الصيد في غزة: عدوان إسرائيلي مستمرّ على لقمة العيش

الإثنين 14 حزيران 2021
صيادون من غزة، تصوير سعيد خطيب. أ.ف.ب

مساء 27 نيسان الماضي، خرج الصياد الفلسطيني غيث أبو عون (23 عامًا)، للبحر على مركبه الصغيرة من نوع «حسكة» على أطراف بحر شمال قطاع غزة، ليعمل كما كان دومًا في صيد السمك، وما كاد يقضي بعض الوقت في البحر حتى أطلقت عليه زوارق الاحتلال الإسرائيلي النار، فأصيب بطلقات مطاطية في كتفه. وزعمت قوات الاحتلال إطلاقها النار عليه لانتهاكه قرار منع الصيد الذي كان قد فرض قبلها بيوم، إذ أعلنت إغلاق البحر ومنع الصيادين من النزول إليه، ردًا على إطلاق المقاومة صواريخ من غزة باتجاه الأراضي المحتلة عام 1948. 

قبلها بأشهر، كانت قوات الاحتلال قد أطلقت النار باتجاه الصيادين فأصابت الصياد أبو عون بعيار مطاطي في ساقه، فيما «أصيب جسم المركب بعدد كبير من الأعيرة النارية»، بحسب تقريرٍ لمركز الميزان لحقوق الإنسان في قطاع غزة.  

يفرض الاحتلال الإسرائيلي حصارًا على قطاع غزة منذ العام 2007، مانعًا الفلسطينيين من ممارسة حياتهم، ومن طلب الرزق بشكل طبيعي، ومن بين الفئات المتضررة بشكل مباشر من هذا الحصار الصيادون، الذين مُنِعوا خلال السنوات الماضية، بين حين وآخر، من نزول البحر للصيد، أو تم التضييق عليهم من خلال تقليص مساحة الصيد إلى حدود يصير معها الصيد صعبًا جدًا، وخلال هذه السنوات استشهد بفعل نيران الاحتلال عدد منهم، فيما جرح بفعلها آخرون، وتقلّص عدد الصيادين بشكل ملحوظ. 

قتل متعمد

منذ الإعلان عن توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال عام 1993، والتي أُسست إثرها السلطة الفلسطينية، تغيّرت أوضاع الصيد والصيادين عن المرحلة السابقة، حيث حددت الاتفاقية المياه الإقليمية الفلسطينية بعشرين ميلًا بحريًا، فيما لم تكن محددة في السابق، وقت وقوع قطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر. ورغم ما نصت عليه الاتفاقية إلّا أن المساحة التي سُمِح للصيادين بالإبحار فيها، حتى قبل الحصار، لم تتجاوز 12 ميلًا بحريًا. 

وعلى مدى تلك السنين تنوّعت الاعتداءات على الصيادين، واختلف شكل حرمانهم من لقمة عيشهم. 

في صباح 7 آذار 2021، أبحر الشقيقان محمد حجازي اللحام (27 عامًا)، وزكريا (24 عامًا)، وابن عمهما يحيى اللحام (29 عامًا)، قرابة السادسة صباحًا، حيث وصلوا على قاربهم الصغير لمسافة لا تتجاوز ميلين بحريين، وشرعوا في اصطياد الأسماك.

ألقى ثلاثتهم الشباك في الماء، وبعد ساعتين تقريبًا، عند سحبهم لشباك الصيد، انفجر المركب، مما أدى لاستشهاد ثلاثتهم. لتهرع الشرطة البحرية لمكان الحادث لجمع الأدلة، فيما نقلت جثامين الصيادين للمستشفى.

وبعد التحقيق، أعلنت وزارة الداخلية الفلسطينية أن التحقيقات خَلُصت إلى أن الصيادين استشهدوا جراء «انفجار عبوة شديدة الانفجار مُثبتة على حوّامة من نوع كواد كابتر إسرائيلية، علقت في شباكهم وانفجرت أثناء استخراجهم للشباك».

هكذا وخلال حادث عرضي، رحل ثلاثة صيادين، تاركين أسرهم بلا معيل بعد سنوات من العمل في مهنة الصيد والتي كانت توفر لهم الحد الأدنى من مصاريف الحياة اليومية بحسب ما قالت العائلة.

لم تكن حادثة استشهاد صيادي عائلة اللحام الأولى، فقد سبقها عدة حوادث أخرى، أدت لاستشهاد صيادين بعد الاستهداف بشكلٍ مباشر. ففي شباط من العام 2018، كان ثلاثة صيادين على متن قارب صيد صغير في البحر شمال القطاع، هم الصياد إسماعيل أبو ريالة (18 عامًا)، محمود أبو ريالة (18 عامًا)، وعاهد حسن أبو علي (26 عامًا)، حينما هاجمتهم زوارق البحرية الإسرائيلية وفَتحت النار تجاههم.

كان ثلاثتهم على بعد حوالي ثلاثة أميال بحرية، يحاولون النوم قليلًا على متن المركب أثناء عملية الصيد، عندما هاجمتهم الزوارق. أطلقت قوات الاحتلال النار عليهم، فقتلت إحدى الرصاصات الصياد إسماعيل أبو ريالة ليستشهد، فيما اعتقلت قوات الاحتلال الصياديْن الآخريْن، واعتقلت الجثمان، واقتادتهم إلى ميناء إسرائيليٍ قريب.

يستذكر صالح أبو ريالة، والد الصياد إسماعيل، ما حدث يومها، حيث وصلتهم أخبار استشهاد نجله، وبعد فتح بيت عزاء، وصلت أخبار تفيد بأن الابن ما زال على قيد الحياة في أحد المستشفيات الإسرائيلية، الأمر الذي أدخل العائلة في حيرة، وارتباك ليوميْن قبل أن يتأكد خبر مقتل نجله.

يقول الصياد أبو علي، الذي كان حاضرًا يوم الحادثة، إن الرصاص انهمر على المركب كالمطر، مخترقًا الأجساد والمركب، فأصيب محمود بطلقة في صدره، وأصيب إسماعيل برصاصة في رأسه، حينها ناشد أبو علي الاحتلال إنقاذ إسماعيل إلّا أنهم تجاهلوه، وأمروه بالتجرّد من ملابسه والنزول إلى المياه.

رغم ما حصل معه، إلّا أن أبو علي لم يملك خيارًا إلّا العودة لممارسة مهنة الصيد بعد فترة من الحادثة لتأمين مصاريف أسرته اليومية.

بحسب إحصائيات مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة، تصاعدت أعداد الاعتداءات خلال السنوات الأخيرة، فبينما رصد المركز 149 اعتداءً على الصيادين من قبل البحرية الإسرائيلية عام 2013، وصلت أعدادها في عام 2019 إلى 351 اعتداءً، و309 اعتداءً عام 2020.

أمّا حالات الاعتقال، فكان عام 2016 هو الأعلى، حيث تم اعتقال 135 صياد في عرض البحر، أثناء ممارستهم الصيد، فيما رصد الميزان 142 حالة إصابة مباشرة بأعيرة نارية ما بين عامي 2013 و2020. وقتل أكثر من ستة صيادين خلال هذه الفترة. 

تدمير القوارب ومصادرتها ومنع صيانتها

جزء من الاعتداءات التي تقوم بها قوات الاحتلال يتمثّل بإتلاف قوارب الصيادين ومصادرتها في بعض الحالات، وتمزيق شباكهم، بالإضافة لمنع دخول مواد الصيانة الخاصة بعملهم.

الصياد عبد المعطي الهبيل (63 عامًا)، عاصر جميع فترات الصيد السابقة منذ ما قبل أوسلو. في العام 2015 قامت قوات الاحتلال بإغراق مركبه، على بعد ثلاثة أميال بحرية، وقال لواحدة من وسائل الإعلام الفلسطينية «غرق قاربي هذا على عمق 30 مترًا بعد الاعتداء عليه من زوارق الاحتلال البحرية، وقمت بإخراجه وسحبه بمساعدة الصيادين بعد قيام غطاسين بربطه وجره للشاطئ وقد بلغت تكلفت صيانته 24 ألف دولار»، وبعد أشهر على هذه الحادثة، وفي 2016 صادر الاحتلال المركب الذي يبلغ وزنه ما بين 50 إلى 60 طنًا. 

يقول الهبيل إن بحرية الاحتلال الإسرائيلي داهمت القارب في أحد أيام أيلول 2016، أثناء إبحاره على بعد ستة أميال بحرية قبالة شاطئ دير البلح بمحافظة الوسطى في القطاع، ضمن المساحة المسموحة للصيادين في تلك الفترة. وأضاف الهبيل الذي لم يكن متواجدًا على قاربه وقت الحادثة إن بحرية الاحتلال أطلقت الرصاص على أبنائه والصيادين الذين يعملون على متن القارب واعتقلتهم جميعًا، قبل الإفراج عنهم في اليوم التالي بعد التحقيق معهم في ميناء أسدود، ولكنها أبقت على القارب محتجزًا لقرابة ثلاث سنوات.

إثر ذلك، توجه الهبيل إلى مراكز حقوقية تعنى بتوثيق الانتهاكات، ومساعدة الفلسطينيين على توكيل محامين للمطالبة باستعادة القارب. 

خلال تلك الفترة أصبح صاحب المركب، عاملًا هو وأبناؤه على قوارب صيادين آخرين، بأجرة يومية زهيدة لا تتجاوز ستة دولارات في اليوم، ما يوفر لهم الحد الأدنى من المأكل والمشرب فقط، بعدما كانت مركبه توفر له ولأبنائه وأسرهم أضعاف ذلك المبلغ بحسب الموسم.

خلال سنوات احتجاز المركب، جرت جلسات المرافعة في المحاكم الإسرائيلية، بينما بقي مركب الهبيل مركونًا في ميناء إسدود ليأكلها الصدأ، ولتتلف المعدات والمولد الكهربائي. فيما بعد، وبعد عدة جلسات من المماطلة دون سبب واضح لاحتجاز المركب، قررت المحكمة الإسرائيلية الإفراج عنه وإعادته لصاحبه، لكن وبسبب عدم قدرته على الإبحار، عاد محملًا على شاحنة من خلال معبر كرم أبو سالم التجاري جنوب القطاع، وعلى نفقة الهبيل.

عاد المركب بحالة يرثى لها، واستقر على شاطئ ميناء غزة البحري. يقول الهبيل إن تكلفة إصلاح المركب بلغت حوالي 50 ألف دولار، اضطرّ لاستدانة جزء كبير منها من أصحاب المراكب مقابل إعادتها فور بدء العمل عليه من جديد.

وثّق مركز الميزان 156 حالة مصادرة لمراكب كبيرة وصغيرة للصيادين ما بين الأعوام 2013 و2020، من أصل 1739 مركب متوفرة للصيادين حتى عام 2019، بحسب تسجيلات وزارة الزراعة الفلسطينية، فيما وثق 104 حالات لتخريب أدوات صيد الصيادين خلال هذه الأعوام.

وأشار مركز بتسيلم الإسرائيلي في عدة تقارير صادرة عنه، إلى حظر «إسرائيل» إدخال المواد الحيوية لغرض الصيانة المتواصلة لمراكب الصيد، بما في ذلك الألياف الزجاجية «الفيبرجلاس»، والكابلات الفولاذيّة وقطع الغيار، بحجة تعريفها كمواد «ثنائية الاستخدام»، أي أنها معدة بالأساس للاستخدام المدني وصالحة أيضًا للاستخدام الأمني أو العسكري، الأمر الذي أدى لارتفاع أسعار الكميات البسيطة المتوفرة منه أضعاف سعرها الأصلي.

أمّا وزارة الزراعة الفلسطينية، والتي يقع ضمن نطاق صلاحياتها قطاع الصيد، فقد طالبت من مديرية التنسيق والارتباط الإسرائيلية، عدة مرة إدخال المواد المطلوبة لمهنة الصيد وصيانة المراكب، إلا أن مطالبها لم تجب. ووفقًا لنقابة الصيادين بغزة فإن ما يقارب من 200 قارب من نوع حسكة وخمسة قوارب بمحركات صغيرة (لنشات) معطلة اليوم، بسبب غياب المواد والمعدات اللازمة لإصلاحها. 

تلاعب المساحات وتأثر الاقتصاد

مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية أواخر العام 2000، بدأت «إسرائيل» بالتلاعب بمساحة الصيد بشكلٍ محدود، إلا أن تقليصها للمساحة المقلصة بالأساس، برز مع فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، ومن ثم سيطرتها على القطاع عام 2007. حيث قُلصت المساحة عام 2006 من 12 ميلًا بحريًا إلى ستة أميال بحرية. ووفقًا لشهادات الصيادين، بحسب تقرير لمركز الميزان، فإن مسافة الستة أميال والمفروضة في أغلب الأوقات، هي عبارة عن مناطق بحرية رملية لا تتوفر فيها الأسماك إلا بشكل محدود، بينما تتواجد هذه الأسماك في المناطق الصخرية في العمق عند مسافات لا تقل عن 12 ميلًا بحريًا تقريبًا.

وفي عام 2008، ومع اندلاع الحرب الأولى على غزة، تقلصت المساحة لتتراوح بين ميل ونصف وحتى ثلاثة أميال في أفضل حال. زادت المساحة عام 2012 وصارت بين ثلاثة وستة أميال، وتراوحت عامي 2016 و2017 بين ستة وتسعة أميال، إلّا أن تلك الفترات لم تخلُ من قرارات إغلاق البحر بشكلٍ كامل أمام حركة الصيد، تحديدًا في فترة مواسم الأسماك كما يقول الهبيل.

ارتفع تلاعب «إسرائيل» بمساحة الصيد بين عامي 2018 و2019 خلال فترة مسيرات العودة على طول الحدود الشرقية للقطاع طيلة عامين، حيث قلصت الحكومة الإسرائيلية مساحة الصيد إلى ثلاثة وستة أميال بحرية، في شكل من أشكال العقاب الاقتصادي لقطاع غزة بأكمله، مثلما حدث أواخر نيسان 2021، من قرار إغلاق البحر ليومين أمام حركة الصيد.

هذه الاعتداءات أضافت أعباء اقتصادية على الصيادين والعاملين في مهن الصيد، مما أدى لتقليص عدد الصيادين من 10 آلاف صياد عام 1997، إلى قرابة 4 آلاف صياد فقط في عام 2019، بحسب الأعداد المسجلة رسميًا لدى وزارة الزراعة.

يقول منسق لجان الصيادين في غزة، زكريا بكر، إن حوالي ألفيْ عاملٍ مسجّلٍ في قطاع الصيد غير قادرين على كسب قوتهم من خلال البحر، بسبب القيود الإسرائيلية المفروضة على دخول المواد اللازمة لإصلاح مئات من القوارب غير المستخدمة، ويضيف أن إغلاق البحر والتلاعب مساحة الصيد، لا ينطوي فقط على منع الصيادين من كسب قوتهم.

يشكل قطاع الصيد بالنسبة لغزة ما يقارب 15% من إجمالي ناتج الاقتصاد، في أفضل الحالات، بحسب جهاد صلاح، مدير دائرة الثروة السمكية في وزارة الزراعة، إلا أن تلك النسبة هي حد المساهمة الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه. وهي نسبة خاضعة للنقصان بشكل مستمر تبعًا للتطورات الميدانية، وما ينتج عنها من تقييد إسرائيلي لمساحة الإبحار والصيد

 

أنتجت هذه المادة ضمن فترة الدراسة في «الأكاديمية البديلة للصحافة العربية».

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية