العالم على مفترق طرق: الدولار، والطاقة، وأوروبا المتداعية

الثلاثاء 18 تشرين الأول 2022
نورد ستريم
محطة ضغط معززة في حقل غاز بوفانينكوفو في شبه جزيرة يامال. تصوير ألكسندر نيمنوف. أ ف ب.

ترجمة بتصرّف لمقال نُشر على جزئين في صحيفة آسيا تايمز، في 11 و12 تشرين الأول 2022.

لماذا يثير قلق الولايات المتحدة أن تشتري ألمانيا الطاقة من روسيا، رغم أنها لا تعترض على شراء ألمانيا حواسيبها من الصين، أو دراجاتها النارية من اليابان، أو أجبانها من هولندا؟ 

هنالك القليل من القواسم المشتركة بين آخر أربعة رؤساء أمريكيين –بوش الابن وأوباما وترامب وبايدن– إلا أن أربعتهم أجمعوا على محاولة منع نورد ستريم، خط أنابيب الغاز الممتد في بحر البلطيق لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا. الشهر الماضي، أخرجت انفجارات نورد ستريم من الخدمة، في هجوم إرهابي على مستوى دولة، بدا أن من وراءه لم يكن أوروبيًا. إلا أن الرؤساء السياسيين للاتحاد الأوروبي كتموا ردود أفعالهم، فقد أدركوا بلا شك أن العالم قد دخل حقبة جديدة. 

الذهب الأسود

يعتبر الوقود الأحفوري السلعة المحورية في العالم. تمثل تجارة الطاقة حوالي 8% من التجارة حول العالم، لكنها أساسية بالنسبة إلى 90% من الناتج الاقتصادي العالمي. وحتى الثورة التكنولوجية الخضراء الناشئة مستحيلة بدونها. 

يُسعَّر النفط ويتاجر به بالدولار الأمريكي. فإذا اشترت شركة إسبانية النفط من السعودية، ستمر الدفعة عبر بنك في نيويورك. وينطبق الأمر نفسه على أغلب السلع الأخرى، فإذا اشترت اليابان القمح الاسترالي، ستجري البنوك في نيويورك الدفعة المقومة بالدولار. أصبح الدولار عملة الأمر الواقع الاحتياطية العالمية عام 1944. إذ جعلت اتفاقية بريتون وودز الدولار المدعوم بالذهب ركيزة نظام النقد العالمي. حينها، كان يمكن استبدال الدولار بالذهب عند الطلب بتثبيت سعره عند 35 دولارًا للأونصة. عمليًا، منح نظام بريتون وودز الولايات المتحدة تحكمًا «بسباكة» النظام المالي العالمي. وبات الدولار مقياسًا لكافة السلع والخدمات المتاجر بها عبر الحدود، وسرّع في تعافي ما بعد الحرب. 

بيد أن بريتون وودز تعرضت للضغوطات في أواخر ستينيات القرن الماضي، إذ بدأت الولايات المتحدة تنفق أكثر مما تكسب. أفضى برنامج «المجتمع العظيم» في عهد الرئيس لِندن جونسون وحرب فيتنام إلى تزايد في العجز وطرح تساؤلات حول احتياطي الذهب الأمريكي.

منح نظام بريتون وودز الولايات المتحدة تحكمًا «بسباكة» النظام المالي العالمي. وبات الدولار مقياسًا لكافة السلع والخدمات المتاجر بها عبر الحدود، وسرّع في تعافي ما بعد الحرب. 

كانت الحكومة الفرنسية أول القلقين. إذ نقلت فرنسا ودول أوروبية أخرى احتياطيها من الذهب إلى الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، حيث أثار احتمال زحف الاتحاد السوفيتي إلى باريس ولندن وسرقة الذهب مخاوفهم. في آب 1971، أرسلت فرنسا سفينة حربية إلى نيويورك لاستعادة سبائكها. ظهر الرئيس ريتشارد نيكسون بعدها بأيام على التلفاز الوطني الأمريكي معلنًا أن الولايات المتحدة لن تبادل الدولارات بالذهب بعد الآن، مغلقًا ما سمي «نافذة الذهب».

قال نيكسون إن الإجراءات ستكون مؤقتة، إلا أن نافذة الذهب لم يُعَد فتحها أبدًا. إذ من خلال فصل الدولار عن الذهب وفسخ اتفاقية بريتون وودز، ستُصدِر الولايات المتحدة الدولارات بلا غطاء، وعلى العالم أن يثق بالولايات المتحدة كمتعهد جيد لعملة العالم الاحتياطية. 

لضمان احتفاظ الدولار بدوره العالمي، أرسل نيكسون وزير خارجيته هنري كيسنجر إلى السعودية لإقناع المملكة ببيع نفطها بالدولار فقط، في مقابل حماية الولايات المتحدة لها. وقد منحت هذه الاتفاقية الدولار لقبه الشهير: البترودولار.

التدافع على الذهب

بعد فصل نيكسون الدولار عن الذهب، خسر الجسم السياسي الأمريكي انضباطه المالي. ولن تتمكن الولايات المتحدة أبدًا من امتلاك ميزانية متوازنة بعد إغلاقها نافذة الذهب. فقد تزايد الدين القومي باضطراد كما حصل مع العجز التجاري. وعد السياسيون المرشحون في الانتخابات بإنفاق المزيد على الإسكان أو الدفاع، بغض النظر عن القيود المفروضة على الميزانية. وقد قدمت النظرية النقدية الحديثة دعمًا لهذه الفكرة، من حيث أن الدول التي تصدر عملاتها بنفسها لا يمكن أن تفلس. بالتالي، بات العجز في الميزانية مزمنًا، وازداد الدين القومي باضطراد. فقد بات بإمكان الحكومة بكل بساطة أن تخلق ديونًا من دون أن تقلق من مطالبة أحد بما يعادلها من الذهب.

ذهبت حكومة الولايات المتحدة بصناعة الدين إلى مستويات جديدة في أعقاب الأزمة المالية عام 2008. حيث كان عدد من البنوك التي اعتبرت بأنها «أكبر من أن تفشل» على حافة الإفلاس. أنفقت الولايات المتحدة المليارات لتفادي الكارثة المالية، أما الحجم الحقيقي «لإنقاذ وول ستريت» فقد جرى التعتيم عليه. وبعد عشر سنوات، أضافت الحكومة المزيد من التريليونات على الدين القومي من أجل معالجة تأثيرات كوفيد-19. نما الدين القومي بين 2008 و2020 من تسعة تريليونات دولار إلى ما يقارب 30 تريليونًا. لذا، في ظل فصل الدولار عن الذهب، بدأ الدين المقوّم بالدولار يشابه مخطط بونزي الاحتيالي. 

بات الدين القومي الأمريكي ينمو بمقدار مليون دولار كل 40 ثانية. ومع تزايد المديونية، أصبح سداد الفوائد على الدين القومي بندًا متناميًا في الميزانية، لا تفوقه حجمًا إلا ميزانية الدفاع. ولم يعد بمستطاع الحكومة مع العجز المزمن في الميزانية تسديد ديونها إلا بمراكمة المزيد من الديون.

قاتل التضخم

جاء دور الصين لتقلق. كانت الصين أحد المستفيدين الرئيسيين من العولمة التي ناصرتها حكومة الولايات المتحدة. إذ نشلت الصين بدءًا من أواخر سبعينيات القرن الماضي، ومع ركوبها عربة الدولار، أغلب مواطنيها من الفقر خلال بضعة عقود.

قلل تصدير الصين للسلع منخفضة التكلفة إلى الولايات المتحدة من ضغوطات التضخم، الذي هو الأثر الاعتيادي الناجم عن خلق الكثير من المال الذي لا يبرره توسع الاقتصاد. بحلول عام 2020، باتت الولايات المتحدة ترسل قرابة المليار دولار يوميًا إلى الصين لتغطية عجزها التجاري. 

من أجل تدوير هذه الدولارات، استثمرت الصين أكثر من تريليون دولار في الخزائن الأمريكية، التي طالما اعتبرت استثمارًا آمنًا. لكن القلق اعترى الصين عام 2008 إزاء حجم ما دفع من كفالة لإنقاذ وول ستريت وكذلك استدامة دينها المتنامي. من أجل حماية نفسها، باشرت الصين بشراء الذهب والطعام والسلع الأخرى بقيمة ملموسة يمكن التنبؤ بها. لا تنبس الصين ببنت شفة حول مقتنياتها من الذهب، إلا أن المراقبين في مجال التجارة بالذهب يعتقدون بأنها تفوقت الآن على الولايات المتحدة في مخزون الذهب. إذا ما صح ذلك، سيكون احتياطي الصين من الذهب هو الأضخم في العالم.

هناك بُلدان أخرى قلقة إزاء الدولار، والنظام المالي العالمي المبني على الدولار بشكل أوسع، لذا، انطلقت في فورة شراء الذهب. إذ استعادت العديد من البنوك المركزية حول العالم الذهب إلى بلدانها، معتمدةً القول القديم المأثور «إذا لم تمسك به، فأنت لا تملكه».

الإفلات من نظام الدولار

على مدى الـ500 عام الماضية، عرف الغرب ست عملات احتياطية، أصدرتها كل من البرتغال (1450-1530)، وإسبانيا (1530-1640)، وهولندا (1640-1720)، وفرنسا (1720-1815)، وبريطانيا العظمى (1815-1920)، والولايات المتحدة (1944 إلى يومنا هذا). يشير التاريخ إلى أن الدولار الآن يلعب في الوقت بدل الضائع.

من خلال فصل الدولار عن الذهب وفسخ اتفاقية بريتون وودز، ستُصدِر الولايات المتحدة الدولارات بلا غطاء، وعلى العالم أن يثق بالولايات المتحدة كمتعهد جيد لعملة العالم الاحتياطية. 

تختبر عدد من الدول الآن، من بينها الصين وتايلاند، نظام دفع جديد عابر للحدود مبني على التقنيات التي طُوّرت من أجل اليوان الرقمي. وقد اتفقت روسيا والصين على استخدام اليوان والروبل للمتاجرة في الطاقة الروسية والتقنيات الصينية. لكن ما يثير قلق الولايات المتحدة بشكل أكبر هي السعودية، الدولة العضو الأكثر تأثيرًا في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك). إذ يُجري السعوديون محادثات مع الصين حول بيع النفط باليوان. وتعتبر الصين الشريك التجاري الرئيس للسعودية.

يفسر هذا الاتجاه المتزايد في آسيا نحو «نزع-الدولرة» (de-dollarization) لماذا أصبح إبقاء أوروبا في معسكر الدولار أمرًا جوهريًا بالنسبة للولايات المتحدة. فمن الضروري منع الروابط الاقتصادية المتنامية بين أوروبا وآسيا، مما يفسر محاولات آخر أربع رؤساء أمريكيين نسف نورد ستريم.

لا تمتلك روسيا مصادر طاقة ضخمة فحسب، بل إن جغرافيتها الهائلة تؤهلها للعب دور الرابط المفتاحي ما بين الصين والهند وأوروبا. فمنطقة اقتصاد أوراسي مكونة من 93 دولة، و5.3 مليار نسمة، تتاجر مع بعضها البعض، لن تكون بحاجة للاعتماد على الدولار.

ستنتهي الحرب في أوكرانيا في نهاية المطاف، إلا أن الولايات المتحدة قد حصلت على ما تريده في الوقت الحالي. فقد حُجبت الطاقة الروسية عن أوروبا إلى حد كبير، حيث استبعد تخريب نورد ستريم ورقة مساومة مهمة لإيجاد حل لتسوية النزاع.

صبيان هارفرد

بنت روسيا وشركاؤها في الاتحاد الأوروبي أول خط أنابيب يحمل الغاز الروسي إلى أوروبا عام 1992. فقد ربط خط الأنابيب يامال-أوروبا، الممتد على طول 4,100 كيلومتر، حقول الغاز الروسي في شبه جزيرة يامال وسيبيريا الغربية ببولندا وروسيا البيضاء وألمانيا.

كانت «عوائد السلام» التي تلت انتهاء الحرب الباردة قد بدأت تؤتي ثمارها. إذ جذب سقوط جدار برلين عمالقة الطاقة الأوروبيين إلى روسيا. فاستثمرت شركات شِل وبي پي وإكسون موبيل، إلى جانب كبرى شركات التجارة اليابانية، المليارات في حقل الطاقة الروسي، الذي كان في حاجة إلى كل من رأس المال والخبرة الفنية لتحديث وتكثيف الإنتاج.

تَدخّل صبيان هارفارد، وهم مجموعة من الاقتصاديين من معهد هارفارد للتنمية الدولية، بعد أن انفجر الاقتصاد الروسي داخليًا في عهد بوريس يلتسن، خليفة غورباتشوف. وبمباركة بيل كلينتون، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، أُرسل اقتصاديو هارفارد إلى روسيا للمساعدة في إصلاح اقتصادها. تطابقت الوصفة التي خرجوا بها مع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي أطلقها رونالد ريغان ومارغريت تاتشر ورسّخها كلينتون وتوني بلير: «العلاج بالصدمة» عن طريق الخصخصة واللبرلة ورأسمالية السوق الحر.

سيدفع هذا «الإصلاح» بملايين الروس نحو الفقر. كانت النسوة المسنات يبعن أدويتهن في شوارع موسكو من أجل شراء الطعام، في الوقت الذي كانت فيه مجموعة صغيرة من رجال الأعمال ممن لهم علاقات واسعة تنهب أصول الدولة التي تثمن بمليارات الدولارات، بما فيها شركات الطاقة الروسية المملوكة من الدولة سابقًا. سرعان ما سيظهر المليارديرات [الروس] الجدد حديثًا في أوروبا، ليشتروا أندية كرة القدم الإنجليزية، واليخوت الهولندية الفاخرة، والعقارات في الريفيرا الفرنسية. لكنهم لم يكونوا يعلمون أن أوروبا ستصادر ثرواتهم عقابًا على تربّحهم من رأسمالية السوق المفتوح التي أدخلها صبيان هارفارد إلى روسيا.

كانت النيوليبرالية ردة فعل على الدور المتنامي للحكومة في الاقتصاد والمجتمع. فهي تنحاز إلى اللبرلة الاقتصادية والخصخصة ورفع القيود والعولمة والتجارة الحرة والاقتصاد النقدي والتقليص الحكومي وتعظيم دور القطاع الخاص في الاقتصاد والمجتمع. وجد ريغان في النيوليبرالية حلًا لما ادعى أنه فشل دولة الرفاه (فالحكومة، كما قال، ليست الحل، بل هي المشكلة).

أطّر النيوليبراليون انهيار الاتحاد السوفييتي على أنه انتصار للأيديولوجية النيوليبرالية ومصداق لها. في التسعينيات، ضربت موجة النيوليبرالية شواطئ أوروبا. ورغم المقاومة الملحوظة، إلا أن أغلب الدول الأوروبية طبقت السياسات النيوليبرالية كالخصخصة، وقلصت حجم دولة الرفاه.

الأطلسيون

تلاقى النيوليبراليون الأمريكيون والأوروبيون في «إجماع الأطلسي»، حيث ناصروا الأسواق الحرة بدرجات متفاوتة، ولكنهم تشاطروا الاعتقاد بضرورة أن تحدد القيم الغربية الأجندة العالمية. مع مطلع القرن، كانت النخبة السياسية الأوروبية برمتها تقريبًا تستند الأطلسي في شرعيتها. وقد دفعت بأجندتها مستغلةً المنظمات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، والمنتدى الاقتصادي العالمي، واللجنة الثلاثية، ومؤتمر بيلديربيرغ، ومجلس العلاقات الخارجية. 

قادت السياسات النيوليبرالية إلى تزايد عدم المساواة، وركود الأجور، وغيرها من الأمراض الاجتماعية، وتسببت في انتشار إحساس بعدم الارتياح. وقد خلق ذلك بدوره أرضًا خصبة لمنظري المؤامرة الذين كانوا على قناعة بأن فئة الواحد بالمئة التي تضرب بها المثل كانت تقود السكان إلى الفقر وحتى إلى الاستعباد التكنولوجي.

كان منظرو المؤامرة على عداء مع المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي اشتبه بتخطيطه «لإعادة الضبط العظيم» الذي سيقودنا إلى عالم بائس ذي ملامح أورويلية. وقد استمدوا هذه الاستعارة من ورقة للمنتدى الاقتصادي العالمي حول تأثير التقنيات، تضمنت عبارة «لن تملك شيئًا وستكون سعيدًا»؛ تلك العبارة التي سرعان ما باتت «ميم» شائعة على الإنترنت. 

بدأ الخوف من إعادة الضبط العظيم عام 2016 مع مقالة كتبها برلمانيّ دنماركي يدعى إيدا أوكن، شملتها ورقة للمنتدى الاقتصادي العالمي بعنوان «ثمانية تنبؤات للعالم عام 2030». ناقشت الورقة التأثير المحتمل للذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات، واقترحت بأننا سنكون سعداء بعدم امتلاكنا شيئًا، لسبب بسيط يتمثل في أن جميع المنتجات ستصبح خدمات.

أوروبا الفقيرة

تماشت أيديولوجيات الأطلسيين الأوروبيين والأمريكيين بشكل مثالي. ولكن لا ينطبق الأمر ذاته على مصالحهما الاقتصادية الحيوية. فالولايات المتحدة غنية بمصادرها الطبيعية، وأقل اعتمادًا على التجارة العالمية، وتملك «الامتياز الباهظ» بإصدار عملة العالم الاحتياطية. في المقابل، دفعت قلة الموارد ألمانيا نحو روسيا. حيث تمكنت ألمانيا باستخدام الطاقة قليلة التكلفة من روسيا، من إضافة تريليون دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي السنوي. وقد استفادت روسيا من الجريان المنتظم لمليارات الدولارات التي تتدفق من أوروبا كل عام، فيما بدا بوضوح صفقة رابحة للجميع.

ما بين التسعينيات والعقد الحالي، بنت أوروبا وروسيا شبكة أنابيب هائلة تنطلق من أواسط روسيا، تحمل الغاز والنفط إلى شمال ووسط وجنوب أوروبا. ويعتبر ذلك أضخم مشروع بنية تحتية في مجال الطاقة في العالم حتى الآن. نمت التجارة الروسية مع الاتحاد الأوروبي، من بضعة مليارات من الدولارات سنويًا خلال التسعينيات إلى 270 مليار دولار عام 2021، بحيث أصبح الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لروسيا، ممثلًا 37.3% من كامل تجارة البلاد من السلع مع العالم. إذ أتى ما يقارب 36.5% من واردات روسيا من الاتحاد الأوروبي بينما ذهب 37.9% من صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي. 

دقت إدارات الولايات المتحدة المتعاقبة ناقوس الخطر بشأن تزايد اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية، خصوصًا في مجال الغاز الطبيعي. إلا أنه لم يكن للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أي مخاوف بهذا الشأن، وكذلك الأمر بالنسبة للكثير من الدول الأوروبية الأخرى التي أصبحت جزءًا من شبكة خط الأنابيب. كما أن أوكرانيا وبولندا، وهي دول المرور الرئيسة، قد جنت مليارات الدولارات من رسوم العبور.

حلت روسيا حلف وارسو بعد سقوط جدار برلين. إلا أن منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) توسعت شرقا بدلًا من أن تنحل. لم ير الأوروبيون التناقض في تطوير علاقات منفعة متبادلة مع روسيا في الوقت الذي تمركز فيه جيش ضخم على حدودها. 

في تاريخها الطويل، نادرًا ما كانت أوروبا متحدة مثل ما هي عليه الآن في الحرب الأوكرانية الجارية. إذ تدعم كافة الدول الأوروبية تقريبًا أوكرانيا، وكذلك الأمر بالنسبة لوسائل إعلامها الرئيسة. تندر الآراء المخالفة، كما تندر الاحتجاجات المناهضة للحرب، مثل التي شهدناها خلال حرب فيتنام وأفغانستان والعراق. من الملحوظ أيضًا أن السياسات الأوروبية نحو النزاع الأوكراني تصطف كليًا مع سياسات الولايات المتحدة. إذ تستعمل كلتاهما الخطاب والمصطلحات ذاتها: العدوان الروسي غير المبرر على أوكرانيا هو جزء من محاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإعادة إحياء أمجاد الإمبراطورية السوڤييتية السابقة.

إن خسارة روسيا لا تقدر بثمن، حيث تصور السيناريوهات المتشائمة أوروبا وهي تواجه تراجعًا بالتصنيع، وخسارة تريليونات في رأس المال المستثمر، وانخفاضًا عنيفًا في مستويات المعيشة. أضف إلى ذلك الموقف المالي الهش للعديد من دول الاتحاد الأوروبي والتضخم الذي لم يروّض بعد، ولهذه السيناريوهات القاتمة ما يبررها.

إلى أن تُجري أوروبا جردًا لأوضاعها -وتتساءل عن سبب إسقاط نخبها السياسية لاتفاقية وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا- ستجد نفسها وحيدة. ستكون روسيا حينها قد اتجهت شرقًا، بينما تنكفئ أمريكا على الأرجح داخليًا لتعالج مشاكلها الخاصة. لن تجد أوروبا أمامها خيارًا إلا بأن تفعل الأمر ذاته، والذي ربما يكون المحصلة الإيجابية الوحيدة للمأساة الأوكرانية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية