الحركة الإسلامية التونسية وتحولاتها الطبقية

الأربعاء 23 آذار 2022
عبد الفتاح مورو
لوحة إعلانية انتخابية للمرشح عبد الفتاح مورو من حزب النهضة في العاصمة التونسية، في أيلول 2019، قيبل الانتخابات الرئاسية. تصوير فتحي بلعيد. أ ف ب.

خلف مقولات «الاستثناء التونسي»[1] الوهمية والمضللة، والنابعة من «الإيغو» الشوفينيّ والنظرة الخارجية القاصرة جدًا للوضع في تونس، والذي يحاول بعض التونسيين، عن وعي أو بدونه، تصديره للخارج، تختفي حزمة هائلة من التحليلات والأحكام السطحية التي تحاول مقاربة الأحداث في تونس منذ العام 2011، ولاسيما سلوك الحركة الإسلاموية السياسي وتحولاته. ذلك أن المراقبين من الخارج ينظرون بنوع من الإعجاب لسياسات حركة النهضة، ورئيسها راشد الغنوشي، باعتبارها سياسات غير مسبوقة لمكوّن إسلاموي سياسي قياسًا لما حدث في مصر أو سوريا أو غيرهما من الساحات العربية.

غير أن هذه النظرة المقارنة عادةً ما تكون سطحية وتخدم بشكل غير مسبوق السردية التي حاولت الحركة ترسيخها منذ صعودها إلى السلطة، خاصة لدى الرأي العام الدولي والنخب الحاكمة في الخارج. سردية الحركة التي غادرت «ضيق الإسلام السياسي» نحو «رحابة الديمقراطية»، أو ما يعبّر عنه الغنوشي بـ«الإسلام الديمقراطي»، على نحو شديد السيولة، دون توضيح ملامحه أو تحديده أو تعريفه، والأهم، دون إيجاد فوارق بينه وبين الإسلام السياسي.

تحاول هذه المقالة الخروج عن التحليل السائد لمسار تحوّل حركة النهضة في تونس، أي الذي ينظر إليها عبر التطور الفكري والسياسي، وهو ما تحاول الحركة و تيار سائد من الأكاديميين -لا سيما الغربيين- ترسيخه، نحو تحليل مادي يسعى إلى قراءة هذا المسار من خلال التحول الطبقي الذي عاشته الحركة منذ ظهورها نهاية ستينيات القرن الماضي، وخاصة بعد صعودها إلى السلطة عام 2011.

الإسلاميون وتحولات القاعدة الإجتماعية

في أعقاب فشل «التجربة التعاضدية» في تونس (الاقتصاد التعاوني)، والتي قادتها البيروقراطية بشكل فوضوي أدى في النهاية إلى إسقاط الوزير أحمد بن صالح من الحكومة أواخر الستينيات، دخلت البلاد في أزمة متعددة الأبعاد، ذلك أن النظام شعَرَ بفقدان السيطرة على الفضاء العام والمؤسسات الشعبية الوسيطة بعدما برزت حركات المعارضة اليسارية الجذرية، إضافة إلى الأجنحة المعارضة داخل الحركات الطلابية والنقابية، وحتى داخل الحزب الحاكم نفسه. وقد شكلت الأزمة الصحية التي تعرض لها الرئيس الحبيب بورقيبة حينذاك مؤشرًا على المرض الذي بدأ ينخر النظام.

في هذا السياق المأزوم، بدأت قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى، وخاصة الشرائح الدنيا منها، في شق طريقها بعيدًا عن الولاء للطبقة البيروقراطية الحاكمة. ومن بين هذه القطاعات، الشرائح المحافظة من هذه الطبقة، والتي وجدت في مؤسسات الحزب الاشتراكي الدستوري ملاذًا لها خلال عقد الستينيات، وحازت مواقع متقدمة في المناصب الحزبية. تزامنت هذه التحولات مع هزيمة حزيران 1967 وصعود التيار الإسلاموي على إثرها، باعتباره بديلًا عن الخيار القومي المهزوم، والذي تعزز لاحقًا مع موجة «الصحوة» التي عمت السبعينيات، مدفوعة بفوائض الربح النفطية العالية في الخليج ونهاية الناصرية في مصر.

في هذه الأجواء، نشأت حركة النهضة باسم «الجماعة الإسلامية»، التي كانت أحد التعبيرات السياسية عن الشرائح الدنيا المحافظة من الطبقة الوسطى برافديْن أساسيين، أولهما التشكيلات الاجتماعية الريفية المحافظة (صغار الفلاحين، والفلاحون الأُجَراء، وصغار تجار المحاصيل الزراعية)، وثانيهما التشكيلات الاجتماعية المدينية المحافظة (الأجراء في القطاع العام والخاص، وصغار كسبة، والتجار الصغار، إلخ). وقد بدا هذا التنوع جليًا في المجموعة المؤسسة، لا سيّما راشد الغنوشي والشيخ عبد الفتاح مورو.

مذّاك، عبّرت الحركة دائمًا عن هذه الطبقة، وهي «سديم ديموغرافي» كبير، كان يمثل تاريخيًا أحد روافد القاعدة الاجتماعية للحركة الدستورية الوطنية منذ الثلاثينيات، ثم أصبح أكثر قربًا من الحركة اليوسفية المعارضة للرئيس بورقيبة عشية الاستقلال (1956). ذلك أن هذا السديم الواسع طالما اعتبر دولة بورقيبة معادية لهوية المجتمع، أو كما عبّر عنه الغنوشي في ورقة كتبها في الذكرى العشرين لتأسيس حركة النهضة (2001) بأن «تاريخ الاستقلال هو تاريخ حرب الدولة على المجتمع»، لأن بورقيبة قام بتفكيك الأسس المادية والأيديولوجية لهذا السديم المحافظ، سواء كان من الأقلية الأرستقراطية (العلماء والعوائل المرتبطة بالبلاط الملكي الملغى)، أو من الشرائح الوسطى المتعلقة بالهوية، وذلك من خلال إلغاء الأوقاف وتوحيد التعليم وإلغاء التعليم الشرعي وتغيير قانون الأحوال الشخصية على نحو جذري.

لاحقًا، عندما خرجت الحركة إلى العلن عام 1981 باسمٍ جديد هو «الاتجاه الإسلامي»، بعد سنوات من العمل السريّ، أعلنت في بيانها التأسيسي عن جملة من المهام التي تسعى لتحقيقها، من بينها «إعادة بناء الحياة الاقتصادية على أسس إنسانية، وتوزيع الثروة بالبلاد توزيعًا عادلًا على ضوء المبدأ الإسلامي «الرجل وبلاؤه، الرجل وحاجته» أي (من حق كل فرد أن يتمتع بثمار جهده في حدود مصلحة الجماعة وأن يحصل على حاجته في كل الأحوال) حتى تتمكن الجماهير من حقها الشرعي المسلوب في العيش الكريم بعيدًا عن كل ضروب الاستغلال والدوران في فلك القوى الاقتصادية الدولية. وبلورة مفاهيم الإسلام الاجتماعي في صيغ معاصرة، وتحليل الواقع الاقتصادي التونسي حتى يتم تحديد مظاهر الحيف وأسبابه والوصول إلى بلورة الحلول البديلة، والانحياز إلى صفوف المستضعفين من العمال والفلاحين وسائر المحرومين في صراعهم مع المستكبرين والمترفين».[2]

عبّرت «الجماعة الإسلامية» عند نشأتها أواخر الستينيات عن الشرائح الدنيا المحافظة من الطبقة الوسطى، سواء كانت تشكيلاتها ريفية أو مدينية. ودعت عند خروجها للعلن مطلع الثمانينيات إلى إعادة بناء الاقتصاد وتوزيع الثروة بعدالة.

يبدو المعجم المستعمل في البيان التأسيسي شديد التأثر بالثورة الإسلامية في إيران، ذلك أن الحركة الإسلاموية التونسية اقتربت نهاية السبعينيات من أفكار الصراع الاجتماعي، مع أنها لم تفارق يومًا أفكار الصراع الهوياتيّ المقدس. لكن الثورة الإيرانية أعطتها دفعًا اجتماعيًا جديدًا. ويعبر الغنوشي عن ذلك في كتاب «تجربة الحركة الإسلامية في تونس» بالقول:

«لقد جاءت الثورة الإيرانية في الوقت المناسب لتعطينا أدوات تحليلية إسلامية لصراعات لم تستطع بضاعتنا الثقافية التقليدية تأطيرها. وفي سنة 1980 احتفلت الحركة في الأول من أيار لأول مرة بعيد العمال، في أكبر المساجد في تونس، وحضر الاحتفال حوالي خمسة آلاف شخص، وألقى رئيس الحركة محاضرة كانت ذات شأن حول طبيعة الملكية الزراعية في الإسلام أصّلت مقدماتٍ مهمة حول المسألة الاقتصادية ووضعها في الإطار الإسلامي، وفي المسألة الزراعية أكدت أن الملكية ذات طبيعة اجتماعية وظيفتها أن تكون في خدمة المجتمع، وأن القائمين عليها إذا لم يسخّروها لخدمة المجتمع يمكن انتزاعها للصالح العام من طرف المجتمع ممثلًا في الدولة التي عليها أن تنتزع الملكية التي لا تخضع للصالح العام، وأن الأرض كلها -التونسية وأرض العرب- هي في الأصل أرض فتوحات. وفي أيار الذي تلاه 1981 احتفلنا أيضًا بتلك المناسبة، وقدمت محاضرات حول حقوق العمال في الإسلام في كافة المساجد التونسية فأدركت الدولة عندئذ ما يمثله الاتجاه الإسلامي من خطر على المصالح الرأسمالية التي تحميها».[3]

لكن هذا التحول نحو القرب أكثر من الطبقات الشعبية الفقيرة لم يكن وليد التأثر بالثورة الإيرانية فحسب، بل إن سببه الأساسي هو تدهور أوضاع الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى؛ القاعدة الاجتماعية للحركة الإسلامية، واقترابها أكثر من معدلات الفقر، بسبب ما خلّفته عشرية السبعينيات من انفتاح اقتصادي، ما أعطى دفعًا قويًا للبرجوازية التونسية، التي كانت ضعيفة، ورفع من مستوى الشرائح العليا للطبقة الوسطى، ولكن عمّق -في الوقت نفسه- من أزمة الطبقات الفقيرة والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، وخاصة الريفية منها، بعد موجات النزوح الكبيرة نحو المدن الكبرى منتصف السبعينيات، في أعقاب تشكل الأقطاب الصناعية واستقرارها في تونس العاصمة وصفاقس ومدن الساحل الشرقي. ويمكن تلخيص هذا التطور المختل لسياسات الانفتاح التي قادتها حكومة الهادي نويرة (1970-1980) بما يسميه ماركس «تراكم الثروة في قطب واحد من المجتمع، والذي هو في نفس الوقت تراكم للفقر والبؤس في القطب الآخر».

لاحقًا، أدت الأزمة السياسية للنظام والمعركة بين أجنحته حول خلافة الرئيس بورقيبة في تدهور الوضع الاقتصادي بشكل غير مسبوق في الثمانينيات، ودخول البلاد رسميًا في تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد الدولي، وبدأ معدّل النموّ العام يشهد تقلّبات حادّة، جعلت الشرائح الوسطى المحافظة أكثر رثاثةً وفقرًا.

حافظت الحركة الإسلاموية التونسية على هذا التكوين الطبقي ضمن تشكيلها التنظيمي، والذي كانت تسوده العناصر المنحدرة من القاعدة الاجتماعية العريضة للحركة المستقرة أساسًا ضمن أحزمة الفقر حول المدن الكبرى التي أفرزتها سياسات الانفتاح. لكن المعركة التي خاضتها الحركة مع نظام زين العابدين بن علي عام 1991، وانتهت بعد عام واحد، أدت إلى إنهاء وجودها التنظيمي في الداخل، بسبب اعتقال الأعضاء والقيادات وتهجير الآلاف إلى المنفى، وتفرق قاعدتها الاجتماعية مرة ثانية نحو تشكيلات سياسية شبه محافظة، كان أبرزها حزب الرئيس بن علي نفسه «التجمع الدستوري الديمقراطي»، فيما توجهت قطاعات أخرى من هذه القاعدة المديدة نحو تعبيرات ثقافية ودينية أخرى، مثل «جماعة التبليغ والدعوة» التي كانت تنشط بحرية نسبية، والتيار السلفي غير المنظم، وقد بدا ذلك واضحًا في التسعينيات من خلال بروز مظاهر «تسلّف» في المساجد، وخاصةً لدى فئة الشباب، فضلًا عن تحولات طالت شكل الحجاب الإسلامي والشرائط الدعوية، وقد ترافق ذلك مع طفرة الفضائيات الدينية التي جاءت بها ظاهرة الصحون اللاقطة آنذاك، وهو تحول عاشته أغلب دول المنطقة. وخلال هذا الحقبة، لاذت الحركة الإسلامية التونسية بصمت طويل، ما خلا نشاطها الحقوقي في الخارج للمطالبة بإطلاق سراح معتقليها، وهي حقبة جرت فيها مياه كثيرة تحت جسور البلاد سياسيًا وطبقيًا، ومياه أخرى تحت جسور الحركة الإسلامية التي ستتحول من «حركة اجتماعية»[4] إلى «طبقة تسعى للهيمنة».

«التمكين»: صعود البرجوازية الإسلاموية الطفيْلية

لم تكن عودة الحركة الإسلامية إلى الداخل في تونس قائمة على انفتاحٍ داخل النظام فحسب، كما حدث في تجارب إسلاموية أخرى، بل حدث ذلك في أعقاب انتفاضة نجحت بالحد الأدنى في إجبار رأس النظام على الفرار، وأجبرت النظام برمته على إعادة تشكيل نفسه وفقًا لقواعد جديدة. هذه الملحمية التي طبعت عودة الحركة أعطتها زخمًا غير مسبوق، وقدمتها في صورة أكبر المنتصرين، ومهّدت لها الطريق للفوز في انتخابات تشرين الأول 2011. ولكنها في الوقت نفسه لعبت دور المخدّر للحركة ورأسها، ما جعلها تعتقد وهمًا أنها في طريق معبّد للسيطرة على السلطة والمجتمع دون منغصات. فشرعت مباشرة بتطبيق مشروعها القديم في «إنهاء القائم وبناء الجديد» أو ما يحلو للإسلاميين، وخاصة الإخوان المسلمين، تسميته بـ«التمكين».

جعلت حدّيةُ الحركة في التعامل مع النظام القائم قوى المعارضة تتوحد ضد الحركة، لتدخل البلاد في حالة من الصراع، تفاقمت إلى عنف سياسي واغتيالات أودت بحياة قياديين بارزين من الجبهة الشعبية (تحالف واسع للأحزاب اليسارية والقومية تأسس عام 2012)، هما شكري بلعيد (يساري) في شباط 2013، ومحمد البراهمي (قومي ناصري) في تموز من العام نفسه، لينتهي الأمر إلى نوع من التسوية برعاية الاتحاد العام التونسي للشغل في العام 2014.

خلال هذه الفترة الأولى من وجود الحركة في السلطة (2011-2014) حافظ الإسلاميون في تونس على خطابهم التقليدي في تبني قاعدتهم الاجتماعية التاريخية من الشرائح الوسطى المحافظة، لكنهم في الوقت نفسه سعوْا وفقًا لمسار مُحدّد للسيطرة على جهاز الدولة البيروقراطي لتحقيق التمكين الاقتصادي، ذلك أن الحركة الإسلامية اكتشفت خلال سنوات المنفى -عبر أوراق التقييم التي ناقشتها الأطر التنظيمية حول أسباب محنة 1991- أنها وإن كانت تملك قاعدة اجتماعية واسعة، إلا أن النظام نجح دون عناء كبير في اجتثاثها سياسيًا، بسبب ضعف نفوذ هذه القاعدة رغم قوّتها الديموغرافية، حيث كانت مجرد جماهير بلا نفوذ داخل شبكات النخب المالية والإدارية والثقافية. وخلصت إلى أن تجذير وجودها لا يمكن أن يتم خارج السيطرة على مسارات النفوذ الاقتصادي في البلاد، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون السيطرة على النخب البيروقراطية الحاكمة.

عبّر الغنوشي عن هذه الخلاصة في مقابلة صحافية قال فيها إن الحشود بلا نخب مؤثرة يمكن أن تُقاد إلى محرقة، مشيرًا إلى أن «مسألة موازين القوى هي فكرة أساسية في الثقافة السياسية للحركة. ويجب أن تكون الأغلبية مدعومة بنخبة فاعلة، بمعنى أن الكمّ وحده غير كافٍ. لا بد من توافر الحد الأدنى من الكيف إلى جانبه. دائمًا ما كنّا نأخذ مثال الجزائر لتأكيد هذه الفكرة؛ فالجبهة الإسلامية للإنقاذ حصلت على 80% في أول انتخابات تشريعية نزيهة تجري في هذا البلد الشقيق، أواخر سنة 1991. وبالمنطق الكمّي الحسابي الديمقراطي، يمكن القول إن الجبهة حصلت على شرعية عالية جدًا. ولكن، ماذا فعلت بها؟ ميزان القوى هو الذي قال كلمته، ولم ينفعها كثيرًا المنطق الكمّي. ماذا تفعل بهذه الجموع التي حشدْتها حولك في حين أن النخب جميعًا (الجيش، والشرطة، والإدارة، والآداب، والإعلام، والمال، والفنون، فضلًا عن العلاقات الدولية) ليست إلى جانبك، ولا تعمل لفائدة الإسلاميين؟ ماذا تفعل بهذه الجموع التي حشدتَها حولك؟ لن تفعل بها شيئًا، بل على العكس يمكن أن تقودها إلى محرقة».[5]

بعد التوافق السياسي بين حركتي النهضة ونداء تونس عام 2013، برزت «البرجوازية الإسلاموية الطفيلية» المتكونة من برجوازية الأطراف الجديدة التي يندرج رأسمالها ضمن الاقتصاد الرسمي، وبرجوازية صاعدة من القاعدة الاجتماعية المحافظة للحركة.

وتؤكد الحركة على ذلك في اللائحة التقييمية التي نشرتها في مؤتمرها العام الأخير عام 2016 بالقول: «ظل المنهج الذي اعتمدته الحركة يركز أكثر على الفئات الشعبية وعلى اعتماد خطاب يناسبها استقطابًا وتعبئةً، والتوجه خاصةً إلى الشباب التلمذي والطلابي ورواد المساجد. إلا أنها لم تسعَ في الآن نفسه للوصول إلى النخب (مثقفين، جامعيين، إعلاميين، نقابيين، رجال أعمال، …) والتواصل معهم بخطاب ومضمون مناسبين. والحقيقة أن وعي الحركة لا يزال ضعيفًا بأهمية النخب الماسكة بعملية التوجيه في البلاد، وحجم تأثيرها في القرار داخل السلطة، ودورها الخطير في صناعة وتشكيل الرأي العام».

ترافق هذا الجنوح القوي من حركة النهضة نحو السيطرة على البيروقراطية الإدارية مع سعيها للسيطرة على الطبقة البرجوازية السائدة، من خلال استعمال أداتها البيروقراطية التي أكسبتها إياها الانتخابات، وهي الدولة؛ الجهاز الذي لا يمكن لأي رأسمالية أن تعيش بدونه. لتحتكر الحركة من خلال وزارة العدل، التي وضعت على رأسها نور الدين البحيري أحد أبرز قياداتها، وعبر جهاز القضاء، ملف محاسبة رجال الأعمال المتورطين في قضايا فساد في عهد بن علي. وقد نجحت إلى حد بعيد في ترويض هؤلاء بحزمة تسويات معهم عبر المقايضة، فيما عاشت الأقلية الرافضة لهذه التسوية مصائر متأرجحة بين السجن والمنفى وحتى الموت. وقد دفع هذا المسار قطاعًا واسعًا من النخب المالية والاقتصادية للتقرب من الحركة الإسلامية للمحافظة على مصالحهم. في المقابل تمترست الأقلية الرافضة خلف الباجي قائد السبسي وحركة نداء تونس، باعتبارها أملهم الأخير في إنقاذ مصالحهم.

في الوقت نفسه، شكلت البرجوازية الجديدة التي نشأت على الأطراف، من خلال التراكم خارج أطر الاقتصاد الرسمي، رافدًا مهمًا للحركة الإسلامية، لأن هذه البرجوازية في جذرها هي تلك التشكيلات الاجتماعية الوسطى المحافظة في الثمانينيات، والتي ارتقت طبقيًا بفضل تحولات جيوسياسية في المنطقة، منها تطبيع العلاقات بين تونس وليبيا وتحسّنها مع الجزائر، الأمر الذي أدى إلى انتعاش التجارة غير القانونية على طرفي الحدود بتزكية ضمنية من مؤسسات الدولة. وكذلك بفضل الحصار الاقتصادي المفروض على ليبيا خلال التسعينيات والحرب الأهلية في الجزائر، حيث كانت تونس أحد مصادر التزويد السلعي والمالي للبلدين. فهذا الجناح المهمش من البرجوازية كان يعاني لسنوات من عدم نجاحه في الوصول إلى مواقع متقدمة من الهيمنة، في ظل سيطرة البرجوازية التقليدية المهيمنة على الاقتصاد الرسمي، فوجدت في صعود حركة النهضة للسلطة فرصة تاريخية لوصول أكبر نحو مواقع الهيمنة، من خلال تحويل فوائض كبيرة من التراكم نحو الاقتصاد الرسمي الخدمي، خارج قطاعات الإنتاج، في عملية «تبييض رساميل» واضحة، لتبرز خلال هذه الفترة العديد من المشاريع العقارية، والترفيهية كالمطاعم والفنادق، والمشاريع الصحية كالمصحّات الخاصة. وهو ما يفسره مهدي عامل بالقول إن «وعي الطبقات البرجوازية غير المهيمنة في تطلعها لشرعنة الوصول إلى مراكز الهيمنة التي تشغلها أجزاء أخرى من البرجوازية، الذي يزداد إلى مستوى يتم من خلاله تحديد موقعها من المجال السياسي والاقتصادي. هذا الجزء من البرجوازية غير المهيمن يريد إنهاء جزء من الهيمنة دون أن يزيل كامل الهيمنة البرجوازية».[6]

وبالإضافة إلى ميولها المحافظة، باعتبار انتمائها جغرافيًا إلى مناطق ذات بناء اجتماعي قبليّ، فإن هذه الشريحة من البرجوازية المهمشة، قد دُفعت من خلال موقعها الطبقي الهامشي نحو الحركة الإسلاموية، فيما ساعدتها الحرب الأهلية في ليبيا وسيطرة الميليشيات الإسلاموية على السلطة في تعزيز مواردها المالية على نحو غير مسبوق. لكن كل هذا المسار كان ضمن مشروع متكامل للتمكين وضعته الحركة، من بين عناصره التمكين الاقتصادي، في تكفير عن خطايا الماضي عندما أهملت هذا الجانب فوجدت نفسها خارج اللعبة. ويبدو أن هذه الاستفاقة شاملةٌ لعموم الجماعات الإسلاموية في المنطقة، وهو ما لخّصه العراقي محمد أحمد الراشد، القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين، قائلًا: «على خط الدعوة أن يتوب توبة نصوحة من إسرافه القديم في تعليم الدعاة كراهة المال وحب الوظائف الحكومية».[7]

صيف العام 2013، وفي أحد الأجنحة الفاخرة بفندق البريستول في الدائرة الباريسية الثامنة، اجتمع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي مع رئيس حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي، أي ممثل الطبقة البرجوازية الجديدة بممثل الطبقة البرجوازية التقليدية، لإيجاد تسوية تاريخية لتقاسم السلطة والنفوذ وإنقاذ النظام من السقوط نهائيًا. وإذ يبدو هذا التحليل للوهلة الأولى مبالغًا فيه، إلا أن معرفة رعاة اللقاء التاريخي كفيلة بنزع أي دهشة أو شعور بالمبالغة، حيث أشرف على اللقاء، وساطةً وتنظيمًا، كل من سليم الرياحي، أحد رموز البرجوازية الجديدة التي راكمت ثروتها خارج المسارات الاقتصادية الرسمية المحلية، ونبيل القروي، أحد رموز البرجوازية التقليدية التي ولدت وانتعشت في ظل نظام بن علي خلال تسعينيات القرن الماضي، مستفيدة من فتح الاقتصاد المحلي على الرأسمال الأوروبي منذ عام 1995. خلال هذا اللقاء وضع العجوزان الخطوط العريضة لنظام التوافقية الذي حكم البلاد بين عامي 2014 و2019، وأودى بها إلى ما تعيشه اليوم.

وضع هذا التوافق السياسي والطبقي الحركة الإسلامية في قلب المصالح المشتركة للطبقة الحاكمة، وفتح لها أبواب النفوذ داخل شبكات النخب المهيمنة. وفي سياق التوافق هذا برزت «البرجوازية الإسلاموية الطفيلية» وتوسّعت متكونةً من رافدين أساسيين، أولهما برجوازية الأطراف الجديدة التي نجحت في إدراج رأسمالها ضمن الاقتصاد الرسمي، وثانيهما برجوازية صاعدة من القاعدة الاجتماعية المحافظة للحركة، ونجحت الأخيرة بفضل سيطرة الحركة على السلطة في مراكمة رساميل مهمة وارتقت طبقيًا، وقد حقق بعض عناصرها ذلك خلال سنوات المنفى، من خلال إدارة أموال الحركة أو تشبيك المصالح مع فاعلين اقتصاديين من نفس الانتماء الأيديولوجي (الإخوان المسلمون) خاصة من دول الخليج العربي. ويمكن وصف روافد هذه البرجوازية الإسلاموية الصاعدة بأنه تحالف «البرجوازي المتأسلم مع الإسلاموي المتبرجز»، لكن السمة البارزة والموحدة لكل هذه الروافد هي «الطفيليّة».

ورغم ضبابية مفهوم الطفيليّة القائم خاصة في المنطقة العربية، إلا أن هذه الطبقة بالمعنى الدقيق لعبت -وتلعب- دورًا في تكريس نمطٍ من الرأسمالية يعيق تطور قوى الإنتاج فى المجتمع، ذلك أن الطفيلية «هي كل نشاط أو وضع من شأنه أن يعرقل عملية التطور الاجتماعي لقوى الإنتاج فى ظل ظروف أخرى ممكنة تاريخيًا فى نفس الوقت»، كما يذهب إلى ذلك كل من عادل العمري وشريف يونس في دراستهما الرائدة حول «الرأسمالية الطفيلية».[8]

بالتالي، فالطبقة البرجوازية الإسلامية الصاعدة هي طفيلية من ناحية أن أحد أهم روافدها يشتغل خارج الاقتصاد الرسمي، أي من خلال الجريمة الاقتصادية كما تسميها التشريعات السائدة للبرجوازية التقليدية، كما أن روافدها الأخرى التي تشتغل ضمن الاقتصاد الرسمي تنشط في قطاعات التوريد والتمويل والتأجير المالي وتوظيف الأموال، وقد ساهمت بشكل واسع في تدمير البنى الاقتصادية الإنتاجية الوطنية من خلال استعمال جهاز الدولة في إصدار قرارات وتشريعات تمكّنها من امتيازات التوريد، ما أدى في النهاية إلى تدمير الإنتاج المحلي لاعتبارات فارق الجودة قياسًا للسعر، بفضل الإعفاءات الجمركية.

ولعل اتفاقية التبادل التجاري الحر بين تونس وتركيا، الموقعة في عهد نظام بن علي، والتي رفضت حركة النهضة مراجعتها رغم اختلال ميزان التبادل بشكل غير مسبوق، تبدو مثالًا نموذجيًا لهذه السياسات، حيث فتحت المجال لصعود شريحة من تجار التوريد، في تلازم بين المسار الاقتصادي والأيديولوجي للحركة في تحالفها القوي مع نظام رجب طيب أردوغان. فهذه الاتفاقية تسمح بإعفاء جميع المنتجات الصناعية من الرسوم الجمركية، كما تقضي أيضا بإعفاء بعض المنتجات الزراعية من هذه المعاليم إلى حدود سقف معين، وقد جاء الغبن فيها على الجانب التونسي بسبب ضعف المنافسة وتفكك البنية التحتية الصناعية بسبب الوضع السياسي غير المستقر بعد انتفاضة 2011.

المآلات: تآكل التنظيم وإعادة إنتاج الطبقة الحاكمة

انعكست هذه التحولات الطبقية على الوضع الداخلي التنظيمي للحركة الإسلامية التونسية بشكل غير مسبوق، ويمكن تلخيصها في حالة السيولة التي أصبحت تعيشها السرديات الفكرية والأيديولوجية للحركة، مقابل صعود حالة من النفعية غير المحدودة كلّلها راشد الغنوشي بالإعلان عن الفصل بين الدعوي والسياسي في المؤتمر العام للحركة في عام 2016، مبشرًا بتبني الحركة للإسلام الديمقراطي، في محاولة لبناء هوية إيديولوجية جديدة. إلا أن ذلك لم يكن فقط تعبيرًا عن مرحلة جديدة تعيشها الحركة بعد اندماجها في الطبقة الحاكمة بعد التسوية التاريخية مع قائد السبسي -بمباركة أوروبية وأمريكية لافتة-، بل تعبيرًا عن مرحلة جديدة من البناء التنظيمي للحركة وقاعدتها الاجتماعية. ومنذ ذلك، صار هناك تبجيل واضح لأصحاب المال ورجال الأعمال داخل الحركة، يقابله تباعد بينها وبين قاعدتها التقليدية من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى. بدا ذلك شديد الوضوح في القرارات التي اتخذها الغنوشي خلافًا للانتخابات الداخلية في تصعيد مرشحي الحركة للانتخابات عام 2019، حيث ألغى كل ما قررته القواعد ووضع أسماء جديدة طارئة على الحركة مِيزتها الوحيدة موقعُها الطبقي المتقدم.

أدى هذا التحول إلى انقسام داخل الحركة بين تيارين، الأول يريد المحافظة على القاعدة الاجتماعية التقليدية ويعارض التقارب مع حركة نداء تونس، يمثله عدد من الرموز التاريخية المتشددة للحركة مثل الحبيب اللوز والصادق شورو، ويمكن أن نسميه بتيار «النقاء الأيديولوجي»، ويسعى هذا التيار الأقليّ على مستوى القيادة والسائد في مستوى القاعدة الشعبية، إلى المحافظة على الوجه الإسلاموي الظاهر للحركة ويعتبره رأسمالها الوحيد. ولا يزال هذا التيار سائدًا في قاع الحركة وله أنصار عقائديون ودعم كبير من الفاعلين الدينيين المستقلين (دعاة، خطباء، مشايخ).

أما التيار الثاني فيقوده راشد الغنوشي مستعينًا بدائرة ضيقة من عائلته وعدد من رموز البورجوازية الإسلاموية الصاعدة. يرى هذا التيار أن الحركة الإسلامية لم تعد مكلّفة بإيجاد الأجوبة الكبرى لأنصارها، ولا بتحقيق المشاريع الكبرى (الخلافة، الشريعة، الدولة الإسلامية، إلخ)، إنما يمكن للحركة الاكتفاء بعملية أسلمة أفقية للمجتمع -بدون ضجيج- يكون الاقتصاد أداتها، في ظل صعود متواصل وسريع للنخب الاقتصادية والمالية الجديدة داخل الهيكل التنظيمي، وتوسع قاعدة الأنصار من الشرائح الوسطى العليا (خاصةً المهنيين) والشرائح العليا (التجارية والعقارية أساسًا). لكن بقدر ما يريد هذا التيار القوي المدعوم من القيادة المتنفذة أن يفصل السياسي عن الديني، فإنه يريد إعادة تسييس الديني من بوابة الاقتصاد، وتاليًا أسلمة المجتمع في شكل ما، غير الذي عرفناه في السابق. ويعبر هذا التيار عن تحولات كبيرة تعيشها الحركة الإسلامية سماتها العامة هي نزع القداسة عن التنظيم، والانكماش أكثر نحو القُطرية، وتحول طبيعة المنتمي الإسلاموي الحركي من «العنصر الملتزم» إلى المنتمي العادي، والأهم هو طبيعة منهج التغيير الذي انحدر نحو محاولات الانخراط أكثر ضمن المصالح المشتركة للطبقة الحاكمة بدلًا من إنهائها والحلول محلها.

بدت آثار هذا التحول الطبقي الجذري على مستوى طبيعة المنتمين للحركة، أو قاعدتها الاجتماعية، واضحةً ليلة 25 تموز 2021، عندما أعلن الرئيس قيس سعيّد احتكار السلطة السياسية وإنهاء وجود الحركة في السلطة. توقع كثيرون حينها نزول الآلاف من قواعد حركة النهضة إلى الشوارع للدفاع عن حركتهم واستعادة السلطة بقوة الجماهير، أو حتى نزول الملايين الذين صوتوا لها عام 2011 وتناقصت أعدادهم على مدى عشر سنوات بشكل واضح. لكن هذا لم يحدث، إذ نزلت أعداد قليلة إلى الشارع، وكان هذا مؤشرًا لافتًا على مراهنة الحركة وقيادتها خلال السنوات الأخيرة على قاعدة اجتماعية جديدة ليست في واردها أن تخسر مصالحها من أجل الدفاع عن ممثلها السياسي في الشوارع ضد السلطة القائمة. واللافت أكثر، أن قطاعًا واسعًا من القاعدة الاجتماعية المحافظة لحركة النهضة قد انزاح شئيًا فشئيًا نحو دعم الرئيس سعيّد، باعتباره مازال وفيًا للقيم التي تعبر عنها، فـ«لا شيء يفنى أو يستحدث، بل يتغير من حال إلى حال آخر»، وفقًا لقانون الخيميائي الفرنسي أنطوان دُو لافوازييه.

  • الهوامش

    [1] وضعت هذا المصطلح قصدًا في إشارة لكتاب صفوان مصري الاستثناء التونسي، والذي يعبر بوضوح عن التناول السطحي لما حدث في تونس منذ العام 2011.

    [2] البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي، تونس، 6 حزيران (يونيو) 1981.

    [3] راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلامية في تونس، المركز المغاربي للبحوث والترجمة، لندن، 2001، ص 62-63.

    [4] Chris Harman, The prophet and the proletariat, International Socialism Journal 2:64, Autumn 1994.

    [5] راشد الغنوشي، تونس من الثورة إلى الدستور، مقابلة أجراها معه صلاح الدين الجورشي، مجلة سياسات عربية، العدد 18، كانون الثاني (يناير) 2016.

    [6] مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثالثة 2003، ص 339.

    [7] محمد أحمد الراشد، صناعة الحياة، ص 46، دار الفكر دمشق، 2004.

    [8] عادل العمرى وشريف يونس، الرأسمالية الطفيلية – رؤية ثالثة (نُشرت عام )1988، الحوار المتمدن، العدد 331، كانون الأول 2002.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية