الصين في بحر العرب: الجغرافيا السياسية لميناء الدُقم

الثلاثاء 23 أيار 2023
ميناء الدقم الجديد. المصدر: ويكيميديا.

هذا المقال هو نسخة معدّلة من ورقة نشرت في دورية Middle East Critique في نيسان 2023.

تسعى دول الخليج منذ زمن طويل لتصبح اقتصاداتها أكثر تنوعًا وأقل اعتمادًا على صادرات النفط. تعتبر عُمان إحدى هذه الاقتصادات، خاصة مع التحديات الأعمق التي تواجهها، بتناقص إنتاجها واحتياطها النفطي. وهي بالمقارنة مع جيرانها في الخليج، أعجز عن تدارك مشاكلها المالية الحالية. لذلك عليها أن تتجه نحو التصنيع وتنوّع صناعاتها وإلا ستصبح معتمدة على الريوع الجيوسياسية، وبالتالي، أقل استقلالية. يتوجب على عُمان على المدى القصير، مع تضاؤل احتياطها النفطي على العكس من جيرانها، إيجاد مصادر بديلة لتوليد الدخل من أجل الحفاظ على نمو اقتصادي صحي سليم. وقد ظهرت الفرصة لتحقيق هذه الغاية عندما عرضت الصين عليها حزمة استثمار صناعي بمليارات الدولارات عام 2016.

عام 2013، اتخذت الصين خطوات ملموسة نحو إرساء علاقات اقتصادية ثنائية مع الدول النامية كجزء من إحياء طريق الحرير القديم. من خلال استعارة الرمز التاريخي لطريق الحرير القديم، تبنت الصين مفهوم التنمية المتبادلة وتابعت بنشاط الشراكات الاقتصادية مع الدول الحديثة التي كان طريق الحرير ليمر عبرها. تؤكد سياستها الخارجية على بناء مجتمعات بمستقبل مشترك ومسؤوليات مشتركة مع الدول الأخرى. وقد أولت الصين من خلال هذه الاستراتيجية اهتمامًا خاصًا بالمنطقة العربية، وذلك لاعتمادها على الوقود الأحفوري، ولكون المنطقة تقع كشريك طبيعي على طريق الحرير.

بحسب معطيات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، ارتفعت التجارة العربية الصينية منذ 1990 من لا شيء تقريبًا بمعدل نمو يقارب 20% سنويًا لتصبح الشريك التجاري الرئيس مع العالم العربي. استهدفت استثمارات الصين الخارجية في المنطقة بدايةً قطاع الطاقة. إذ يقدر أن ما يقارب 40% من إمدادات الصين من النفط مستوردة من الخليج العربي. وتعد المنطقة العربية ثامن شريك تجاري مع الصين، بينما تعتبر الأخيرة الشريك التجاري العالمي الأول للمنطقة العربية.[1] وقد استهدف استثمار مبادرة الحزام والطريق الصيني مؤخرًا قطاعات أخرى، مثل البنى التحتية والخدمات اللوجستية والقطاعات الصناعية التي يمكن أن تعزز مخططات التنويع لدى الدول العربية. وتكون مبادرة الحزام والطريق قد فتحت بذلك نافذة من الفرص للعرب، الذين حوصر بعضهم مثل العراق وسوريا، بالنفط والحرب والعقوبات المفروضة من الغرب وعدم الاستقرار السياسي الذي طال أجله.

بحسب معطيات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، ارتفعت التجارة العربية الصينية منذ 1990 من لا شيء تقريبًا بمعدل نمو يقارب 20% سنويًا لتصبح الشريك التجاري الرئيس مع العالم العربي.

تعتبر عُمان إحدى دول الشرق الأوسط الرئيسية التي تمد الصين بالنفط. بالنظر إلى خارطة عُمان، يبدو جليًا أنها بوابة الخليج العربي، كما أنها ممر هام إلى القرن الإفريقي. وهي مركز محتمل على طريق سلاسل الإمداد عبر المحيطات. لقد دفع هذا الموقع الجيواستراتيجي بعُمان لتبرز على رادارات الإمبراطوريات القديمة (الفارسية على سبيل المثال)، والحديثة (الاحتلال البرتغالي في القرن السادس عشر، والبريطاني في نهايات القرن التاسع عشر وحتى عام 1972)، إلى جانب التأثير الأمريكي (خلال الخمسين عامًا المنصرمة). وبينما سعت بريطانيا والولايات المتحدة إلى إنشاء قواعد عسكرية في عُمان من دون طرح خطة للتطوير، قدمت الصين مؤخرًا خطة تعاون اقتصادي تتماشى مع تطلعات عُمان نحو التنوع.

عُمان أمة تجارة وملاحة بحرية. اشتهر سكانها بمهارات بناء السفن. وعرفت موانئ صحار وصور وظفار تاريخيًا بكونها مراكز إقليمية لأحواض بناء السفن وخدمات إصلاحها. فبحسب السجلات الصينية، مخرت السفن المبنية في عُمان في وقت مبكر يقدر بحوالي سنة 617 ميلادية عباب المحيط الهندي، ووصلت مدينة غوانزو جنوب الصين.[2] وقد اعتبر ميناء صحار على سبيل المثال، «البوابة إلى الصين». سقطت عُمان في يد البرتغاليين في القرن السادس عشر، وثم في قبضة شركة الهند الشرقية البريطانية في القرن الثامن عشر. ورغم أن بريطانيا تركت عُمان فعليًا عام 1971، إلا أنها خلفت وراءها ثقلًا عسكريًا وقانونيًا وأيديولوجيًا وتشغيليًا كافيًا كي تبقى شديدة الحضور في شؤونها، كما فعلت مع غيرها من مشيخات الخليج العربي. واليوم، فإن موقع عُمان بين قوتين إقليميتين، السعودية وإيران، يجعلها في قلب التوتر الإقليمي.[3] 

الاستثمار الصيني في عُمان

كما في غيرها من البلدان، الشركات الصينية العاملة في عُمان مملوكة للدولة بشكل رئيس، مثل مؤسسة البترول الوطنية الصينية، وشركة سور الصين العظيم للحفر. وقد تفاعلت الشركات الصينية مع الاقتصاد العُماني عند تقاطعات مختلفة. فمن ناحية الهندسة والمشتريات والبناء، تعاقدت مجموعة باورتشاينا العالمية لإنجاز مشروع محطة عبري للطاقة الكهروضوئية. بينما تعاقد مكتب خط أنابيب البترول الصيني على تجديد محطة ريسوت في صلالة. كما اقتحمت السوق العُماني أيضًا شركات صينية خاصة مثل هواوي وشيري للسيارات.

بحسب البنك الآسيوي لاستثمارات البنى التحتية (AIIB)، تخطط الاستثمارات الصينية في عُمان لاستهداف قطاعات مختلفة غير نفطية. يقدر المجموع الكلي المسجل للتكلفة المخصصة لمشاريع AIIB في عُمان بحوالي 880.3 مليون دولار، أجريت دراسات جدوى اقتصادية لها. شملت هذه المشاريع المتعاقد عليها مجالات السكك الحديدية والمواصلات والخدمات اللوجستية وتوسيع الموانئ وقطاعات الاتصالات. وقد وعد بنك AIIB بتمويل أكثر من نصفها من خلال القروض.

إلا أن الصين مهتمة بتطوير الدُقم، وهي مدينة صغيرة على ساحل بحر العرب في الجزء الجنوب الشرقي من عُمان، وتحويلها إلى مركز صناعي وتجاري. عام 2016، اتفقت الصين وعُمان على صفقة تبلغ 10.7 مليار دولار لتأسيس مدينة صناعية في المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم.[4] وتقدم هذه المنطقة الخاصة تشكيلة من المنافع للمستثمرين، تتراوح ما بين الإعفاء الضريبي، ورفع الحواجز الجمركية عن البضائع المستوردة، إلى منح حق الانتفاع بأراضي الدولة لمدة 50 عامًا، وأسعار إيجارات تنافسية للأراضي. وقد ألغت الحكومة العُمانية القيود التقليدية على الاستثمار وسمحت بملكية أجنبية كاملة لرأسمال المشاريع في المناطق الاقتصادية الخاصة. ورغم أنها ألغت متطلبات الحد الأدنى لرأس المال، إلا أنها حافظت على «القائمة السلبية» التي تمنع الملكية الأجنبية للعقارات وذلك لحماية الأمن القومي للسلطنة. بدلًا من ذلك، يمكن تخصيص الأرض اللازمة للاستثمار بمنح حق الانتفاع أو بإيجار لمدة 50 عامًا.

إن التنامي المستمر والمتواصل للصين عبر التجارة ومشاريع بناء القدرات المشتركة، يوجب على الولايات المتحدة كبح تطور الصين بالحفاظ على تأخر عُمان والشعوب الأخرى المشابهة حول العالم.

على العموم، جرت الموافقة المبدئية على هذا الاستثمار الصيني الموعود به لكنه لم يمنح بعد دراسة جدوى. سينفذ المشروع ائتلاف شركات صينية تدعى عُمان وانفانغ، وإذا ما تم المضي فيه، سيكون أحد أكثر مشاريع البنى التحتية في مبادرة الحزام والطريق طموحًا التي تنفذها الشركات الصينية في الشرق الأوسط. وقعت الشركات الصينية من منطقة نينغشيا، ذات الحكم الذاتي، ومقاطعة هيباي اتفاقياتٍ لدخول المنطقة الصناعية.[5] ويتضمن المشروع المخطط له مصنعًا للميثانول، وصناعة أدوات البناء، والصناعات الملاحية، ومصانع للأنابيب، ومصنعًا لتجميع المركبات، وقاعدة تصنيعية للألواح الشمسية.

من نافلة القول إن هذه الاستثمارات ترفع القدرات الإنتاجية. وما يجعلها أكثر جاذبية هو التمويل الصيني منخفض الفائدة، أي القروض الطويلة الأجل من مؤسسات مالية صينية حكومية وشبه حكومية بمعدلات فائدة منخفضة. تتماشى هذه المشاريع مع مخططات عُمان الوطنية، خصوصًا الخطة الخمسية التاسعة للتطوير ورؤية 2040، التي حددت التنوع الاقتصادي كأحد أهداف السلطنة الرئيسة. كما تقدم تصورًا لنقل التقنيات من الصين إلى عُمان.

تحرص الشركات الصينية على نقل أصولها ومعداتها من الصناعات الآفلة أو بطيئة النمو في الصين، مما يعزز مهارات اليد العاملة المحلية، ويعمل على زيادة مخزون رأس المال في عُمان. لذا، من منظور متعلق بالرفاه، تحرك هذه المشاريع العمالة المحلية والموارد. إلا أنه لم يصل سوى القليل من هذا التمويل الصيني حتى الآن. فبالنظر للموقع الجيواستراتيجي لعُمان ما بين باب المندب ومضيق هرمز، فإن الولايات المتحدة لم تألُ جهدًا لتعطيل تنفيذ مشاريع التطوير الممولة من الصين في عُمان.

إن هذه المشاريع الاستثمارية غير المنجزة مشروطة بتوازنات القوى الجيوسياسية. فطالما أن هذه الاستثمارات قد تعزز السيادة العُمانية المبنية على تحسين الظروف الاجتماعية، من المستبعد أن يتاح للصين تحقيق هذه المخططات لعُمان، لأن مثل هذه المحصلة لا تتناسب مع الأهداف الأمريكية. من بين 11 مليار دولار المخصصة للاستثمار، فإن المشروع المنفذ الوحيد -باستثناء اتفاقيات تأجير الأرض- هو مصنع أنابيب هونغتونغ في الدقم (الذي اكتمل في 2021 في المنطقة الصناعية من الدقم، ولا يساوي إلا بضعة ملايين من الدولارات).[6] ينتج المصنع أنابيب البولي-إثيلين المقوى، والمستخدمة في صناعات النفط والغاز، خصوصًا جمع ونقل السوائل الهيدروكربونية.[7] وقد أظهر المشروع تأثيرات ممتدة من خلال التعهدات الخارجية والتفاعل مع الموردين المحليين وخصوصًا الشركات العُمانية المتوسطة والصغيرة.

لماذا الدقم؟

يمكن تفسير أهمية ميناء الدقم من خلال موقعه الجيوستراتيجي، فهو ليس مجرد ميناء للحاويات والسفن والخدمات اللوجستية. إذ تتميز منطقته بحوض جاف ومصفاة بترول وبضعة مصانع للبتروكيماويات. لذا، في زمن عدم الاستقرار الخليجي، يقدم الدقم ممرًا بديلا للسفن العالمية. إذ يقع نوعًا ما بين مضيق هرمز ومضيق باب المندب ويبعد بتوازن عن مختلف مناطق النزاع: اليمن، والخليج العربي المتقلب، والعراق. كما أنه يحتفظ بموقع استراتيجي عبر طريق الحرير الصيني البري والبحري. قد تربط الصين الدقم باستثماراتها الأخرى في البنى التحتية في ميناء جوادر في باكستان وميناء جيبوتي في القرن الشرقي لإفريقيا. وقد يعمل الدقم كقاعدة عمليات للشركات الصينية وتوزيعها لمنتجاتها النهائية إلى البلدان المجاورة أو شحنها لبلدان أوسع.

يمكن لعُمان بدورها أن تستفيد من المشاريع الصينية في الدقم من خلال استغلال الفرص الاقتصادية التي يقدمها ممران متوازيان، ممر الصين باكستان الاقتصادي، والذي يمتد من جوادر عبر إسلام آباد إلى كاشغار في مقاطعة شينجيانغ، وممر الخليج البحري الممتد من الكويت عبر الخليج إلى جوادر وأخيرًا كاشغار. توفر مشروعات البنى التحتية الاستثمارية في مبادرة الحزام والطريق الصينية في مجال الموانئ عبر المحيط الهندي للصين ممرات فعالة من حيث التكلفة لتصدير بضائعها. فاستثماراتها في ميناء جوادر، وميناء هامبانتوتا، واستئجار الأرض في ميناء الدقم (ما زال المشروع عالقًا) هي أمور مدفوعة باهتمام الصين بضمان طرق شحن بديلة، إلى جانب الحفاظ على الكفاءة في إيصال البضائع. فالقول الصيني القديم، فيما يتعلق بمبادرة الحزام والطريق «طرق سهلة؛ مال سهل» ما يزال صحيحًا. إلا أن عروض الاستثمار الصينية لتطوير الدقم قد استرعت انتباه الهند وبريطانيا والولايات المتحدة.

شدد روبرت كابلان، وهو محلل جيوسياسي أمريكي، على أهمية الدقم ليس في الجزيرة العربية فحسب، ولكن في المحيط الهندي الأوسع. مكررًا اللازمة الأمريكية «اقصفوا إيران»، يقول كابلان:

«بينما تواصل الصين انخراطها المتزايد في موانئ المحيط الهندي (..) تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على توازن القوة في المحيط الهندي عبر تأمينها موطئ قدم عسكريًا وتجاريًا. إن التركيز الجديد المشار إليه على الدقم سيكون خطوة عملاقة للبحرية الأمريكية لتصبح قوة بحرية في المحيطين الهندي والهادئ بدلًا من كونها قوة في المحيطين الأطلسي والهادئ فحسب، كما كانت طوال تاريخها السابق. فمن الدقم، ستظل القوات البحرية الأمريكية قريبة كفاية من الخليج العربي لقصف إيران، وذلك دون أن تكون السفن الحربية الأمريكية محصورة ومعرضة للهجوم كما هي في البحرين».[8] 

مع مثل هذا الترويج للحرب من جانب كابلان وغيره، نصبت الولايات المتحدة بحلول 2019 موطئ قدم عسكري لها في ميناء الدقم،[9] مما أزاح ميزان القوة أكثر لصالح الولايات المتحدة مقابل التأثير الصيني التجاري. فتمامًا كما كانت عدن في القرن التاسع عشر، وسنغافورة في القرن العشرين، اللتان كانتا تحت السيطرة البريطانية آنذاك وعملتا كمينائين لتبادل البضائع بين السفن والخدمات اللوجستية وكمواقع أمنية للإمبراطورية البريطانية، يُتوقع من ميناء الدقم اليوم أن يخدم الهدف ذاته تحت السيطرة الأمريكية. كما أن تزايد الوجود الأمريكي في ميناء الدقم يعزز تأثير الولايات المتحدة المباشر على الصراع في اليمن.

إن عنصر الخوف المفروض على الصين من احتمال خسارة التجارة والطاقة عن طريق باب المندب يجبرها على تحويل المزيد من مصادرها نحو الدفاع. وهكذا، فعبر خليط من النيوليبرالية والحرب، منعت الولايات المتحدة تطوير المنطقة حتى الآن. إن الاستراتيجية الصينية لبناء البنى التحتية بقروض ذات معدلات فوائد منخفضة أمر مختلف كليًا. فبينما يدور النموذج الصيني حول إنتاج سلع للاستخدام المدني، فإن النموذج الأمريكي يعتمد على العسكرة. والعسكرة تعرقل نمو الصين، فالإنفاق العسكري والقلاقل يخفضان دخل الأمم الشريكة وطلبها على المنتجات الصينية.

استراتيجية «عقد اللؤلؤ» المزعومة

لقب التوسع الصيني في المحيط الهادئ في الأدبيات الغربية باستراتيجية «عقد اللؤلؤ» للممرات البحرية. بحسب هذا الوصف، فإن الصين توسع قوتها على طول الممر البحري من الشرق الأوسط إلى بحر الصين الجنوبي من أجل حماية شحناتها ومنع أي عرقلة محتملة لوارداتها من الطاقة.[10] يفترض هذا الرأي أيضًا أن الاستثمارات الصينية في البنى التحتية في موانئ مينامار وباكستان وسيريلانكا، وبناء تسهيلات في أحواض الميناء في خليج البنغال (ميناء شيتاغونغ في بنغلادش)، كلها جزء من خطة صينية لتوسيع تواجدها البحري في المحيط الهندي. مما لا شك فيه أن الطبيعة التجارية للربط الصيني لهذه الموانئ قد زادت من تأثير الصين. إلا أن مثل هذا التوسع ليس مؤامرة ضد إمبراطورية بمئات القواعد العسكرية المتناثرة عبر العالم، ذلك أن الصين تعي أن عليها اتخاذ إجراءات وقائية للدفاع عن النفس ضد الولايات المتحدة التي تعتاش على الحرب.

يمكن تفسير أهمية ميناء الدقم من خلال موقعه الجيوستراتيجي، إذ تتميز منطقته بحوض جاف ومصفاة بترول وبضعة مصانع للبتروكيماويات. لذا، في زمن عدم الاستقرار الخليجي، يقدم الدقم ممرًا بديلا للسفن العالمية.

تمثل استراتيجية الصين بحسب هذا الافتراض معضلة أمنية بالنسبة للغرب. فمن جهة، يعتبر التأثير الصيني المتنامي تهديدًا للهيمنة الغربية على المحيط الهندي، ومن جهة أخرى، فهو يشجع دول الأطراف لإعادة التفاوض حول العديد من المعاهدات الأمنية/التجارية والمواثيق القائمة منذ 1945. في هذا الإطار، يزعم روبرت كابلان وجيريمي بيج وآخرون أن الصين قد استثمرت في تسهيلات الموانئ التجارية والمدنية لسبب وحيد يتمثل في التحكم بنقاط وصل استراتيجية.[11] يقال إن الصين تحول نفسها إلى قوة بحرية عالمية، تشابه استراتيجية بريطانيا خلال القرن التاسع عشر. لكن ما تغفله هذه الفرضية طبعًا هو تاريخ سياسات مدافع الأسطول البريطانية والأمريكية، مقابل التوسع الصيني الذي يدور حول التجارة وبناء القدرات.

تحاول الصين إعادة توجيه تجارتها حول مضيق ملقا بين ماليزيا وإندونيسيا من خلال تأمين مدخل نحو موانئ المحيط الهندي، إذ يقدر أن ما يربو على 60% من واردات الصين الطاقية تمر عبر هذا المضيق. بينما تحاول الولايات المتحدة تطويق الصين، تتمثل إحدى الطرق الداعمة لاستراتيجيتها هذه في حصار مضيق ملقا لتكبيد الصين خسائر ضخمة في وارداتها من الطاقة وتقييد تجارتها مع العالم الخارجي. تعكس استثمارات مبادرة الحزام والطريق البحرية رغبة الصين في ضمان ممرات بحرية بديلة يمكنها دعم نقلها للطاقة. فمن خلال مشاريع الموانئ يمكن لها أن تضمن دخولًا إلى موانئ مياه عميقة حديثة في دول سواحل المحيط الهندي.

هناك أساس لفكرة أن أية زيادة في الاستثمارات الصينية والتأثيرات الجيوسياسية في المحيط الهندي سترافقها زيادة في القدرات العسكرية الصينية. حيث يعزز التطور المتنامي في الصين القدرات في كافة المجالات، بما فيها القدرات العسكرية والبحرية. وبالمثل، فإن خوف الولايات المتحدة، التي تنتعش بالعسكرة، من أن تُخلع عن عرشها بصعود الصين الاقتصادي يقوم أيضًا على أساس صحيح. إلا أن هذه الفرضية هي نصف الحقيقة. فقد اقتصرت القدرات البحرية الصينية عبر المحيط الهندي على النشاطات المضادة للقرصنة، والأمن البحري، واستخدام مرافق الموانئ للخدمات اللوجستية والمؤن. وحيث أن الأمن الطاقي الصيني يعتمد على ممرات بحرية مفتوحة وآمنة عبر المحيط الهندي، لذلك ليس لدى الصين اهتمام برفع مستوى التوتر لمنح الذرائع للعدوانية الأمريكية. لذلك، فإن علاقات الصين التعاونية مع الدول التي تجد لديها منفذًا للخدمات الملاحية والخدمات اللوجستية تتناغم مع أهدافها في النشاطات التجارية البحرية السلسة.

بينما تستمر أغلب البلدان النامية بالالتفات شرقًا بدلًا من الغرب، قد تدفع عملية التحول هذه بدول الأطراف للإفلات من سيطرة الولايات المتحدة وهيمنة دولارها وأيديولوجيتها النيوليبرالية.

تمكنت الصين منذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق من تحسين الاتصال بين البلدان من خلال المفاوضات الدبلوماسية. وقد وقعت بنهاية 2021 أكثر من 200 وثيقة تعاون مع 150 بلدًا و32 منظمة دولية للبدء ببناء البنى التحتية والشراكات الاقتصادية والتجارية، والتعاون الصناعي، وحماية البيئة والنظام البيئي، والتبادلات الثقافية بين الشعوب، والحرب ضد الجوائح. وقد تجاوز التراكم التجاري للصين من البضائع مع الدول عبر مبادرة الحزام والطريق خمسة تريليونات دولار بحلول عام 2018، كما تجاوز استثمارها المباشر في الدول الأجنبية 60 مليار دولار. وبات استثمار الصين الخارجي محركًا هامًا للاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصادات المضيفة.

بينما تستمر أغلب البلدان النامية بالالتفات شرقًا بدلًا من الغرب، قد تدفع عملية التحول هذه بدول الأطراف للإفلات من سيطرة الولايات المتحدة وهيمنة دولارها وأيديولوجيتها النيوليبرالية. وإذا كانت الصين مستقبلًا، تنتج كافة السلع، فمن المرجح أن تتطور تدريجيًا للمتاجرة بهذه السلع وتسعيرها بعملتها الخاصة. إن الخطوات الحذرة نحو الافتكاك من الدولار وآليات الدفع البديلة تنمو، لكنها ما زالت بعيدة عن عزل السوق المالي الأمريكي الأعمق. لكن، بينما تفقد الولايات المتحدة نفوذها على الدول التابعة لها، فإنها ستكثف استخدام الدولار كسلاح بشكل قد يؤدي إلى خسارة جميع الأطراف.[12] 

من وجهة نظر تنموية، فإن فكرة بناء الصين للقدرات الإنتاجية في الدول المضيفة أمر لا يروق للولايات المتحدة. إذ يتوجب عليها إبقاء دول الخليج دولًا تابعة بلا سيادة، وإلا فقد يدفع أي هامش من المناورة، يتولد نتيجة تنامي القدرات المحلية، الخليج إلى تبني موقع حيادي أو ربما داعم للصين. لذلك فإن التنامي المستمر والمتواصل للصين عبر التجارة ومشاريع بناء القدرات المشتركة، يوجب على الولايات المتحدة كبح تطور الصين بالحفاظ على تأخر عُمان والشعوب الأخرى المشابهة حول العالم.

  • الهوامش

    [1] GTN (2018) China and the Arab World: Revitalising the ancient Silk Road (10 July). Accessed 20 November 2020. Global Times (2022a) What is the significance of the milestone of China-Arab summit (7 December), Accessed 10 December 2022.

    [2] UNESCO (2022) Silk Roads Programme, Accessed 14 October 2022.

    [3] تبدو عُمان حيادية على عدد من الأصعدة، إلا أنها تميل في نهاية المطاف للموقف الإمبريالي. فتوازنها السياسي الحديث منذ عام 1976، وسط بحر من اللاتوازن الإقليمي، قد يعزى إلى انتصارها على ثورة ظفار (1963-1976)، وجهودها لإبقاء الأرضية الاجتماعية خامدة كمحصلة لهزيمة الثورة.

    [4] Eoghan Macguire (2018) Can Duqm become the Arab world’s next «great city»?, CNN (4 June), Accessed 25 January 2022

    [5] Xinhua, Financial Watch: «One Belt, One Road» Initiative; Belt and Road Portal (2017) China-Oman Industrial Park boosts China-Oman cooperation, Belt and Road Portal (24 April) (Beijing: Belt and Road Portal), Accessed 18 February 2022.

    [6] Conrad Prabhu (2021) First Manufacturing project of China-Oman Industrial Complex set for Q2 launch, Oman Daily Observer (29 June), Accessed 22 January 2022.

    [7] Times of Oman (2021a) First factory to open at China-Oman industrial city in Duqm (23 October), Accessed 22 January 2022.

    [8] Robert Kaplan (2014) The Indian Ocean World Order. Stratfor (9 April), Accessed 28 January 2022.

    [9] Middle East Eye (2019) With an eye towards Iran, US reaches strategic port deal with Oman, Middle East Eye (24 March), Accessed 10 February 2022.

    [10] The Washington Times (2005) China builds up strategic sea lanes (17 January), Accessed 20 January 2022.

    [11] Robert Kaplan (2010) Monsoon: The Indian Ocean and the Future of American Power (New York: Random House). Jeremy Page (2016) China Builds First Overseas Military Outpost, Wall Street Journal (19 August), Accessed 29 January 2022.

    [12] إلى جانب سردية «عقد اللؤلؤ»، تحاول خدعة «مصيدة الديون» السائدة أن تؤلب الرأي العام على الصين، زاعمة أن القروض الصينية ستؤدي إلى «تراكم الديون» و«التخلف عن سداد الدين» في الاقتصادات المضيفة. فإذا لم تتمكن الدول النامية من سداد القروض، سيفترض بالصين أن تستغلها من خلال «الحجز على أصولها الوطنية». والمثال الذي يستدعى دومًا هو ما تعرض له استثمار مبادرة الحزام والطريق في سيريلانكا. ولكن عند دراسة ملف الدين السيريلانكي بالتفصيل، نجد أن ديونها للصين تشكل 10% فقط من كامل الدين، بينما باقي الديون قد تمت استدانتها من الأسواق العالمية وبنك التنمية الآسيوي، كما لم يتم الاستيلاء على الأصول الوطنية ولم يتم التمسك بقيمة الدين الخارجي ذاتها.

    Lee Jones and Shahar Hameiri (2020) Debunking the Myth of «Debt-trap Diplomacy» How Recipient Countries Shape China’s Belt and Road Initiative, Chatham House Research paper (August 2020) (London: Chatham House); Global Times (2022b) Accusations over China creating a «debt trap» in Sri Lanka an organized smear by the West and India against BRI (7 April). Accessed 28 August 2022.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية