من التواطؤ إلى الإسناد الحقيقيّ

هل يمكن لأصحاب القرار في الأردن مساندة الفلسطينيّين بما هو أكثر من الكلام؟ 

الثلاثاء 18 أيار 2021
من مسيرة حاشدة في وسط عمّان يوم الجمعة الماضي دعمًا للمقاومة الفلسطينية ورفضًا للتطبيع ولاتفاقية استيراد الغاز من «إسرائيل». تصوير عماد الزيود.

إدانات كلاميّة غير مؤثّرة، واجتماعاتٌ ذات طابع تضامنيّ معنويّ، دون أن يتحرّك ساكن؛ هكذا يمكن أن نلخّص ما قامت به السّلطة السياسيّة في الأردن لمواجهة آخر جولة من الاعتداءات الصهيونيّة على الفلسطينيّين في حيّ الشيخ جرّاح في القدس التي حاولت تصفية وجودهم منه وإحلال مستوطنين في مكانهم، وجولة المذابح الجديدة التي رافقت الحرب التي تشنّها «إسرائيل» على غزّة بعد أن دخلت هذه الأخيرة –بما تستطيع- على خطّ نصرة الحيّ وسكّانه.

ورغم كلّ التصريحات الصادرة من أعلى المستويات، ومن الملك نفسه، عن أن «القدس خطّ أحمر»، مضافًا إليها ما صار لازمة مكرّرة عن تأكيد «الولاية الهاشميّة» على المقدّسات فيها، وإدانة الاستيطان في فلسطين المحتلة عام 1967، إلا أن الحقيقة التي لا يمكن إغفالها أو تجاهلها هي أن السلطة السياسيّة في الأردن متواطئة في دعم الإرهاب الصهيوني، ومشاريعه التوسّعيّة والاستيطانية، وبعدّة آليّات. 

الدّعم الأوّل والأهم هو دعم ماليّ مباشر من خلال اتفاقيّة الغاز، التي وقّعتها عام 2016 شركة الكهرباء الوطنيّة المملوكة بالكامل للحكومة الأردنيّة، وهي اتفاقيّة تمدّ «إسرائيل» بـ10 مليارات دولار من أموال دافعي الضرائب الأردنيين، على مدار 15 عامًا، يذهب 56% منها [1] إلى خزينة «إسرائيل» على شكل ضرائب ورسوم مختلفة، وهي أموال سينتهي المطاف بها، أو ببعضها، إلى تسليح الجيش الصهيوني وتطوير قدراته العسكريّة، فضلًا عن تمويل أشكال الاضطهاد والاستعمار والاستيطان المختلفة. وفوق هذا، تصب الاتفاقيّة الأرباح في مجموعة ديليك الإسرائيلية، وهي شركة يرد اسمها على قائمة الشركات الـ112 التي تخرق القانون الدولي وترتكب جرائم الحرب بدعمها للاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة عام 1967، والتي أصدرها مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة  أوائل عام 2020. ومجموعة ديليك هي الشريك الأكبر في حقل ليفاياثان للغاز الذي تستورد منه شركة الكهرباء الوطنيّة، بحصة مقدارها 45.34% (تملكها من خلال شركتيها التابعتين: ديليك للحفر، وآفنر للتنقيب عن النفط)، وشريك أيضًا بحصة 22% في حقل تامار للغاز الذي تستورد منه شركة البوتاس العربيّة. وهذا الحقل قصفته صواريخ المقاومة الفلسطينية قبل أيام، وأوقف إنتاجه.

الدّعم الرئيسيّ الثاني هو دعم سياسيّ–دعائيّ يتمّ من خلال معاهدة وادي عربة، وهي معاهدة تشكّل (مع نظيراتها الموقّعة مع مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية والإمارات والبحرين والمغرب والسودان) غطاءً دعائيًّا – سياسيًّا لـ«إسرائيل» أمام العالم باعتبارها «دولة» يعترف خصمها بها وبأحقيّة وشرعيّة وجودها، وبكونها تمتلك علاقات «سلام» مع كيانات وهيئات عربيّة، محقّقة بذلك هدفين رئيسين؛ الأوّل: عزل الفلسطينيّين عن امتدادهم الحيويّ والعضويّ والتاريخيّ المباشر، وإتمام الاستفراد الإسرائيليّ-الدوليّ بهم، وبالتالي تسهيل إخضاعهم؛ والثاني: تغطية الادّعاءات الصهيونيّة بأن الفلسطينيّين هم من «لا يريدون السّلام» مقارنة بأشقّائهم الذين أبرموا سلامًا بالفعل، وبالتالي فإن العائق أمام السلام ليس سببه «إسرائيل» بل الفلسطينيّون.

الدعم الرئيسيّ الثالث هو دعم أمنيّ، فالتنسيق والتعاون الأمنيّ منصوص عليهما بشكل صريح في المادة الرابعة من معاهدة وادي عربة، وكان من نتائج هذا التنسيق (على سبيل المثال لا الحصر) تسليم المواطن الأردنيّ سامر البرق إلى الصهاينة عام 2010، قدّم الصهاينة البرق إلى المحاكمة العسكريّة عام 2014، بعد اعتقاله إداريًّا بلا محاكمة منذ تسليمه، وتدهور صحته إثر خوضه إضرابًا عن الطعام.

نحن أمام تواطؤ مباشر للسلطة السياسية في الأردن في الجرائم الاستعماريّة الاستيطانيّة للصهاينة، فهل يمكن فكّ هذا التواطؤ وعكس هذه الوضعيّة؟ الجواب، ببساطة، هو نعم، إن توفّرت الإرادة السياسيّة.

وعلينا ألا ننسى أنّه، وبعد إعلان وحدة الضفّتين عام 1950، وتولّي الحكومة الأردنيّة إدارة الضفّة الغربيّة حتى سقوطها بيد الصهاينة عام 1967، فإن كمًّا كبيرًا من وثائق ملكيّات الأراضي والعقارات في القدس وعموم الضفّة الغربيّة وفلسطين أصبح بحوزة السّلطات الأردنيّة، هذا فضلًا عن الملكيّات العقاريّة الكبيرة الخاصة بالمواطنين الأردنيين (من ذوي الأصول الفلسطينيّة) والتي وضع الصهاينة يدهم عليها وصادروها بالقوّة، وصارت اليوم جزءًا من كيان الصهاينة أو في حوزة المستوطنين. تستطيع السلطة السياسيّة في الأردن أن تفتح هذا الملف الحاسم والخطير على كلّ المستويّات السياسيّة والقانونيّة، وفي كلّ المحافل المحليّة والإقليميّة والدوليّة، لكن هذا لا يتمّ. ولعلّ أبلغ تعبير عن انعدام جديّة التحرّك في هذا السياق هو مطالبة أهالي حي الشيخ جرّاح السلطات الأردنية بإبراز كامل الوثائق وصكوك الملكيّة الخاصّة بمأساتهم، دون أن تتمّ الاستجابة الكاملة والشاملة لمناشداتهم، بحسب الأهالي.

نحن إذًا أمام تواطؤ مباشر للسلطة السياسية في الأردن في الجرائم الاستعماريّة الاستيطانيّة للصهاينة، فهل يمكن فكّ هذا التواطؤ وعكس هذه الوضعيّة؟ الجواب، ببساطة، هو نعم، إن توفّرت الإرادة السياسيّة للتحرّك على خطوط المقترحات التي سأوردها تاليًا، وهي مقترحات ممكنة التحقيق في ظلّ الأوضاع الحاليّة، وستشكّل –إن تمّت- إسنادًا كبيرًا لنضال وصمود ومقاومة الفلسطينيّين البطوليّة في القدس، وغزة، واللد، وحيفا، كما سيسترجع الأردنّ بها بعضًا من سيادته المحليّة المهدورة.

يوفّر الظرف الموضوعي المأساويّ القائم في فلسطين حاليًّا، والجرائم التي يرتكبها الصهاينة، والاحتجاجات الشعبيّة العارمة التي تعمّ الأردن، الذرائع لصاحب القرار لإنفاذ هذه الاجراءات العمليّة المقترحة؛ مثلما سيسهّل تمريرها حقيقة أن الحكومة القائمة اليوم في «إسرائيل» هي حكومة تصريف أعمال؛ حكومة ضعيفة ومهتزة سياسيًّا تقف أمام استحقاق انتخابيّ خامس في غضون سنتين، ويحظى رئيسها بكراهية جزء وازن من المجتمع الصهيوني، ما يعني أن ردّ الفعل الإسرائيليّ على أي اجراءات تتخّذها السلطات الأردنية اليوم سيكون في أضعف حالاته، خصوصًا وأن «إسرائيل» تواجه اليوم نضالًا فلسطينيًّا في كلّ مكان في فلسطين الانتدابيّة، في الضفة وغزة والدّاخل، وفوقها مقاومة بالصواريخ، وهي مشغولة بالكامل ولا تملك ترف مناوشة أطراف إضافيّة؛ وأيضًا: يُسهّل تنفيذ هذه الإجراءات أن «أثر ترَمْب» الانسحابيّ للولايات المتّحدة من المنطقة ما يزال قائمًا إلى حدّ بعيد، ولم يتمّ عكسه بالكامل، الأمر الذي يخفّض الضغط الأميركيّ على صاحب القرار الأردنيّ، خصوصًا وأن السلطة السياسيّة في الأردن قد وقّعت قبل أشهر اتفاقيّة تفريطيّة-إلحاقيّة مع الولايات المتّحدة هي اتفاقيّة التعاون الدّفاعي، ما يعطي صاحب القرار ذرائع إضافيّة أمام الولايات المتّحدة، تفيد بأن انفكاكه عن «إسرائيل» لا يعني تخليًّا عن التبعيّة لـِ (في الخطاب الرسمي: «التحالف الاستراتيجي» مع) الولايات المتّحدة، وأن الملفين منفصلان تمامًا عن بعضهما.

أما المقترحات الممكنة التّحقيق لإسناد نضال وصمود ومقاومة الفلسطينيّين جديًّا، واستعادة بعض من السيادة والمصالح الأردنيّة المهدورة لصالح «إسرائيل» فهي:

أولًا: الإلغاء الفوري لاتفاقية الغاز، ويمكن القيام بذلك مباشرة ودون تنفيذ الشرط الجزائيّ ودون أيّ تبعات؛ فظروف جائحة كورونا المستجدة تتيح إلغاء الاتفاقيّة بحسب الفقرة «و» من المادة 2.1.16 من الاتفاقيّة المتعلقة بظروف القوّة القاهرة التي تدخل الأوبئة في عدادها بحسب النصّ الصّريح للفقرة المذكورة. كما يمكن أيضًا تجاوز الشّرط الجزائي بالاستناد إلى خروقات شركة «ديليك» للقانون الدولي، وارتكابها جرائم حرب، من خلال دعمها المباشر للاستيطان، بحسب القائمة التي أصدرها مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. كما يمكن تجاوز الشرط الجزائي بالاستناد إلى المادة رقم 4.2.8 من اتفاقيّة استيراد الغاز من العدو والتي تتيح إنهاء العمل بالاتفاقيّة في حال «وقوع البائع في إعسار يتوقع بشكل معقول أن يؤثر سلبًا وبشكل جوهري على أداء البائع لالتزاماته بموجب الاتفاقية»، وذلك بعد انهيار سعر سهم شركة نوبل إنرجي (الشريك الكبير الثاني في حقل ليفاياثان للغاز)، وانهيار قيمة الشركة السوقيّة إثر انهيار أسعار النفط بسبب جائحة كورونا، واستحواذ شركة شيفرون عليها بالكامل في شهر تشرين الأول من عام 2020.

ثانيًا: إظهار كافة الوثائق الخاصّة بحيّ الشيخ جرّاح في القدس وتسليمها للأهالي وللجهات الدوليّة.

ثالثًا: فتح ملفّ الأملاك المنهوبة والمستملكة والمستعمرة الخاصّة بالمواطنين الأردنيين في كامل فلسطين، على كل الصعد على كلّ المستويّات السياسيّة والقانونيّة، وفي كلّ المحافل المحليّة والإقليميّة والدوليّة، لإعادتها لأصحابها الأصليّين، وتعويضهم عن كلّ الأضرار التي حاقت بهم جراء ذلك.

رابعًا: إلغاء معاهدة وادي عربة استنادًا إلى الخروقات المستمرّة المتعلّقة بالمادة 9 من هذه الاتفاقية والمتعلقة بـ«الدور الخاص» للأردن فيما يتعلّق بالمقدّسات الإسلاميّة في القدس؛ وبالتالي إغلاق السفارات ومعها كافة القنوات التنسيقية مع «إسرائيل»، وعلى رأسها القنوات الأمنيّة والسياسيّة. من الجدير ذكره هنا أن إلغاء المعاهدة لا يعني إعلان الحرب على «إسرائيل» كما يروّج (بتبسيط وتسخيف) المؤيّدون القلائل لهذه المعاهدة، فالأمران مختلفان تمامًا، وسبق أن تجاور الأردن والصهاينة منذ عام 1968 وحتى توقيع المعاهدة دون أن يخوضا أي حرب ضدّ بعضهما البعض؛ أما التذرّع بأن المعاهدة تشكّل بابًا خلفيًّا لممارسة الضغوط على الإسرائيليّين لصالح الفلسطينيّين فتدحضه مآلات فلسطين والفلسطينيّين الانهياريّة، وتوسّع المشروع الصهيوني المستمرّ وتصاعده، وهما أمران لم توقفهما المعاهدة أو تخفّف منهما.

خامسًا: استنادًا إلى وحدة الضفتين في العام 1950، وحيث أن المادة 1 من الدستور الأردني تنص على أن مُلك الأردن: «لا يتجزّأ ولا يُنزل عن شيء منه»، فإن الضفة الغربيّة، بما فيها القدس، تعتبر بالمعنى الدستوري الأردني أراضٍ أردنيّة محتلّة بهذا المعنى الواضح، وينبغي التعامل مع معها محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا على هذا الأساس.

سادسًا: التوقف عن قمع الاحتجاجات المناصرة للفلسطينيّين والمطالبة بإسقاط معاهدة وادي عربة وإلغاء اتفاقية الغاز وإغلاق السفارات، أو المسيرات التي تستهدف العبور باتجاه فلسطين (طبعًا لكم أن تتخيّلوا الرسائل السياسيّة التي يوصلها مثل هذا القمع إلى «إسرائيل»، وفي مثل هذه الظروف).

سابعًا: البدء فورًا بزيارات مكثّفة إلى كلّ من السعوديّة ومصر والمغرب والإمارات والبحرين والسودان لإنهاء الاتفاقيّات التطبيعيّة بالكامل، أو –على الأقل– تجميد فعاليّتها، وإغلاق قنوات التنسيق الأمني والسياسي مع «إسرائيل»، وسحب الاستثمارات (خصوصًا الإماراتيّة) منها.

ثامنًا: إنشاء مؤسسة خاصّة تعنى –وبكل الوسائل: التعليميّة، الصحيّة، الإعماريّة، التشغيليّة، البنى التحتيّة– بتعزيز صمود الفلسطينيّين على أرضهم في كلّ مكان في فلسطين الانتدابيّة (الضفة الغربيّة، قطاع غزة، فلسطين المستعمرة عام 1948)، وتسعى لإعادة استملاك ما يمكنها أن تصل إليه من أراضٍ وعقارات لصالح الفلسطينيّين.

هذه كلّها اقتراحات ممكنة التنفيذ والتحقيق، لا تحمل كلفًا عالية، وتسهّلها الأوضاع المحليّة والإقليميّة والدوليّة القائمة، وتعزّز من موقف الأردن ومصالحه وسيادته. لكن، هل سيقوم أصحاب القرار في الأردن بالعمل بها أو ببعضها؟ الكيانات الوظيفيّة ومجموعاتها الحاكمة مربوطة بعمق ببنى التبعيّة، وبمنشأها الاستعماريّ، وبـ«إسرائيل»، وإلى حين أن يتغيّر هذا الحال، ستبقى مقترحاتي هذه –على الأرجح– حبرًا على ورق، لكن قيمتها اليوم تنبع من إيضاح وجود إمكانيّة للإسناد الحقيقيّ والفاعل، ومن فضح العجز عن القيام بها، والاكتفاء بما هو كلاميّ ومجّانيّ وغير مؤثّر فعلًا، مقابل استمرار الشراكة الحقيقيّة في الجريمة.


[1] بحسب دراسة مفصّلة أعدّتها عام 2014 اللجنة التنسيقية للمجموعات المناهضة لاستيراد الغاز من الكيان الصهيوني بالشراكة مع مركز أبحاث «بلاتفورم» المختص بشؤون الطاقة ومقره لندن.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية