الهند و«إسرائيل»: لماذا التقارب؟

الإثنين 05 تموز 2021
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال حديثه في حدث «شالوم بوليوود» في مومباي، في 18 كانون الثاني 2018. تصوير إندرانيل موخرجي. أ ف ب.

جرت الأحداث الأخيرة في فلسطين على خطين متوازيين، تعلّق أحدهما بما يجري على الأرض، وكان الآخر يجري على فضاء الميديا، سواء ما تعلق بنقل الأخبار للعالم الخارجي أو التعليق عليها والتأثير بها. وفي هذا الفضاء، لاحظ كثيرٌ منا كمًا هائلًا من التعليقات التي كانت في صف الاحتلال، ومصدرها حسابات لأشخاص أو جهات من الهند. لم يخفَ الموضوع على المستخدمين الذين تفاعلوا مع هذه الظاهرة بأشكالٍ عدة، تراوحت بين الاستنكار والتعليق على الموضوع، أو تناوله بشكلٍ ساخر، أو تبسيطه إلى مجرد موقف ديني، أو التعامل معه بعنصرية أحيانًا. لكن فهم هذه المواقف يستدعي النظر إلى العلاقة بين الهند ودولة الاحتلال وبعض المحطات الفارقة فيها. 

بدايةً، يمكننا طرح السؤال: لماذا الهند؟ فهي ليست الدولة الوحيدة التي تبدي هذا الموقف، كما أن لهجة بيانها الذي أدان الهجمات من غزة، ثم أدان «الرد» الإسرائيلي، يشبه إلى حدٍ بعيد ذاك الذي استعملته دول أخرى. وفي الواقع، اختيار التعليق على موقف الهند مرده عوامل عدة مشتركة، مثل كون الهند -على عكس الصورة المعتادة لحلفاء دولة الاحتلال- لا تقع في الشمال العالمي، بل واحدة من الدول التي نالت استقلالها في القرن العشرين، وخاضت معاركها لنيل هذا الاستقلال وما بعده، ثم هناك موقعها التاريخي ضمن منظمة دول عدم الانحياز، وبعض ما علق في ذاكرتنا عنها، مثل موقف المهاتما غاندي الشهير بكون فلسطين للفلسطينيين، الذي لا زال يردد حتى اليوم.

وبذلك يصبح السؤال مزدوجًا ومترابطًا؛ عن سيرورة ما بعد الاستقلال في الهند، وعلاقة ذلك بموقفها من قضايا عدة، تكون القضية الفلسطينية واحدة منها، وتغيّر هذه العلاقة بعد أن عُرِفت تاريخيًا بأنها أكثر انحيازًا للشعب الفلسطيني. 

ما بعد الاستقلال وسياسة «غرب آسيا»

نالت الهند استقلالها عام 1947، قبل عامٍ تقريبًا، من نشوء دولة الاحتلال. وواجهت الدولة الفتية حينها أسئلتها حول هويتها وشكلها وشكل جهاز دولتها أيضًا، وتعرف هذه الفترة بالنهروفية، نسبة لجواهر لال نهرو، أول رئيس وزراءٍ للهند بعد استقلالها وقائد حزب المؤتمر الوطني، الذي لم يشكل حينها استثناءً عن نموذج كان شائعًا بين الدول المستقلة حديثًا، من حيث محاولة تحديث الهند وبناء نموذج اقتصادٍ صناعي وحضور دور الدولة المركزي في هذه الخطط.

ترافقت هذه الخطط مع رؤية لبناء بلدٍ علماني موحد في الداخل، وبلدٍ غير منحاز في الخارج. وخلال تلك الحقبة، عملت الهند على موازنة علاقاتها بين الكتلتين الشرقية والغربية، لأسبابٍ أيديولوجية أو عملية كتقليل الإنفاق من الناحية العسكرية، رغم ميل حكومات المجلس الوطني للاتحاد السوفييتي. أمّا القضية الفلسطينية، فكان التعامل معها حذِرًا.

تعود بداية هذه العلاقة إلى عام 1947، حين شاركت الهند بلجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين مع عدة دول أخرى، لاقتراح حلولٍ للنزاع على الأراضي الفلسطينية. وضعت على إثر ذلك خطتان لتقسيم الأراضي الفلسطينية، كانت أولهما تقترح إقامة دولتين منفصلتين، بينما نصت الثانية على تأسيس فيدرالية تضم دولة عربية وأخرى يهودية. وكانت الهند لاحقًا واحدة من الدول التي صوتت ضد قرار التقسيم. ورغم اعتراف الهند بدولة «إسرائيل» عام 1950، خلال فترة نهرو، إلا أن العلاقات بين البلدين ظلّت باردة تبعًا لعوامل داخلية ودوليّة. فمن جهة، عدّت الهند القضية الفلسطينية شبيهة بقضيتها للاستقلال ومن حيث علاقة الدور البريطاني بها، كما أن سياسة نهرو حول «غرب آسيا» كانت هي الأخرى تحمل، من ناحية الخطاب على الأقل، اتجاهًا معاديًا للإمبريالية والاستعمارية. 

إلا أن الموقف لا يمكن تحليله وفهمه بالانطلاق من منظورٍ أخلاقي وحسب، فخلال الحرب الباردة وجدت «إسرائيل» والهند نفسيهما في معسكرين نقيضين، فبينما كانت «إسرائيل» حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة الأمريكية، كانت الأخرى أقرب إلى المعسكر السوفيتي. ثمة عوامل أخرى حددت هذا الموقف أيضًا، إذ اعتمدت الهند تاريخيًا على النفط العربي، ما عنى حساسيةً مضاعفة في التعامل مع القضية الفلسطينية، زد على ذلك نسبة العاملين الهنود في الدول العربية التي كان على الهند الحرص على سلامتها، وتعداد السكان الهنود المسلمين الذين لم تشأ الدولة أن تعقد علاقتها بهم. 

أيضًا، أمامنا متغير شديد الأهمية حين ننظر إلى هذه المسألة، وهو علاقة الهند بجارتيها الصين وباكستان. فمنذ نشوء دولتي باكستان والهند، وجدت الجارتان نفسيهما أمام نزاعٍ متعلق بإقليم جامو وكشمير، وفشلٍ في التوصل إلى حل بعد عدة نزاعات واشتباكات. تأثر الموقف الهندي من فلسطين بهذا النزاع، إذ حافظت الهند على هذا الود مع الدول العربية محاولةً انتزاع موقفٍ مشابه من خلافها مع باكستان، خصيصًا أن موقف الأخيرة من القضية الفلسطينية يتسم بوضوحٍ أكبر.

وسط هذا، استعانت الهند بـ«إسرائيل» خلال الحرب الهندية-الصينية عام 1962 أواخر أيام حكم نهرو، دون مقابلٍ دبلوماسي مباشر ودون اعترافٍ بهذه الاستعانة، وهو ما اعتُبِر سابقةً حينها. حافظت هذه العلاقة على سمة السريّة خلال حدثٍ آخر، وهو إعطاء أنديرا غاندي، ابنة نهرو ورئيسة الوزراء التي خلفته، الضوء الأخضر لجناح البحث والتحليل الهندي، وهو جهاز مخابرات هندي خارجي، للتواصل مع الموساد بشكلٍ سري، ومده بمنزلٍ آمن في نيودلهي ليصبح بمثابة مقرٍ لعملياته، بعد تطور التعاون الباكستاني-الصيني. ومع بقاء هذه العلاقة في السر، كان الموقف العلني مختلفًا بعض الشيء، إذ كانت الهند أول دولة غير عربية تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1974. 

حافظت المعادلة حتى وقتٍ قريب على توازنها بالارتكاز إلى هذه العوامل الثلاثة، وهي اصطفاف الهند خلال الحرب الباردة، والعلاقة مع الدول العربية، ونزاعها مع باكستان والصين. فحتى حين نجح حزب جاناتا اليميني في الوصول إلى السلطة عام 1977، معلنًا نية الهند تغيير تفسيرها لمصطلح «عدم الانحياز»، لم تحدث تغيرات علنية تذكر في الموقف الهندي، رغم ميل الحزب لتعزيز العلاقة مع «إسرائيل» وخوض ممثلين عن الحكومة الهندية لقاءً مع موشي دايان، وزير خارجية دولة الاحتلال حينها، في نيبال. ليتُبِع هذا الاجتماع بآخر، بعد زيارة السادات لـ«إسرائيل» وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، وتباحث حينها الطرفان طرقَ ترسيم العلاقات، إلا أن ذلك لم ينجح لأن الهند راهنت حينها على إقناع السادات الفلسطينيين القبول بتسويةٍ ما، وهو ما لم يحدث. إلا أن العوامل الثلاثة، كما سنرى، تغيّرت هي الأخرى، ما فرض شكلًا جديدًا من العلاقات.

ما بعد الحرب الباردة

مع بداية تسعينيات القرن الماضي، تسارعت الأحداث دوليًا، إذ انعقد مؤتمر مدريد عام 1991، ممهدًا الطريق لدولٍ بينها الهند والصين لترسيم علاقاتها مع «إسرائيل» بشكلٍ أوسع. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، تغيّر شكل السياسة العالمية، ووجدت الدول التي انتمت إلى المعسكر السابق نفسها أمام الحاجة لإعادة تكوين تحالفاتها وفقًا للمعطيات الجديدة، التي كان أبرزها ظهور القوى الآسيوية على الخريطة العالمية، وسيادة أحادية القطب الأمريكية ومفرزاتها. في تلك الفترة، بدأت الهند تميل نحو المعسكر الغربي، تزامنًا مع تغير في سياساتها الاقتصادية، وبدأت «إصلاح» اقتصادها متأثرة بالتوجه العالمي في تحرير الأسواق وإعادة توجيهه نحو قطاعات أخرى كتكنولوجيا المعلومات. وفي 29 كانون الثاني عام 1992، تم إعلان العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين الهند وإسرائيل، بعد عقودٍ من العلاقة الحذرة. 

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي كان مصدر الأسلحة الهندية بشكلٍ رئيسي، عمدت الهند إلى تنويع مصادر الاستيراد والسعي إلى الوصول إلى حالةٍ من الإنتاج الذاتي للمعدات العسكرية، وما يتبعه من حريةٍ أكبر في العلاقات الخارجية.

مع التغير في شكل السياسة الدوليّة، ومع دخول المنظمات الفلسطينية في صراعات داخليّة، والتغير التدريجي لمواقف الدول العربية، وانتقال القوة من عواصم عربية إلى أخرى مع تسيد الخطاب الديني للمشهد، بدا أن الظروف التي كانت تعيق ازدهار هذه العلاقة قد زالت، وبعد زيارة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات إلى الهند -التي كانت واحدة من أكثر البلدان التي يتردد عليها- قبيل إعلان العلاقات الدبلوماسية، وفشله في إقناع رئيس الوزراء الهندي راو بتأجيل العملية، اتضح أن الهند كانت قد مضت في اتجاهٍ جديد بوساطة أمريكية واتجاه أكثر «براغماتية».

تبع ترسيم العلاقات خطوات عدة، ففي 1994 وقعت وزارتا الدفاع في الحكومتين اتفاقية للتعاون الأمني بين البلدين، وبعد أربع سنوات، حين أجرت الهند وباكستان تجارب نووية، كانت «إسرائيل» واحدة من الدول القليلة التي رفضت إدانة الهند في مجلس الأمن الدولي على إثر هذه التجارب، رغم إدانة دول كالولايات المتحدة الأمريكية لهذه الخطوة وفرضها عقوباتٍ على الهند. 

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي كان مصدر الأسلحة الهندية بشكلٍ رئيسي، عمدت الهند إلى تنويع مصادر الاستيراد والسعي إلى الوصول إلى حالةٍ من الإنتاج الذاتي للمعدات العسكرية، وما يتبعه من حريةٍ أكبر في العلاقات الخارجية. وفي هذا الشأن، بدت دولة الاحتلال نموذجًا يمكن للهند دراسته والاستفادة منه، سواء باتباع سردية البلد الناشئ المحاط بأعداء والذي حقق نجاحه الخاص، أو من خلال تجربة هذه الدولة مع «الحرب على الإرهاب». لبّت دولة الاحتلال هذه الحاجات، إذ تعد اليوم، بعد كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ثالث مصدّرٍ للأسلحة إلى الهند، التي تصنّف هي الأخرى أكبر مستوردٍ للأسلحة الإسرائيلية.

وإضافةً إلى حجم المبيعات الهائلة في قطاع الدفاع، والتي تجاوزت حاجز المليار دولار سنويًا، فإن التعاون العسكري شمل مؤخرًا إنشاء مركزٍ للدعم التقني والصيانة لمنظومة الدفاع الجوية الهندية، ومذكرة تفاهم لتصنيع طائرات دون طيار داخل الهند، ما يعني تحقيقًا أكبر لسياسة الاكتفاء الهندية، التي أدت اليوم إلى تصنيع الهند لنصف المعدات العسكرية التي يحتاجها تقريبًا واستيراد النصف الآخر.

ورغم أن العلاقات بين البلدين تتمحور بشكلٍ رئيسي حول المسائل الدفاعية، إلا أنها لا تنحصر هناك بطبيعة الحال، وتمتد إلى مجالات كالزراعة والطاقة والسياحة وتكنولوجيا المعلومات. وبالنسبة للقطاع الأخير، ومع الانتقال نحو اقتصادٍ ما بعد صناعي، فإن «إسرائيل» طوّرت أسطورتها حول هذا المجال، وغدت كما يُطلق عليها «أمةً ناشئة»، أو كما يُعرف المصطلح باللغة الإنكليزية (Start-up Nation)، معيدةً إنتاج أسطورتها كداوود الذي هزم جالوت، بالاستعانة بمصطلحات أكثر عصرية كما يبدو.

وفي 22 من أيلول الماضي، وقعت الدولتان مذكرات تفاهم جديدة تتيح التعاون بين ريادي الأعمال وشركات التقانة الناشئة في البلدين، مبررين ذلك بمكانة «إسرائيل»، بوصفها الدولة الأولى من حيث عدد الأعمال الناشئة نسبة لعدد الأفراد، والهند باعتبارها وجهة الابتكار الأولى في آسيا. دون أن ننسى أن الحديث عن التكنولوجيا اليوم، يمر بالضرورة بـ«الأمن الرقمي» وتقنيات المراقبة، كما يدلنا على ذلك ما قيل عن شراء الهند عام 2019 لبرنامج بيغاسوس، الذي تطوره شركة أسلحة رقمية إسرائيلية، وأتاح للحكومة الهندية مراقبة هواتف واتصالات أكثر من 121 مواطنًا ومحاميًا وناشطًا في مجال حقوق الإنسان. 

إن هذا التغير الذي طرأ على الهند إذن، من حيث البنية التحتية وشكل اقتصادها والإنفاق على الدفاع، لم يكن ليحدث دون تغير يماثله في الأيديولوجيا. فمع ظهور موجات الحكومات اليمينية في السنوات الأخيرة، وتعميم مصطلح «الشعبوي» عام 2016، عند انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، كانت الهند قد مضت بالفعل في هذا الاتجاه. ففي عام 2014، ربح ناريندرا مودي، مرشح حزب بهاراتيا جاناتا الانتخابات، وأصبح رئيس الوزراء الهندي. وبالنسبة للقضية الفلسطينية على الأقل، شكّل هذا التغير حدثًا مهمًا. 

عصر مودي

رغم أننا نستطيع تتبع لحظات فارقة، كزيارة آرئيل شارون للهند عام 2003، بوصفها أول زيارة رئيس وزراءٍ إسرائيلي إلى الهند بشكلٍ رسمي، إلا أن فصل استبعاد الصراع العربي-الإسرائيلي كموضوع من العلاقة بين الطرفين لم يحدث إلا في عهد مودي. ففي 2015، كانت الهند واحدة من بين خمس دول فقط امتنعت عن التصويت في مجلس حقوق الإنسان لتبني تقرير لجنة التحقيق الخاصة به حول العدوان على غزة، ما اعتبرته الحكومة الإسرائيلية نقطة تحول تاريخية في العلاقات بين البلدين، رغم أن الهند كانت في العام السابق قد صوتت لصالح العمل على التقرير، لينحصر الدور الهندي في دعم فلسطين بهيئات دولية محدودة، كـ«لجنة ممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف»، بالإضافة للتبرعات المالية لمنظمة الأونروا وبعض المرافق الأخرى، كثانوية جواهر لال نهرو للبنات. ومضت الهند في اتجاه الشراكات والتعاون الاستراتيجي مع «إسرائيل»، التي شكل مودي سابقة دبلوماسية حين زارها، دون أن يتبع ذلك بزيارة للأراضي الفلسطينية. 

خلال توليه منصب رئيس وزراء ولاية غوجارات، استقطب مودي الشركات الإسرائيلية، بانيًا علاقات ودية معها، قبل أن يطبق هذه السياسة على الصعيد القومي حين أصبح رئيس وزراء البلاد.

اقتصر برنامج مودي في حملته الأولى عام 2014، على وعودٍ مبهمة ومألوفة عن النمو والازدهار الرقمي ونقل الصناعات إلى الهند، حائزًا بذلك على ثقةٍ من الشرائح الأصغر سنًا وأبناء الطبقة الوسطى. إلا أن هذه الوعود البراقة ارتبطت برؤية محددة عن الهوية والشعب والآخر، وفي حالة مودي فإن النموذج كان مألوفًا؛ تركيب قومي يميني هوياتي للدولة، متضاد بشكلٍ أوضح هذه المرة مع أسسها وأفكار العلمانية والوحدة التي تحضر في الدستور وتختلف درجات تطبيقها أو تفسيرها بين حكومة وأخرى. ففي عام 2019، توّجت حكومة مودي هذا التوجه بتعديل قانون المواطنة، الذي أعطى المهاجرين من الدول المجاورة سبيلًا إلى نيل الجنسية الهندية بناءً على الخلفية الدينية، مفسحًا المجال أمام بناء دولة إثنية بالتزامن مع خطابٍ محرض استهدف المكون المسلم في الهند.  

تبدو السياستان الهندية والإسرائيلية متشابهتين بشكلٍ واضح، من حيث العودة إلى نقطة مفترضة في الماضي، عبر سياسات تنشد «النقاء» والحضور الطاغي لدينٍ أو عنصر باعتباره الحل لرسم حاضرٍ وتكوينه. وسمح هذا التقارب الأخير لمودي بالتعامل مع شكل دولة الاحتلال دون الاكتفاء بالإعجاب به عن بعد، إنما بالاعتماد على أسطورته بوصفها نموذجًا أو أمثولة. إن عامل التفضيل هذا، بالتزامن مع الظرف السياسي العالمي، هو ما دفع بالنزعة القومية الهندية المتطرّفة، أو الهندوتفا، إلى اعتبار النموذج الإسرائيلي الأقرب إليها لمحاكاته، بحيث يبدو صراع «إسرائيل» مع الدول العربية المحيطة بها مماثلًا لصراع الهند مع باكستان، ما يعني بذلك اللجوء إلى شكل الدولة القوية المعتمدة على ذاتها. 

إن النظر إلى القضية الفلسطينية صار اليوم يندرج ضمن مجموع الخلافات السياسية الهندية الداخلية، وهو ما يمكن ملاحظته من ردود الأفعال حيال الأحداث الأخيرة، فبينما يميل اليمين السياسي في الهند إلى تمتين وترسيخ هذه العلاقة، تبدي الأوساط اليسارية والليبرالية تخوفها وتحفظها من هذه العلاقة، لا لانحيازها فحسب، بل لكون انزياحٍ كهذا سيعكس نتائجه على السياسة الداخلية في الهند. يصف الصحفي الهندي سوكوماري موراليداران هذه العلاقة في مقالةٍ مكتوبة قبل تعديل قانون الجنسية، بتجاوزها لضوابط المساءلة والضغط الشعبي، مستغلةً أسس الأمن القومي التي تقوم عليها، ثم يقول إن خطر هذه العلاقة المزدهرة على الهند يكمن في المبادئ التي ستتزود بها الهند مع كل المعدات الإسرائيلية التي تستوردها، والتي خُصِصَت للاستعمال ضد شعبٍ وجيران محتلين، متسائلًا إن كانت هذه العلاقة ستخدم مصلحة الهند فعلًا في نهاية المطاف.

وإضافةً إلى التقارب طويل الأمد المبني على السياسات العامة، يمكن تتبع تفضيل مودي بناء علاقات مع «إسرائيل» بشكلٍ أكثر شخصانية. فخلال توليه منصب رئيس وزراء ولاية غوجارات، استقطب مودي الشركات الإسرائيلية، بانيًا علاقات ودية معها، قبل أن يطبق هذه السياسة على الصعيد القومي حين أصبح رئيس وزراء البلاد. كما حاول مودي بشكلٍ دائم إضفاء طابع الصداقة الشخصية على علاقته مع رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، الذي بادله الإشارات، كما حدث حين استقبله بشكلٍ شخصي في مطار بن غوريون (وهو امتيازٌ خُصِّص بالعادة للرؤساء الأمريكيين). 

أما بالنسبة للإسرائيليين، فإن هذا الود المتبادل مردّه سياسة تعتمد على الالتفات إلى الدول الآسيوية، فبعد اهتزازات شهدتها علاقة دولة الاحتلال بالولايات المتحدة خلال فترة رئاسة باراك أوباما، وخلافات مع بعض الدول الأوروبية فيما يتعلق بالسلام في الشرق الأوسط وقضايا كالاستيطان في الضفة الغربية، وتخوفات من حركات المقاطعة، عمد الاحتلال إلى «تقليل اعتماده على أسواق بحد ذاتها في غرب أوروبا»، كما صرّح نتنياهو حينها. إضافة إلى ذلك، لعب النمو الاقتصادي المتسارع في آسيا دورًا في لفت النظر إليها، ما أفسح لدولة الاحتلال فرصةً للتعاون الاقتصادي، وفسحةً دبلوماسية تجنبًا لأي حالة عزلة قد تعيشها البلاد. لذا، فإن هذا التوسّع والاتجاه نحو جنوب وشرق آسيا، يبدو خطوة مرحب بها ضمن السياسة الإسرائيلية، سواء عنى ذلك تغيير مواقف دولٍ مثل ماليزيا وبروني وإندونيسيا، أو مزيدًا من العلاقات المزدهرة مع الصين، الأمر الذي يقلق الولايات المتحدة الأمريكية.

عند هذا الحد، تتضح لنا أهمية اختيار نموذج الهند لدراسة تغير علاقتها بدولة الاحتلال، وهو تغير مرتبط بشكل رئيسي بكل العوامل المتشابكة التي ذكرناها في بداية المقال. فإذا كان توازن معين قد رسم علاقة الهند بفلسطين، مارًا بالسياسة الداخلية لدولة حديثة الاستقلال تطمح لبناء نفسها وبالمجال الحيوي المحيط بفلسطين والحامل لقضيتها، والمناخ السياسي العالمي، فإن عناصر هذا التوازن جميعها قد تغيرت. والواقع أنها لم تتغير فجأةً، بل يمكن تتبع آثارها منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حتى اليوم بكل نتائجها على حيواتنا. ولذا، سيكون من الطبيعي لأي جهدٍ يحاول تغيير هذا المشهد أن يشتبك مع جزئياته، دون الوقوع في فخ الاستسهال أو الخطابية، للوصول لفهمٍ أوسع لمحيطنا، والخروج بخطابات مضادة تأخذ خصوصية اليوم بكل متغيراته بعين الاعتبار.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية