«الروسوفوبيا» تُجدد شبابها: فرنسا بعد عامٍ من الحرب الأوكرانية

الأحد 12 شباط 2023
فرنسا والنيتو
جنود فرنسيون في ميدان تدريب في رومانيا ضمن حلف الناتو، في كانون الأول 2022. تصوير توماس سامسون. أ ف ب.

بين روسيا وفرنسا سوء تفاهم تاريخي، يمتد إلى ما قبل قيام الجمهورية في موسكو وباريس. أما الحرب التي تدخل عامها الثاني في أوكرانيا، فتبدو حلقة جديدةً ضمن مسلسل طويل للعلاقات بين الطرفين في التاريخ الحديث. لذلك فإن هذه الحرب لا تفعل شيئًا جديدًا عندما تعيد إنتاج مشاعر الرهاب من روسيا في فرنسا، فهي انعكاس شرطي للصراع بين البلدين على مدى قرون، يخفت ويظهر، بحسب العلاقات السياسية بينهما.

ليس غريبًا أن الجذور التاريخية لكراهية الروس، أو «الروسوفوبيا»، تعود إلى بداية القرن التاسع عشر في فرنسا، عندما دفع نابليون بونابرت في اتجاه حملة صحافية تبث الهلع في الناس من خلال القول بأن روسيا تريد ابتلاع أوروبا. كان نابليون يحضّر الأرضية الشعبية لحملته العسكرية لغزو أراضي القيصر عام 1812، والتي انتهت بهزيمته ونفيه إلى جزيرة ألبا. لاحقًا بدأت كراهية الروس تسافر من بلد أوروبي إلى آخر، حتى وصلت إلى الولايات المتحدة، حيث كان للثقافة الفرنسية حينذاك هيمنة فكرية لها من القدرة على أن تصدّر، لا فقط النظريات، بل حتى الأذواق والمشاعر.

بعد الحروب النابليونية، استُخدمت الروسوفوبيا لتبرير الصراع الجيوسياسي بين الإمبراطورية البريطانية وروسيا في آسيا الوسطى. ثم هاجرت إلى ألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر: سعى الألمان بالفعل إلى توسيع إمبراطوريتهم الموحدة بالكاد واتجهوا إلى أراضي أوروبا الشرقية. كانت هذه النظرية الشهيرة عن المجال الحيوي، حيز حياة الأمة، التي وضعها الرايخ الثاني لأول مرة ثم وظّفها مرة أخرى هتلر على نحو أشد عنفًا. في أعقاب الانتصار في الحرب العالمية الثانية بفضل المساهمة السوفيتية، التي خلفت 26 مليون قتيل عسكري بينهم 13 مليون روسي، استولى الأمريكيون على رهاب روسيا هذا لجعله الأساس الأيديولوجي للحرب الباردة ولتبرير توسعهم. فالولايات المتحدة هي الوريث الأخير لهذا التقليد الطويل من العداء للروس، كما يذهب إلى ذلك، عالم السياسة والمؤرخ السويسري، غي ميتان، في كتابه «روسيا والغرب، حرب الألف عام: رهاب روسيا من شارلمان إلى الأزمة الأوكرانية» (2015).[1] يرى ميتان أن روسيا موضوع استقطابي في المجتمعات الغربية، لاسيما في فرنسا. على جهة هناك من يكره الروس بعنف، وفي الجهة المقابلة هناك من يحب روسيا والروس بشغف شديد، أو ما يسميه بـ«الروسوفيليا»، كما كان الشأن مع الأحزاب الشيوعية الغربية، وهو حب لا تزال بقاياه حاضرةً لدى قطاع من اليسار الفرنسي والأوروبي ولكن بطريقة هامشية إلى حد ما. أما في الوقت الحاضر، فإن «الروسوفيليا» موجودة في الغالب في المعسكر المحافظ، الذي يرى في روسيا اليوم نموذجًا للدفاع عن العائلة والقيم المحافظة في مواجهة الليبرالية.

يبدو هذا الاستقطاب -الذي يطرحه غي ميتان- في علاقة الفرنسيين والأوروبيين الغربيين عمومًا بروسيا، نابعًا من وعي بالتقارب الشديد بين ثقافة البلدين وثقلهما السياسي والتاريخي، حيث كانت الثقافة الروسية، لاسيما الأدبية منها، والثقافة الفرنسية، فلسفية وأدبيةً، هما المسيطرتين لسنوات على الذائقة العامة في أوروبا. فيما قدمت باريس للقارة نموذجها الجمهوري، فإن موسكو قدمت نموذجها الاشتراكي. هذا التلازم التاريخي المشوب بالعظمة لدى الطرفين، والوعي الذاتي المتضخم عندهما، بقدر ما يقرب بينهما، فإنه يزيد من حالة التنافس، كما يفسرها فرويد في مفهوم «نرجسية الفروق الصغيرة»،[2] حيث يرى أن الفروقات الصغيرة بين الجماعات والأفراد تؤدي في بعض الأحيان أيضًا إلى أكثر الإقصاءات راديكاليةً وعنفًا. وهو مفهوم أصبح يستخدم على نطاق شائع في الجغرافيا السياسية المعاصرة لتفسير التوترات التي تنشأ بين الأمم المتقاربة ثقافيًا. وهي تقريبًا الفكرة نفسها التي يعبر عنها ديفيد هيوم في مقالته عن «الطبيعة البشرية» (1739)[3] بالقول: «ليس الاختلاف الكبير بين الناس هو ما ينتج الحسد، بل التقارب بينهم».

لكن هذه المشاعر المفعمة بالكراهية ضد كل ماهو روسي، هل هي ذات جذور واقعية أم متخيلةً أم مصنوعة بعناية. يعتقد الباحث السويسري أن هذه المشاعر كانت دائمًا مصنوعةً من طرف السلطة السياسية، من أجل أن تحقق وظيفتين. فمن ناحية، تجعل من الممكن هيكلة الفضاء الجيوسياسي؛ وهذه هي الحجة التي طُرحت لتبرير التوسع والاعتداءات ناهيك عن الغزوات التي قام بها الغرب ضد روسيا قديمًا، أو في مجالها الحيوي حاضرًا. من ناحية أخرى، فإن رهاب روسيا يجعل من الممكن تشكيل الرأي العام سياسيًا واجتماعيًا، من خلال ربط خوف عموم السكان ببرنامج التوسع هذا، الذي هو برنامج إمبريالي. وهذا هو السبب المركزي في أن رهاب روسيا مفيد جدًا وتستغله في كثير من الأحيان وسائل الإعلام والمستشارون ومراكز الفكر التي تشكل الرأي العام في الغرب.

«الروسوفوبيا»: كيف نطعم الهلع ونسقيه؟

تبدو النخبة الفرنسية الحاكمة ومن يدور في فلكها اليوم، من وسائل إعلام سائدة ومراكز فكرية ونخب، واعيةً بشدة لسحر التخويف من «الغول الروسي الزاحف على مهل»، فمنذ لحظة دخول القوات الروسية الأراضي الأوكرانية قبل حوالي عام، يسود مناخ من الأحادية السياسية والفكرية. في اتجاه واحد تتحرك إدارة الرئيس ماكرون ونخبها، في ردةٍ واضحةٍ عن مسار الرئيس الفرنسي ما قبل الحرب، والذي كان ينادي بـ«الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن الولايات المتحدة الأمريكية» وضمنه تحسين العلاقات مع موسكو.

لم يكن هذا الانقلاب بلا سبب. جاءت الحرب في سياق معركة فرنسية داخلية حول سياسات الرئيس ماكرون وتعاظم المعارضة اليمينية المتطرفة واليسارية الراديكالية ضده. شكلت الحرب هديةً من السماء لماكرون، فقد اندلعت أسابيع قبل الانتخابات الرئاسية. فمن جهة استغل ماكرون الحرب ومناخ الخوف السائد حينذاك لتعزيز موقعه في الرئاسة، حيث طغت مشاعر الخوف من روسيا وبوتين فوق نتائج الخمس سنوات السابقة للعهدة الرئاسية الأولى لماكرون والخيبات الاقتصادية التي عاشها الفرنسيون. ومن جهة ثانية، استغل ماكرون المواقف السابقة للحرب، التي عبر عنها منافسوه من أقصى اليمين وأقصى اليسار. فلطالما عبرت مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، وجون لوك ميلنشون، زعيم أقصى اليسار، عن مواقف إيجابية تجاه روسيا، بوصفها رمزًا للمحافظة السياسية بالنسبة للأولى، ورمزًا لمقاومة حلف الناتو والتوسع الأمريكي بالنسبة للثاني.

الانحياز السياسي تجلى انحيازًا في وسائل الإعلام السائدة منذ ساعات الحرب الأولى، وأصبح الحديث داخلها يسير في اتجاه واحد، خلافًا للتقاليد السائدة مهنيًا. اتجاه يقدم الحرب على أنها معركة أخلاقية بين الاستبداد والديمقراطية.

لم يكتف الرئيس الفرنسي بذلك، بل نجح من خلال مناخ الحرب ومشاعر الاضطراب التي سادت في ذلك الوقت في تمرير برنامجه الاقتصادي النيوليبرالي، من خلال اقتلاع شرعية انتخابية لهذا البرنامج الذي طرحه في الحملة الانتخابية. واليوم يستغل هذا الرافد الانتخابي للوقوف في وجه تحالف النقابات العمالية وأحزاب اليسار الرافض لرفع سن التقاعد وتقليص نفقات الدولة الاجتماعية. لكن تأثيرات الحرب الأوكرانية لم تقف عند إعادة إنتاج الماكرونية، بل شكلت لحظةً لتقارب معسكرات سياسية متنافرة: يسار الوسط، ويمين الوسط، والووكيزيم (تيار الاستيقاظ)، وهو خليط سياسي يطلق عليه غي ميتان اسم «التيار الأطلسي»، يتماهى تمامًا مع السردية الأمريكية، ولا يرى أوروبا كيانًا مستقلًا فكريًا وسياسيًا عن «الكون الأمريكي: الليبرالي الرأسمالي المعولم». لفترة طويلةٍ كان الرئيس ماكرون، يتخذ طريقًا وسطًا، يحاول أن يجمع بين سياسات ميتران والجنرال ديغول، في التقارب مع واشنطن والاستقلال عنها في الوقت نفسه، وفي سلوك نهج نيوليبرالي دون التفريط في الدولة الاجتماعية، لكن الحرب الأوكرانية، فرضت عليه أن يحدد معسكره بوضوح، ويبدو أنه اختار المعسكر الأطلسي، شأنه شأن أغلب القادة الأوروبيين.

هذا الانحياز السياسي، تجلى انحيازًا في وسائل الإعلام السائدة. منذ ساعات الحرب الأولى شرعت الميديا الفرنسية الكبيرة، قنوات وصحفًا ومجموعات إعلامية، في إطعام الهلع. أصبح الحديث داخلها يسير في اتجاه واحد، خلافًا للتقاليد السائدة مهنيًا. اتجاه يقدم الحرب على أنها معركة أخلاقية بين الاستبداد والديمقراطية. وضمن نهج متكامل من التزوير أُخرج الغزو من سياقه التاريخي والسياسي والجغرافي وعُلّق في الفراغ كأنه صراع بين النور والظلام. تحولت أغلب البرامج التلفزيونية إلى جلسات محاكمة لروسيا، كما ازدهر سوق المعلقين والمحللين السياسيين المنحازين على نحو كبير، والذين ينحدرون في الغالب من تجارب رسمية سابقة في الدولة الفرنسية: سفراء سابقون في موسكو، وجنرالات متقاعدون من الجيش وموظفون متقاعدون من الدولة، أي أنهم يقدمون رؤية الدولة لهذا الصراع، كما يصدرون تحاليل سياسية بتفكير رغائبي، رفعت في البداية سقف الآمال عاليًا بأن نهاية روسيا ورئيسها ستكون خلال أسابيع أو شهور، ثم بدأت تتدحرج وتتأرجح بلا منهج واضح. لكنها نجحت في تأجيج مشاعر «الروسوفوبيا» وجددت لها شبابها.

ورغم أن الصراع، بحسب سردية الميديا الفرنسية، قائم على تقابل بين الاستبداد الروسي والحرية الغربية إلا أنها شجعت بقوة قرار السلطات الفرنسية بتجميد حسابات قناة روسيا اليوم الروسية الناطقة بالفرنسية (RT France)، نزولًا عند القرار الأوروبي بفرض عقوبات ضد كيانات إعلامية ومالية تابعة للدولة الروسية. وتحت شعار لا حرية لأعداء الحرية وجد أكثر من 123 موظفًا فرنسيًا في القناة، بينهم 77 صحفيًا، أنفسهم بلا عمل، لأن القناة -التي تتخذ من باريس مقرًا لها- أصبحت عاجزة عن دفع رواتبهم. كما شهدنا خلال الفترة الماضية العديد من حوادث العنف التي كانت «الروسوفوبيا» دافعًا لها. فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا، كان الشتات الروسي في فرنسا يتلمس طريقه بين علاقة قوية بهويته، وخوف من وصمة العار وإيماءات التضامن القليلة، الأمر الذي دفع سيناتورًا فرنسيًا في مجلس الشيوخ إلى نشر نص لفت انتباه لوزير الداخلية إلى ظهور ظاهرة التمييز ضد الجالية الروسية قال فيه:

«يعاني العديد من الروس في فرنسا سلوكًا تمييزيًا ضدهم. رغم أن العديد منهم أظهروا ضبط النفس ودعوا إلى السلام، تلقى بعض التجار الروس رسائل مجهولة المصدر تحثهم على مغادرة فرنسا في أقرب وقت؛ في نيس، أكدت رئيسة مركز اجتماعي ثقافي روسي أنها تلقت رسائل كراهية. لم تسلم المباني التراثية والدينية من هذه الممارسات. في باريس دُنّست كاتدرائية الثالوث الأقدس، وهي مبنى أرثوذكسي شهير ورمز للحضارة الروسية في العاصمة، مرتين منذ 24 شباط 2022. والأسوأ من ذلك، أن بعض الطلاب الناطقين بالروسية يتعرضون الآن بشكل مفرط للوصم، وحتى المضايقات. إن جمهوريتنا، رغم أجواء التوترات الدولية التي تضع قيم الأخوة لدينا على المحك، لا يمكنها أن تتسامح مع مثل هذه المواقف. إن إدانة حكومة موسكو لعدوانها على أوكرانيا لا يمكن أن يقترن بأي مزيج بغيض تجاه الشعب الروسي. فرنسا ليست في حالة حرب مع روسيا، ولا مع الشعب الروسي».

الصحوة النقدية

رغم محاولات التيار السائد سياسيًا وفكريًا أن يكون الجميع في حشد واحد، فإن الروح النقدية الفرنسية ما زالت تبدو حيةً، لا سيما عند اليسار. الصحوة النقدية الفرنسية تجاه الحرب عمومًا، وتفسيراتها الأطلسية المبتورة، تنبع أساسًا من الأكاديميين والمثقفين الأكثر عمقًا. في مقابلة حديثة يشير عالم الأنثروبولوجيا والمؤرخ الفرنسي، إيمانويل تود، إلى ضيق الرؤية الغربية، الأوروبية أساسًا في النظر إلى الحرب القائمة، من خلال طرحه تمرينًا جغرافيًا يوضح هذا الضيق التحليلي، معبرًا عن ذلك بالقول: «إذا نظرنا إلى خريطة أوكرانيا، نرى أن دخول القوات الروسية جرى من الشمال والشرق والجنوب، وهنا في الواقع، لدينا رؤية لغزو روسيّ، حيث لا توجد كلمة أخرى يمكن أن تصف ما حدث. ولكن إذا ابتعدنا بشكل كبير، نحو تصور واسع للعالم، فيما يتعلق بواشنطن أساسًا، نرى أن مدافع وصواريخ الناتو تتلاقى من بعيد نحو اتجاه ساحة المعركة، وهي حركة أسلحة بدأت قبل الحرب. إن كانت باخموت تبعد 8400 كيلومتر عن واشنطن، فإنها لا تبعد سوى 130 كيلومترًا عن الحدود الروسية. لذلك أعتقد أن قراءةً لخريطة العالم تسمح بالنظر في الفرضية القائلة بأنه نعم، من وجهة النظر الروسية، هي حرب دفاعية». وبذلك ينزع تود عن التيار الأطلسي سردية وهم الحرب بين القيم، وينزل بها على أرض الواقع الجيوسياسي، القائم أساسًا على نزاع النفوذ.

في السياق ذاته من بروز الأصوات النقدية الفرنسية، ظهر موقف عالم الاجتماع، إدغار موران، الذي يتجاوز عمره القرن، في كتابه الجديد، «من حرب إلى حرب: من 1940 إلى أوكرانيا»،[4] والذي بدا فيه يقظًا جدًا للرهاب الفكري الذي خلفته الحرب، محذرًا من فكرة أن تكون الحرب تجربة لبناء عالم جديد، فهذه الدرب قد سلكتها البشرية سابقًا ولم تولد سوى مزيد من الحروب، منطلقًا من خبرته الشخصية في معايشة الحرب العالمية الثانية شابًا يافعًا. يقول موران:

«أعادت الحرب في أوكرانيا في داخلي الذكريات الرهيبة للحرب العالمية الثانية. الدمار الهائل، والمدن المدمرة، وعددًا لا يحصى من القتلى العسكريين والمدنيين، وتدفق اللاجئين (..) لقد عشت من جديد جرائم الحرب، والمانوية المطلقة، والدعاية الكاذبة. وتذكرت السمات المشتركة لجميع الحروب التي عرفتها، الحرب الجزائرية، الحرب اليوغوسلافية، حروب العراق. نفس التجريم ليس فقط للجيش، ولكن لشعب العدو، نفس الأوهام، الأخطاء والأوهام تتجدد دائمًا. لقد كُتبت دائمًا مقالات سرية معادية للنازية، ولم تكن أبدًا معادية لألمانيا. أي حرب، بطبيعتها، من خلال الهستيريا التي تحكم وسائل الإعلام، ومن خلال الدعاية الأحادية والكاذبة في كثير من الأحيان، تحتوي في داخلها على جريمة تتجاوز العمل العسكري».

ويرى موران أن «الولايات المتحدة تدافع عن استقلال أوكرانيا لجعلها تابعة لها». كما يقدم تأملًا عظيمًا من رجل عاش أكثر من قرن وخبر الحروب وعواقبها، في عبثية هذا الصراع البشري. لكنه أيضًا، يمثّل صحوة فكرية أوروبية نقدية تجاه الخطاب السائد من القوى المُهيمنة، والتي تبيح لنفسها باسم الدفاع عن «القيم الليبرالية»، أن تدمر العالم، كما دمرته من قبل باسم «نشر الحضارة». لا متشائمًا ولا متفائلًا، يدعي مورين أن هناك ضرورة لوقفة نقدية قائلًا: «كلما كانت الحرب أسوأ، وكان السلام أصعب، كان الأمر أكثر إلحاحًا».

لكن هذه الصحوة النقدية مازالت تواجه صعوبةً في التحول إلى رأي له من ينصت إليه، وسط سيطرة وسائل الإعلام المنحازة على المشهد. لم تكن آراء إيمانويل تود وإدغار موران، رغم ثقلهما المعرفي، بعيدةً عن الهجوم، الذي تجاوز النقد نحو التخوين. فقد وصفت بعض الصحف مواقفهما النقدية من السائد الفرنسي حول الحرب بأنها «استفاقة متأخرة لأنصار بوتين»، فيما قالت صحيفة أخرى: «الحزب الروسي يرفع رأسه».

في المقابل، ربما يلعب طول أمد الحرب وتداعياتها على القطاع الأوسع من الطبقات الوسطى والشعبية في أوروبا عمومًا وفرنسا بشكل خاص، دورًا في تخفيف وطأة هيمنة التيار السائد، ذلك أن أي تصعيد سيكون ثمنه تآكل القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي، ولعل معركة المعاشات التقاعدية، التي تخوضها النقابات العمالية وأحزاب أقصى اليسار ضد إدارة الرئيس ماركون دليلٌ واضحٌ على ذلك، حيث تشير آخر استطلاعات الرأي إلى أن 71% من الفرنسيين يعارضون خطة الرئيس لرفع سن التقاعد إلى 65 عامًا، كما أن 66% من الفرنسيين يعتبرون أن التعبئة الشعبية ضد الخطة عبر المظاهرات والإضرابات يجب أن تستمر. لذلك فإن المعارك الاجتماعية والسياسية الداخلية في بلدان الاتحاد الأوروبي، ولا سيما في فرنسا، ربما ستكون حاسمةً خلال الشهور القادمة في بلورة موقف أوروبي وفرنسي أكثر اعتدالًا، لا يجاري النهج الأمريكي في القتال حتى آخر أوروبي.

  • الهوامش

    [1] Guy Mettan – Russie-Occident, une guerre de mille ans : La russophobie de Charlemagne à la crise ukrainienne, Éditions des Syrtes, 2015.

    [2] Sigmund Freud – Psychologie collective et analyse du moi, traduit par S. Jankélévitch, Paris, Payot, 1924.

    [3] David Hume – Traité de la nature humaine – Éditeur : Mary J. Norton (intellectuelle).

    [4] Edgar Morin – De guerre en guerre : De 1940 à l’Ukraine, Éditions de l’Aube, 2023.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية