تفاصيل انتخابية: حالة بلدية صبحا والدفيانة في البادية الشمالية

الخميس 24 آذار 2022
انتخابات أم القطين
دوار المهباش في قرية أم القطين أثناء الانتخابات. تصوير أحمد أبو خليل.

غادرنا إلى حدّ كبير، في هذا المقال، المشهدَ الكلي الإجمالي للانتخابات البلدية التي جرت على مستوى المملكة، في 22 آذار الحالي، وحاولنا -بدلًا من ذلك- تتبع واحدة من الحالات أو «التفاصيل» التي قد تحمل ما هو مشترك مع حالات وتفاصيل أخرى، لكنها كغيرها، تمثل قدرًا من الخصوصية في بعض العناصر.

لطالما طرح السؤال في الأردن حول سبب ارتفاع نسبة المشاركة في القرى البعيدة مقارنة بمراكز المحافظات والمدن الكبيرة، ولطالما لفت انتباه المتابعين صنف العناوين المطروحة، وحجم الانفعال المرافق للعملية الانتخابية في المناطق البعيدة عن المركز. لذا، سنحاول الإجابة على بعض هذه التساؤلات، من خلال متابعة أحد نماذج الانتخابات البعيدة عن المركز.

اخترنا حالة من عمق البادية الشمالية، هي حالة بلدية «صبحا والدفيانة»، التي تعتبر إداريًا قضاء يتبع لواء البادية الشمالية، يقع على بعد خمسين كيلومترًا إلى الشمال الشرقي من مدينة المفرق، مركز المحافظة، وتمتد شمالًا حتى تلاصق الحدود السورية تمامًا.

«صبحا والدفيانة» هما أبرز قريتين في هذا القضاء، تليهما قرية «كوم الرَّف»، إلى جانب عدد من التجمعات السكانية (قرى صغيرة) من بينها: صبحية و«سَبْع صْيّر» و«منشية القبلان» والفيصلية والحَرّارة.

كما هو حاصل في أغلب مناطق البادية الشمالية، فقد أقيمت هذه القرى حول بؤر عمرانية أثرية قديمة، ولا تزال بقاياها قائمة لليوم، على شكل خِرَب من المساكن المبنية من الحجر البازلتي الأسود، وقد أقام السكان فيها عند استقرارهم. وهي قبل ذلك كانت تعد «مَرَدًّا» لهم قبل الاستقرار، والمَرَد هو منطقة اعتاد البدو العودة المؤقتة إليها في فصل الشتاء. لقد أعادوا أحيانًا استعمال الحجارة المستخدمة في المباني التراثية، ولكنهم مع الزمن غادروا تلك الدور القديمة وسكنوا حولها في مبانٍ جديدة إسمنتية، وأحيانًا مُطعّمة بالحجارة السوداء. ولكل قرية قصتها الخاصة التي يختلط فيها الخيال بالواقع. وقد وثق أستاذا التاريخ والأنثروبولوجيا في جامعة آل البيت، محمد وهيب وعبد العزي محمود، الكثير من سير وحكايا وقصص قرى البادية الشمالية في كتاب صدر عام 2019، بعنوان «الحكاية الشعبية في الأردن – المفرق».

في كل موسم انتخابي، تحضر في النقاش العام عند الأهالي عناوين كثيرة، أبرزها العلاقات القرابية وعلاقات الجيرة، ومسألة الزعامة المحلية والتحالفات والمصالح الشخصية والجماعية، إلى جانب الخدمات العامة، وقضايا التوظيف.

في النموذج الذي يتناوله هذا المقال، يتوزع سكان قرى قضاء «صبحا والدفيانة» على ثلاث عشائر: عشيرة السردية التي تقيم في صبحا وصبحية وسبع صير ومنشية القبلان، وعشيرة العيسى التي تقيم في قرية الدفيانة، وعشيرة الجمعان/بني صخر التي تقيم في كوم الرف. وكل من هذه العشائر تحمل إرثًا وذاكرة لا تزال حاضرة ومؤثرة في تحديد مواقفها اليوم.

في كل موسم انتخابي، تحضر في النقاش العام عند الأهالي عناوين كثيرة، أبرزها العلاقات القرابية وعلاقات الجيرة، ومسألة الزعامة المحلية والتحالفات والمصالح الشخصية والجماعية، إلى جانب الخدمات العامة (شوارع وإنارة ونظافة)، وقضايا التوظيف في مشاريع البلدية. كما يستحضر النقاش العام جوانب من تاريخ وسيرة العلاقات بين المجموعات المكونة، وقد «يردون الجميل» لهذا الطرف بسبب مواقف سابقة حينًا، ويقتصّون من طرف آخر بسبب مواقف أخرى، وهكذا. 

يعد لواء البادية الشمالية من المناطق الفقيرة بنسبة معلنة حوالي 30%، ولكن قضاء صبحا والدفيانة تحديدًا كان حتى آخر إحصاء رسمي معلن خارج جيوب الفقر، بنسبة فقر تعادل المعدل العام الوطني (14%). غير أن هذا الإحصاء فقد قيمته العملية والتأشيرية على كل المستويات بسبب قدمه، فهو استند إلى بيانات ومعطيات عام 2010، وهذا يعني أن مستجدات السنوات الأخيرة تغيب عنه.

توجد في المنطقة مستجدات معيشية ماثلة للعيان، وخاصة فيما يتعلق بآثار الحرب في سوريا، ولجوء مئات الألوف للمنطقة. بعضهم يقيم في المخيم المركزي «الزعتري» ولكن أغلبهم يقيم في القرى بين السكان، وأحيانًا في مخيمات فرعية غير رسمية متناثرة هنا وهناك، تتوزع بين القرى وقرب المزارع، وهي مخيمات واضحة للعيان، بسبب أنها تتشكل من عشرات الخيم البيضاء المتجاورة التي تشكل مجتمعات محلية سورية خاصة.

غير أن المنطقة طالها دعم مالي واضح، من خلال مشاريع دعم المناطق المتضررة من الأزمة السورية، ويظهر ذلك من خلال تغير واتساع بعض الخدمات العامة، وخاصة التعليمية والصحية وخدمة النظافة والطرق، وتنتشر الآن مفردة «المنظمات»، التي تشير إلى الجهات الدولية التي تتعامل مع جمعيات وجهات محلية وتمولها، أو تستوعب بعض العمالة المحلية في مشاريعها.

ويشار إلى أن اسم البلدية حضر قبل أقل من عام في الإعلام بسبب المبنى الفريد (الفاره نسبيًا) الذي أقيم لمقر البلدية، والذي أطلق عليه السكان «البيت الأبيض» بسبب شبه الواجهة الأمامية للمبنى فيه، وقد أعلن رئيس البلدية لمنتقديه بأن تكلفة المبنى توزعت مناصفة بين موازنة البلدية وإحدى الجهات الدولية التي قدمت منحة مالية.

ما الذي يجري في الانتخابات؟

يتركز الاهتمام بالانتخابات على موقع رئيس البلدية بالدرجة الأولى، يلي ذلك موقع ممثل القضاء في مجلس المحافظة، ثم العضوية التي تحتل مرتبة متأخرة نسبيًا في اهتمام الأهالي.

ينحصر الترشيح لموقع رئاسة البلدية بين عشيرتي السردية والعيسى، بينما تتوزع العضوية على أهالي القرى بواقع ثلاثة أعضاء لقرى عشيرة السردية (صبحا وما حولها)، واثنين لعشيرة العيسى (قرية الدفيانة)، وواحد لعشيرة الجمعان (قرية كوم الرف)، إضافة إلى مقعدين للكوتا النسائية يحددان وفق نسبة الأصوات في الدوائر الثلاث.

وفق القانون، يجري انتخاب رئيس البلدية وممثل القضاء في مجلس المحافظة من قبل كافة الناخبين في القضاء، بينما ينتخب سكان كل قرية ممثليهم من أعضاء البلدية. وعلى هذا فهناك فصل كامل في مجريات العملية الانتخابية، خاصة وأن مقتضيات التقاليد تحول دون ممارسة الدعاية الانتخابية المعلنة عند الفريق الآخر. وبالفعل، فقد خلت مداخل مراكز الاقتراع من الحضور المتداخل بين القرى (العشائر).

مورست الحملات الانتخابية بنشاط واضح. ولغايات كتابة هذا المقال زرتُ قرى القضاء ليومين متتاليين، بما فيهما يوم الاقتراع ذاته، وأجريت العديد من المقابلات الفردية والجماعية، كما تابعت جانبًا من النشاط الانتخابي على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة ببعض نشطاء تلك القرى.

لقد كان الزائر يلاحظ بوضوح سخونة الحملة الانتخابية، فقد كانت مواكب السيارات تتحرك بشكل جماعي، بل شاركت شاحنات كبيرة (برادات) وضعت على جوانبها صور كبير لمرشحين، وكانت تسير مطلقة زواميرها العالية، كما امتلأت الشوارع والدواوير بالصور، ومورس التقليد الانتخابي المشهور في مناطق البادية بأن يقوم أصحاب المنازل بتعليق صورة لمرشحهم على جدار المنزل كإعلان مسبق واضح لموقفهم. ولوحظت، هذه المرة أيضًا، استعانة القائمين على الحملات الانتخابية بالقصائد الشعرية والأغاني والأهازيج الخاصة. وفي واحدة من قصائد الحملة الانتخابية الأخيرة «انتخى» شاعرها بنساء العشيرة كـ«عضيدات» للرجال، وعلى الفور ردّت شاعرة بقصيدة مقابلة باسم السيدات تعلن استجابتهنّ للنخوة.

يشار إلى حضور متكرر ملاحظ للسيدات في انتخابات هذه المنطقة، بل لقد حصل في دورة عام 2013 أن فازت سيدتان في التنافس إلى جانب مقعدي الكوتا، بحيث تشكل المجلس حينها مناصفةً بين الرجال والسيدات. ويسجل للمنطقة أول حالة إجماع على مرشحة للانتخابات النيابية، وهي السيدة ميسر السردية، التي تمكنت من تحقيق فوز بمقعد كوتا على مستوى محافظة المفرق، قبل أن تخصص كوتا نسائية لدوائر البادية. 

يتركز الاهتمام بالانتخابات على موقع رئيس البلدية بالدرجة الأولى، يلي ذلك موقع ممثل القضاء في مجلس المحافظة، ثم العضوية التي تحتل مرتبة متأخرة نسبيًا في اهتمام الأهالي.

في هذه الدورة، تقدمت إحدى الشابات للترشح معلنةً عن انتمائها للحزب الديمقراطي الاجتماعي، ونشرت برنامجًا انتخابيًا يحمل مضامين اجتماعية/سياسية، ثم اضطرت مع تقدم الحملة الانتخابية إلى تغييب جزئي للعنوان الحزبي لصالح العنوان العشائري، وقد تعرضت لضغوط اجتماعية، واستعانت بأسرتها التي ساعدتها على التصدي واستمرار الترشح، وحصلت على أصوات عالية نسبيًا، لكنها خسرت مقعد الكوتا لصالح منافستين من سيدات المنطقة، حصلتا على أصوات أقل بكثير، لكن طريقة احتساب الكوتا كانت لصالحهما.

في آخر إحصاء عام للسكان في الأردن لعام 2015، بلغ عدد سكان صبحا وصبحية وسبع صير (تجمع عشائر السردية) حوالي 12 ألف مواطن، وبلغ عدد سكان الدفيانة (عشيرة العيسى) نحو 2700 مواطن، كما بلغ عدد سكان كوم الرف (عشيرة الجمعان) نحو 1300 مواطن.

لدورتين سابقتين، كان موقع الرئيس من نصيب مرشح عشيرة العيسى (قرية الدفيانة)، وذلك بسبب تعدد المرشحين من قبل عشيرة السردية الأكثر عددًا. وهذا العام بدأت الحملة بعنوان يحث على ضرورة التغيير، بمعنى أن دورتين للرئيس نفسه هي فترة كافية. وأجريت الترتيبات وعمليات التكتيك الانتخابي ذي الصبغة المحلية (تنازلات وعهود)، بهدف تقليص عدد المرشحين الجادين سعيًا لتحقيق الفوز، ولم يكن ذلك أمرًا سهلًا، نظرًا لإقرار ملاحظ بين السكان بأن الرئيس السابق حقق بعض الإنجازات الخدمية، مما وسع من حضوره خارج عشيرته، وخاصة لدى أهالي كوم الرف (عشيرة الجمعان) التي حصل منها هذا العام على أكثر من ثلثي أصواتها. 

وبالنتيجة، قادت جهود التغيير إلى فوز مرشح السردية، الدكتور عيد محارب السردية، بـ2421 صوتًا، مقابل 2000 صوت للمرشح بخيت العيسى، الرئيس السابق، بينما نال مرشحان آخران ينتميان إلى عشيرة السردية 672 صوتًا.

ولغايات المقارنة السريعة مع المناطق القريبة، تعمقنا أكثر لمسافة عشرة كيلومترات شرقًا، حيث كانت تجري في القضاء المجاور، انتخابات بلدية أم القطين، حيث تقيم عشيرة «العظامات»، وبلدية  والمكيفتة حيث تقيم عشيرة «الشرفات»، إلى جانب بعض القرى والتجمعات الأصغر. وتكاد الصورة ذاتها التي رأيناها في «صبحا والدفيانة» تتكرر في هذه القرى المجاورة، بل إن التنافس في هذه المناطق كان أكثر شدة، حيث تنافس 11 مرشحًا على موقع رئاسة البلدية، وخسرت العشيرة الأكبر (العظامات) الموقع بسبب تعدد مرشحيها، وفاز مرشح عشيرة الشرفات التي تتركز في قرية «المكيفتة».

ما حول الانتخابات

المشهد التنموي العام يكاد يكون هو ذاته في مجمل قرى المنطقة، ويشعر الأهالي بقلق شديد متنام على مستقبل أبنائهم، في ظل تصاعد البطالة الذي يلمسه المواطنون على مستوى الأسر كافة. فالسكان في المنطقة يعتمدون أصلًا على الالتحاق بمجالين رئيسيين، هما القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، إلى جانب قطاع الزراعة بشقيه النباتي والحيواني. ففي منطقة صبحا والدفيانة يتوفر للسكان أكثر من خمسين بئرًا ارتوازيًا تستخدم مياهها في ري مزارع الخضروات والفواكه واللوزيات والشعير المروي أحيانًا. وتوفر هذه المزارع فرصًا للعمل، إلا أن اللجوء السوري أثر بشكل كبير على العمالة في المزارع. لقد شكلت اليد العاملة السورية منافسًا كبيرًا لا يقاوم، بسبب تدني الأجور، فبينما كان عامل الزراعة من أهالي القرى يتقاضى قبل اللجوء السوري أجرة يومية قد تصل إلى عشرة دنانير، فإن الأجرة انخفضت الآن لتصبح بين خمسة وستة دنانير. وهذا ما أخرج غالبية العاملين المحليين من القطاع. وقد قابلت أمام مركزي اقتراع عددًا من الشباب الذين سبق لهم أن عملوا في المزارع، لكنهم فقدوا عملهم بعد كثافة عرض العمالة السورية. وتصح هذه الملاحظة على العمالة النسائية كذلك، فقد دخلت الأسر السورية ككل إلى العمل، مما قلص فرص العمل أمام سيدات المجتمعات المحلية.

يفتقد الشباب العاطلون في سن العمل في هذه القرى إلى المنافذ والخيارات بسبب محدودية المجتمعات المحلية، فعلى امتداد الطرق الرئيسية يستطيع الزائر أن يلاحظ عدد الدكاكين الصغيرة والأكشاك التي أغلقها أصحابها بعد وقت قصير على افتتاحها. وتكاد حالة عامل المقهى يمني الأصل، الذي يدير كشك قهوة على الطريق، تكون حالة النجاح الوحيدة، فقد حضر إلى المنطقة عام 2012 وعمل في هذا المقهى الذي تعود ملكيته إلى أحد أصحاب المحلات المجاورة، وهو يقول إن استمرار العمل احتاج لصبر طويل لم يتمكن من تحقيقه زملاؤه من أبناء المجتمع المحلي الذين أغلقوا أكشاكهم المماثلة سريعًا.

في السنتين الأخيرتين، كان أثر جائحة كورونا واضحًا وقاسيًا، إذ أغلقت محلات كثيرة أبوابها بسبب عدم قدرة أصحابها على الصمود أثناء الإغلاقات، كما توقفت أعمال آخرين من السائقين ومقدمي الخدمات الأخرى. 

هذا العام تتفاقم صعوبة أوضاع أهالي المنطقة بسبب قلة الأمطار مقارنة بباقي المناطق، إذ بالكاد تنمو الأعشاب في المساحات الشاسعة الممتدة حول القرى.

ولعل المشكلة الأكبر تتمثل في حالة التعليم، حيث أكد محدثونا أن التعليم توقف عمليًا في فترة التدريس عن بعد. وأفصح بعضهم أن عددًا من أولادهم هم أميّون لا يجيدون القراءة والكتابة. وكانت المدارس قد عانت أصلًا بسبب التحاق الطلاب السوريين، ففي بعض المدارس تم تقسيم اليوم الدراسي لفترتين صباحية ومسائية، إحداها للطلاب السوريين، وفي مدراس أخرى يدرس الطلاب معًا في صفوف مكتظة. يعلّق أحد الآباء أن المدارس ليست أكثر من «مَظَبّة» للأولاد.

لقد انتهى يوم الانتخاب، ووفرت منصات التواصل الاجتماعي فرصة للإفصاح عن السرور والغضب واللوم والعتاب، وسارع المهتمون والنشطاء إلى الدعوة لتجاوز الآثار السلبية للتنافس وللحملات الانتخابية، غير أن سؤال المجتمع والتنمية سوف يظلّ مفتوحًا، فالناس منتبهون -رغمًا عنهم- إلى صنف جديد من الفقر والمعاناة، يتشكل ويزداد حضورًا يومًا بعد يوم.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية