الاستيطان في الضفة الغربية: عن الضمّ كصيرورة مستمرة

الإثنين 01 شباط 2021
فلسطيني يلقي الحجارة على جنود الاحتلال أثناء مظاهرة ضد الاستيطان في قرية دير جرير قرب رام الله، 22 كانون الثاني 2020. تصوير جعفر اشتية، أ ف ب.

شغل الإعلان عن ضم الضفة الغربية إلى «إسرائيل»، أي فرض السيادة والقانون الإسرائيليين عليها، الفلسطينيين والفلسطينيات خلال الأشهر الست الأولى من عام 2020، ولم يكن ليطغى عليه أي حدث آخر في نقاشات الناس اليومية لولا انتشار فيروس كورونا المستجد. لم يعترِ هذه النقاشات في مجملها القلق حول ما سيحدث، ولم تكن سياسية حقًا في حينه، بقدر ما كانت محاولات لفهم كيف سيجري الضمّ، وماذا سيتغير في حياة الناس العاديين وهمّهم اليومي والمعيشي، وهذا مرتبط جزئيًا بالتقويض الممنهج للفاعلية السياسية لعامة الناس في الضفة الغربية.

كانت أسئلة العامة بشأن الضمّ مختلفةً عن أسئلة السلطة الفلسطينية، فالناس كانوا يسألون فيما ستظلّ هناك حاجة لتصريح من أجل الوصول للبحر أو العمل في «إسرائيل»، وهل ستتولى «إسرائيل» حكم الضفة مرةً أخرى، لكن الأمر لم يبدُ فارقًا أو مقلقًا بشكلٍ كبير، خاصةً أن آلية تنفيذ الضمّ لم تكن معروفة. المختلف كان لدى السلطة، فالضمّ الذي سيعلن رسميًا وبأي آلية كان سينفذ بها يعني نهاية وفشل مشروعها السياسي رسميًا. رغم ذلك، لا نرى جديةً لقلق السلطة خاصةً حين تتمثل استجابتها لهذا التهديد بإقامة مهرجان لرفض الضمّ.

إسرائيليًا، جاء الترويج للضم بشكلٍ مترافق مع الانتخابات الأخيرة، فقد كان وعدًا انتخابيًا قدمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ولاحقًا رئيس حزب «كحول لافان» بيني غانتس، للفوز بأصوات الناخبين المستوطنين، قبل أن يعلن عنه رسميًا في اتفاق غانتس ونتنياهو على تشكيل الحكومة. جاء الضمّ في التصريحات الإسرائيلية تحت عنوان كبير هو ضم الضفة الغربية، إلاّ أنَّ المقصود بالأساس كان الأغوار[1] والمستوطنات، وهذا مهم من أجل التفريق منهجيًا بين الخطاب السياسي الإسرائيلي ووظائفه الدعائية وما يحدث على الأرض، دون التقليل مما يحصل على الأرض بالطبع. فنقطة الانطلاق للحديث عن الضمّ هي أنَّ «إسرائيل» تسيطر أصلًا على كل الأرض من البحر إلى النهر.

موجة التصريحات الإسرائيلية وإعلان نية الضمّ، دفعت السلطة الفلسطينية في أيار 2020 إلى إعلان كونها في حلٍ من الاتفاقيات الموقعة مع «إسرائيل»، على لسان رئيسها، بما فيها التنسيق الأمني والمدني، على اعتبار أنَّ ضم أراضٍ من الضفة الغربية ينهي عملية السلام. قبل ذلك في شباط، كانت السلطة قد أعلنت رفضها استلام أموال المقاصة[2] منقوصةً، وذلك بعد قرار إسرائيلي بخصم المبلغ الذي تدفعه السلطة لعائلات الأسرى والشهداء، مما أدخلها في أزمةٍ ماليةٍ استمرت ما يقارب ستة شهور.

الضمّ بالأساس يعبر عن الرغبة المستمرة لدى الاستعمار الاستيطاني في الحصول على المزيد من الأراضي.

لاحقًا وفي آب، أعلنت الإمارات عن تطبيع علاقاتها وإعلانها رسميًا مع «إسرائيل»، وادعت أنَّ تطبيع العلاقات كان ضروريًا لوقف خطة الضمّ الإسرائيلية -قبل أن تقرر استيراد زيتون ونبيذ المستوطنات– لاحقًا نفى نتنياهو أنَّ يكون ثمن التطبيع هو إيقاف الضمّ بقوله «لم أخير بين اتفاق السلام مع الإمارات ومخطط الضمّ»، وهذا ما أكد عليه السفير الأمريكي في «إسرائيل».

أما السلطة فقد أعلنت في بداية تشرين الثاني عن عودة الاتصالات مع «إسرائيل» بعد رسالة من منسق أعمال حكومة الاحتلال في المناطق[3] (ويعرف بالمنسق)، أشار فيها إلى التزام «إسرائيل» بالاتفاقيات الموقعة مع السلطة، وعلى هذا الأساس افترضت السلطة أنَّ ذلك يعني إيقاف عملية الضمّ ضمنيًا وعادت العلاقات كما كانت.

لم يكن الضمّ ينتظر فوز نتنياهو أو غانتس في الانتخابات ليتم تنفيذه، وهو بالطبع لم يتوقف بعد التطبيع أو إعادة العلاقات، بل هو صيرورة مستمرة منذ عام 1948 وما قبله في السعي للحصول على أكبر كمّ ممكن من الأراضي، باعتبار الأرض جوهر مشروع الاستعمار الاستيطاني، خاصةً أنَّ نقاشات الضمّ الأولى أو إكمال الاستعمار ظهرت منذ عام 1949.[4] لذلك فالسؤال الفعلي هو هل الضفة الغربية «غير مضمومة»؟ وذلك بالانطلاق من أن الضمّ لا يعني الإلحاق الرسمي بـ«إسرائيل»، بل هو السيطرة الفعلية والزاحفة على الأرض، التي تتجلى في شبكة طرقات، ولا تنتهي بمنظومة أمنية وقانونية ومنسق، ومصفوفة ضبط وسيطرة، وأكثر من 600 ألف مستوطن.

الضمّ كصيرورة

يخبرنا المؤرخ الأسترالي باتريك وولف أنَّ الأرض تمثل الحياة لمشروع الاستعمار الاستيطاني، أو على الأقل هي ضرورية من أجل الحياة. بالتالي، فإن الصراع على الأرض يمكن أنَّ يكون -وعادةً ما يكون- صراعًا على الحياة.[5] وفي نصه التأسيسي «الاستعمار الصهيوني في فلسطين»، يشير فايز صايغ إلى أنَّ هدف نزع ملكية السكان الأصليين للأرض واحد من أبرز أهداف المستعمرين الصهيونيين.[6] هذه الضرورة في السيطرة على الأرض تستبطن في داخلها المنطق الآخر المحرك للاستعمار الاستيطاني وهو محو السكان الأصليين لكي تكون الأرض مهيئةً للممارسة الاستعمارية، بصفتها قيمةً قوميةً، ومساهمةً في عملية تشييد الأمة أو المجتمع الوطني، وأداة إنتاج.[7]

هذه الضرورة في السيطرة على الأرض تستبطن في داخلها المنطق الآخر المحرك للاستعمار الاستيطاني وهو محو السكان الأصليين.

التعبير الأوضح عن الرغبة المستمرة للمشروع الاستعماري في الضمّ (التوسع) هو موقف بن غوريون عند رسم الخط الأخضر، بقوله: «ليست هناك أي حدود مطلقة. فإذا كانت الحدود هي الصحراء، فإنها يمكن أن تكون أيضًا وراء هذه الصحراء، وإذا كان البحر هو الحدود، فيمكن أن تكون وراء البحر أيضا».[8] بالتالي، فالتوسع صفةٌ ملازمةٌ ومستمرةٌ للمشروع وليست طارئةً عليه. أمّا عن كيف تُصنع الحدود، بما تتضمنه من سيطرة وضم للأراضي، فيشير إيال وايزمان إلى حركة «غوش إيمونيم» كنموذج حول ذلك، إذ اعتمدت «غوش إيمونيم» تكتيكًا فعالًا يقوم على استيطان المواقع دون الحصول على إذن الحكومة، بِنيّة إجبار الأخيرة على منح الشرعية بأثر رجعي للمستوطنات التي كانت قد بنيت سلفًا.[9] بالتالي، فالمنطقة غير المضمومة هي في الانتظار حتى تضم، وهي تعبيرٌ مثالي عن مفهوم الحدود في مشروع الاستعمار الاستيطاني، فهي ليست أراضٍ خارجية بالنسبة للمستوطنين وسيادتهم، إنها فقط تلك الأراضي التي لم تصبح تحت حكم المستوطنين رسميًا بعد.[10] 

إنَّ الضمّ أو التوسع الاستعماري في الضفة الغربية بعد 53 عامًا من إكمال احتلال فلسطين والاستيطان فيها، هو صيرورة مستمرة، خاصةً في حال قررنا أنَّ نفهم الاستعمار الاستيطاني كبنية لا كحدث، فالبنية تتكيف وتتفاعل في علاقةٍ جدلية مع محيطها طوال الوقت بهدف إحكام سيطرتها على الأرض والفلسطينيين والفلسطينيات وحيواتهم. لكن مع خفوت الحديث حول العملية الاستيطانية في الضفة الغربية نفسها تحت نشوة الانتصارات التي أعلنتها السلطة مؤخرًا، ورغم أنَّ الاستيطان تضاعف أربع مرات منذ اتفاقية أوسلو، يظهر أنَّه من المهم إعادة تسليط الضوء على العمليات الاستيطانية بوصفها تمثل حياة مشروع الاستعمار الاستيطاني في كافة فلسطين، حتى لو اختلفت وتفاوتت حدتها ودرجاتها في المناطق المستعمرة عام 1948 أو 1967.

رغم عدم إعلان ضم الضفة الغربية رسميًا، وتعليق خطة الضمّ، فقد أعلن في 25 أيلول الماضي عن بناء أكثر من 5000 وحدة استيطانية، باتفاقٍ بين نتنياهو وغانتس، وذلك بعد تجميد الاستيطان لمدة ثمانية أشهر. وقال أحد المسؤولين في مجلس التخطيط لبناء المستوطنات، إنَّ نتنياهو أكبر بنّاء في المستوطنات، لكن التأخير حصل لأسباب مفهومة تتعلق بالعلاقات مع الدول الخليجية، لكن الآن لم يعد هناك أسباب. وعلى عكس ما روّج، فإنَّ اتمام عملية التطبيع أزال أسباب توقف البناء في الاستيطان وجعل الحكومة الإسرائيلية تعود إليه.

في 15 تشرين الأول الماضي، صادق الكنيست على اتفاقية التطبيع مع الإمارات والبحرين رسميًا، وفي نفس اليوم صادقت لجنة التخطيط العليا التابعة للإدارة المدنية الإسرائيلية على الوحدات التي طرحها غانتس ونتنياهو في الشهر السابق. فيما وافقت السلطات العسكرية الإسرائيلية في 27 تشرين الأول على بناء 31 وحدة استيطانية وسط الخليل المحتلة. وفي بداية تشرين الثاني، تم تنفيذ عملية هدم في خربة حمصة الفوقا، شرق بلدة طوباس شمال الضفة الغربية المحتلة، تركت 74 شخصًا بلا مأوى، في أكبر عملية هدم للمباني منذ عام 2016. والخربة هي واحدة من التجمعات الفلسطينية في الأغوار التي يتذرع الاحتلال بأنَّها مقامة في «مناطق إطلاق النار».[11] ترافق ذلك مع تقديم مقترح من قبل الإدارة المدنية للحكومة الإسرائيلية للقيام بمسح شامل لأراضي الضفة الغربية، تمهيدًا للسيطرة على أكبر كم ممكن منها. في الشهر نفسه، صادقت الحكومة الإسرائيلية على إقامة مستوطنة جديدة لـ500 عائلة في منطقة غلاف غزة. إلى جانب ذلك، فقد قامت بتدمير أراضٍ زراعية في المنطقة العازلة في القطاع تحت حججٍ أمنية.

قبل يومين من إعلان السلطة استئناف العلاقات مع «إسرائيل»، طرحت سلطة التخطيط والبناء الإسرائيلية عطاءً لإقامة 1257 وحدة استيطانية في مستوطنة «جفعات همتوس»، بما يساهم في عزل القدس المحتلة عن بيت لحم، وهي فاتحة لمشاريع استيطانية أكبر على ما يبدو، تهدف لعزل الأحياء العربية في القدس وعزل المدينة نفسها عن محيطها، وهو ما لم يتوقف مع بناء الجدار. فضلًا عن ذلك، فقد تقرر إقامة مستوطنة جديدة تحتوي 9000 وحدة استيطانية على أراضي مطار القدس، أو ما يعرف بمطار قلنديا، لتشكل حزامًا آخر إلى جانب الجدار يفصل القدس عن رام الله. كل ذلك بالتوازي مع الحديث عن العمل على تطوير شبكة الطرق في الضفة الغربية، على أساس ربطها مع الأراضي المحتلة عام 1948 لتعزيز الاستيطان فيها.

استيطان بهذا الحجم ليس خفيًا، فالمتنقل بين مدن/ معازل الضفة الغربية يستطيع أنَّ يرى التمدد الاستيطاني المستمر، والتمدد الذي يحصل على الأرض، وما يتبعه من مصادرة أراضٍ لأغراض أمنية، وطرق استيطانية جديدة.

في الثاني من تشرين الثاني، صادقت لجنة التنظيم والبناء اللوائية في القدس المحتلة على هدم 200 منشأة ومصادرة حوالي 2000 دونم من الأراضي الفلسطيني في منطقة وادي الجوز، وذلك من أجل مشروع «سيليكون فالي» الإسرائيلي، الذي يهدف إلى تحويل المنطقة إلى منطقة صناعية وسياحية وتجارية، خاصة في قطاع تكنولوجيا المعلومات. أما إخطارات الهدم والإخلاء، فهي مستمرة في أحياء بطن الهوى والشيخ جراح وغيرها في القدس. وفي الـ20 من الشهر نفسه، بدأ مستوطنون ببناء بؤرة استيطانية جنوب نابلس. وترافق ذلك مع قرار إسرائيلي بمصادرة مئات الدونمات جنوب نابلس، وذلك من أجل توسعة مستوطنة يتسهار، مع توسع استيطاني ومصادرة أراضٍ في منطقة سلفيت. أمّا مشروع إخلاء الخان الأحمر، فما زال قائمًا، ووجب تنفيذه قانونيًا، والحكومة الإسرائيلية لم تتراجع عنه ولكنها قررت تأجيله.

إلى جانب ذلك، فالنشاط الاستيطاني غير المقونن رسميًا مستمر، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، كان هناك محاولة لبناء 15 بؤرة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، نجح بعضها، من بينها مواقع مستوطنات انسحب منها الاحتلال عام 2005. بموازاة ذلك، يستمر النشاط الرسمي لتغطية هذا النشاط الاستيطاني قانونيًا من خلال الكنيست، فقد طرح للتصويت مشروع قانون «نسيج الحياة» الذي يهدف لإلزام الدولة بتوفير الكهرباء والمياه والبنى التحتية للبؤر الاستيطانية في الضفة الغربية. هذه الخطوة القانونية تترافق مع فعل إسرائيلي على الأرض، فقد أعلنت وزيرة المواصلات الإسرائيلية عن مشروع شق طرق التفافية ترتبط في شارع واحد «عملاق» كما وصفته، تحت اسم شارع 80، سيربط شمال الضفة الغربية والأغوار بـ«إسرائيل» مما يساهم في زيادة البناء والاستيطان في الضفة الغربية. فالأراضي الفلسطينية التي لا تستغل بالاستيطان مباشرةً تتحول لتخدم البنية التحتية للاستيطان من شبكات طرق ومناطق فارغة يمنع البناء فيها لتأمين المستوطنات. هذا السعي القانوني يترافق مع سيادة قانونية فعلية على الأرض، فتجرف الأراضي ويمنع البناء على أساس مخالفة القانون، مع مطالبات حالية بإخضاع طلبات البناء الفلسطينية في مناطق «ج» للموافقة من قبل المجلس الأمني المصغر. فيما أعلن عن نية غانتس شرعنة 1700 وحدة سكنية في بؤر استيطانية. وهذا مترافق مع قانون مد البؤر الاستيطانية بالبنى التحتية، والذي قد يتوج بقانون آخر لشرعنة 69 بؤرة استيطانية قائمة. والبؤر الاستيطانية في مجملها هي مستوطنات قائمة على أراضي فلسطينية خاصة، مما يمنح شرعيةً ودفعة أكبر للمستوطنين.

تستمر «إسرائيل» في ممارسة السيادة القانونية على الأرض، فبحسب مكتب تنسيق الشؤون الانسانية التابع للأمم المتحدة «أوتشا»، خلال عام 2020 هُدم 848 مبنى فلسطينيًا، شرد بسببها حوالي 1000 فلسطيني وفلسطينية من منازلهم، وهي أعلى حصيلة هدم منذ عام 2016، والثانية في آخر 10 سنوات، وغالبًا ما تكون الحجة هي البناء دون ترخيص. فيما هُدم منذ بداية العام الحالي 38 مبنى. ولعل أبرز تلك الأحداث كان حين حاولت قوات الاحتلال منع استكمال بناء منزل في مسافر يطا جنوب الضفة الغربية، وعندما قاوم السكان ذلك أصيب أحدهم بشلل رباعي بعد إطلاق النار عليه.

كما وافقت الحكومة على بناء 12 ألف وحدة استيطانية في الضفة الغربية، وهو رقم قياسي للبناء الاستيطاني. فيما افتتح نتنياهو عام 2021 استيطانيًا بالدفع بمخططات بناء 800 وحدة استيطانية جديدة. ويذكر أنَّ حوالي 50% من المستوطنات والبناء الاستيطاني الذي يقام خلال السنوات الأخيرة هو في عمق الضفة الغربية.

استيطان بهذا الحجم ليس خفيًا، فالمتنقل بين مدن/ معازل الضفة الغربية يستطيع أنَّ يرى التمدد الاستيطاني المستمر، والتمدد الذي يحصل على الأرض، وما يتبعه من مصادرة أراضٍ لأغراض أمنية، وطرق استيطانية جديدة. قد يبدو العيش في مدينة مثل رام الله قادرًا على حجب الاستيطان عن الرؤية، ولكن في الواقع، تستطيع اليوم من عدة مناطق في رام الله نفسها، رؤية العديد من المستوطنات المحيطة بها من كل جانب، ولم يحجب ذلك جزئيًا سوى نمط البناء الأفقي السريع في المدينة. لكن مع ذلك، وصول مناطق طرفية قريبة من المدينة كفيل بإبراز تمدد الاستيطان وعربدة المستوطنين.

ضم المضموم

 

«ومن لا برّ له، لا بحر له»
– محمود درويش، مديح الظل العالي.

إذا كان كل هذا الكم من الاستيطان في الضفة الغربية يجري في ظل «إيقاف» الضمّ، فمن الذي يقلقه هذا الضمّ؟ ببساطة، كان الضمّ، كما صُور إعلاميًا، سينهي التفكير السياسي في حل الدولتين. من يكترث بذلك هو بالطبع السلطة الفلسطينية التي عملت على بناء مشروعها طوال 30 عامًا مضت على أساس حل الدولتين، وترى في الضمّ إنهاءً لأي إمكانية حلّ على هذا الأساس، وبالتالي تهديدًا لدورها الوظيفي. تكترث كذلك الدول الأوروبية التي تقدم منذ أعوام أموالًا للسلطة الفلسطينية كاستثمار في هذا الحل، وتصدر بياناتٍ قلقةً مع كل عملية استيطان جديدة في الضفة الغربية تحذر فيها من إضعاف فرص حل الدولتين. إلى جانبهما، اليسار الصهيوني، الذي لا يتجاوز حجمه 1% من المجتمع الصهيوني، والذي يريد أنَّ يتطهر أخلاقيًا خوفًا على ليبرالية «إسرائيل»، مما تنفذه من احتلال وانتهاكات لحقوق الإنسان، ويريدها أنَّ تحافظ على «قيمها»، على اعتبار أنَّ ما حصل في 1948 لم يخدش هذه القيم. وبالإضافة لكل ذلك، يخشى هذا اليسار التهديد السكاني الذي تمثله إمكانية التفوق الفلسطيني ديمغرافيًا نتيجة ضمّ الضفة الغربية.

لم يكن الضمّ مشروع نتنياهو الانتخابي المرتبط بوجود ترامب في البيت الأبيض -حتى لو أعطاه الأخيرة دفعةً أو شرعيةً أكبر- بل هو مشروع مستمر منذ عام 1948، يعتبر الأرض حياته.

الضمّ بالأساس يعبر عن الرغبة المستمرة لدى الاستعمار الاستيطاني في الحصول على المزيد من الأراضي. النكبة كانت ذروة «إسرائيل» بحصولها على أكبر كم ممكن من الأراضي في حينها، ولكنها لم تكن النهاية، فهي وكما يقول باتريك وولف بنيةً وليست حدثًا، والبنية متحركة ومرنة وتستمر طوال الوقت في تكييف نفسها وخلق وسائل وأدوات استيلاء جديدة على أراضي الفلسطينيين وطردهم منها. الاستيلاء على الأرض بهذا المعنى هو هدف استراتيجي، فحرب 1967 التي حققت أكبر تمدد واستعمار للأراضي كانت هي تاريخ تثبيت «إسرائيل» كمشروع مضمون، تكثفت من بعدها الهجرة وتدفقت عليها الاستثمارات وانتقلت إلى اللبرلة الاقتصادية واقنعت الولايات المتحدة بفائدتها العملية.[12]

يترافق الضمّ مع عملية محو شاملة لا يبعد فيها السكان فقط، «بل يمحى اسمهم وذكرهم»،[13] هذا ما يمكن أنَّ نفهمه من استمرار عمليات المصادرة والهدم وإخلاء الفلسطينيين بشكلٍ جماعي، بالتزامن مع البناء في المستوطنات، بحيث تتحقق السيطرة على أراضٍ «نقية» قدر الممكن، ويُزاح التهديد الديمغرافي الفلسطيني. فالمستوطنات القائمة تحدد حدود مناطق السلطة الفلسطينية وتحصرها، أما حدود «إسرائيل» فتحددها المستوطنات التي لم تبنَ بعد، وتبقيها في حالة مرونة مستمرة.

لم يكن الضمّ مشروع نتنياهو الانتخابي المرتبط بوجود ترامب في البيت الأبيض -حتى لو أعطاه الأخيرة دفعةً أو شرعيةً أكبر- بل هو مشروع مستمر منذ عام 1948، يعتبر الأرض حياته.

في آذار المقبل، ستشهد إسرائيل انتخاباتها الرابعة خلال عامين، وستكون المنافسة هذه المرة بين اليمين واليمين، أو بين الليكود الحالي بقيادة نتنياهو، والمنشقين عن الليكود بقيادة جدعون ساعر. الاستقطاب سيكون عاليًا في هذه المرة أيضًا، فطرح إسقاط نتنياهو من الحكومة ما يزال حاضرًا وهو أحد دوافع انشقاق ساعر عن الليكود. المختلف عما سبق هو أنَّ السلطة الفلسطينية والقائمة المشتركة في الداخل الفلسطيني لن تجدا جنرالًا كغانتس –وهو قاتل صرف كما وصف نفسه– لتعول عليه لإسقاط اليمين، وكأن المشكلة هي مع اليمين الذي يرفض السلام وحده، دونًا عن الصهيوني الذي يتفاخر بالقبور في لبنان وغزة.

قد يعود الحديث عن الضمّ مرةً أخرى ضمن التنافس الانتخابي الصهيوني، وقد يُطرح بأشكال مختلفة، لكن الثابت والأكيد أنَّه قائم أساسًا ويتمدد، سواء على يد نتنياهو أو غانتس أو ساعر.

  • الهوامش

    [1] حول الأغوار وموضعتها إسرائيليًا في سياق أمني واستراتيجي، انظر/ي: فادي نحاس. «إسرائيل والأغوار [بين المفهوم الأمني واستراتيجيات الضمٍّ]»، (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، 2012).

    [2] أموال المقاصة: هي الأموال التي تجبيها «إسرائيل» بدلًا من السلطة الفلسطينية، من ضرائب على البضائع المستوردة وضريبة الدخل التي يدفعها العمال الفلسطينيون في «إسرائيل»، والصفقات التي يجريها فلسطينيون في «إسرائيل». وتجبي «إسرائيل» هذه الأموال بموجب برتوكول باريس الاقتصادي، مقابل نسبة مئوية تقدر بحوالي 10% من المبلغ تقتطعها «إسرائيل». وتقدر أموال المقاصة بحوالي 180 مليون دولار شهريًا وهي من أهم مصادر تمويل ميزانية السلطة الفلسطينية. أما أزمة أموال المقاصة فقد جاءت بعد المصادقة على قانون إسرائيلي في بداية عام 2019 يسمح باقتطاع 140 مليون دولار من أموال المقاصة، وهي قيمة ما تدفعه السلطة من رواتب للأسرى والجرحى وعائلات الشهداء.

    [3] المناطق: هي كلمة مستخدمة ضمن تعاملات الحكومة الإسرائيلية، يُقصد بها الضفة الغربية وقطاع غزة، أي مناطق السلطة الفلسطينية، وهي ترجمة للكلمة العبرية [شطاحيم]، والمسؤول عن هذه المناطق إسرائيليًا هو وحدة التنسيق التابعة للحكومة ويقودها عسكري برتبة جنرال، وتتبع وزارة الجيش، وتعمل على تطبيق سياسات الحكومة الإسرائيلية في الضفة وغزة.

    [4] توم سيغف. «1949 الإسرائيليون الأوائل»، ترجمة: خالد عايد، رضا سلمان، رندة حيدر شرارة، كمال إبراهيم، مراجعة: سمير جبور، تقديم محمد المجذوب، (نيقوسيا: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986) ص 30.

    [5] Wolfe, Patrick. «Settler colonialism and the elimination of the native», Journal of Genocide Research, vol. 8, no. 4 (2006), 387.

    [6] فايز صايغ. «الاستعمار الصهيوني في فلسطين»، (بيروت: مركز البحوث بمنظمة التحرير الفلسطينية، 1965)، ص 12.

    [7] حول الأرض ودورها في هذا السياق، انظر/ي: : نبيه بشير. «حول تهويد المكان: المجلس الإقليمي مسغاف في الجليل ( دراسة أولية لحالة)»، (حيفا: مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، 2004)، ص 51-65.

    [8] مقتبس في: يهودا شنهاف. «في مصيدة الخط الأخضر»، ترجمة: سعيد عياش (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، 2011)، ص 15.

    [9] إيال وايزمان. «أرض جوفاء الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي»، ترجمة باسل وطفة (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر ومدارات للأبحاث والنشر، 2017)، ص 141. للمزيد عن عمليات الاستيطان والسيطرة على الأراضي في الضفة الغربية منذ استكمال احتلال فلسطين عام 1967 يمكن مراجعة الصفحات 137-170.

    [10] Salazar Hughes, Sara. «Unbounded territoriality: territorial control, settler colonialism, and Israel/Palestine», Settler Colonial Studies, vol. 10, No. 2 (2020), 9.

    [11] نسبة 18% من الضفة الغربية تصنف كمناطق إطلاق نار [نفس حجم مناطق أ التي تسيطر عليها السلطة] أو ما يقرب من 30% المناطق المصنفة جيم، وهي مناطق يحظر على الفلسطينيين التواجد فيها، ومقام عليها 38 تجمعًا فلسطينيًا ويقيم فيها 6200 نسمة وكلها مهددة بالإزالة، إلى جانب ذلك تعاني هذه التجمعات من التدريبات العسكرية ومخلفاتها.

    [12] عزمي بشارة، «ما قبل حرب 1967 وما بعدها كي لا يتجنب النقدُ النقدَ». في: «حرب حزيران/ يونيو 1967: مسارات الحرب وتداعياتها»، تحرير: أحمد قاسم حسين. (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص 33- 34.

    [13] هنيدة غانم، «المحو والإنشاء في المشروع الصهيوني»، مجلة الدراسات الفلسطينية، ع. 96 (خريف 2013)، ص 120.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية