتبر أحد أطرافها الآخر بأنّه إرهابي خطف غزّة وقال عن مفاوضات إنهاء الانقسام أنّها حديث مع الخاطفين كما صرّح عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، عزّام الأحمد. ويعتبر طرف الطرف الآخر بأنّه خائن وينسّق مع العدو، كما تتّهم «حماس» في إعلامها «فتح». هذه الفكرة الغريبة طرحت لأن كلا الطرفين يعرفان، عن وعي أو بدونه، أن الهدف من الانتخابات بصيغتها المطروحة حاليًا ليس المُنافسة، ولا حرية الاختيار، ولا حتّى إعادة ترتيب الوضع السياسي الداخلي الفلسطيني، بل: نيل شرعية لوجودهما، ونهجيهما السياسيين. بكلمات أخرى، يعلم الطرفان أن الانتخابات حاجة لكليهما بهدف الحفاظ على الوضع القائم وإعادة إنتاجه والمُصادقة عليه. والأهم، شرعنة الواقع الموجود في ظل سُلطتيهما، وشرعنة تسميته «دولة فلسطين». ولذلك أيضًا، بحسب مصادر إعلامية، هدّد الرئيس بالقوّة كُل من يتجرأ على الترشّح خارج القائمة الرسمية لـ«فتح»، ولذلك أيضًا يشكّل ترشّح الأسير مروان البرغوثي من عدمه أحد العوامل المركزية التي ستؤثّر على إجراء الانتخابات أصلًا، لما يشكّله ذلك من منافسة تحاول القيادة الفلسطينية إعدامها كليًا قبل الانتخابات. 

الانتخابات بصيغتها الحالية أشبه بعملية ابتزاز للضفّة وغزّة، بحيث تقدم كأمل بالتغيير يتشبّث به الناس، فيما تعمل فعليًا على تجديد شرعية التفاوض باسم الشعب الفلسطيني.

يحتاج كلا الطرفين إلى تجديد شرعيتهما لعدّة أسباب برزت في فلسطين خلال الأعوام الأخيرة. أولًا، سؤال الشرعية في حال طرح مسار سياسي، خاصة مع وجود إدارة ديمقراطية جديدة في البيت الأبيض، وقطع الطريق على «إسرائيل» التي يمكن أن يشكل ادّعاء عدم شرعية القيادة الحالية أحد أوراق الضغط التي تستخدمها للتهرب من أي عملية سياسية. ثانيًا، وجود قوى اقتصادية في الضفّة الغربية، تسعى إلى التأثير على السياسة، وهو ما برز خلال عرض «الحل الاقتصادي» في «صفقة القرن» على اعتبار أنّه البديل عن الحل السياسي. ثالثًا وجود أطراف عربية وإقليمية لها تيارات تابعة، كمحمد دحلان مثلًا وعلاقته بالإمارات ومصر، تستغل غياب الانتخابات للتشكيك في شرعية القيادة الحالية في صراع داخلي. وأخيرًا، حالة الركود في الصراع مع الاحتلال على مستوى عام، في الوقت الذي تطبق قوّات الاحتلال فيه مخطّطاتها التي حوّلت الضفّة الغربية إلى مُدن محاصرة، وغزّة إلى حالة إنسانية كارثية. وبالمُناسبة، التشكيك المُستمر بشرعية سُلطة الطرفين يتم من أطراف قد تكون أخطر من القائم في بعض الأحيان، كالدول العربية التي تسعى إلى التطبيع مع «إسرائيل»، أو القوى الاقتصادية الناشئة التي تحاول استغلال الطروحات الاقتصادية للمنافع الخاصة كبديل عن الحقوق الوطنية. ولكن طرح الانتخابات بالصيغة الحالية لا يعد مُقاومة لهذه الرؤى بالقدر الذي يُعد فيه عملية مصادقة على القائم بذريعة منع الأسوأ. 

بشكل عام، يُقال مثلًا إن المرشّح في الانتخابات الذي يسعى لتجديد حكمه يكون في موقع قوّة وأفضلية على منافسه الذي يأتي من الخارج، لحقيقة أنّ الأول يُنافس وهو يتحكّم بمفاصل القوّة في الحكم: يستطيع أن يقدّم الوعود من موقع قوّة، ويتحكّم بالمنابر الرسمية، ويستند إلى شبكة تحالفات قام بتشكيلها مسبقًا. هذا بشكل عام وفي نظام ديمقراطي فيه الانتخابات دورية، فكيف إن كانت تجري الانتخابات بقرار من أنظمة قمعية: الإعلام فصائلي؛ الأجهزة الأمنية فصائلية؛ القضاء مُنحاز؛ والحكم أصلًا يعتمد على شبكة واسعة جدًا من علاقات الولاء والزبائنية، والفساد فيه جزء من المنظومة وليس الاستثناء فيها. أمّا الموارد، فهي مرتهنة بالمعونات الخارجية التي تأتي للفصيلين، سواء كانت أوروبية-أمريكية-عربية تأتي للسُلطة، وبالتالي لـ«فتح» التي تُسيطر عليها، وذلك  بهدف منع انهيارها، أو قطرية- تركية تأتي لـ«حماس» التي تتحكّم بسُلطة غزّة. هذا بالإضافة إلى السيطرة على القضاء والقانون، فمثلًا يربط قانون أقر حديثًا الترشّح بالاستقالة من وظيفة عامّة، ويربط الاستقالة بموافقة المشغّل عليها. وهو ما يعني أن المُشغّل هو من يختار إن كان سيسمح للعامل بالترشّح أم لا في وقت تعد فيه السُلطة ذاتها هي المشغّل الأكبر في الضفّة الغربية. ومن هُنا، فإن الانتخابات بصيغتها الحالية أشبه بعملية ابتزاز للضفّة وغزّة، بحيث تقدم كأمل بالتغيير يتشبّث به الناس، فيما تعمل فعليًا على تجديد شرعية التفاوض باسم الشعب الفلسطيني. 

انتخابات فلسطينية عامّة، في حدود «الدولة»

شكّل مطلب «التزامن»، أي إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني في الوقت نفسه، أحد أهم العوائق أمام إجراء الانتخابات في وقت سابق، إلى أن تراجعت «حماس» عنه في النهاية. لذلك، جاء المرسوم الرئاسي ليطرح أولًا انتخابات تشريعية، ثم رئاسية، ثم إقرار الانتخابات للمجلس الوطني، الذي من المفترض أن يكون مجلس عموم فلسطين في الوطن والشتات، كخطوة أخيرة. يتم طرح انتخابات المجلس الوطني على اعتبار أنّها الإجابة على الادّعاء القائل بأن الانتخابات هي انتخابات الضفّة وغزّة، وليست انتخابات فلسطينية عامّة. لكن هذا يحيلنا إلى دور ومكانة منظّمة التحرير التي يُعد المجلس الوطني المسؤول عن وضع سياساتها العامّة، وإمكانية إجراء الانتخابات في مواقع عدّة من وجود الشتات الفلسطيني، خاصة وأن المرسوم الرئاسي ينص على إجراء الانتخابات في الشتات حيث ما أمكن. فضلًا عن المُحاصصة بين «فتح» و«حماس»، أي إمكانية أن يقوم الطرفان بتعيينات في المجلس الوطني استنادًا إلى اتفاق ما بينهما على صيغة القائمة المُشتركة ولكن دون انتخابات. بالإضافة إلى تهميش دور المجلس الوطني لصالح المجلس المركزي الذي اتّخذ مكانه وانعقد في رام الله وسط انتقادات واسعة فلسطينية، وكان أشبه بهيئة فتحاوية داخلية. 

هل لا زال لدى منظّمة التحرير الفلسطينية سياسات عامة أصلًا حتى يُنتخب مجلس وطني يقوم بصياغتها؟

لكن إجراء انتخابات المجلس الوطني بعد التشريعية والرئاسية بحد ذاته ما يزال موضع شك، خاصة وأن الشكوك أصلًا تدور حول إقامة الانتخابات الرئاسية أصلًا بعد التشريعية. المرة الأخيرة التي جرت في دورة عادية للمجلس الوطني كانت في العام 1996، ورئيسه يشغل ذات المنصب أيضًا منذ العام 1996، كما أن نصف أعضائه الذين يُقارب عددهم 800 عضوًا، في وضع لا يسمح لهم بمُمارسة مهامهم بسبب الموت أو العجز أو المرض. الأهم من ذلك، هل لا زال لدى منظّمة التحرير سياسات عامة أصلًا حتى يُنتخب مجلس وطني يقوم بصياغتها، في وضع فيه يكاد يُجمع الفلسطينيون على أنّ المنظمة باتت جثّة هامدة، قتلتها السُلطة وحوّلتها إلى مجرّد أداة لتشريع وجودها وتكريس احتكارها السياسي، عبر الزجّ بالمنظمة في أي نقاش من خلال مقولة «المُمثّل الشرعي والوحيد»؟ 

جاءت انتخابات المجلس الوطني أخيرة في الترتيب الذي أعلن عنه الرئيس بين الانتخابات التشريعية والرئاسية، لتُشكّل بذلك مؤشرًا على الظرف الفلسطيني السياسي العام: الخارج يأتي أخيرًا، إن أتى أصلًا. وهذا يُشكّل جوهر السياسة الفلسطينية منذ ما بعد «أوسلو»: تدريجيًا، يتم تهميش الخارج وكُل مؤسساته التمثيلية والخدماتية والسياسية لصالح السُلطة وطرفي الانقسام في الضفّة وغزّة. أمّا الداخل، داخل أراضي 1948، فإن عملية إخراجهم من النظام السياسي الفلسطيني تمأسست باتفاقية «أوسلو» التي اعتبرتهم شأنًا داخليًا إسرائيليًا. فيما تركت القدس منذ سنوات ميدانيًا، وباتت السُلطة تتعامل مع أهاليها وفق ما تسمح به «إسرائيل»، التي تؤكّد بدورها «سيادتها» على المدينة بشرقها وغربها. يُستبعد أن تسمح «إسرائيل» بإجراء الانتخابات في القدس، لكن إن سمحت، فيرجح أن تسمح بسقف محدّد لعدد المشاركين، ومناطقهم. هذا إلى جانب المُلاحقة الأمنية، كما حصل مع أعضاء المجلس التشريعي الذين اعتقلوا بعد انتخابات العام 2006 من القدس واعتصموا في الصليب الأحمر، ولا زالوا حتّى يومنا يعتقلون بسبب انتخابات عبّروا فيها عن انتماء سياسي، يُعد تهمة.

من هُنا، فإن أي حديث عن تمثيل الخارج لا يعدو كونه تمثيلًا رسميًا وقانونيًا شكليًا. فالمنظّمة لا تنشط في الشتات خدماتيًا ولا تنظّم سياسيًا، وإن نظّمت فإنّها تنظّم لهدف المُحاصصة واحتكار الهيئات وإبقاء السيطرة على الهيئة ذاتها. ونشاطها في الشتات تهمّش مع إلغاء لجنة العلاقات الخارجية للمنظّمة وتحويلها إلى وزارة الخارجية الفلسطينية التي بدأت تمارس «الدبلوماسية». وتحت عنوان «عدم التدخّل في شؤون الدول العربية» حصلت موجة لجوء ثانية من الوطن العربي إلى أوروبا، وبات اللاجىء دون أي عنوان. عدم وجود مشروع سياسي يسعى إلى نفي اللجوء، والتعاطي المستمر مع «العودة» ضمن مزاد المفاوضات، حوّل اللجوء إلى سلعة يتم توظيفها تارة في مناكفة سياسية، وتارة في أعمال رمزية. هذا بالإضافة إلى الصراع الفتحاوي الداخلي، الذي قسّم «فتح» في الشتات بين «فتح» أبو مازن و«فتح» تقليدية و«فتح» منشقّة تتمثّل بتيار دحلان. في هذا الواقع، يحضر المرسوم الرئاسي بتوقيع مُثير للجدل تحت انتخابات المجلس الوطني ويُقر: انتخابات المجلس الوطني في الدول التي تسمح بذلك. أي أن مصير اللاجئين الفلسطينيين مربوط بقرار خارجي.

بالتالي، يتجه الشتات اليوم للخروج من النظام السياسي الفلسطيني عمليًا، ويقترب لنموذج العلاقة مع الفلسطينيين في أراضي 1948، دون المأسسة الموجودة في حالة الأخيرة باتفاقية «أوسلو»، أي رغم وجود الشتات قانونيًا وتمثيله في المنظّمة. أن ينص القانون على شيء، لا يعني بالضرورة أن يتم تطبيقه، فكيف إن كان قانون منظّمة غير فاعلة أصلًا؟ حتى يتمثّل الشتات في السياسة الفلسطينية، عليه أن يكون جزءًا من إطار سياسي فلسطيني. أمّا ما يحصل اليوم، فإنّه سحب مستمر منذ ما بعد الانتفاضة الأولى لبساط التمثيل الفلسطيني من تحت أقدام منظّمة التحرير لتحويله نحو السُلطة الفلسطينية بكُل ما تمثّله: وجودها، وزاراتها، هيئاتها، ومُفاوضاتها. ولا يُمكن بأي شكل من الأشكال القول إن انتخابات المجلس الوطني المُعلن عنها ستُحقّق تمثيل الشتات الفلسطيني إن لم يتم إعادة الاعتبار لمنظّمة التحرير ودورها السياسي والتمثيلي. أمّا الانتخابات التي يُعلن مع مرسومها الرئاسي على أنّها انتخابات «دولة فلسطين» فتؤشر إلى أن المسار الذي يختزل فلسطين في الضفّة وغزّة، يأخذ بهذه الانتخابات دفعة إضافية، ولا يتراجع. 

هل يمكن للانتخابات أن تكون أداة نضالية؟

أن تكون فلسطينيًا، لغة وثقافة وتاريخًا، يُعد في إطار المفهوم ضمنًا، وهو ليس بالقرار ولا بالخيار. أمّا أن تُمارس فلسطينيتك، فهذا سؤال سياسي. ومع بدء نقاش الانتخابات، يتّخذ هذا السؤال أهمية خاصة، فالقول بأنه «لا حاجة للانتخابات» يُمكن أن يشكّل ذريعة لاستمرار الانهيار، لكن الذهاب إلى الانتخابات في الظرف القائم والموازين القائمة يُمكن أن يحوّلها إلى أداة قمع إضافية. إنّها كأي فكرة سياسية يُمكن أن تكون سيفًا ذا حدّين؛ يمكن أن يستغلّها المستبد قبل الوصول إلى الحكم لينقلب عليها بعد ذلك، ويُمكنها أن تكون أداة مُقاومة فعّالة، في حال سعت عبر الحملات الانتخابية لصياغة هوية ووعي سياسيين، واستعادة روح السياسة. الأهم، أنها يمكن أن تكون أداة تأكيد على وحدة المصير الفلسطيني، وحقّ الشعب في أن يقرّر مصيره السياسي، في مقابل سرديات خصوصية المجاميع الفلسطينية المختلفة. 

الانتخابات دون حياة سياسية، ودون إطار سياسي جامع، أقرب إلى لعبة من القيادة لتمرير بضعة سنوات إضافية في السكون والركود.

لكن الظرف الذي تعيشه فلسطين ليس ظرفًا يسمح بتحقق هذه الاحتمالات، في ظل تضارب «الخصوصيات» والمصالح، بشكل ضيق الأفق وانتهازي أحيانًا، يقوّض وحدة المصير السياسي. فقد ادعت قيادة الفلسطينيين في أراضي 1948، مثلًا، أن تزكية جنرال الحرب، بيني غانتس، لرئاسة الحكومة الإسرائيلية تساعدهم في قضاياهم الخاصّة، في الوقت الذي كان من شبه المؤكّد أن نجاح غانتس في الانتخابات كان سيؤدّي إلى حرب على غزّة، ومساندة عودة السُلطة إلى المسار السياسي. وفي الوقت الذي سعت الإمارات إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، برز سؤال حول موقف الفلسطينيين في الإمارات، بين الصمت والاحتجاج الذي سيضرّهم هم وينفع قضية عامّة. أما في الضفّة وغزّة، يدّعي فلسطينيون اليوم، وبحق، أنهم يريدون انتخابات تشريعية لتحريك المياه الراكدة ومُحاولة التأثير على واقع دون مجلس تشريعي في ظل انقسام سياسي، لكن السؤال يبقى مفتوحًا حول التداعيات المحتملة للانتخابات على الشتات، وخطورة منح قيادة «فتح» و«حماس» شرعية الاستمرار في تمثيل القضية الفلسطينية. 

من هُنا، تُشتق ضرورة السياسة العامّة في السياق الفلسطيني: هُناك حاجة إلى بيت فلسطيني واحد، يُشارك الكُل الفلسطيني في صياغته، يعمل على دراسة الواقع الخاص وإعادة دمجه في مصلحة العام ككُل. ومن هنا أيضًا، يشتق معنى أن تكون فلسطينيًا: أن يتحوّل الحق في تقرير المصير إلى حق نضالي، وأن تتحوّل الانتخابات إلى أداة يؤكّد الفلسطيني معها كُل مرة من جديد أنّه شعب سياسي له هدف ورؤية وطريق وحقوق سياسية وإنسانية. أمّا الانتخابات دون حياة سياسية، ودون إطار سياسي جامع، فهي أقرب إلى لعبة من القيادة لتمرير بضعة سنوات إضافية في السكون والركود.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية