نهر اليرموك

انتزاع الأنهار من مجاريها: المياه والسياسة في المجاري الصهيو-أمريكية

تصميم محمد شحادة.

نهر اليرموك وتشكيل المنطقة (2)

انتزاع الأنهار من مجاريها: المياه والسياسة في المجاري الصهيو-أمريكية

الأربعاء 21 أيلول 2022

حتى بداية القرن العشرين، لم يكن نهر اليرموك ذا قيمة كبيرة في عملية الإنتاج الاقتصادي بالنسبة للمجتمعات المحلية. فالزراعة الموسمية، أي تلك المعتمدة على مياه المطر، مثلت النشاط الاقتصادي الأساسي الذي مارسه سكان المنطقة. أما الزراعة المروية فكانت محدودة على ضفاف اليرموك، وما خلا ذلك، كان بعض سكان القرى المجاورة يلجؤون للنهر لرعي مواشيهم في حالات القحط. لكن مع بداية العقد الثاني من القرن العشرين، بدأ الالتفات للإمكانيات الاقتصادية لنهر اليرموك. إلا أن هذه الالتفاتة ما لبثت أن تحولت إلى مشروعات احتكار، نظرت للمياه بكونها «ثروة طبيعية» يجب أن يتم استغلالها، وجاءت في سياق استعمار المنطقة. أما من كان متحفزًا لاقتناص الفرص والتعامل مع المياه كمصدر للثروة فهي الحركة الصهيونية.

احتاج استغلال النهر في عملية الإنتاج إلى البنى التحتية التي تعمل على إخضاعه وإعادة إنتاجه، لذا سينظر هذا المقال في الوسائل التي استخدمت لإعادة إنتاج المياه، أي المنشآت التي جرى تشييدها ليتم من خلالها التحكم بمياه نهر اليرموك وتوجيهها وإدارتها. فالحركة الصهيونية لم تدخر الوقت لتنشئ البنية التحتية المناسبة لإخضاع النهر في سبيل إنجاح مشروعها، لذا فإن الاطلاع على أول وأهم المشاريع التي أقامتها الحركة الصهيونية على ضفة اليرموك ضروري لفهم المسار التاريخي لاستغلال النهر.

سرعان ما تحولت المياه إلى موضوع أساسي للصراع بين «إسرائيل» ودول المنطقة، أدى في عدة مناسبات إلى اندلاع مواجهات عسكرية واسعة. وفي العام 1953 رأت الولايات المتحدة أن الفرصة قد حانت لتتدخل في المنطقة وتبسط هيمنتها عليها، فقدمت للدول المتصارعة اقتراحًا بتحويل المياه من محط للصراع إلى موضوع للشراكة الاقتصادية، بما يؤدي لتثبيت وجود «إسرائيل» وتجاهل الصراع. كما شكل تدخل الولايات المتحدة في قضايا المياه أساسًا للعلاقة الثنائية مع الأردن، مقدمةً دعمًا ماليًا وإداريًا وتقنيًا لبناء منشآت مائية لاستغلال مياه اليرموك، لضمانه حليفًا لها.

روتنبرغ يضع البنى التحتية للسيطرة

على عكس بريطانيا وفرنسا اللتين كانتا مهتمتين بنهر اليرموك كفاصل حدودي يكرّس ويحفظ مناطق نفوذها، كانت الحركة الصهيونية مهتمة بالنهر بذاته كمصدر ثروة يجب احتكار استغلاله، لذا بذلت وسعها لإقناع القوى الاستعمارية بمنحها عقد امتياز يخولها مصادرة النهر من المجتمعات المحلية المحيطة به، مخضعة إياه عبر البنى التحتية اللازمة ليكون أحد العناصر الارتكازية في بناء مشروعها المتمثل بوطن قومي لليهود.

بعدما فشلت الحركة الصهيونية في إقناع بريطانيا وفرنسا بشمول أنهر الأردن والليطاني واليرموك في جغرافيا فلسطين الانتدابية خلال مؤتمر باريس عام 1919، سارعت الحركة الصهيونية لاستدراك هذه النتائج بالحصول على عقد احتكار يثبت «حقها» في استغلال مياه الأردن واليرموك.

هنا، يظهر اسم بنحاس روتنبرغ. فهذا المهندس الروسي، والاشتراكي الذي تحول لرجل أعمال وسياسي صهيوني بارز، اقترح ونفذ أولى المنشآت التي بنيت لاستغلال مياه نهريْ اليرموك والأردن. إذ حصل عام 1926 على عقد امتياز مدته 70 عامًا لاستغلال مياه النهرين في توليد الكهرباء عبر طاقة المياه، ومن ثم إيصالها إلى مناطق «فلسطين الانتدابية».[1] 

لم يكن لأي مشروع قامت به الحركة الصهيونية قبل العام 1948 الأثر الذي كان لمشروع روتنبرغ. فمن خلال هذا المشروع أقنعت الحركة الصهيونية بريطانيا بأنها جديرة بدعمها لإنشاء دولة في «فلسطين الانتدابية»، التي ستكون فضاءً متطورًا اقتصاديًا يعتمد على أحدث التكنولوجيات، وستكون مرتبطة عضويًا بالاقتصاد البريطاني وتمثل مصالحه في المنطقة. كما أنها كدولة متطورة سوف تعمل على الارتقاء بالسكان «العرب المتخلفين»، عبر النهوض بكامل المنطقة اقتصاديًا وتكنولوجيًا مما سوف يؤدي إلى الارتقاء بهم اجتماعيًا، وثقافيًا، وحتى أخلاقيًا.[2]

اشترطت سلطة الانتداب البريطاني التي أصدرت الامتياز ألا يشمل المشروع أراضي شرقي الأردن إلا بعد الحصول على موافقة حكومتها. فمنذ العام 1922، اعتبرت سلطات الانتداب نهر الأردن الفاصل بين فلسطين وشرق الأردن. وعندما حصل روتنبرغ على امتياز استخدام مياه نهريْ اليرموك والأردن، بيّن أن نجاح مشروعه يتطلب أن يتم تعديل الحدود مع شرق الأردن بحيث تُشمل الضفة الشرقية من نهر الأردن ضمن حدود «فلسطين الانتدابية»، إلا أن سلطات الانتداب رفضت طلبه. عندها، بذل روتنبرغ جهودًا شخصية بغية إقناع أمير شرق الأردن لتوافق حكومته على شمول أراضيها بالامتياز. وبعد فترة قصيرة، ردت الحكومة الأردنية بالإيجاب على طلب روتنبرغ، شرط شرائه ستة آلاف دونم في المنطقة التي سينفذ فيها مشروعه، بالسعر الذي تحدده هي.[3] لم يتردد روتنبرغ بالموافقة، وبناء على ذلك صدر قانون «امتياز الكهرباء لسنة 1928»، الذي ينص على شمول أراضي الإمارة بالامتياز.[4] أمّا عملية بيع الأراضي لروتنبرغ، فقد أدت إلى ادعاء «إسرائيل» لملكيتها لاحقًا، التي قالت إن الوكالة اليهودية اشترتها من روتنبرغ، وهو ما خلق مشكلة أراضي الباقورة التي بقيت تسيطر عليها «إسرائيل» حتى العام 2019.

بعد العديد من المسوحات التي أجريت على مدار سنوات على طول مسار نهر الأردن، اختار روتنبرغ المنطقة المحاذية لجسر المجامع لبناء محطة توليد الطاقة، في نقطة التقاء نهر اليرموك بنهر الأردن. حيث يضاعف التقاء النهرين زخم طاقة المياه، كما أن الانحدار الشديد لغور الأردن يجعل جريان الماء أسرع، رافعًا القدرة على توليد الكهرباء.

لم يقف روتنبرغ عند حد تجنيد خصائص المكان الطبيعة خدمة لمشروعه، بل قام بالعبث بها حيث أعاد تشكيلها ليصل إلى أفضل حصيلة إنتاجية. فإلى جانب المولدات والتوربينات المائية، شيد مجموعة من المنشآت التي توجه المياه وتتحكم بها، منها القنوات المائية التي عملت إحداها على توجيه مياه اليرموك نحو بحيرة طبريا لتخزينها فيها. كما شمل المشروع بناء عدة سدود، واحد منها لاحتجاز مياه اليرموك وتنظيم تدفقها. كما شيدت بحيرة اصطناعية كبيرة بالقرب من محطة توليد الكهرباء لتخزين مياه النهرين لإعادة استخدامها. وفي العام 1944، كان المشروع يولد 173 كيلوواط/ ساعة.[5]

محطة توليد الكهرباء التي أنشأها روتنبرغ على نهر اليرموك، والبحيرة الاصطناعية التي أنشئت لجمع مياهه. مكتبة الكونغرس.

كان لمشروع روتنبرغ أثر مباشر على الحركة الاستيطانية في جميع أنحاء «فلسطين الانتدابية». فبين عامي 1932 و1935، ارتفع عدد اليهود في فلسطين من 185 ألفًا إلى 375 ألفًا.[6] كما أدى المشروع إلى تشجيع الاستيطان في منطقة «مثلث اليرموك» المطلة على النهر، ليكون للمستوطنين فيها دور أساسي في الاستيلاء على المياه، حيث سيعيدون احتلال منطقة الباقورة عام 1950 لتحقيق أكبر قدر من السيطرة على مياه اليرموك.

عبر إخضاع المياه لتوليد الطاقة، فتح روتنبرغ إمكانيات جديدة لاستغلالها، فضفة نهر اليرموك كانت موقعًا للتوسع في الأنشطة الزراعية في المستوطنات اليهودية. حيث شيد المهندس الصهيوني سمحا بلاس[7] محطة لضخ المياه عبر شبكة معقدة من القنوات والأنابيب لنقل مياه نهر اليرموك إلى مجموعة من الأراضي على ارتفاعات كبيرة، بالاعتماد على الكهرباء المولدة من محطة روتنبرغ.[8] كما طور بلاس نظام الريّ بالتنقيط على ضفاف اليرموك، التي شهدت أيضًا تأسيس شركة المياه الوطنية الإسرائيلية المعروفة بـ«ميكوروت»[9] في العام 1937، وهي الشركة الإسرائيلية التي سوف تشرف على تحويل مياه نهر الأردن نحو النقب في نهاية الخمسينيات.

القنوات المائية ومحطة ضخ المياه التي صممها سمحا بلاس.

المياه لا تكفي، لنجعلها تكفي

 

«إن اولئك المسؤولين عن وضع تفاصيل مخطط الأمم المتحدة [لتقسيم فلسطين] كانوا على معرفة واطلاع على النواحي الأساسية لمشروع لودرميلك-هايز، ووُضع بعين الاعتبار في رسم حدود الدولة الجديدة».[10]
– إيمانويل نيومن، أحد أعضاء الحركة الصهيونية.

في عام 1938، شكلت بريطانيا «لجنة تحقيق» لتحديد إمكانية تقسيم فلسطين الانتدابية، بين دولتين يهودية وعربية، كان من مهامها دراسة مصادر المياه في الأراضي التي يشملها «الانتداب البريطاني على فلسطين»، والتي تتضمن كلًا من فلسطين الانتدابية وشرقي الأردن، لتحديد إن كانت تكفي لدعم هجرات جديدة من اليهود. وبعد عام واحد، نشرت حكومة شرقي الأردن تقريرًا أعده مايكل جورج أيونايدس،[11] أحد أعضاء اللجنة، بعنوان «تقرير حول مصادر المياه وتنميتها في شرق الأردن».[12] وتجدر الإشارة إلى أنه حتى تلك المرحلة لم يجر التعامل مع نهري الأردن واليرموك كمصدرين مائيين منفصلين، نظرًا لكونهما مترابطين ويتأثران ببعضهما، فقد كان فصلهما عن بعضهما هو نتيجة للمشروع الإسرائيلي كما سنبين.

خَلُصَ التقرير إلى أن مصادر المياه الوحيدة التي تستطيع توفير كميات مياه كافية لاستخدام السكان في فلسطين وشرقي الأردن وإحداث تطوير زراعي فيهما توجد في نهري الأردن واليرموك، وبالتالي فإنها لا تكفي لدعم المزيد من الهجرات اليهودية إلى فلسطين. روجت حكومة شرقي الأردن للنتيجة التي توصل إليها التقرير، مبينة ضرورة إيقاف الهجرات اليهودية لأن إمكانياتها المائية، وبالتالي الاقتصادية، اعتمادًا على الزراعة محدودة ولا تحتمل التقسيم بين العرب واليهود.[13] 

أثارت النتيجة التي توصل إليها أيونايدس حفيظة الحركة الصهيونية، وفي سبيل تقديم إجابة مضادة طلبت من والتر لودرميلك، الخبير في مجال الحفاظ على التربة، دراسة المياه ليقدم نتيجة مناقضة لما توصل إليه أيونايدس في تقريره.[14] 

في عام 1944، نشر لودرميلك كتابه بعنوان «فلسطين: الأرض الموعودة». حمل هذا الكتاب المنطلق من رؤية أسطورية لأرض كنعان، والمليء بعبارات توراتية ممزوجة بمصطلحات علمية، استنتاجًا أفضى إلى تغيير شكل المنطقة الطبيعي والاجتماعي. فقد خلُص إلى أن «مصادر المياه الفلسطينية وفيرة، ولكنها موزعة بطريقة سيئة مكانيًا وزمانيًا». بالتالي، لامتلاك مياه للزراعة على مدار العام، يجب أن يتم إعادة توزيع مصادر المياه عبر «نظام كامل من القنوات، والمجاري المائية، والخزانات، وأحواض التخزين. وهذا المشروع يستطيع أن يدعم أربعة ملايين لاجئ يهودي آخرين».[15] بناء على هذه الخلاصة، قدم لودرميلك توصيته بإقامة مشروع يعمل على تحويل مياه نهر الأردن من شمال فلسطين الانتدابية، قبل أن تصب في بحيرة طبريا، لإيصالها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وامتدادًا إلى أراضي النقب جنوبًا.

كان لفكرة لودرميلك أثر كبير على المخططات الصهيونية، إذ قادت إلى توسيع الرقعة الجغرافية التي يمكن استيطانها، وبناء دولة عليها. فحتى تلك اللحظة، لم تكن أراضي النقب جزءًا من مقترحات الوطن القومي لليهود، كما يتضح من المقترح البريطاني للتقسيم عام 1937. وبالإضافة إلى المشروعية الدينية التي أضفاها لودرميلك على مقترحه، كونه يسعى لإعادة الازدهار للأرض الموعودة بعد أن استوطنها «العرب البدو» وعاثوا فيها خرابًا، فقد استطاع أيضًا أن يعطيه مشروعية تقنية-سياسية من خلال استعانته بمؤسسة حكومية أمريكية، وهي «سلطة وادي تينيسي»،[16] التي ساندت المشروع وأوفد رئيسها مجموعة من المهندسين والخبراء من ضمنهم جيمس هايز،[17] الذي وضع المخطط التنفيذي المطلوب. ومن تلك اللحظة فصاعدًا، بات مشروع تحويل مياه نهر الأردن نحو النقب يعرف باسم «خطة لودرميلك-هايز».

سيؤدي مشروع لودرميلك-هايز واستيلاء «إسرائيل» بموجبه على نهر الأردن وتحويله خارج مجراه وحوضه المائي إلى فصله عن محيطه وضمنه نهر اليرموك. كما أنه قاد إلى قيام الأردن بتحويل الأخير خارج مجراه وحوضه أيضًا. والنتيجة كانت تحول المنطقة ما بين نقطة التقاء نهر الأردن باليرموك شمالًا والبحر الميت جنوبًا، إلى خندق للمياه الآسنة، وخلق كارثة بيئيّة على رأسها تدمير التنوع الحيوي في المنطقة، والتآكل المتسارع للبحر الميت الذي يصله اليوم 20-200 مليون متر مكعب من المياه سنويًا، أي في أفضل الأحوال 15% من كمية المياه التي كانت تصله بداية الخمسينيات (1300 مليون متر مكعب سنويًا).[18]

بدأت «إسرائيل» عام 1951 خطتها لتجفيف بحيرة الحولة، وهو الأمر الذي قاد إلى عدة اشتباكات عسكرية بينها وبين القوات السورية، نتج عنها تهجير عدة قرى في منطقة الجولان وما حولها.[19] وتجددت الاشتباكات العسكرية عام 1953، بسبب بدء «إسرائيل» مشروع تحويل مياه نهر الأردن، وهو ما رأت فيه الولايات المتحدة فرصةً كبيرة للتدخل في المنطقة، مقترحةً تنفيذ مشروع مائي ضخم، عرف تاريخيًا باسم مشروع أو خطة جونستون.

مشروع جونستون: المياه كأساس للتسوية

عام 1953، أوفد الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور السفير إريك جونستون إلى المنطقة حاملًا مشروعًا عرف بـ«خطة جونستون» (Johnston Plan)، ويقوم على رؤية جوهرها أن تصبح المياه هي القضية الرئيسية التي يجري التعاون بين دول المنطقة لتوفيرها وإدارتها، بما يحقق تنمية اقتصادية شاملة تفضي مستقبلًا إلى حل الصراع العربي-الإسرائيلي.

تعود المكانة التاريخية الفريدة لهذا المشروع لكونه المشروع الأمريكي الأول الذي استهدف التدخل في المنطقة وفي الصراع الدائر فيها. كما أننا نجد فيه صياغة للصراع العربي-الإسرائيلي وما نتج عنه من تهجير للسكان العرب بكونه مجرد «مشكلة لاجئين»، حلها اقتصادي لا سياسي، من خلال إحداث تنمية زراعية في الأماكن التي لجأوا إليها تؤدي لإعادة توطينهم فيها. ورغم رفض الدول المستهدفة لهذا المشروع، إلا أنه أصبح بحكم الواقع هو النظام الساري لمشاركة مياه نهري الأردن واليرموك حتى عام 1967، أي إلى أن سيطرت «إسرائيل» على كافة منابع نهر الأردن الأعلى، كما بقي المرجع الأساسي لكل المفاوضات حول المياه مع «إسرائيل»، كما حصل في محادثات السلام الأردنية-الإسرائيلية.[20] 

عبر تعهدها بتوفير التمويل المناسب لتنفيذ مشروعها، قايضت الولايات المتحدة البنى التحتية المائية بقبول التعاون الاقتصادي-التنموي مع «إسرائيل»، وتم إشراك مصر في المحادثات إدراكًا لأهمية موافقتها ومحورية دورها السياسي في المنطقة، إذ وُعدت في حال موافقتها على المشروع بتمويل بناء «سد أسوان» الذي عرف لاحقًا بالسد العالي.[21]

حدد مشروع جونستون مجموعة واسعة ومترابطة من الخيارات التقنية، تعمل على تخزين وتحويل وتوزيع المياه في حوض نهر الأردن وروافده.[22] وبالطبع كان نهر اليرموك أحد مصادر المياه الرئيسية ضمن المشروع، لا بل أن مياهه شكّلت ثلث كمية المياه التي نصت عليها الخطة، وهي مساوية لكمية مياه نهر الأردن. كما كان اليرموك موقعًا لأكبر السدود التي شملتها الخطة، مقترحة بناءه في منطقة المقارن بهدف تخزين مياهه لاستعمال الأردن بشكل أساسي. كما تضمن المشروع بناء سد تحويلي عند نقطة العدسية، لتحويل مياه اليرموك باتجاه قناتي مياه يتم بناؤهما على الحافتين الشرقية والغربية لغور الأردن، بحيث يُحول الفائض من مياه النهر عبر قناة إلى بحيرة طبريا.[23] 

لم يقم مشروع جونستون على التلاعب بالاقتصادي/التنموي عبر تصور إمكانية عزله عن السياسي فحسب، بل على التلاعب بالطبيعة أيضًا. ويظهر ذلك جليًا في الانتقائية التي حُدد بها ما هو مهم من عوامل الطبيعة أو ما يمكن تجاهله. فمثلًا، بنيَ جزء كبير من الشرعية التقنية للخطة اعتمادًا على «الجاذبية الأرضية» كمصدر طاقة لتحريك المياه،[24] بينما تجاهل المشروع أساسيات العلم الهيدرولوجي بالتغاضي عن العلاقة بين المياه الجوفية والمياه السطحية، وعدم التطرق للفروقات بين نوعية مياه المصادر المختلفة، وغيرها من الملاحظات.

رفض كلٌ من الدول العربية و«إسرائيل» مشروع جونستون، وتمحورت ملاحظات كلا الطرفين حول مسألتين، أولاهما تتعلق بحصص المياه، حيث طالب كِلا الطرفين بحصص أكبر مما حدده المشروع. أما المسألة الثانية، فتتعلق ببحيرة طبريا. فقد اقترح مشروع جونستون أن تكون البحيرة مركزًا إقليميًا لتجميع المياه وأن تخضع لإشراف أممي. رفضت «إسرائيل» هذه النقطة لأنها اعتبرتها تنتقص من سيطرتها على البحيرة، ولخوفها بأن يؤدي ذلك مستقبلًا إلى مطالبة دول المنطقة بحقوق فيها. أما الدول العربية، فرفضت المقترح كونه يمنح «إسرائيل» نقطة تفوق ويد عليا في إدارة المياه، قد تستخدمها للمساومة السياسية، بالإضافة لكون مياه بحيرة طبريا أكثر ملوحة، أي أقل جودة، من مياه اليرموك والأنهر الأخرى.[25]

قوبل الرفض الأولي لمشروع جونستون بتقديم كل من الدول العربية من جهة، و«إسرائيل» من جهة ثانية، لاقتراحات لتعديل المشروع. حيث صاغت الدول العربية مشروعها عبر لجنة أسمتها «اللجنة الفنية لجامعة الدول العربية»، ضمت ممثلين عن الأردن ولبنان وسوريا ومصر، وقدمت مقترحها تحت عنوان «الخطة العربية»، أما «إسرائيل» فقد قدمت مقترحًا بديلًا صاغه المهندس الأمريكي جون كوتون الذي عمل مستشارًا للحكومة الإسرائيلية في شؤون المياه، ليعرف المقترح باسم «خطة كوتون».[26]

الملفت في هذه المشاريع أن كُلًا منها حدد حصص المياه بناء على تصور طبيعي-سياسي مختلف. فالمشروع الأمريكي رأى المياه ثروة طبيعية، يمكن استعمالها لتجاوز الحدود السياسية وإنشاء شراكة اقتصادية ستقود لتسوية الصراع. بينما قام اقتراح الدول العربية على تصور قومي ثنائي (عربي-آخر) يرى أن المياه حق عربي لكون مصادرها موجودة في أراض عربية. أما «إسرائيل» فنظرت للمياه من منظور وطني، أي باعتبارها عنصرًا خاضعًا للدولة الوطنية، وبالتالي لمفاهيم السيادة، والسيطرة، والقرار المستقل. لذا فإن لها الحق في إدارة المياه وتوجيهها كما تراه مناسبًا، كما أنها تقع في صلب الأمن الوطني الذي يجب المحافظة عليه. ويتضح من ذلك أن المشروع الإسرائيلي كان معنيًا في تثبيت ما اعتبرته حقها في تحويل مياه نهر الأردن خارج حوضه المائي.[27]

استمرت المفاوضات حول خطة جونستون ثلاث سنوات تقريبًا، حيث عُدل المشروع الأصلي وأُعيد تقديمه تحت اسم «خطة الإنماء الموحدة لوادي الأردن» عام 1955. إلا أن الدول العربية عادت وأخبرت جونستون أنها تريد إخضاع الخطة للمزيد من المراجعة.[28] وُضع حدٌ فعلي لهذه الخطة في نهاية عام 1956، إثر العدوان الثلاثي على مصر. وبدءًا من تلك المرحلة، ستصبح الحرب الباردة وسياسة الأحلاف التي اجتاحت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، هي السمة العامة في المنطقة أيضًا. ففي تلك الفترة اتخذت مصر وسوريا ثم العراق خطًا متقاربًا مع الاتحاد السوفييتي، بينما اتخذت كل من الأردن و«إسرائيل» جانب الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا.

قناة الغور الشرقية: الأردن في الحلف الأمريكي

في نهاية 1956، تآلفت الظروف لإفشال مشروع الولايات المتحدة للتدخل في المنطقة وضمان ولائها عبر خطة جونستون. أما الأردن فقد كان يموج في حالة من الغليان؛ فبعد الضغط الشعبي الرافض للانضمام لحلف بغداد، شُكلت أول وآخر حكومة برلمانية في تاريخ الأردن، برئاسة سليمان النابلسي، لتلغي المعاهدة الأردنية البريطانية، وتسعى للتقارب مع مصر.[29] ترافق ذلك مع تبني الولايات المتحدة لما يعرف بـ«عقيدة ايزنهاور» التي اعتمدت سياسة «ملء الفراغ» الذي خلّفه انتهاء الاستعمار الأوروبي بشكله التقليدي. إذ ربطت السياسة الجديدة تقديم المساعدات المالية والعسكرية للدول بمساهمتها في محاصرة امتداد الاتحاد السوفييتي، وبالتالي تحالفها مع الولايات المتحدة. لذا فإن إجبار النابلسي وحكومته على الاستقالة، وما تبع ذلك من إعلان للأحكام العرفية تم بـ«مساندة معلنة وخفية من جانب الولايات المتحدة»، كما عبر عن ذلك رئيس المخابرات ووزير الداخلية لاحقًا، نذير رشيد.[30] 

بعد خمسة أيام فقط من إعلان الأحكام العرفية، قدمت الولايات المتحدة للأردن 10 مليون دولار فيما يعتبر «أسرع برنامج للمساعدات تم التفاوض عليه في تاريخ المساعدات الأمريكية»، لتتسارع المساعدات الاقتصادية والعسكرية بعدها، فتقفز من 11.4 مليون دولار عام 1956 إلى 40 مليونًا عام 1957.[31] عمل ذلك على تعويض المساعدات البريطانية التي انقطعت بعد إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية، فالمساعدات الخارجية شكلت أكثر من 60% من إجمالي الواردات إلى خزينة الدولة الأردنية في العقد الأول منذ الاستقلال،[32] في اقتصاد فتيّ موروث من سلطة الانتداب التي لم تعنى بتطوير أي مشاريع اقتصادية محلية، وإنما اقتصرت مشاريعها العامة على بنى تحتية «بنيت لتلبي الحاجات الاستراتيجية لبريطانيا».[33]

في ظل هذه البنية الاقتصادية، كان للمياه مكانة جوهرية في تحقيق أي نمو على المستوى الاقتصادي. لذا تقدم الأردن في بداية عام 1958 بطلب للحصول على مساعدة مالية من الولايات المتحدة بغرض بناء قناة الغور الشرقية، التي تمتد اليوم بطول 110 كلم شرق نهر الأردن وتتغذى من نهر اليرموك والأودية الجانبية. رأت الولايات المتحدة أن دعم هذا المشروع سيحقق «أفضل النتائج المرجوة على المستويين السياسي والاقتصادي».[34] وفي رسالة للسفير الأمريكي في الأردن يدعم فيها تقديم مساعدة مالية لبناء القناة، عبّر عن وجهة نظر بلاده على النحو الآتي: «لا شيء يمكن أن يكون مفيدًا في إقناع الشعب الأردني بأن الولايات المتحدة هي صديقة للأردن كما يمكن أن يفعل تمويل قناة الغور الشرقية».[35]

لا شك أنّ الإصرار الأمريكي على إبقاء الأردن حليفًا لها كان مهمًا في سياق سياسة الحرب الباردة ومعركة المواقع التي كانت دائرة بينها وبين الاتحاد السوفييتي. لكن هذا الإصرار كانت له أهمية مضاعفة في سياق الصراع القائم بين سكان المنطقة والمشروع الاستعماري الإحلالي المتمثل في «إسرائيل». فقد لعبت الولايات المتحدة دور الجسر الهوائي بين حليفتيها، مانعةً تصادمهما، إذ ربطت تقديم الدعم المالي لبناء قناة الغور بتعهد الأردن بالالتزام بحصته المائية التي حددتها خطة جونستون الموحدة من مياه نهر اليرموك، والتي قدرت بـ377 مليون متر مكعب سنويًا، وهو التعهد الذي قدمه وزير الخارجية الأردني آنذاك.[36] كما أنها ضمنت عدم معارضة الأردن للدعم الأمريكي لـ«إسرائيل» في بناء مشروعها المائي. هذا إلى جانب الهدف الأمريكي في إيجاد حل اقتصادي «لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين»، من خلال التوطين النهائي لعشرات الآلاف منهم في الأراضي التي سيجري استصلاحها إثر تشغيل القناة.[37] 

كان التوصل إلى اتفاق لدعم مشروع قناة الغور الشرقية يجري بالتوازي مع مباحثات مع الإسرائيليين لدعم مشروعهم المائي لتحويل مياه نهر الأردن، المعروف بـ«الناقل الوطني للمياه». وقد طالب الأمريكيون «إسرائيل» بتغيير المنطقة التي سيجري تحويل المياه منها، بحيث لا تقع في المنطقة الدولية منزوعة السلاح، وهو ما وافقت عليه. كما طالبوها بالتعهد بعدم تحويل أكثر من حصتهم من مياه من نهر الأردن، التي حددتها خطة جونستون بـ375 مليون متر مكعب سنويًا، وهو ما ادعت «إسرائيل» موافقتها عليه، لكنها لم تلتزم به يومًا.

بدأ العمل على قناة الغور الشرقية عام 1960، التي أعيدت تسميتها لاحقًا بـ«قناة الملك عبد الله»، بحفر نفق على شكل حذوة الفرس ليحول المياه باتجاه القناة الأسمنتية التي تم بناؤها. أنجزت المرحلة الأولى عام 1961، ومولت الولايات المتحدة المرحلة الثانية. بعد اكتمال العمل على مرحلتي القناة عام 1964، بلغ طول القناة 70 كم،[38] على امتداد الحافة الشرقية لوادي الأردن. حُوّلت المياه من نهر اليرموك إلى القناة، عبر مجموعة من الأكياس الرملية والكتل الحجرية، نظرًا إلى أن «إسرائيل» اعترضت على بناء منشأة تحويلية وإن كانت صغيرة في تلك المنطقة، بحجة وقوع تلك المنطقة على خط الهدنة. وكما سيتضح في المقال القادم، سيدفع الأردن عدة مرات ثمن عدم إصراره على بناء السد التحويلي.

كان لقناة الغور الشرقية تأثير ملحوظ ومباشر على الاقتصاد الأردني، فقد تضاعفت الإيرادات المحلية عامي بين 1959-1965، أي بين السنة التي بدأ فيها العمل على الجزء الأول من القناة والسنة التي أعقبت انتهاء الجزء الثاني منها. أما الصادرات الزراعية فقد ارتفعت بنسبة 170% خلال تلك السنوات.[39] كما حقق الاقتصاد الأردني في تلك الفترة نسبة نمو عامة بلغت 7.5% سنويًا.[40]

لم تقدم الولايات المتحدة الدعم المالي للأردن فحسب، بل كانت فاعلًا في إنشاء وإدارة مؤسسات حكومية، مثل مشاركتها في تأسيس وإدارة «قسم تطوير مصادر المياه» الذي استحدثته الحكومة الأردنية عام 1955.[41] بل شاركت أيضًا في تصميم وتأسيس «مؤسسة الاقراض الزراعي» التي كانت مهمتها تقديم المنح والقروض الميسرة للمزارعين، والمساهمة في وضع برنامج للإصلاح الزراعي وكيفية توزيع الأراضي في منطقة غور الأردن، وحرصت على عقد دورات تدريبية للموظفين الحكوميين في مجالات مختلفة. وبلا شك، تضمنت هذه التدريبات والدورات عملية تلقين أيديولوجي حول شكل الاقتصاد الأمثل وطريقة إدارته، وحول الدور المناط بالدولة، ومعنى «التنمية الاقتصادية» وطريقة تحقيقها. ومن السهل تتبع ذلك في برنامج تطوير منطقة الغور. فالشكل الاقتصادي الذي تم تبنيه في التنمية والإصلاح الزراعي قائم على تقسيم الأرض وتوزيع ملكيتها على مجموعة من الأفراد، دون التفكير حتى في أشكال أخرى من التنمية الاقتصادية المعتمدة على دور الدولة، أو التفكير بالمشاكل الاقتصادية المتعلقة بالحيازات الزراعية الصغيرة من حيث محدودية قدرتها في تحقيق تنمية اقتصادية على المستوى البعيد. لذا، تبدو الأرقام حول التأثير الاقتصادي الإيجابي خادعة، لأنها لا تأخذ سوى النتيجة المباشرة على المدى القصير لتوسع عملية الإنتاج بسبب إيصال المياه إلى آلاف الدونمات الجديدة. لكن في المقابل، يتم تجاهل الآثار الفعلية لهذه البرامج الاقتصادية، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر، فقدان الكثير من المزارعين للأراضي التي وُزعت عليهم بسبب تراكم الديون واضطرارهم للبيع لسدادها، وفي حالات أخرى لم ينتج المزارعون سوى ما يسد حاجاتهم، ونستطيع حتى اليوم أن نعاين هذه الآثار.

لم تكتفِ الولايات المتحدة بدفع مؤسساتها الحكومية للعب دور في تحديد مجرى المياه، مثل الدور الذي لعبته «سلطة وادي تينيسي» في تخطيط ومن ثم تنفيذ «الناقل الوطني الإسرائيلي»، ومشاركتها في وضع خطة الإنماء الموحدة، أو خطة جونستون المعدلة. فقد كان هناك دور فاعل للشركات الأمريكية أيضًا. فقد صممت شركة هارزا للهندسة[42] قناة الغور الشرقية بما تتضمنه من شبكات لتوزيع المياه وتصريفها،[43] في مثال على الطرق التي تتبعها الدول الإمبريالية في خلق دورة اقتصادية تكفل استعادتها جزءًا من الأموال التي تقدمها كـ«مساعدات»، عبر توظيف شركاتها في تنفيذ المشاريع أو أجزاء منها.

إلى جانب فتح سوق جديد أمامها، ضمنت الولايات المتحدة عبر التصميم الذي وضعته شركتها لقناة الغور ألا تتجاوز قدرة القناة على تحويل المياه الحصةَ المحددة للأردن في خطة جونستون الموحدة، بل تقل عنها. فرغم أن الخطة نفسها حددت حصة الأردن من مياه اليرموك بـ377 مليون متر مكعب سنويًا،[44] إلا أن تصميم القناة حينها لم يسمح تصريف وتوزيع أكثر من 123 مليون متر مكعب سنويًا،[45] أي تقريبًا ثلث الكمية المحددة في الاتفاقية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن قناة الغور الشرقية كانت تتغذى بمياه الأودية الجانبية في وادي الأردن، أي أن قدرة القناة الاستيعابية (123 مليونًا) لن تكون جميعها من نهر اليرموك، ما يعني أن الحصة الفعلية أقل من الثلث.

«الناقل الوطني الإسرائيلي» بوابةً للحرب

أما «إسرائيل» فقد أنجزت خلال نفس الفترة مشروعها المائي الذي يعتبر من أكبر المشاريع المائية على مستوى العالم. فباستخدام مجموعة من الأنفاق المائية، والأقنية المكشوفة والمغلقة، بالإضافة إلى أنابيب المياه الضخمة، جرت «إسرائيل» مياه بحيرة طبريا من عمق 212 مترًا تحت سطح البحر إلى ارتفاع 40 مترًا فوقه، لتضخ المياه بعد ذلك جنوبًا إلى مجموعة من الأراضي على ساحل المتوسط، شاقةً طريقها إلى أراضي النقب، ممتدة على طول 130 كم.[46] 

أثار بدء عمل «الناقل الوطني الإسرائيلي» غضبًا عربيًا. لذا دعا عبد الناصر قادة الدول العربية للاجتماع في القاهرة، فيما أطلق عليه «القمة العربية الأولى» عام 1964، وخلُص المؤتمرون إلى ضرورة اتخاذ إجراءات في مواجهة السيطرة الإسرائيلية. ومع تعهد مجموعة من الدول بتوفير الدعم المالي اللازم، بدأت مشروعات لتحويل مياه نهريْ الحاصباني وبانياس بعيدًا عن نهر الأردن. كما كان لليرموك نصيبه، إذ تم الاتفاق على بناء سد مائي بين منطقة المخيبة الأردنية والمنطقة المقابلة لها من هضبة الجولان السوري، لتجميع مياه النهر ومنع «إسرائيل» من استخدامها. بدأ العمل في السد، الذي عُرف بداية باسم «سد خالد بن الوليد» عام 1966، وتولت شركة يوغسلافية تنفيذ المشروع، ما أغضب الأمريكيين في سياق حرب النفوذ مع المعسكر الاشتراكي.

أدى شروع الدول العربية في تنفيذ مخططاتها إلى رد فعل عنيف من قبل الإسرائيليين. فكما صرح ليفي أشكول، الذي كان رئيسًا للوزراء حينها، كانت قيمة مياه نهر الأردن بالنسبة لهم «كقيمة الدماء في عروقنا، وسنتصرف بناءً على ذلك». في لحظة تدميره خلال حرب حزيران، كان قد أُنجز 25% من السد. حتى اليوم، يمكن مشاهدة إحدى الآليات التي كانت مشاركةً في أعمال البناء ملقاةً على طرف نهر اليرموك، وكأنها تُركت شاهدًا يذكر بتبعات أي مواجهة.[47]

وضعت نتائج حرب 1967 حدًا لمشروع التطوير الزراعي في غور الأردن، كما أدت لسيطرة «إسرائيل» على جميع روافد نهر الأردن الأعلى، مما أعطاها دفعة كبيرة بتوفير المياه لمشاريعها التوسعية اقتصاديًا واستيطانيًا. لم تكن المياه السبب الوحيد أو المباشر لهذه الحرب، فالمشروع الصهيوني الذي تجسد في «إسرائيل»، لا يمكن فهمه سوى بكونه مشروعًا استيطانيًا إحلاليًا، يفرض عليه جوهرُه الرأسمالي التوسعَ الدائم، وإلا يواجه الفناء. لكن هذا بالتحديد هو ما يمنح السيطرة على المياه أهميتها بالنسبة لـ«إسرائيل».

رغم أن قناة الغور الشرقية تعد واحدةً من «أكبر الاستثمارات التي قامت بها الولايات المتحدة في دولة عربية في منطقة الشرق الأوسط»،[48] إلا أن الولايات المتحدة لم تدعم هذا المشروع بمعزل عن أهدافها السياسية في مواجهة الاتحاد السوفييتي وحركات التحرر الوطني، وفي تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي. وفي السنوات التالية، سنرى كيف استغلت الولايات المتحدة و«إسرائيل» البنى التحتية في دفع الأردن نحو عقد محادثات سرية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ستقود بعد ذلك بسنوات إلى توقيع معاهدة وادي عربة.

  • الهوامش

    [1] Sara Reguer (1995) Rutenberg and the Jordan river: a revolution in hydroelectricity, Middle Eastern Studies, 31:4, 691-729 P. 709

    [2] حول الحجج التي ساقتها الحركة الصهيونية وروتنبرغ لإقناع سلطات الانتداب البريطاني بمنح روتنبرغ الامتياز، وإقناع مجموعة واسعة من الرأسماليين اليهود والمتعاطفين مع الصهيونية لتمويل المشروع، يرجى الاطلاع على: Meiton, Fredrik (2019). Electrical Palestine: capital and technology from empire to nation, Oakland, California: University of California Press, P. 21-50.

    [3] Meiton, Fredrik (2019). Electrical Palestine: capital and technology from empire to nation, Oakland, California: University of California Press. P. 130

    [4] انظر/ي: نص الامتياز الذي نشر تحت عنوان «قانون امتياز الكهرباء لسنة 1928» في جريدة الشرق، العدد 177، والمنشور بتاريخ: 23/01/1928.

    [5] Sosland, Jeffrey K., Cooperating Rivals: The riparian politics of the Jordan River Basin, (Albany: State University of New York Press, 2007) P. 21

    [6] Reguer, Rutenberg and the Jordan river: a revolution in hydroelectricity, P. 721

    [7] Simcha Blass

    [8] UEA (2019). Qualitative Annex A for Hydropolitical Baseline of the Yarmouk Tributary of the Jordan River. Norwich: Water Security Research Centre, University of East Anglia, P.8

    [9] Mekorot

    [10] Samer Alatout, «From River to Border: The Jordan between empire and nation-state» in Routledge Handbook of Science, Technology and Society, ed by Daniel Lee Kleinman and Kelly Moore. (London and New York: Routledge Taylor & Francis Group, 2014) P. 323

    [11] Michael George Ionides.

    [12] العنوان الأصلي للتقرير: Report On The Water Resources Of Transjordan And Their Development

    [13] Haddadin, Munther J. Diplomacy on the Jordan: International conflict and negotiated resolution, (New York: Springer Science+Business Media, 2002) P. 19

    [14]عمل لودرميلك (Walter Lowdermilk) في قسم الزراعة الأمريكية، كما كان عضوًا في اللجنة الامريكية-المسيحية لدعم الصهيونية، وكان لديه اهتمام خاص بالتجارب الزراعية التي كانت تجريها الكيبوتسات. ورغم أنه كان مكلفًا بالأساس من قبل حكومة الانتداب البريطاني بإيجاد مكان مناسب لإقامة مطار في فلسطين، فإنه وتحت تأثير صديقه المهندس سمحا بلاس، قام بتغيير خططه ودراسة المياه.

    [15] Samer Alatout, «From River to Border: The Jordan between empire and nation-state» P.322

    [16] كانت سلطة وادي تينيسي (Tennessee Valley Authority) قد أقامت مشروعًا ضخمًا لتوليد الطاقة الكهرومائية، وتمتعت بمكانة دولية في مجال التنمية. قاد مشروعها إلى تهجير العديد من مجتمعات السكان الأصليين، وتدمير العديد من الأماكن التراثية المرتبطة بثقافتهم. لذا لم يكن هناك من هم أفضل وأقدر على تسويغ فكرة لودرميلك، ومنحها الصلاحية التقنية اللازمة. أما سياسيًا فإنه يمثل بداية الدعم «الأمريكي المؤسسي» الأول لمشروعات الحركة الصهيونية، ولاحقًا «إسرائيل»، كما أنه منح الشرعية السياسية لمخططات توسيع رقعتها الجغرافية. وإلى جانب ذلك، ستلعب سلطة وادي تينيسي دورًا فاعلًا فيما يتعلق بالمياه بالمنطقة، إذ ساهمت في توفير المعلومات، وصياغة الخيارات التقنية التي قدمها «مشروع جونستون».

    [17] James Hayes.

    [18] UN-ESCWA and BGR (United Nations Economic and Social Commission for Western Asia; Bundesanstalt für Geowissenschaften und Rohstoffe). 2013. Inventory of Shared Water Resources in Western Asia. Beirut. P.191

    [19] Morris, Benny, 1993. Israel’s Border Wars, 1949-1956 «Arab Infiltration, Israeli Retaliation, and the Countdown to the Suez War». (New York: Oxford University Press Inc.) P. 363

    [20] Alatout, Samer, Hydro-Imaginaries and the Construction of the Political Geography of the Jordan River, The Johnston Mission, 1953–56, In Environmental imaginaries of the Middle East and North Africa, ed Diana K. Davis and Edmund Burke III; with an afterword by Timothy Mitchell. (Ohio: Ohio University Press series in ecology and history, 2011) P. 222

    [21] Sosland, Cooperating Rivals: The riparian politics of the Jordan River Basin, P. 45

    [22] Alatout, Hydro-Imaginaries and the Construction of the Political Geography of the Jordan River, P.221

    [24] Alatout, Hydro-Imaginaries and the Construction of the Political Geography of the Jordan River

    [25] Sosland, Cooperating Rivals: The riparian politics of the Jordan River Basin, P.41

    [26] Aaron T. Wolf and Joshua T. Newton, Case Study of Transboundary Dispute Resolution: the Jordan River Johnston Negotiations 1953-1955; Yarmuk Mediations 1980s, E-Article.

    [27] Alatout, Hydro-Imaginaries and the Construction of the Political Geography of the Jordan River, P. 234–236

    [28] مع أن كلتا خطتي جونستون الأصلية والمعدلة حددتا حصة «إسرائيل» من نهر اليرموك بـ25 مليون متر مكعب سنويًا، أصرت «إسرائيل» على أن حصتها تبلغ 40 مليون متر مكعب سنويًا، وهي حصة الأراضي في منطقة مثلث اليرموك. كما تجدر الإشارة إلى أن الاختلافات في مجموع حصص المياه بين الخطط عائد إلى استثناء أو ضم أنهار معينة في كل خطة، ولكن النقطة الأهم هي أن «خطة كوتون» الإسرائيلية شملت نهر الليطاني ضمن هذه الأنهار، وهو ما رُفض من جميع الأطراف ومن ضمنهم الأمريكيون. أما حصة الأردن المائية، والتي حددت بـ720 مليون متر مكعب سنويًا، فقد شملت حصة الضفة الغربية، التي كانت حينها تحت السيطرة الأردنية.

    [29] إن كانت حكومة النابلسي فترة فارقة ومميزة في تاريخ الدولة الأردنية، فإنها لا تقل أهمية في التفريق بين المؤرخين الذين كان الأردن في تلك الفترة موضوع بحوثهم، فالكتابات عن تلك الفترة تتراوح بين تجاهل السياق الشعبي الذي كان يجتاح المنطقة، والذي كان النابلسي جزءًا منه وجاء على أثره، أو أنها تقوم بتقزيم هذا السياق وإظهار الأحداث على أنها خلاف بين الملك ورئيس وزرائه، فضلًا عن الكتابات السائدة لمؤرخي النظام السياسي التي تشكك بالتجربة وتقلل من امتدادها، لا بل وتنسبها لشخص الملك أكثر مما تنسبها للتاريخ وتفاعلاته وللانتخابات ونتائجها.

    [30] الغويين، فيصل خليل (2020). سليمان النابلسي ودوره في الحياة السياسية الأردنية (1908-1976). عمان: وزارة الثقافة الأردنية. ص193 وص226

    [31] David W. Lesch (2003). The Middle East and the United States «A Historical and Political Reassessments», (Cambridge MA: Westview Press) P.127

    [32] Haddadin, Diplomacy on the Jordan: International conflict and negotiated resolution, P.138

    [33] Tell, Tariq Moraiwed, The Social and Economic Origins of Monarchy in Jordan, (New York: PALGRAVE MACMILLAN, 2013) P. 77

    لذا نجد أن طريق بغداد-حيفا، والطرق بين عمان والسلط، والقدس، هي المشاريع العامة التي أنفقت عليها سلطة الانتداب، وما سوى ذلك فإن أغلب الموازنة ذهبت على شكل رواتب للموظفين والجيش.

    [34]  Haddadin, Diplomacy on the Jordan: International conflict and negotiated resolution, P.140

    [35] Citino, Nathan J., Envisioning the Arab future: modernization in U.S.–Arab relations, 1945–1967 (United Kingdom: Cambridge University Press, 2017) P.163

    [36] Haddadin, Diplomacy on the Jordan: International conflict and negotiated resolution, P.143

    [37] Sutcliffe, Claud R., The East Ghor Canal Project: A Case Study of Refugee Resettlement, 1961-1966, Middle East Journal, Vol. 27, No. 4 (Autumn, 1973), P.471-482

    [38] تم إضافة أجزاء للقناة في ثلاث مراحل لاحقة، بين الأعوام 1969-1987، ليصبح مجموع طول القناة (110.5 كم).

    FAO. (2008). AQUASTAT Country Profile – Jordan. Food and Agriculture Organization of the United Nations (FAO) Rome, Italy. P.8

    [39] هذه المؤشرات الاقتصادية مرتبطة تشمل ضفتي نهر الأردن اللتين كانتا آنذاك تحت حكم الأردن.

    Citino, Envisioning the Arab future: modernization in U.S.–Arab relations, 1945–1967. P.172

    [40] هذه المؤشرات الاقتصادية مرتبطة تشمل ضفتي نهر الأردن اللتين كانتا آنذاك تحت حكم الأردن.

    Sutcliffe, Claud R., The East Ghor Canal Project: A Case Study of Refugee Resettlement, 1961-1966, Middle East Journal, Vol. 27, No. 4 (Autumn, 1973), P.471-482

    [41] Molle, François, et al. (2017), Groundwater Governance in Jordan: The case of Azraq Basin, A Policy White Paper, IWMI project publication. P. 53

    [42] Harza Engineering Company of Chicago.

    [43] Joseph L. Dees. Jordan’s East Ghor Canal Project. Middle East Journal, Vol. 13, No. 4 (Autumn, 1959), P. 357-371

    [44] Haddadin, Diplomacy on the Jordan: International conflict and negotiated resolution, P.140

    [45] Dees. Jordan’s East Ghor Canal Project, P.357-371

    [46] Sosland, Cooperating Rivals: The riparian politics of the Jordan River Basin, P.68

    [47] Ibid. P.81

    [48] Sutcliffe, The East Ghor Canal Project: A Case Study of Refugee Resettlement, 1961-1966, P.471

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية