«اليوم أوكرانيا وغدًا تايوان»: الحرب بعيون صينية

الجمعة 22 نيسان 2022
الصين
الرئيس الصيني يلقي خطابًا عام 2019 بمناسبة الذكرى السبعين لانتصار الثورة الصينية. تصوير جيسون لي، رويترز.

على مدار شهرين من الحرب في أوكرانيا، حضرت الصين كعنوان رئيس شبه يومي في التغطية الإعلامية للصراع في وسائل الإعلام الغربية والعربية الكبرى. وامتدادًا للتماهي التام بين خطاب هذه الصحف ومحطات التلفزة ورواية الولايات المتحدة -سواء حول الحرب أو حول أي شيء آخر تقريبًا- بدا أن ما تنقله هذه المؤسسات عمومًا عن الصين هو ذاته ما تقوله الولايات المتحدة عنها. صُدّرت الصين كطرف في الصراع لأنها، كما يُنقَل عن «مسؤولين كبار في الولايات المتحدة»، كانت على دراية بنوايا روسيا قبل بدء التدخل العسكري. كما حُمّلت مسؤولية «إنجاح» العقوبات الغربية على موسكو، نظرًا إلى أنها لن تكون «فعالة» إذا لم تلعب الصين معنا، كما زعمت الولايات المتحدة مرارًا، مهددةً بـ«عواقب» محاولة الصين مساعدة روسيا في الالتفاف على العقوبات.

لكن الأهم هو أن الصين صُوّرت على أنها تغرد وحدها خارج «المجتمع الدولي» وعلى تضاد معه، لأنها لم تدن «الغزو» ورفضت الانضمام لجوقة مناهضة روسيا دوليًا أو المشاركة في ردعها ومعاقبتها. في الواقع، لم تكن الصين وحيدة أبدًا، فقد رفض العديد من دول الجنوب والبلدان النامية السير على هوى الولايات المتحدة. كان رئيس الوزراء الباكستاني السابق، عمران خان، أبرز ضحايا هذا الرفض، فيما أعربت الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا كذلك عن رفضها المشاركة في العقوبات على روسيا. كما امتنعت 35 دولة، 17 منها إفريقية، عن إدانة روسيا في الأمم المتحدة، وتحدث بعضها بصراحة عن مسؤولية الولايات المتحدة عن توسع الناتو شرقًا وتمهيد الطريق للحرب. لكن هؤلاء على ما يبدو ليسوا أعضاء شرعيين في «المجتمع الدولي».

أمام هذه المحاولات، نشط الدبلوماسيون والمتحدثون الصينيون لتوضيح موقف بلادهم، إلا أن قدرة الصين على التحكم بالتغطية الإعلامية المتعلقة بها كثيرًا ما يُبالغ في تقديرها. حين يتحدث البعض عن إهمال الصين وروسيا «المعركةَ على الرأي العام العالمي» وعدم محاولتهما منافسة الغرب فيها، يدور الحديث في الغالب حول مسائل تقنية بحتة: الاستثمار في تكوين مؤسسات إعلامية، التنويع في الأشكال، الترجمة، التحدث بـ«لغة جديدة». لكن في الحقيقة، لا يمكن لدولة مثل الصين، رغم إرثها وحجمها وقوتها الاقتصادية، منافسة الغرب في التأثير على الإعلام العالمي. فالتاثير لا يبنى على هذه المسائل التقنية بقدر ما هو محصلة هياكل وبنى تحتية، من جامعات ومؤسسات وشبكات واسعة من الخبراء والمثقفين والمترجمين والإعلاميين، تشكلت عمومًا في فضاءات رأسمالية استعمارية أو شبه استعمارية. من أين ستأتي الصين بأدوات ووسائل الهيمنة، وهي التي لم تستعمر دولة قط، ولم تحكم شعوب العالم بجيشها ودولارها و«نموذجها»، ولم تفرض لغتها كلغة «عالمية»، لا بل كانت قبل عقود أكبر دولة فقيرة شبه مستعمَرة في العالم الثالث، أذلها الغرب بالمدافع والأفيون ومعيار الفضة؟

خلال الحرب في أوكرانيا، بدا ما تقوله وسائل الإعلام الغربية والعربية الكبرى عن الصين هو ذاته ما تقوله عنها الولايات المتحدة.

رغم أن الصين عبرت عن موقفها بوضوح من الصراع الروسي الغربي، حتى قبل اندلاع الحرب، إلا أن محاولات وسم موقفها بـ«الرمادي» وتصويرها على أنها تلعب على كل الأحبال لم تتوقف. في 23 شباط، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشون ينغ، ردًا على سؤال حول الأزمة الأوكرانية: «إن المنطق والسببية مهمّان عند محاولة فهم الأشياء. هناك سياق تاريخي معقد لقضية أوكرانيا والوضع الحالي هو نتيجة تفاعل العديد من العوامل (..) على بعض الدول أن تسأل نفسها: عندما قادت الولايات المتحدة خمس موجات من توسع الناتو شرقًا وصولًا إلى عتبة روسيا، ونشرت أسلحة استراتيجية هجومية متقدمة، منتهكةً التطمينات التي قدمتها لروسيا، هل فكرت يومًا في العواقب؟». في ردها على سؤال آخر، قالت هوا إن من «ربط العقدة هو المسؤول عن فكها»، وهي الفكرة التي رددها بأشكال مختلفة العديد من المسؤولين والدبلوماسيين الصينيين خلال الحرب.

كان الرئيس شي جينبينغ أحد هؤلاء حين أعاد التذكير بموقف بلاده من الحرب، في اجتماع عبر الفيديو جمعه بنظيره الأمريكي، قائلًا إن «من علّق الجرس في عنق النمر عليه أن ينزعه». لكن تصريحات شي لم تكد تظهر في الإعلام السائد، الغربي أو العربي، الذي تناقل ملخصات البيت الأبيض حول مجريات الاجتماع تحت عناوين مثل «بايدن يحذر»، و«بايدن يتوعد»، وكأن اللقاء الذي دام ساعة ونصف كان محاضرة ألقاها بايدن، لا اجتماعًا بين رئيسي دولتين كبريين. (من المفيد أن نلاحظ هنا أن قناة الجزيرة القطرية، وتحت شعار «الرأي والرأي الآخر»، تفتح الهواء لصهاينة محتلين يتوعدون المقاومين الفلسطينيين على شاشتها بالقتل، وتمتنع، بالمقابل، عن استضافة محلل أو مسؤول صيني).

تغريدة للمتحدث باسم الخارجية الصينية، جاو ليجيان، بكاريكاتير من صحيفة الغلوبال تايمز الصينية، يظهر فيها «العم سام» قائلًا «لماذا لا تستطيع الصين أن تفعل المزيد للمساعدة في إخماد الحريق؟».

نشرت الصحف الرسمية الصينية الصادرة بالإنجليزية عشرات الافتتاحيات والمقالات التي أشارت لمسؤولية الولايات المتحدة وتوسع الناتو عما يجري في أوكرانيا، ورفضت القبول بالسردية الأمريكية للحرب. لكن بعيدًا عن المستوى الرسمي، ظهرت على منصات التواصل الصينية خلافات ونقاشات سياسية حول الحرب وموقف الصين منها، تحديدًا مع ترويج المحللين الغربيين لمقولة «اليوم أوكرانيا وغدّا تايوان». ونشر كتاب ومؤرخون صينيون مقالات وبيانات تنتقد موقف الصين من الحرب وتشجب «غزو روسيا لأوكرانيا». بالطبع، هذا ليس أمرًا «نادرًا» كما صورته «وول ستريت جورنال» وغيرها من وسائل الإعلام الأمريكية أو المتأمركة، التي تنطلق دومًا في فهم الصين من مقولات الاستبداد والخضوع. لكن بمعزل عن دقة تقدير حجم مثل هذه الانتقادات للموقف الصيني، فالنقاش الدائر يتجاوز مجرد الاصطفاف مع أو ضد الحرب. فالصين ليست منيعة تجاه التأثر بالرواية الغربية، كما أن هناك منطلقات متعددة لفهم ما يجري في أوكرانيا وانعكاساته المحتملة على الصين، خاصة وأن ربط الحرب بمسألة تايوان يجعلها قضية حيوية وذات صلة مباشرة بالصينيين. لكن بالمحصلة، يبدو أن الصين اليوم، على عكس ما تُصوَّر، مفعمة بالسياسة وتنشط فيها نقاشات عدة حول الكثير من قضايا البلد والعالم، على نحو يختلف كثيرًا عمّا بتنا نراه في الغرب الذي يمنع أي اختلاف بخصوص روسيا، ولا يقبل سوى بالهتاف بسقوط بوتين.

نحو ناتو آسيوي؟

منذ بداية الحرب، مدّت الإمبراطورية الأمريكية وإعلامها جسرًا بين أوكرانيا وتايوان. حرص الخبراء والدبلوماسيون والصحفيون على تحذير التايوانيين: إذا لم تتحركوا وتعملوا بجد، فمصيركم من مصير الأوكرانيين؛ هذه نتيجة مخاطر العيش بجوار جار مستبد وتوسعي. خلال زيارته إلى أستراليا في آذار المنصرم، قال الأدميرال جون أكويلينو، رئيس قيادة «المحيطين الهندي والهادئ» في الجيش الأمريكي ، إن الغزو الروسي لأوكرانيا يظهر أن على الدول الآسيوية أن تأخذ احتمال وقوع هجوم صيني على تايوان على محمل الجد، وإنه «يجب أن نكون مستعدين في جميع الأوقات». على الفور، ردت السلطات التايوانية على الرسائل الأمريكية، حيث طمأن وزير خارجية تايوان وسائل الإعلام الأجنبية بشأن استعدادات الجزيرة للقتال، مؤكدًا أن قتال الأوكرانيين وشجاعتهم كانا «مصدر إلهام للشعب التايواني».

يبدو أن دبلوماسيي تايوان تحمسوا بعض الشيء على وقع التصفيق الغربي لأوكرانيا و«مقاومتها»، إلا أن تصريحاتهم متسقة مع حالة التصعيد التي تشهدها علاقة الجزيرة مع البر الرئيسي منذ تولي تساي إنغ ون، رئيسة الحزب الديمقراطي التقدمي، السلطة في تايوان عام 2016، ووصول ترامب للبيت الأبيض بعدها بأشهر، معلنًا الصين «تهديدًا وجوديًا» للولايات المتحدة. وتماشيًا مع الاستراتيجية الأمريكية لـ«احتواء الصين» باستخدام ورقة «استقلال تايوان»، يقول الباحث الصيني جانغ ويدونغ إن تساي اتخذت مجموعة من الخطوات والتصريحات التي أدت إلى تدهور العلاقات عبر المضيق بسرعة لم يُشهد لها مثيل منذ التسعينيات.

رغم محاولات الغرب المساواة بينهما، إلا أن قضية تايوان تختلف جوهريًا عن قضية أوكرانيا. فتايوان جزء من الصين، وهذا ما تعترف به جميع الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية معها، انطلاقًا من مبدأ «صين واحدة»، ومن بينها الولايات المتحدة.

في السنوات القليلة الماضية، عملت السلطات التايوانية على تعديل الكتب المدرسية وأغلفة جوازات السفر، وأزالت العناصر الصينية تدريجيًا من متحف القصر الوطني في تايبيه. كما قيدت العلاقات التجارية، وعارضت مبدأ «صين واحدة»، ولم تدخر جهدًا للهجوم على نموذج «دولة واحدة ونظامان»، ومضت قدمًا في «الاعتماد على الولايات المتحدة في السعي للاستقلال»، كما يقول جانغ. لكن التصعيد بلغ درجة جديدة في تشرين الأول من العام الماضي، حين فجرت تساي في مقابلة مع «سي إن إن» قنبلتين: الأولى حين اعترفت لأول مرة بأن الولايات المتحدة تنشر قوات في تايوان، والثانية حين دعت «الشركاء الديمقراطيين الإقليميين» (اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا) إلى المساعدة في دعم الجزيرة [عسكريًا]: «عندما تُظهِر الأنظمة الاستبدادية نزعات توسعية، فعلى الدول الديمقراطية أن تتحد للوقوف ضدها. وتايوان في الخطوط الأمامية».

في أيار من العام الماضي، وصفت مجلة الإيكونومست البريطانية تايوان بـ«أخطر مكان على وجه الأرض». يبدو الوصف دقيقًا، وإن لأسباب تختلف عمّا تسوقه الإيكونومست. ففي ظل مساعي الولايات المتحدة لتطويق الصين بناتو «آسيوي»، بالتعاون مع شركائها في تايوان، وإحاطتها بتكتلات تعمل على عسكرة المنطقة، تصبح الحرب احتمالًا واردًا أكثر فأكثر.

بدأت هذه التكتلات مع مجموعة الحوار الأمني الرباعي، المعروفة بـ«الكواد»، والتي تشمل الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند. ظل الكواد يراوح مكانه لسنوات، لكن مع ازدياد ما تسميه الولايات المتحدة «التوتر تجاه الصين»، أعيد إحياء المجموعة في السنوات الأخيرة، لتشارك الدول الأربعة في مناورات مالابار البحرية عام 2020 في خليج البنغال وبحر العرب.

كان أوباما أول رئيس يحوّل التركيز الاستراتيجي للولايات المتحدة شرقًا إلى الصين بعد الحرب الباردة، عبر استراتيجية «الاستدارة نحو آسيا». ثم تحولت إدارة ترامب من استراتيجية «آسيا والمحيط الهادئ» إلى استراتيجية «المحيطين الهندي والهادئ»، في محاولة للإقرار بأهمية الهند وضرورة وضع إطار استراتيجي يشملها، بوصفها «العضو الحيوي والحاسم في الكواد». يعكس هذا التحول أيضًا التأكيد الأمريكي على ضرورة المضي قدمًا في «السيطرة على المحيطات» وعرقلة تقدم الصين في بناء قوة بحرية، وهي التي جاءتها معظم هجمات العدوان الإمبريالي في العصر الحديث من البحر، وتمر أكثر من نصف وارداتها وصادراتها عبر ممرات مائية تسيطر عليها البحرية الأمريكية، فيما تحيط بها القواعد العسكرية الأمريكية من كل جهة (تملك الإمبراطورية الأمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية وجزيرة غوام وأستراليا وحدها 254 قاعدة عسكرية، تضم أكثر من 87 ألف جندي أمريكي).

جاء إعلان البيت الأبيض في أيلول 2021، عن إطلاق «أوكوس»، أو «الشراكة الأمنية الثلاثية» التي تشمل أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، ليعزز هذه العسكرة. كان الهدف المباشر دعم أستراليا للحصول على «غواصات مدعمة نوويًا»، لكن جهود «أوكوس» تركز أيضًا، بحسب البيت الأبيض، على «القدرات السيبرانية، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيات الكم، وقدرات بحرية أخرى». الدعوات الأمريكية لزيادة تسليح المنطقة لم تكن مواربة، ففي نسخة 2021 من التمارين العسكرية البحرية السنوية في آسيا (ANNUALEX)، والتي شملت 35 سفينة حربية و40 طائرة من الولايات المتحدة واليابان وأستراليا وكندا، ولأول مرة، ألمانيا، قال كارل توماس قائد الأسطول الأمريكي السابع إن القوى المشاركة في التدريبات تمثل «كمًا هائلًا من القوة»، لكن «حين نفكر بالقتال، فإننا أمام مساحة مائية كبيرة، وأربع حاملات طائرات عدد جيد، لكن ستة أو سبعة أو ثمانية سيكون أفضل».

منذ بداية العام، عملت تايوان على تحديث جيشها وإعادة هيكلته والاتجاه نحو قيادة أكثر لامركزية، بشكل يمكن أن يرفع من قدرة قواتها على الصمود في القتال. وأجرت منذ بداية آذار فقط عدة تدريبات تحاكي وقوع حرب مع الصين، من بينها تمارين بالذخائر الحية في جزيرتين قرب سواحل البر الصيني، وتدريبًا استُخدمت فيه صواريخ جافلين الأمريكية المضادة للدروع، التي استخدمت بكثافة في أوكرانيا، إضافة إلى تدريب واسع مؤخرًا حاكت فيه الطائرات الحربية هجومًا صينيًا مرتقبًا، واستُخدمت فيه طائرات F16 وأباتشي أمريكية. في هذا الإطار، طرح الكونغرس عدة مقترحات للتمويل العسكري،[1] تصل قيمتها الإجمالية إلى ثلاثة مليارات دولار سنويًا بين عامي 2023 و2027، بهدف «تسريع نشر تايوان للقدرات الدفاعية المطلوبة لردع غزو من قبل الصين أو هزيمته إن دعت الحاجة»، وهو ما قد يرفع تايوان إلى مرتبة «إسرائيل» من حيث تلقيها لهذه المساعدات الأمريكية. فيما بلغت قيمة صفقات شراء السلاح الأمريكي التي وقعتها تايوان منذ 2019 قرابة 17 مليار دولار.

يدرك قادة الصين أن استقلال تايوان في الوضع الحالي يعني أنها ستتحول إلى جزيرة غوام جديدة، التي باتت منذ احتلال الأمريكيين لها منطلقًا لعملياتهم العسكرية في المحيط الهادئ، وتضم 54 قاعدة أمريكية.

ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، ناقشت تايوان مع الولايات المتحدة الدروس العسكرية المستفادة من الصراع، وأنشأت مجموعة عمل لدراسة التكتيكات المستخدمة فيها. يقول لاري دايموند، الزميل الأول في معهد هوفر بجامعة ستانفورد، إنه «يتعين على تايوان فعل الكثير إذا أرادت صد غزو بنجاح كما فعلت أوكرانيا»، تحديدًا عبر تعزيز مرونتها العملياتية. رحب خبراء أمريكيون بمساعي تايوان لإعادة التفكير في تجنيدها الإجباري، الذي كثيرًا ما اعتُبر أقرب لـ«معسكر صيفي»، نظرًا لكون مدته أربعة أشهر فقط. كما دعوها إلى التعلم من «إسرائيل» التي «استخدمت الخدمة العسكرية الإجبارية المطولة والتقدم التكنولوجي والمساعدة الأمريكية لتعزيز أمنها الإقليمي» (يمكننا هنا أن نعرف الكثير عن تايوان وأوكرانيا وغيرهما من الدول التي تقَدم لنا على أنها تسعى للتحرر والاستقلال، بالنظر لاتخاذها «إسرائيل» نموذجًا يحتذى به).[2]

في المقابل، يمكن للصين أيضًا أن تتعلم الكثير من الحرب. من أهم هذه الدروس، كما يقول أحد الكتّاب الصينيين، هو أنه حين يكون العدو أحد وكلاء الولايات المتحدة، فلا معنى للحرب للخاطفة الساعية لشلّ البلد بهجوم مفاجئ، فالحرب تدور تحت أعين أجهزة الاستخبارات الأمريكية. وفي ظل الفجوة الهائلة في القوة العسكرية بين الصين أو روسيا من جهة وهؤلاء الوكلاء من جهة أخرى، فإن المستشارين الأمريكيين سيعملون على تجنب القتال التقليدي بين جيشين وتصميم مجموعة من التكتيكات الفريدة التي تهدف إلى إطالة أمد المعركة ورفع الخسائر. في هذه الحالة، فإن الخيار الأفضل هو التعبئة الكاملة للجيش والشعب والاستعداد لحرب طويلة: «إذا أردنا استخدام القوة لتحرير تايوان في المستقبل، يجب أن نتخلى عن أي وهم [في القدرة على الحسم] بضربة قاصمة مفاجئة».

بعيدًا عن الدروس المستفادة، ورغم محاولات الغرب المساواة بينهما، إلا أن قضية تايوان تختلف جوهريًا عن قضية أوكرانيا. فتايوان جزء من الصين، وهذا ما تعترف به جميع الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية معها، انطلاقًا من مبدأ «صين واحدة»، ومن بينها الولايات المتحدة.[3] وتايوان ليست عضوًا في الأمم المتحدة، ولا تعترف معظم دول العالم بها كدولة. لذا، فإن محاولات إسقاط السيناريو الأوكراني على تايوان محمّلة بأهداف سياسية.

لكن، إذا استمرت «قوى استقلال تايوان» بالتعاون مع الولايات المتحدة لتغيير الوضع القائم والدفع عمليًا بـ«نظرية الدولتين»، فإن مقولة «اليوم أوكرانيا وغدًا تايوان» ليست مستبعدة على الإطلاق. في ظل إدراك الصين لكلفة مثل هذه المواجهة، هل يمكن أن تختار القتال وتتخلى عن «الصعود السلمي»، بعدما باتت على بعد سنوات من أن تصبح أكبر اقتصاد في العالم؟

عن الصراع والسلام

كثيرًا ما تخبرنا النخب في بلادنا عن مدى تجذر قيم ومبادئ الثورة الفرنسية وحضورها المستمر في الثقافة السياسية في فرنسا، لكن يصعب أن نتخيل أن يقال مثل هذا الكلام عن الصين. فعلى العكس، تُصوّر الثورة الصينية كحدث ماضٍ انتهى كل أثر له مع وفاة ماو تسيتونغ وبداية عصر الإصلاح، وتُقدم العلاقة بين صين ما قبل الإصلاح وما بعده كعلاقة قطيعة وانقلاب، لا استمرارية فيها؛ بين «الصين الماوية» التي تُصور كديك مقاتل، و«الصين الإصلاحية» المسالمة البراغماتية التي تخشى الصدام. تتطابق هذه الثنائية مع النظرة التي تقسم تاريخ البلاد بعد الثورة إلى قسمين: صين فقيرة واشتراكية، وصين غنية ورأسمالية، في تجاهل للتحولات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي حققتها المرحلة الماوية، والتي بدونها لا يمكن أصلًا الحديث عن صين حديثة ومستقلة وقوية وذات سيادة، لقد قامت التجربة الصينية بعد الثورة على استمرارية وانقطاع هاتين المرحلتين معًا. لذا، فإن الفصل التام بينهما سيؤدي حتمًا إلى إساءة فهم الصين).

تهتز هذه الثنائية أمام ما يعكسه الإجماع على مسألة تايوان، فقد تمسكت الصين في فترتيها الماوية والإصلاحية بمبدأ «إعادة التوحيد». كان ماو أول من طرح الحل السلمي لمسألة تايوان عام 1956، قبل سنوات من صياغة دنغ شياو بينغ لنموذج «دولة واحدة ونظامان». وردًا على زيارة رئيس تايوان السابق لي تنغ هوي للولايات المتحدة، أكد جيانغ زيمين، الرئيس الصيني السابق، على معارضة استقلال تايوان، وعلى أن تدمير الوضع السلمي سيقود لاستخدام القوة لحل المسألة. حدث ذلك عام 1995، خلال شهر العسل مع الأمريكان، وعبر تصريحات لوسائل إعلام أمريكية. لكن شي جينبينغ ذهب أبعد من أي مسؤول صيني سابق منذ عام 1979، حين صرّح عام 2019 بأن القضية لا يمكن «تناقلها من جيل إلى جيل»، وبأن الصين لن تستبعد استخدام القوة.

تعرف الصين أن الحرب، إن وقعت، لن تكون مع تايوان وحدها. لذا، فهي لا تقول هذا الكلام باستخفاف. فقد أدركت منذ الثورة ضرورة إرساء السلام من أجل البناء والتنمية، لكن ذلك كان دومًا مقرونًا بشرط ألا يَمس بالسيادة والأمن الاجتماعي، وهو الشرط الذي يكسره «استقلال تايوان» بوضوح. عرف الصينيون بالتجربة أن تحقيق السلام المستدام يتطلب القتال والتضحيات، وأن التسويات والتنازلات التاريخية ستُبقي باب الحرب والعدوان مفتوحًا. كان هذا الدرس الذي مثلته الحرب الكورية عام 1950؛ ففي ذلك الوقت، بُعيد انتصار الثورة، كانت الصين «بحاجة ماسة إلى بناء السلام» كما يقول ماو، إلا أن فهمه لطبيعة الولايات المتحدة جعله يدرك أن تحقيق ذلك لا يمكن أن يمر عبر تجاهل ما يجري في كوريا. «الآن، يتجه العدوان الإمبريالي الأمريكي مباشرة إلى الشمال الشرقي من بلادنا، وإذا أسقط كوريا الشمالية.. فإن شمال شرقنا سيعيش غالبًا تحت تهديده، وسيكون من الصعب تحقيق البناء السلمي.. ستوضع ثلاث سكاكين حادة على أجسادنا: واحدة من كوريا الشمالية على رؤوسنا، وواحدة من تايوان على الخصر، وواحدة من فيتنام على أقدامنا».

يبقى هذا الدرس حاضرًا في مسألة تايوان اليوم. إذ يدرك قادة الصين أن استقلال تايوان في الوضع الحالي يعني أنها ستتحول إلى جزيرة غوام جديدة (التي باتت منذ احتلال الأمريكيين لها موطئ قدم مهم لهم، ومنطلقًا لعملياتهم العسكرية في المحيط الهادئ، وهي التي تضم 54 قاعدة أمريكية رغم أن مساحتها أقل من 550 كلم مربع). لكنها ستكون في الصين، لا على بعد آلاف الكيلومترات منها. لهذا السبب، فإن كل قادة عصر الإصلاح من دنغ شياو بينغ إلى شي جينبيغ، ماويّون فيما يتعلق بتايوان.

بين الحاجة للسلام وإدراك الماهية الإمبريالية للولايات المتحدة، صاغ ماو مبدأ «التعاون والصراع» الذي حكم العلاقة الصينية الأمريكية منذ عقود، دون أوهام عن إمكانية قيام «سلام أبدي» مع الولايات المتحدة أو تحويلها لحليف، كما يشرح الكاتب جيانغ يونغ. فبسبب حاجة الصين لاستقرار يمكّنها من تطوير مشروعها التنموي، فإن التعاون السلمي سيظل ضروريًا. لكن بسبب الطبيعة العدوانية للولايات المتحدة وتناقض مصالحها مع نهوض الصين، فإن وجود فترات من الصراع سيكون كذلك حتميًا. بكلمات أخرى، فإن التعاون والصراع متلازمان في هذه العلاقة، ولم تكن المسألة مجرد انتقال من مرحلة صراع إلى مرحلة تعاون، كما تُصور سردية القطيعة بين الماوية والإصلاحية. فقد تعاون الثوار الصينيون مع الأمريكيين عام 1944 أثناء الحرب مع اليابانيين، قبل أن يقاتلوهم في كوريا بعد سنوات، في حرب قدموا فيها أكثر من 197 ألف مقاتل، كان من بينهم ماو آنينغ، أكبر أبناء ماو تسيتونغ. ومع اندلاع أزمة مضيق تايوان الأولى عام 1954، توترت العلاقات أكثر، لكن الاجتماعات بين الطرفين استمرت لتجنب الحرب. وحين تم تطبيع العلاقات عام 1972 مع زيارة نيكسون للصين، بلغ عدد هذه الاجتماعات المتعلقة بتايوان 136 اجتماعًا. وبعد انهيار العلاقات الصينية السوفييتية، أمّن التعاون السلمي إمكانية نقل المعرفة والتكنولوجيا من أجل تطوير المشروع الصناعي الصيني. في هذا الإطار، مثلًا، جاءت خطة ماو المعروفة باسم «أربعة وثلاثة» في أوائل السبعينيات التي سعت لاستيراد معدات وأجهزة بقيمة 4.3 مليار دولار (ومن هنا جاء اسمها)، من ستة دول غربية، من بينها الولايات المتحدة، بالإضافة إلى اليابان. استخدمت هذه المعدات إلى جانب معدات محلية لبناء 26 مشروعًا صناعيًا رئيسًا. وبحلول عام 1982، تم تشغيل جميع هذه المشاريع، لتصبح أساسًا مهمًا للتنمية الاقتصادية في الصين خلال الثمانينيات، تبنى عليه مشاريع لاحقة. كانت قدرة الصين على تحقيق تنمية مستقلة مرتبطة دومًا بتوفير شروط البناء والتطوير.

إذا استمرت «قوى استقلال تايوان» بالتعاون مع الولايات المتحدة لتغيير الوضع القائم والدفع عمليًا بـ«نظرية الدولتين»، فإن مقولة «اليوم أوكرانيا وغدًا تايوان» ليست مستبعدة على الإطلاق.

لكن الصينيين لم ينسوا الشق الثاني لهذا المبدأ، والولايات المتحدة لم تسمح لهم بنسيانه، حتى وإن خَفُتَ منذ الثمانينيات. فالقادة السياسيون في عصر الإصلاح، كما ينقل سمير أمين، كانوا يدركون أن الولايات المتحدة لا يمكن إلا أن تعادي الصين كأمة ودولة، وأن تصاعد الصراع سيظل احتمالًا قائمًا، وأن الصين قد تصل إلى مرحلة تجد نفسها فيها مجبرة على القتال، وهو ما بات يتضح أكثر اليوم. فمنذ سنوات، يتزايد بين الصينيين الاعتقاد بأن الوجه الأبرز للمرحلة المقبلة سيكون الصراع، وقد عززت الحرب الحالية في أوكرانيا هذا الاعتقاد. بالنسبة لكثيرين، لم يعد السؤال هو هل ستحاربنا الولايات المتحدة، بل لماذا تأخرت حتى الآن. يقول جيانغ إنه «على الرغم من تدهور العلاقات الصينية الأمريكية، لا تزال هناك مصالح مشتركة ضخمة ومعقدة بين الصين والولايات المتحدة.. سيظل هناك تعاون وصراع بين الصين والولايات المتحدة، لكن الصراع أصبح السمة الأساسية. إن دوامة التاريخ تعيد إنتاج العلاقات الصينية الأمريكية قبل 30 عامًا من الإصلاح والانفتاح». في الإطار ذاته، يقول الكاتب لي غوانغمان إنه يجب أن يكون لدى الصين اليوم شعور أعمق بالأزمة في علاقتها بالولايات المتحدة: «إن عبارة «الأمة الصينية وصلت إلى أخطر أوقاتها» التي تُغنّى في النشيد الوطني الصيني لم يعفُ عليها الزمن»، يقول لي. 

بالمحصلة، على وقع الأصوات المنادية بـ«الاستعداد للحرب»، هناك في الصين من يرى أن انتظار الهجمة قد لا يعود خيارًا في لحظة ما، وأنه إذا كان الهدف الحفاظ على منجزات التنمية الصينية، فيجب تذكر أن هذه المنجزات لم تكن لتتحقق دون فرض السيادة وردع الهيمنة الغربية، وأنه حين تصبح هذه السيادة مهددة، فإن كل المنجزات تصبح مهددة معها. اليوم، أصبحت تايوان مركز الصراع الصيني الأمريكي، والسكين الأخير المتبقي في خاصرة الصين من الخمسينيات، الذي يبدو أنها لن تستطيع التعايش معه إلى الأبد.

  • الهوامش

    [1] تشمل هذه المقترحات منحًا وقروض لمساعدة تايوان على شراء الأسلحة الأمريكية.

    [2] مطلع نيسان، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بوضوح إن أوكرانيا لن تصبح «ليبرالية أو أوروبية بالكامل» بل ستكون أقرب إلى «إسرائيل كبيرة».

    [3] تقول الاستراتيجية الأمريكية للمحيطين الهندي والهادئ، التي أصدرتها إدارة بايدن في شباط الماضي: «سنعمل أيضًا مع شركائنا (..) للحفاظ على السلام والاستقرار في مضيق تايوان، بما يشمل دعم قدرات تايوان في الدفاع عن نفسها، لضمان بيئة يحدد فيها مستقبل تايوان سلميًا وبما يتوافق مع رغبات ومصالح شعب تايوان. خلال ذلك، تبقى مقاربتنا متسقة مع سياسة صين واحدة».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية