كيف استهان العلماء بتحوّر فيروس كورونا

الثلاثاء 23 آذار 2021
فنية مختبر تحضر عينة لدراسة تحور فيروس كورونا في مرسيليا، فرنسا، كانون الثاني 2021. تصوير دانيال كول، أ ب.

نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في صحيفة واشنطن بوست، بتاريخ 7 آذار 2021.

أدرك عالم الأحياء التطوري جيسي بلوم أن الأمر مجرد مسألة وقت؛ سيتحول فيروس كورونا إلى عدو أكثر شراسة، قادر على تفادي الأجسام المضادة المقاومة للأمراض، التي تحمي الناس بعد الإصابة أو التلقيح. حتى إنه كان يعرف أي طفرة من المحتمل أن تمنحه تلك القدرة العظيمة. ولكنه لم يكن يعلم أن ذلك سيحدث بهذه السرعة.

خلال معظم عام 2020، لم يكن أغلب الناس، بما في ذلك معظم الخبراء، قلقين بشكل خاص من قدرة الفيروس على التطور. كان فيروس كورونا المستجد يتغير، لكن حتى ذلك الوقت لم يبلغ أي شيء يثير القلق بشكل محدد. ثم حدث ذلك في أواخر الخريف، حين أثارت التحورات الجديدة المختلفة من الفيروس موجات عدوى مقلقة في البرازيل وجنوب إفريقيا والمملكة المتحدة.

في غضون بضعة أشهر، أصبحت التحورات الجديدة الشغل الشاغل عالميًا. في كل مرة تقريبًا يتحدث فيها خبراء الصحة العامة عن مسار الأزمة الصحية، فإنهم يركزون على التحورات؛ المدفع الطليق الذي يمكن أن يدمّر التقدم الذي حُقق بشق الأنفس. لا تحمل هذه التحورات طفرةً واحدة، بل مجموعة كبيرة من الطفرات، يبدو أن لديها قدرات جديدة مقلقة، مثل القدرة الأكبر على الانتشار أو القدرة على تجاوز آليات المناعة.

باغت ظهور هذه التحورات المفاجئ العلماء، ومهّد الطريق للفصل التالي من الوباء. إن حملة التلقيح واسعة النطاق التي كان من الممكن أن تكون فترةً من الراحة، تحوّلت إلى سباق مشؤوم عاجل ضد فيروس متغير. ويبدو اليوم الطريق إلى مناعة القطيع؛ العتبة العظيمة التي لا يتمكن عندها الفيروس من إطلاق موجات تفشٍ جديدة، أطول وأكثر تعقيدًا. قد لا تُهزم اللقاحات تمامًا، ولكنها ببساطة تطارد فيروسًا يتغير باستمرار.

بينما يعمل العلماء على التعامل مع التحورات، فإن الوضع الحالي يمنح الجمهور مقعدًا نادرًا في الصف الأمامي، وعرضًا مباشرًا للعجز عن التنبؤ بالتطور الفيروسي. يتغير الفيروس، ويستعد العلماء لمجموعة واسعة من الاحتمالات في المستقبل.

يبدو اليوم الطريق إلى مناعة القطيع؛ العتبة العظيمة التي لا يتمكن عندها الفيروس من إطلاق موجات تفشٍ جديدة، أطول وأكثر تعقيدًا.

يقول بلوم: «علينا أن نتصالح مع حقيقة نحن على ثقة منها؛ أن كوفيد-19 سيكون أشبه بالإنفلونزا الموجودة معنا طوال الوقت، لأن الفيروس يتغير، وعلينا القلق بشأن تحديث لقاحاتنا باستمرار. من ناحية أخرى، أعتقد أن الأمر سيكون أقل إشكالًا بكثير بعد عام من الآن».

بالفعل، يعمل الباحثون على زيادة المراقبة الجينية لتتبع التغيرات التي تطرأ على الفيروس. يبني أشخاص مثل بلوم خرائط لطرق الهروب الجينية التي يمكن أن يسلكها الفيروس، ما يمكّن العلماء، عند ظهور الطفرات الذي لا مناص منه، من تحديد ما إذا كان من المحتمل أن يشكل تهديدًا.

هذا لا يعني بالضرورة عالمًا لا تنتهي فيه الجائحة أبدًا. الآفاق تتحسن مع طرح اللقاحات. وإذا أصبحت اللقاحات قديمة، فسيتم تحديثها. تقول سارة كوبي، التي تدرس التطور الفيروسي في جامعة شيكاغو: «ستكون هناك تحورات جديدة وطرق جديدة يمكن للفيروس من خلالها أن يفلت من استجاباتنا المناعية بعض الشيء، ولكن هذا هو المفتاح، ربما لن يكون هذا الهروب طويلًا».

في المختبرات، يدرس العلماء ما إذا كانت التحورات الحالية لا تزال عرضةً للأجسام المضادة التي تستحضرها العدوى الطبيعية واللقاحات. وتعدّ الشركات إصدارات جديدة من اللقاحات، وتختبر جرعات معززة إضافية، تحسبًا لحدوث ذلك.

لقد وضع الوصول الخفي والسريع للتحورات العلماء في موقف مألوف، يتمثل في عدم القدرة على التنبؤ إلى أين يتجه الفيروس. «إذا ضغطت على علماء الفيروسات حقًا، وحملتهم على أن يكونوا صادقين من دون مراوغة، فإن الأغلبية، إن لم يكن الجميع، في المجتمع العلمي كانوا سيقولون: سيكون كل شيء على ما يرام على الأغلب، سيكون كل شيء بخير على الأغلب»، يقول بول دوبريكس، مدير مركز أبحاث اللقاحات في جامعة بيتسبرغ. كانت الأشهر القليلة الماضية بمثابة جرس إنذار: «لا تعتقد أننا أذكى من الانتخاب الطبيعي».

أدلة على مهرب

حتى قبل ظهور التحورات، كانت هناك تلميحات إلى أن العلماء كانوا يستخفون بقدرة الفيروس على التغيّر.

ابتداءً من الربيع الماضي، كان رجل مصاب بمرض مناعة ذاتية حاد، ويبلغ من العمر 45 عامًا، يدخل ويخرج من مستشفى بوسطن لمدة خمسة أشهر، بسبب ما تبين أنه عدوى مزمنة لفيروس كورونا المستجدّ. من خلال دراسة تسلسل الفيروس على فترات زمنية مختلفة، وجد الأطباء أن الفيروس يتغير بسرعة، ما يسلط الضوء على احتمالية ما أطلق عليه فريقه من الأطباء «التطور الفيروسي المتسارع».

وبدلاً من تعديل جيني واحد أو اثنين فقط، راكم الفيروس 21 طفرة، تركزت في بروتين سبايك، وهو المكان الذي يدرّب فيه الجهاز المناعي جزءًا كبيرًا من عدّته القتالية على منع العدوى. بعد أن أُعطي الرجل دواءً مضادًا للأجسام المضادة، ظهرت طفرات جديدة ربما تكون قد ساعدت الفيروس في إحباط العلاج.

على بعد آلاف الأميال في المملكة المتحدة، استولى الفيروس على ناجٍ من السرطان يبلغ من العمر سبعين عامًا، يعاني من ضعف في جهاز المناعة. بعد أن تلقى المريض جولات من العلاج بالبلازما الغنية بالأجسام المضادة بهدف التغلب على مرضه، رأى الباحثون تحورات مختلفة تسود وتنحسر بداخله. زادت نسخة واحدة من الفيروس عندما عولج بالبلازما، ثم انحسرت مع تقلص الأجسام المضادة، ثم هيمنت مرة أخرى عند إعطاء آخر جرعة من البلازما.

«علينا أن نتصالح مع حقيقة نحن على ثقة منها؛ أن كوفيد-19 سيكون أشبه بالإنفلونزا الموجودة معنا طوال الوقت، لأن الفيروس يتغير، وعلينا القلق بشأن تحديث لقاحاتنا باستمرار».

أنشأ الباحثون نسخة مخبرية من هذا التحور، ووجدوا أن أحد التغيرات الجينية للفيروس يقلل من قابلية تأثر الفيروس بالأجسام المضادة، لكنه يحمل أيضًا عقب أخيل محتمل؛ إذ يجعله أقل كفاءةً في إصابة الخلايا. يبدو أن التغيير الثاني -جزء مفقود من الجينوم- يعوض ذلك، ما يزيد من قدرة الفيروس على إصابة الخلايا. عُثر على هذا التغير أيضًا في التحور سريع الانتشار الذي أدى إلى إغلاق في المملكة المتحدة هذا الشتاء.

في بيتسبرغ، أُدخل رجل في السبعينيات من عمره إلى المستشفى مصابًا بالتهاب كوفيد-19 رئوي، كان قد تلقى علاجًا متطورًا للسرطان أدى إلى تدمير جزء من جهازه المناعي. كان الرجل مريضًا لأكثر من شهرين، وعلى مدار فترة مرضه، تمكن الباحثون من دراسة تسلسل الفيروس الذي أصابه، وكشفوا عن دليل يفسر تغير الفيروس بمرونة.

افترض العديد من العلماء أن امتلاك الفيروس لآلية تدقيق لتصحيح الأخطاء عند تكاثره، سيمنع تحوره بسرعة. لكن التغيرات في الفيروس لم تكن أخطاء مطبعية في الشفرة الجينية، فقد كانت تفتقد مساحات تسمى عمليات الحذف. لم يتمكن الفيروس من تصحيح ما لم يكن موجودًا. يقول كيفين مكارثي، عالم الأحياء الدقيقة في مركز أبحاث اللقاحات بجامعة بيتسبرغ: «لقد قللنا من قدرة الفيروس على التطور منذ بداية الوباء».

قدّم هؤلاء المرضى، الذين ماتوا جميعًا، أدلة حول القدرة التطورية للفيروس قبل أن تلفت التحورات انتباه العالم.

يعرف العلماء أن الفيروسات تصنع نسخًا من نفسها في خلايا الإنسان، وترتكب أخطاءً عرضية خلال هذه العملية. عندما تتحلل العدوى بسرعة وتتراكم الطفرات ببطء، فإن ذلك لا يمنح الفيروس فرصة كبيرة لتنمية مخزون ضخم من التنوع الجيني.

يدرس العلماء ما إذا كانت التحورات الحالية لا تزال عرضةً للأجسام المضادة التي تستحضرها العدوى الطبيعية واللقاحات. وتعدّ الشركات إصدارات جديدة من اللقاحات، وتختبر جرعات معززة إضافية، تحسبًا لحدوث ذلك.

لكن، لدى الأشخاص الذين يعانون من نقص المناعة، يتمتع الفيروس بفرص أكبر بكثير لتغيير تصميمه الجيني. عندما يمارس الأطباء ذوو النوايا الحسنة ضغطًا بسيطًا، مثل جولة من البلازما الغنية بالأجسام المضادة لمحاولة إنقاذ حياة المريض، فقد يكون هناك نسخة من الفيروس تكتسب ميزة بسبب ذلك، وهي قادرة على تفادي العلاج.

لا أحد يعرف ما إذا كان أي متغير معين قد نشأ في شخص يعاني من نقص المناعة، لكن الحالات أثبتت حتى الآن أنها كرة بلورية مخيفة، تنذر بما سيحدث بين عامة الناس. مع إصابة أكثر من 100 مليون شخص بالفيروس في جميع أنحاء العالم، مُنح أقصى الفرص لتغيير تنكره.

يقول جوناثان ز. لي، الذي يدرس مقاومة عقاقير فيروس نقص المناعة البشرية في مستشفى النساء بريغهام في بوسطن: «يشير ذلك إلى أن هناك قفزة تطورية من مصدر خفي للتطور الفيروسي. لدينا نقطة عمياء في المجتمع الذي يحدث فيه التطور، ولا يمكننا رؤيتها حتى نراها منتشرة بشكل كافٍ».

بروتين سبايك قادرٌ على التأقلم بشكل ملحوظ

لا تحوّل كل الطفرات الفيروس إلى شرير خارق. معظم الطفرات لها تأثير ضئيل أو قد تعيق الفيروس بالفعل. وحتى الطفرات التي يبدو أنها تعمل لصالح الفيروس يمكن أن تأتي عليه بأضرار.

على سبيل المثال؛ قد يبدو التعديل الجيني الذي يسمح لبروتين سبايك بتجاوز الجهاز المناعي بشكل أكثر خلسة قليلًا، مفيدًا بشكل لا لبس فيه للفيروس. لكن تغييرًا كهذا قد يأتي بنتائج عكسية أيضًا، ما يجعله أقل كفاءة في اختراق خلايا الجسم. قد يبدو الفيروس غير المرئي لجهاز المناعة مخيفًا، لكنه قد يكون غير كفؤ في نواحٍ حاسمة.

أحد الأسئلة المفتوحة حول القدرة التطورية لفيروس كورونا، هو ما إذا كان هناك حدٌّ لقدرته على التغيّر. يتشبث بروتين سبايك بالخلايا، مثل دخول مفتاح في قفل. ويفترض العديد من العلماء أنه إذا تغير هذا المفتاح كثيرًا، فلن يكون قادرًا على فتح الباب بعد الآن.

«يبدو أن بروتين سبايك يتحمل التغيير بشكل استثنائي (..) هذا ما لا أعتقد أن معظم الناس كانوا يتوقعونه»، يقول فرانسيس كولينز، مدير المعاهد الوطنية للصحة. ولكن، كانت هناك تحذيرات حول ميل بروتين سبايك لتغيير الشكل قبل التحورات.

في جامعة روكفلر في نيويورك الصيف الماضي، وضع عالم الفيروسات بول بينياس وزملاؤه بروتين سبايك المميز لفيروس كورونا تحت الضوء في المختبر.

في أنابيب الاختبار، قاموا بإخضاع بروتين سبايك لتجربة مناعية، تتضمن تعريضه لجولات متتالية من الأجسام المضادة المصممة لفرز نسخ سبايك القادرة على تجنب التعطيل. قدرة مثل هذه التجارب على التنبؤ بكيفية تصرف الفيروس أثناء انتشاره بين البشر محدودة، لكن ما شهده بينياس كان ظهور طفرة في موقع يسمى E484.

يقول أحد علماء الفيروسات البارزين للفريق: «أنا لست قلقًا بشأن هذا»، كما يتذكر بينياس. ومع ذلك، بعد أشهر، ظهرت تغيرات على E484 في الحياة الواقعية، في التحورات الموجودة في جنوب إفريقيا والبرازيل.

شعر بلوم، في مركز فريد هاتشينسون لأبحاث السرطان في سياتل، بصدمة مماثلة في أواخر العام الماضي. كان مختبره يختبر كل طفرة محتملة في منطقة بروتين سبايك الذي يرتبط بالخلايا، لمعرفة أي منها يشكل أكبر تهديد للمناعة، وكان E484 نقطة محورية في عملهم. يقول بلوم: «أعتقد أن كل فرد في المجتمع قد فوجئ بمدى السرعة التي أصبحت بها هذه التجارب واقعية». ما يناقشه العلماء الآن هو إلى أين يمكن أن يتجه الفيروس بعد ذلك.

يمكن أن يكون الفيروس في فترة تطور سريع، حيث يتكيف ليصبح أفضل في إصابة الناس. بعد فترة معينة من الوقت -كم، هي مسألة أخرى للنقاش- يمكن أن يتباطأ هذا المعدل. أو يمكن للفيروس، مثل الإنفلونزا، أن يكون ببساطة في حالة تذبذب مستمر مع جهاز المناعة.

«هل بروتين سبايك قابل لتغيير شكله بلا حدود؟ هل هو لين بما يكفي للسماح بحدوث أي شيء؟ لا توجد إجابة بسيطة»، يقول جون مور، أستاذ علم الأحياء الدقيقة والمناعة في طب وايل كورنيل.

الآثار المباشرة على الناس العاديين ليست وخيمة. يبقى من المهم الحد من انتقال العدوى لإعطاء الفيروس فرصًا أقل للتغير، والحصول على اللقاح. لكن بالنسبة للعلماء، فالطريق أمامهم طويل.

تقول كيزميكيا كوربيت، القائدة العلمية لبرنامج لقاح فيروس كورونا في مركز أبحاث اللقاحات التابع للمعاهد الوطنية للصحة، إن ظهور التحورات يبدو وكأنه «جائحة ثانية». وقد بدأت الشركات والعلماء بالفعل في اختبارات اللقاحات المحسنة، بحيث تكون جاهزة إذا لزم الأمر.

يقول فينسينت مونستر، رئيس قسم إيكولوجيا الفيروس في مختبرات روكي ماونتين في المعاهد الوطنية للصحة: «أعتقد أن هذا الفيروس يُظهر مرونة وراثية أكثر، فلنقل، أكثر مما توقعه البعض. رغم أننا لا نستطيع حقًا النظر إلى المستقبل، سيكون من الجيد على الأقل توقع أن يكون هذا سيناريو مستقبليًا، حتى نكون مستعدين بالفعل».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية