الهامش في قلب المتن: العمال المصريون في الحرب العالمية الأولى

الخميس 04 أيار 2023
الفيلق المصري الحرب العالمية
غلاف كتاب «فيلق العمال المصريين: العرق، والفضاء، والمكان، في الحرب العالمية الأولى»، لكايل أندرسون.

«إن المؤرخ الذي يسرد الوقائع دون التفريق بين الصغائر والكبائر يضع في اعتباره حقيقة أن أي واقعة ماضية لا تسقط من التاريخ أبدًا».
فالتر بنيامين[1]

في الحادية عشرة صباحًا يوم 11 تشرين الثاني عام 1918، صمتت المدافع على الجبهة الغربية في أوروبا معلنةً نهاية صراع دموي استمر أربعة أعوام، جرّت خلاله القارة العجوز بقية العالم للدمار. جرت في النهر مياه كثيرة؛ تغير شكل العالم سياسيًا واقتصاديًا، ولم يكد يمضي 20 عامًا على نهاية الحرب حتى اندلعت حرب أخرى أشد دموية. وارت كثافة الأحداث تفاصيل كثيرة وطردت إلى الهامش فاعلين لم يكن لهم من الأمر شيء سواء أنهم وقعوا تحت سلطات حكومة جلالة الملكة.

في كتابه المهم «فيلق العمال المصريين: العرق، والفضاء، والمكان، في الحرب العالمية الأولى»،[2] الصادر عام 2021، يتتبع كايل أندرسون مجموعةً من هؤلاء الذين طُمست ذكراهم وسط أهوال الحرب، وهم العمال المصريون الملحقون قسرًا بالقوات البريطانية في الحرب العالمية الأولى، في جبهات امتدت من تركيا إلى فرنسا، والذين زاد عددهم عن 300 ألف، وانتهى الأمر بآلاف منهم قتلى في الحرب أو ضحايا تحت وطأة العمل القسري.

لا يسعى أندرسون لرد الاعتبار لهؤلاء العمال بقدر ما يسعى لفهم كيف تقاطعت مفاهيم العرق والطبقة والقومية مع عملية التجنيد القسري لهؤلاء العمال، وكيف استغلت السلطات الاستعمارية الفائض البشري في مستعمراتها لخدمة مصالحها على حساب سكان المستعمرات أنفسهم.

فلاحون على الجبهة

بحلول عام 1916، كانت زيادة الطلب على العمالة تضغط على قوات الحلفاء، لذا بدأوا بالنظر لمستعمراتهم لسد هذا العجز في اليد العاملة. بالنسبة لفرنسا، كان المجندون من الجزائر وغرب أفريقيا يعملون كعمال ومقاتلين منذ بداية الحرب. وإلى جانب العمالة الصينية والهندية، جندت بريطانيا أيضًا عمالًا من جزر الكاريبي تحت مسمى فيلق عمال غرب الهند، كما جندت الأفارقة تحت مسمى فيلق العمال الأصليين الجنوب أفريقيين، ووحدة رأس الرجاء الصالح للملونين.

لم تكن مصر مستثناة من المشاركة. فعلى الجبهة الشرقية، جبهة الصراع ضد ألمانيا والدولة العثمانية، لعب العمال المصريون دورًا رئيسيًا في حملات فلسطين والعراق وسوريا. واجه البريطانيون مشاكل في هذه المناطق بسبب تدهور البنية التحتية، فاعتمدوا على هؤلاء العمال بشكل أساسي لتذليل تلك العقبات. لم يكن الوضع على الجبهة الغربية مماثلًا في البداية، ففي 24 آذار عام 1916، أبرقت وزارة الخارجية البريطانية إلى المندوب السامي البريطاني بتكوين فرق من العمال المصريين للمساعدة في شحن وتفريغ السفن في الموانئ الفرنسية، مع تجنيد ألف فرد كحد أقصى بعقود لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد. لم ينفذ هذا الطلب بسبب اعتراض السلطات الفرنسية على أن يحل العمال المصريون محل الفرنسيين لاحقًا، لكن لم يدم الأمر طويلًا. ففي كانون الأول 1917 أُرسلت برقية أخرى تطلب تجنيد ألف عامل وإرسالهم إلى مرسيليا، تبعها بعد ذلك بشهر برقية أخرى تطلب تجنيد عشرة آلاف عامل.

زاد الطلب على العمال المصريين للمساعدة على الجبهة الغربية. وبحلول آذار 1917، كانت فرق العمال وصلت إلى فرنسا للعمل في مرسيليا وكاليه وعدد من المدن الفرنسية، بالإضافة إلى تورينو في إيطاليا، وعلى طول خط جبهة القتال، للقيام بأعمال مختلفة من حفر الخنادق وتفريغ السفن وحمل الذخيرة وبناء الأرصفة والطرق. وينقل أندرسون عن أحد الجنرالات في تورينو قوله: «كان العمل بأكمله يقع على عاتق العمال المصريين في تحميل وتفريغ السفن وبناء الأرصفة ومد خطوط السكك الحديدية وبناء الأكواخ». نال العمال المصريون استحسان القادة العسكريين في مواقع عديدة على الجبهة، وبحلول حزيران 1918، بلغ عدد المصريين المسجلين للعمل تحت إمرة القوات البريطانية أكثر من 327 ألف عامل للقيام بمهام مختلفة.

فوج من الفيلق المصري في بولوني، فرنسا، عام 1917. المصدر: متحف الحرب الإمبريالي، لندن.

تكوين الفيلق: العرق، والطبقة، والقومية

«لا شك أن هؤلاء الرجال أدنى منا بكثير على مقياس الحضارة».
إيرنست كندريك فينابلز، أحد ضباط الفيلق.[3]

سعى البريطانيون في البداية إلى تجنيد العمال عن طريق عقود مدتها ثلاثة أشهر مستعينين بمتعهدين في مصر، مثل مردوخ ماكدونالد الذي حظي بثقة الإدارة الاستعمارية سابقًا أثناء تنفيذ خزان أسوان. لكن هذه الطريقة لم تثمر كثيرًا، خاصة وأن مواقع العمل هذه المرة خارج مصر. تململت الإدارة الاستعمارية حيث رأت أن مصر لم تؤدِ ما عليها تجاه الإمبراطورية مثل باقي المستعمرات، ووصلت هذه الامتعاضات إلى حسين رشدي، رئيس الوزراء آنذاك، الذي بادر باقتراح خطة عمل تضمن إعفاء الملتحقين بالفيلق من الخدمة العسكرية، شرط أن يبقوا فيه لأكثر من عام، بالإضافة إلى بعض الإعفاءات الضريبية وزيادة في الأجر تموّل من خزائن الحكومة. مُررت خطة رشدي ولكن دون زيادة الأجر، لأن ذلك كان سيرفع أجر العمال فوق أجر الضباط أنفسهم، وأصدر السلطان نفسه إعلانًا يتضمن تلك الاستثناءات ويحث رعيته على الالتحاق بجيوش جلالة الملكة.

اعتمدت السلطات المصرية لتنفيذ هذه التوصيات على ممثليها التنفيذيين من مديري المديريات ومأموري المراكز والعمد الذين لم يقتصر دورهم على التنفيذ فقط، بل امتد للمشاركة في موجة البروباغندا الواسعة لحث الناس على الالتحاق بفيلق العمال. نفذ ممثلو السلطة المحليين ما طلب منهم وأكثر، فقد أجبروا الفلاحين على الانضمام قسرًا. وكما يخبرنا أندرسون، فإن واحدًا من بين كل ثلاثة مجندين كان مجبرًا من الشرطة وكان آخر هاربًا منها.

في المخيمات، حرصت السلطات الاستعمارية على تشديد سياسات الفصل العنصري، فكل شخص يتم تصنيفه على أساس عرقه أو لونه أو بلده. فعلى سبيل المثال صُمم معسكر فيلق العمال الصينيين في فرنسا بحيث يبقى هؤلاء العمال منفصلين عن السكان من جانب، وعن القوات العسكرية وأسرى الحرب البيض من جانب أخر. حددت هذه التراتبية العرقية العلاقات داخل الفضاءات المشتركة في المعسكرات وفي مواقع العمل، بل وامتدت إلى خارج المعسكرات، فحتى في المرات القليلة التي سُمح فيها للعمال بمغادرة المعسكرات، تمسكت المجتمعات المحلية بهذه الحدود العرقية الفاصلة بينها وبين العمال غير الأوروبيين. وجود العمال داخل المعسكرات أو في مواقع العمل أغلب الوقت جعل من عملية ضبطهم ضرورة ملحة، إذ وضعت أجساد العمال في بؤرة اهتمام السلطة الاستعمارية. فهؤلاء العمال الفلاحون لم يتلقوا تدريبًا نظاميًا ولم يسبق أن أجتمعوا بهذه الأعداد في مكان واحد. لذا، انخرطت السلطة في عمليات الضبط والمراقبة داخل الثكنات بداية من الاصطفاف مرتين يوميًا، مرورًا بتحديد طعام العمال وحتى المراقبة والتحكم بطقوس الدفن. سعت الإدارة الاستعمارية على تأكيد سلطتها في وجه العمال على أساس عرقي يميز الأوروبيين عن غير الأوروبيين باعتبارهم أدنى منزلة.

تنقل لنا خطابات الضباط الاستعماريين ومراسلاتهم في تلك الفترة رؤيتهم لمرؤوسيهم، فأوصاف مثل «شرقيون»، «همج»، «أكثر لؤمًا»، «قدريون»، «جبناء»، كانت تستخدم لوصف العمال. لم يأخذ الضباط الظروف التي وضعوا فيها هؤلاء العمال في الاعتبار، فجل هؤلاء العمال في الأصل فلاحون أميون ولم يسبق أن تعرضوا لمواقف مماثلة. لكن حتى الضباط أنفسهم لم يكونوا مؤهلين أكثر من مرؤوسيهم، فمعظمهم غير عسكريين عيّنوا لإجادتهم القليل من العربية. للمفارقة، فإن بعض التقارير في تلك الفترة حاولت المقابلة بين العمال المصريين وأجدادهم الفراعنة «أنصاف العبيد» الذين بنوا الأهرامات قبلهم بآلاف السنين. وقد مثلت مراسلات إيرنست كندريك فينابلز، أحد ضباط الفيلق، وخطاباته رؤية الضباط الاستعماريين للعمال والفلاحين العاملين تحت إمرتهم.

العمال في المعسكرات: المخيال الاجتماعي وإعادة إنتاج المكان

ينطلق أندرسون من مقاربة هنري لوفيفر للمكان باعتباره نتاجًا للعلاقة بين الأفراد والأفكار والبيئة المحيطة، بحيث تشكل التفاعلات بين هذه العناصر مفهوم الفضاء الاجتماعي. ويساعد هذا المفهوم على فهم كيف تصور العمال أنفسهم وكيف انعكست هذه التصورات على المكان من حولهم وكيف ساهمت في إعادة إنتاجه، والأهم أثر كل هذه التفاعلات عليهم كأفراد ومجموعات.

بدأ تفاعل العمال مع الفضاء الاجتماعي بشكل مختلف أثناء عملية ترحيلهم من قراهم لأقرب مركز أو مديرية. حيث يربط العمال ببعضهم بحبل، في مشهد يعيد إلى أذهانهم كيف كان يجري تجمعيهم للعمل في السخرة. وبعد وصولهم إلى وجهتهم يخضعون لفحص مفتش الصحة التابع للحكومة لأجسادهم، وبعد الفحص يجري إبقاؤهم محتجزين في مقرات الاحتجاز في مراكز الشرطة أو المديريات. اشترطت بريطانيا إخضاع هؤلاء العمال للفحص الطبي، وفي حال عدم اجتياز الفحص يُرفض المجندين. يذكر أحد التقارير أن من بين 130 ألفًا خضعوا للفحص في الفترة ما بين تشرين الثاني 1916 ونيسان 1917، رُفض 30 ألفًا لأسباب طبية مختلفة.

لم تمر هذه العملية بسلاسة كما هو متوقع، فاجتماع هذا العدد من الفلاحين، الذين جرى خطف بعضهم، في مكان محصور، لم يجعل الأمر باليسير. يذكر أندرسون محاولات المقاومة المتفرقة لبعض هذه المجاميع، إذ لزم الأمر تدخل الشرطة في بعض الأحيان أو نقل العمال إلى أماكن أخرى لكبحهم. في النهاية، فإن أولئك الذين اجتازوا الكشف الطبي بنجاح كان عليهم أن يوقعوا عقود انضمامهم للفيلق. لم يكن أغلب هؤلاء العمال يستطيع القراءة والكتابة، وحاولت بريطانيا التغلب على هذه المشكلة عن طريق استبدال التوقيع بالختم أو بصمة الإبهام.

بعد الانتهاء من المرحلتين السابقتين جرى نقل الفلاحين إلى مدن أكبر تتمتع ببنية تحتية أفضل ومراكز إمداد ومعسكرات مجهزة لاستقبال وإعداد الفلاحين. تركز أكبر هذه المعسكرات في الإسكندرية والقاهرة، ومع تزايد الطلب على العمال بنيت مراكز أخرى في أسيوط وسوهاج وبعض المدن الكبيرة. مثلت هذه الرحلة للفلاحين المرحلة الأخيرة قبل إرسالهم إلى الجبهة، حيث جُهّزوا وقُسّموا إلى فرق. وفي العادة وُضع العمال من نفس القرية أو المدينة في نفس المجموعة، ثم اختير «ريّس» من بينهم ليكون مسؤولًا عنهم. وكانت هذه المراكز اللوجستية، رغم تجهيزها، فرصة للفلاحين للهرب، إذ ذكرت عدة تقارير عمليات هروب للفلاحين أثناء نقلهم إلى هذه المعسكرات.

أُلحق العمال بعد ذلك بالقوات على الجبهة للقيام بالمهام اللوجستية المختلفة. وجود العمال على الجبهة عرضهم للكثير من المخاطر، فإلى جانب الظروف السيئة وتغير الطقس الذي أدى إلى إصابة بعضهم بالأمراض، فإن وجودهم في خطوط الإمداد الخلفية لم يعصمهم من التعرض للقصف. بحسب ما يذكر أندرسون، فإن عددًا من فرق العمال الموجودة في فرنسا تعرضت للقصف أثناء إنزال دانكيرك، مما أدى إلى وفاة عدد من العمال وإصابة آخرين، بل إن الكثير من العمال أصابتهم نوبات هلع دفعت السلطات الاستعمارية لنقلهم إلى مواقع أخرى بعيدًا عن الاشتباكات.

تفاعل العمال مع المكان خلال هذه الرحلة بداية بترحيلهم من قراهم ونجعوهم وصولًا للمعسكرات، ثم بعد ذلك الانتقال إلى الجبهة للقيام بمهام مختلفة والمساعدة في عمليات الإمداد. وأثرت فيهم أماكن الحجز وجعلتهم لأول مرة تقريبًا يجتمعون في حيز واحد تشاركوا فيه السخط مثلما تشاركوا المكان. أعادت تفاعلاتهم داخل المعسكرات ومحاولاتهم للهرب وحتى وجودهم على الجبهة وفي مواقع العمل وقيامهم ببناء الطرق ومد خطوط الأنابيب وتفاعلهم مع البيئة المحيطة والعلاقات بينهم، أعاد كل ذلك إنتاج المكان كما أعاد تشكيلهم كأفراد.

من المقاومة إلى الثورة: العمال وثورة 1919

«لا شك أن الذين كتبت لهم النجاة وتمكنوا من العودة سالمين إلى قراهم عام 1918 قد حملوا معهم أعمق مشاعر السخط والرغبة في الانتقام من سلطة الاحتلال وأفرادها المسلحين. ولما اندلعت الثورة في 8 آذار 1919 اهتز الريف هزة عنيفة، وانتفضت القرية المصرية بقدر من الثورية والاندفاع أذهل البريطانيين المحتلين بقدر ما أذهل قيادة الوفد المصري التي ظنت أن حركتها ستكون سلمية في أساليبها واتصالاتها».
أمين عز الدين[4]

في ورقة بحثية مهمة، تحاول الباحثة عليا مسلم استكشاف ما أسمته «الوعي السياسي غير المتسق» للأحداث التي عصفت بمصر خلال عامي 1918 و1919. تبحث الورقة في تاريخ العوام المصريين ورؤيتهم المختلفة عن تصور النخب التي تصدرت المشهد في تلك الفترة، وكيف تقاطعت أحداث تجنيد الفيلق مع غضبة الفلاحين في الأقاليم. اعتمدت مسلم على الجزء الثاني من مذكرات عصمت سيف الدولة «مذكرات قرية: مشايخ جبل البداري». كتب سيف الدولة هذه المذكرات بناءً على مقابلات أجراها مع سكان القرية، ظهرت فيها تقاطعات الحياة اليومية في القرية مع فيلق العمال المصريين. تستكشف الورقة ثلاثة أنماط من المقاومة تحدى بها الفلاحون السلطة، أولها استخدام القانون عن طريق كتابة العرائض الاحتجاجية، والثاني الإضراب على الجبهة، والثالث استخدام العنف.

يوثق أندرسون في الكتاب استخدام الفلاحين لهذه الأنماط الثلاثة لمقاومة التجنيد الإجباري. فمثلًا أشار أحد التقارير إلى تلقي وزارة الداخلية 4919 عريضة احتجاج ما بين أيار 1918 وآذار 1919 أسفرت عن إعفاء 596 شخصًا من التجنيد. لم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ لجأ الفلاحون إلى العنف المادي باستخدام أسلحة متنوعة لمقاومة الإلحاق الإجباري بالفيلق. وتشير السجلات إلى اشتباكات متعددة بين الفلاحين والممثلين المحليين للحكومة كالعمد، والغفر، إلخ، أفضى بعضها إلى حالات وفاة. ولم يقتصر الأمر على المقاومة الفردية، ففي بعض الحالات واجهت بعض القرى بشكل جماعي قرارات التجنيد، وهاجم الفلاحون بيت العمدة أو نقطة الشرطة واعتدوا على الغفر.

مثل استخدام العنف والعرائض بعض وسائل المقاومة للتجنيد، لكن رغم أنهما يمثلان أقصى ما يمكن أن يقوم به الفلاحون لإعاقة عملية التجنيد في مراحلها الأولى، أي في مصر قبل ترحيلهم إلى الجبهة، إلا أن تأثيرهما كان محدودًا. على الجبهة، استخدام الفلاحون الإضراب كأداة للمقاومة وللتفاوض مع الضباط المسؤولين عنهم. إذ أضرب العمال مرات عديدة طلبًا للإجازات أو بسبب ظروف العمل الشاقة أو كرد فعل للدفاع عن أحد أفراد الفرقة. ينقل الكتاب عن مذكرات أحد ضباط الفيلق إضراب بعض العمال في شبه جزيرة جاليبولي التركية ردًا على الحكم بالجلد على أحد أفراد الفرقة. حمل العمال العصي والحجارة وهددوا باستخدام العنف، ورد الضباط بطلقات تحذيرية. لم يتراجع العمال ففتح الضباط النار عليهم ما أدى إلى قتل خمسة عمال وإصابة حوالي عشرة أخرين. المثير للسخرية أن المذكرات تذكر أن الضباط أداروا وجوههم أثناء إطلاقهم النار كتعبير عن أسفهم على القيام بهذه المذبحة!

حدث تمرد آخر في بولوني في فرنسا حين أضرب حوالي 1400 عامل وحاولوا قتل الضابط الإنجليزي المسؤول عنهم. فتحت القوات البريطانية عليهم النار وقتلت 23 شخصًا وأصابت نفس العدد تقريبًا. وتكررت الإضرابات كثيرًا خاصة من العمال المتواجدين في فرنسا، وكان رد فعل الضباط الاستعماريين استخدام العنف في أغلب تلك الحالات، مما أدى إلى قتل العديد من العمال.

وظف الفلاحون أثناء الإضرابات التي حدثت خلال عامي 1918 و1919 -ربما بشكل غير واعٍ- خبرات المقاومة التي اكتسبوها من مواجهة التجنيد في الفيلق. إذ قطع الفلاحون خطوط سكة الحديد والهاتف وهاجموا القوات البريطانية في أماكن متعددة، وشاركوا في حملة التوقيعات التي دشنها حزب الوفد، وأضربوا بطول البلاد وعرضها. عبر الفلاحون عن رفضهم ومقاومتهم بأساليبهم التي لم تلتقي بالضرورة مع الخط الذي تبنته النخب في المدن، بل في بعض الأحيان تعارضت مصالح الفريقين. هذا الوعي المتضارب الذي تحدثت عنه عليا مسلم ظهر في مرات كثيرة حين وجه الفلاحون غضبهم تجاه الباشوات أنفسهم باعتبارهم شركاء الإنجليز في الظلم الواقع عليهم. سبق وعي الفلاحين وعي هولاء النخب أنفسهم لأنهم أدركوا مبكرًا، ربما نتيجة اختلاف الظروف المادية ومواجهتهم السلطة بشكلها المجرد أنهم لا يتشاركون نفس الأهداف مع تلك النخب.

الفيلق في الذاكرة الشعبية وكتب التاريخ

ربما تعد أغنية «يا عزيز عيني» التي غنتها نعيمة المصرية من كلمات سيد درويش أول ما تستدعيه ذاكرتنا عند الحديث عن تمثيل أحداث الفيلق في الذاكرة الشعبية. لكن بحسب عليا مسلم، فإن الأغنية سبقت تلك الأحداث بفترة ليست قليلة، لكن تم تعديلها لتتناسب مع سياق الأحداث أيام الحرب. استدعى الفلاحون من تراثهم الشعبي مووايل أعادوا صياغتها لتتناسب مع الظروف الجديدة، وحمل العمال العائدون من الجبهة في ذاكرتهم بعض الأغاني التي رددوها هناك ورووا ما عاشوه واختبروه. استقرت كل تلك القصص الشفهية في الذاكرة الشعبية لمجتمعاتهم المحلية التي تناقلتها من جيل لآخر باعتبارها جزءًا من تراثها الثقافي، لتجد طريقها إلى أغاني سيد درويش ومذكرات عصمت سيف الدولة وكتابات أمين عز الدين وغيرهم.

اعتمدت هذه الأعمال بشكل كبير على توظيف شهادات وحكايات العمال أنفسهم عن طريقة تجنيدهم وحياتهم في المستعمرات ووجودهم على الجبهة. وحاولت هذه الأعمال التعبير عن الجماعة باستخدام أصوات أفرادها لكن العلاقة التي ربطت بين الثورة والفيلق أثرت على حضور الأخير وموقعه. فالصورة النمطية التي كُرّست للثورة كتابةً وتجسيدًا، عُنيت بالتأكيد على الطابع البرجوازي لها، كما يعكسه نفي زعماء الحركة الوطنية، ومظاهرات طلبة المدارس العليا، وتظاهرة نساء الطبقة العليا.. إلخ. سيطرت هذه الصورة النمطية على جل التمثيلات التي حظيت بها الثورة في المطبوعات والأعمال الفنية وحتى في المرويات الشفهية عن تلك السنوات. لكن ما تم تمثيله ليس سوى قمة جبل الجليد، فبعيدًا عن المراكز الحضرية، وبالتحديد في ريف الدلتا والصعيد، أخذت الأحداث زخمًا أكبر. اشتبك الفلاحون مع الضباط البريطانيين، ورفضوا الشعارات السلمية التي رفعتها النخب، ولأن نصيبهم من العنف والاستغلال كان أكبر فإن رد فعلهم كذلك كان أكثر عنفًا وحدة من غيرهم.

احتفظت الذاكرة الشعبية للفلاحين في تلك القرى بمآثر تناقلتها الأجيال كحكايات محملة بالفخر عن كيف قطع أجدادهم خط السكة الحديد، وكيف هجموا على القوات الاستعمارية بعصيهم وسلاحهم غير مبالين بالشعارات القادمة من القاهرة. ربما حتى الآن لم تحظ قصة أولئك الفلاحين بما تستحقه من تمثيل على المستوى الرسمي على الأقل، لكنها ما زالت موجودة في المرويات الشعبية لعوام المصريين.

تبقى الإشارة إلى ما أثير في السنوات الأخيرة، وبالتحديد ما بين 2013 و2018، من ادعاءات عن تطوع ما بين 150 ألف إلى مليون ونصف جندي مصري في ميادين القتال المختلفة أثناء الحرب. رد مؤرخون كثر على هذه المزاعم، في مقدمتهم أندرسون، إلى جانب خالد فهمي وعليا مسلم ونعيم عبد الحكيم، مقدمين الدلائل التاريخية على أنه تم تجنيدهم قسرًا لإلحاقهم بالقوات البريطانية.

لكن ما يستدعي الغرابة ليست هذه الادعاءات فقط، بل كون استدعائها هو محاولة لإعادة صياغة حدث تاريخي مهم بغرض تكريس رؤية أحادية للتاريخ، ترى الأمة المصرية ككيان متجانس منذ آلاف السنين. تكيّف هذه الرؤية، التي تمثل التاريخ الرسمي، كافة الوقائع التاريخية لحسابها، بحيث تعيد رواية التاريخ انطلاقًا من الحاضر، وتجمع سرديتين متعارضتين جنبًا إلى جنب دون أي أحساس بالتناقض؛ فمصر هي مقبرة الغزاة التي كافح شعبها منذ عشرات السنين ضد الاحتلال (بما يشمل الكفاح ضد الاستعمار البريطاني بالتأكيد)، وفي الوقت نفسه فإن هذا الشعب الذي تعرض للتنكيل والقهر والذي ثار وقاتل وقتل في سبيل تحقيق استقلاله، قد تتطوع بالالاف للقتال تحت راية هذا المستعمر في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.

تعيد هذه السردية إقصاء أصوات الفلاحين الذين همش الاستعمار وجودهم من الأساس، لصالح صورة متخيلة عن الأمة المصرية. لذا، فإن الأمل أن يسهم كتاب أندرسون وغيره من الأعمال الجادة التي تؤرخ لتلك المرحلة في إعادة رواية «تاريخ عوام المصريين» من أسفل، ورد الاعتبار لأولئك الذين أُبعدوا إلى الهامش.

  • الهوامش

    [1] فالتر بنيامين، «مفهوم التاريخ»، ترجمة أميرة المصري. من كتاب «أصداء فالتر بنيامين: حول التراث والتاريخ والثورة»، تحرير إسماعيل فايد وفؤاد حلبوني. دار هنّ للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020.

    [2] Kyle J. Anderson, The Egyptian Labor Corps: Race, Space, and Place in the First World War. University of Texas Press, Austin, 2021.

    [3] Anderson, p.117.

    [4] أمين عز الدين، «القرية المصرية في مواجهة العدوان الأجنبي»، مجلة الهلال، حزيران، 1970.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية