قنبلة نووية، الولايات المتحدة

شمس صغيرة: الرعب النووي في الخطط الأمريكية

مشهد لانفجار تجريبي لقنبلة هيدروجينية، من العام 1952، تصوير أ ف ب

شمس صغيرة: الرعب النووي في الخطط الأمريكية

الجمعة 04 آذار 2022

(نشر هذا المقال في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس بالإنجليزية في 24 شباط 2022)

تحتاجُ اليورانيوم لصنع قنبلةٍ نوويّة، هذا الشقّ السّهل من الموضوع. واليورانيوم الخام متوفّر بكثرة، بيد أنّه ليس نافعًا في حالته الطبيعيّة. فمن أجل تصنيع قنبلة، يجب تخصيبُه لزيادة تكثيف نظير اليورانيوم 235. إنّ اليورانيوم المُستعمَل في تصنيع الأسلحة مخصّب بحوالي نسبة 90%، لكن يمكنك، عند الحاجة، أن تفعلَ ذلك عند مستوىً أقلّ، أي عند مستوى تخصيبٍ يصل إلى 50% أو في حدود ذلك. كما يمكن أن يمرر اليورانيوم بمفاعل نوويّ وتعاد معالجته للحصول على بلوتونيوم 239، وهي الطريقة المُرشّحة الأخرى لصناعة قنبلة نوويّة. والحال أنّ التخصيب ليس بالأمر السهل. لقد استهلكت محطّات الانتشار الغازيّ لمشروع مانهاتن [الذي أنتج أول قنبلة نووية]، في وقتٍ ما، نسبة تتراوح بين الـ5 إلى 10% من إجمالي الكهرباء المستخدمة في الولايات المتحدة الأميركيّة. إلّا أنّك في حال تمكّنت من الحصول على المواد القابلة للانشطار، فستستطيع صنع قنبلة. يعرف معظم الناس على الأرجح الخطوط العريضة للموضوع: يقتضي التفاعل النوويّ انشطار ذرّة بحيث يتصاعد منها عدد من النيوترونات التي، بدورها، تشطر ذرات أخرى بالقرب منها، وهكذا. تنتجُ القنبلة النوويّة تفاعلًا انشطاريًّا في كتلةٍ فوق-حرجةٍ من المواد النوويّة التي يحتويها غلاف لجعل التفاعل أكثر كفاءةً. يرفع الانفجار الأوّليّ حرارة النواة الانشطاريّة لملايين الدرجات المئويّة. وتتمدّد القنبلة لتخلق إمّا كرةً ناريّةً هائلةً أو شمسًا صغيرة، بناءً على الطريقة التي تنظرُ بها إليها. تنطلق هزّة أرضيّة باتجاه الخارج. ومع تصاعد الكرة الناريّة، يُمتصّ الهواء والغبار ليشكل عمودًا أسفلها، خالقةً بذلك سحابةً على شكل فطر. يقول مَن شهدوا على تجاربَ نوويّةٍ بأنّ الأمر يشبه كما لو أنّ الهواء يتمزّق إربًا. 

لقد كان السّلاح النوويّ المُستعمَل في هيروشيما بدائيًّا: ارتطمت ستّون كيلوغرامًا من اليورانيوم المُخصَّب ببعضها البعض. أمّا قنبلة ناجازاكي، فكانت من النّوع الأكثر تقدّمًا في انفجاريّتها، فقد احتوت فحسب على ستة كيلوغرامات من البلوتونيوم؛ أي ما يُقارب حجم الكرة الحديدية. بيد أنّ كافّة القنابل الانشطاريّة بدائيّة حين تُقارَن بالقنبلة النوويّة الحراريّة (أو الهيدروجينيّة) ذات العائد الذي يُحسَب بملايين لا آلاف الأطنان. إذ تتكوّن من قنبلةٍ انشطاريّة معزولة بالبوليسترين من جهاز اندماج ثان. [هذا الجهاز] الثانيّ بمثابة لُبّ المادّة الانشطاريّة المغلّفة، في هذه الأيام، بالنّظير الهيدروجينيّ دوتيريد الليثيوم. فحينما تُفجَّر المرحلة الأولى فإنّ الإشعاع المنبعث عن طريق الانفجار الانشطاريّ يُفضي إلى تفاعلٍ في النظائر الهيدروجينيّة في المرحلة الثانية. والحال أنّ كلتا المرحلتين يغذّي بعضهما بعضًا كزوجيْن من دمى الماتريوشكا ذاتيّة التغذية. 

إنّ القنابل النوويّة الحراريّة الكُبرى أقوى بألف مرّة من الأسلحة النوويّة الأولى. فالأسلحة النوويّة الأولى تدمّر بضعة أميال مربعة من المدينة، في حين أنّ الأخرى ستدمّر مئات الأميال. قُتِل الضحايا الأوائل عن طريق القوّة والحرارة الهائلة للموجة الانفجاريّة، إذ يتسبّب انحرافُها في ضغط الجسد البشريّ؛ ممّا يفضي إلى انسدادات في الأوعية الدمويّة في الشرايين وتهشّم الرئتين والقلب. وهناك بعدئذٍ الذبذبة الحراريّة التي تتسبّب في حدوث حروق سريعة على الجلد العاري. عدد كبير من الضحايا في هيروشيما وناجازاكي قتلوا بفعل الحرارة، فيما حُوصر عدد قليل تحت الأنقاض واحترقوا حتى الموت. وهناك أيضًا، بالإضافة إلى الحرارة والانفجار، الأشعة المؤيّنة؛ تخلق هذه الأشعة تشوّهات في ذرات الأفراد وتُغيّر من طبيعة الدّم ونخاع العظم وتُكسّر الكروموسومات وتُتلف الخلايا بشكلٍ لا رجعةٍ فيه. يعاني الضحايا من التقيؤ والترنُّحَ والهذيان. أمّا الآثار طويلة الأمد للإشعاع فلا يُعرف الكثير عنها، تعرّض سكّان جزر مارشال إلى إشعاع نوويّ في عام 1954، عانوا جرّاءه من «حروق-بيتا» في غضون 24 ساعة، كما جعلت التجارب النوويّة جزرهم مكانًا غير قابل للسّكنى.

يتمثل المصير الاعتياديّ للأسلحة الثوريّة في إبطال آثارها المُفزعة على نحو سريع، أو في كسر حدّتها على أقلّ تقدير، سواء أكان ذلك من خلال اختراع إجراءات مضادة أو من خلال امتلاك الجميع لها. غير أنّه كان من العسير التوصّل إلى دفاعاتٍ فعّالة ضدّ الأسلحة الناريّة النوويّة. بل على العكس من ذلك، ما حدث هو أنّ قوّتها قد أجبرت على استخدامها. لطالما كانت الحربُ تدميريّة بالنسبة إلى الخاسرين. كما إنّه أحيانًا ما تكون تدميريّة أيضًا للمنتصرين: إذ فقدَ الاتّحاد السوفييتيّ ما نسبته 13% من سكّانه في الحرب العالميّة الثانية. بيد أنّ النصر لم يكن يعني الإبادة حتى اختراع الأسلحة النوويّة، والمفارقة هي أن الأسلحة المدمّرة للمدن إنما جاءت في اللحظة التي غدا فيها معظم البشر من أبناء الحَضر.

لم تُستخدَم الأسلحة النوويّة في الحرب منذ عام 1945، إلّا أنّه كانت هناك الكثير من لحظات الخطر الداهم. فقد اختفت عام 1956 قاذفة من طراز B-47 فوق البحر الأبيض المتوسط وكان على متنها سلاحان نوويان، ولم يُعثر عليها قط. وفي عام 1960، أُطلقت أنظمة تحذير نوويّة أميركيّة مبكرة بالخطأ بسبب القمر. وحصلَ الأمر نفسه بسبب أسراب الإوز المهاجر. وفي عام 1966، تهشّمت طائرة من طراز B-52 في الهواء وأسقطت ثلاث قنابل نوويّة ناريّة على قريّةٍ إسبانيّة (ولم تنفجر نواة القنابل هذه). تلك هي الحوادث. أما الحالات التي بدا فيها أنّ الحرب النوويّة المقصودة وشيكة، فهي أكثر شهرة. كثيرًا ما تزعمُ الدّول التي لديها أسلحة نوويّة أنّ رئيس الدولة وحده، أو رئيس الحكومة، هو مَن يمكنه أن يأمرَ باستخدامها، لكن على أرض الواقع تدرك الدّول بأنّ هذا من شأنه أن يجعلها عُرضةً للخطر، فماذا لو أنّ القائد الوطني مات؟ لقد سمحت أغلب هذه الدول بنوع من التفويض؛ إذ يمكن في الحالات القصوى أن يأمر التابعون والقادة العسكريون بشنّ ضربات نوويّّة. 

كان كتاب فريد كابلان عام 1983 تحت عنوان سَحَرة هرمجدّون (The Wizards of Armageddon) مساهمةً قيمة في توصيف الاستراتيجيّة النوويّة الأميركيّة المبكرة. فقد انبهر المنظّرون العسكريّون الأميركيّون في الفترة التالية للحرب مباشرة بقوة ما أطلق عليه كابلان «السلاح المُطلق»، غير أنّهم رأوا فيه بالأساس تقدّمًا في تقنيات القصف الحارق الموجودة سلفًا. وقد وصّف برنارد برودي -وهو أكاديميّ في جامعة ييل ثم بعد ذلك في مؤسسة راند- تداعيات الأسلحة النووية عام 1946: حيث لا إمكان لوجود منتصرين بالمعنى المألوف للكلمة، وحيث الميزة تكمن في التهديد لا التنفيذ. وكل ما عليك أن تفعله، لردع الهجوم، هو أن تعلن أنك إذا تعرضت للحرب، فإنك سترد. وحينما تعلنُ دولة ما بأنها تحوز القدرة على تنفيذ ضربة ردًا على الضربة الأولى، فليس معقولًا في الأغلب أنها ستتعرّض لهجوم نووي أصلًا.

في عالم يمتلك أسلحة نووية، كان السؤال بالنسبة للولايات المتحدة الأميركيّة هو كيف يجب أن تواصل ممارستها لسلطتها العالمية من غوام إلى الكونغو؟

لقد خسرت الولايات المتحدة الأميركية احتكارها النووي عام 1949، بيد أنها بقيت أقوى دولة في العالم بفارق كبير. وكان الداخل الأميركي آمنًا للغاية بكل المقاييس. إلّا أن تطور التكنولوجيا النووية والصواريخ البالستيّة العابرة للقارّات كان بمثابة تحدٍ مُحتمل لهذا الوضع. لو كان أمن السكّان، أو الدّولة حتى، هو الشاغل الأساسيّ، لكان أمرًا منطقيًا أن تضغط الولايات المتحدة من أجل فرض قيود على الأسلحة المرتبطة بتكنولوجيا الأسلحة النوويّة. وهذا أمرٌ لم يؤخذ بعين الاعتبار على نحو جديّ قطّ. لقد فُجّر القنبلة الهيدروجينية الأوّلى على يد الولايات المتحدة في جزيرة إيلوجلاب السابقة في عام 1952. وأنشأ الاتحاد السوفييتيّ أوّل سلاح نوويّ ناريّ بعد ذلك بثلاث سنوات. وأصبح بإمكان القوى العظمى، بحلول الستينيّات، أن تطلقها باستخدام صواريخ تسير بسرعة 16,000 ميل في الساعة.

السؤال بالنسبة للولايات المتحدة الأميركيّة كان كالتالي: في عالمٍ يمتلك أسلحة نوويّة، كيف يجب أن تواصل ممارستها لسلطتها العالمية من غوام إلى الكونغو؟ لقد كان ضروريًا أن تحافظ على المحميات الإمبراطوريّة التي تشمل أوروبا الغربيّة. أثناء حكم آيزنهاور، كانت سياسة الولايات المتحدة الأميركيّة هي تهديد الاتحاد السوفييتي بردّ هائل بسبب الخلافات في محيط الكتلة السوفييتيّة. أعربت القيادة السياسيّة عمّا كان فعلًا سياسةً عسكريّة، فقد لخّص القائد الأميرال آرثر رادفورد التفكير في الدوائر العسكريّة الأميركيّة حينما وصّف الأسلحة النوويّة بأنّها «الذخيرة الأوليّة للحرب». والحال أنّ هيئة الأركان المشتركة قد شرعت بالفعل في وضع القوائم الأهداف التي شملت المُدن السوفييتيّة ومحطات الطاقة ومنشآت النفط.

كان كابلان مسؤولًا عن رفعة سمعة ويليام كوفمان، وهو استراتيجيّ مدنيّ نوويّ وناقد لـ«الردع الهائل». حاجج كوفمان، كرجل آخر من رجال مؤسسة راند ومستشار نافذ في وزارة الدفاع في الشؤون النوويّة، بأنّ التهديد بالردّ على اعتداء طفيف بحربٍ نوويّة هائلة هو بمثابة خداع فاشل. إذ تكبّل الولايات المتحدة الأميركيّة نفسها بالاختيار بين «الأهوال التي لا تُحصى للحرب الذريّة» وخسران برستيجها في حال كُشفت خدعتها. إذ إنّ الردّ النوويّ على عدوان غير نوويّ بعيد عن الوطن كان مثل «صيد عصفور بمدفع». وقد اقتضى الحفاظ على المكانة الإمبراطورية وشبه الإمبراطورية للولايات المتحدة الإبقاءَ على قوى عسكريّة تقليديّة وتحالفات في كلّ من ألمانيا وتايوان وكوريا الجنوبيّة.

كانت هناك طرقٌ أخرى لشنّ «حرب محدودة»، فقد دعم هنري كيسنجر عام 1957 فكرة الأسلحة النوويّة التكتيكيّة الأصغر. بينما فنّد كوفمان -وآخرون- حجته موضحًا أنّ استخدام الأسلحة النوويّة الأصغر فى أرض المعركة من شأنه أن يصعّد الأمور إلى اشتباك نوويّ كامل. إلّا أنّ هذا لم يكن كافيًا لمنع الجنرالات من نشر أسلحة نوويّة تكتيكيّة في أوروبا. وما يزالُ هناك قرابة مئة قنبلة نوويّة أميركيّّّة في قواعد دولٍ مثل ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا. وكان إلبريدج كولبي، وهو نائب مساعد وزير دفاع ترامب والمهندس لاستراتيجيّة الدفاع الوطنيّ عام 2018، أحد المناصرين لاستخدام أسلحة نوويّة تكتيكيّة في «النزاعات المسلحة المحتملة سواء مع الدول المتمردة الصغيرة ونظيراتها الكبرى». 

في الولايات المتحدة ، تضمّنت خطّة الحرب الطارئة (Plan 1-49) قائمة من سبعين مدينة ستُقذف بقنابل هيدروجينية بدءًا من موسكو وسانت بطرسبرغ إلى برلين وبوتسدام ووارسو ومعظم ما يعرف الآن باسم أوكرانيا وبيلاروسيا

وقد بلغَ الخوف من اندلاع حربٍ نوويّة شاملة ذروتَه في أواخر الخمسينيّات وأوائل الستينيّات، ولكنّنا نعلمُ اليوم أن تلك الفترة كانت حقبة الهيمنة النوويّة الأميركيّة الكاملة. في تلك الفترة، قدّرت الاستخبارات الأمريكية، مبالِغة، عدد الصواريخ البالستيّة السوفييتيّة العابرة للقارّات بعشرة أضعاف عددها (وهو ما يُسمّى بـ«الفجوة الصاروخيّة» الأسطوريّة)، كما بالغت بصورة كبيرة في تقدير عدد الرؤوس الحربيّة والقاذفات السوفييتيّة، وهي التي لا يمكنها، بحال من الأحوال، أن تبلغَ الولايات المتحدة دون إعادة التزوّد بالوقود في قواعد القطب الشماليّ المعرّضة للخطر. ولم يكن الاتحاد السوفييتيّ في واقع الحال وحتّى منتصف الستينيّات قادرًا على النجاة من هجومٍ نوويّ أميركيّ، كما لم يكن على ثقةٍ من قدرته على شنّ ضربة انتقاميّة. 

يجدر في هذا السياق أن نمعنَ النّظرَ في محاضرات هيرمان كان المجموعة في كتاب تحت عنوان «عن الحرب النوويّة الحرارية» عام 1966. اعتقد هيرمان بأنّ حربًا نوويّة ناريّة بين الولايات المتحدة الأميركيّة والاتحاد السوفييتيّ كانت وشيكة الحدوث. ومع ذلك، اختلف عن الآخرين محاججًا بأنّ الحرب النوويّة لا تعني بالضرورة التدمير المُتبادل: فبوضع خطّة حكيمة ومع إجراءات الدفاع المدنيّ الملائمة، بإمكان الولايات المتحدة أن تفوز في حرب كهذه. هل سيموت جراءها عشرون مليونًا أم مئة مليون؟ سيؤثر الجوابُ على تعافي ما بعد الحرب، إلّا أنّه ليس صحيحًا بالضرورة أنّ «الناجين سيحسدون الموتى». إنّ الشقّ الأكثر إحباطًا في حجّة هيرمان كان أنّ التسجيلات اللاحقة أوضحت أنّه لربّما كان على حقّ، ولو أنّه ليس للأسباب التي قدّمها هو. ففي عام 1960 لم يكن التدمير المُتبادل بالأمر المؤكَّد. إذ كان يمكن للولايات المتحدة أن تُدمّر المدنيّة الحَضريّة في الاتّحاد السوفييتيّ، ولا يصحّ العكس؛ حيث كان بإمكان الاتحاد السوفييتيّ أن يعتمد على أسلحته للانتقام من أوروبا الغربية، ولكن ليس من الولايات المتحدة.

تنطوي كلّ الاستراتيجيّات النوويّة على عنصرٍ من عناصر الجنون؛ هذا العنصر الذي بدا أنّ هيرمان يمثّله. جزء كبير من العلوم المتعلّقة بالردع النوويّ كان ولا يزال ضربًا من التبجّح والتهديد. لم يكن تحليل هيرمان على درجةٍ عاليةٍ من الجودة – حيث جلس متأمّلًا الحرب العالميّة الثامنة (1973)-، بيد أنه قدّم مساهمةً مفيدةً. لقد تصور تجربة فكريّة لـ«آلة قيامة»، أي جهاز يمكنه أن يدمّر سكّان العالم عن بكرة أبيهم إذا استُخدم أيّ سلاح نوويّ. ورغم أنّ هذا يعني ردعًا مثاليًا، فقد حاجج بأنّه، ولاحتمالية حصول خطأ ما، فإن إنشاء آلة كهذه إنما هو خطأ هائل.

لم يكن هيرمان على علمٍ بذلك آنذاك، ولكن كما أوضحَ دانييل إلسبيرغ لاحقًا، لم تكن «آلة القيامة» غير امتداد طفيف للتصاميم النوويّة الأميركيّة. وبينما كان مفكّرو مؤسّسة راند ينظّرون، استمرّ الجيش الأمريكي في وضع خطط حرب نوويّة فعليّة، وبقيت تفاصيل تلك الخطط سرّية حتى عن الرؤساء الأميركيين أنفسهم. فقد تضمّنت خطّة الحرب الطارئة للقيادة الجويّة الاستراتيجيّة Plan 1-49 قائمة من سبعين مدينة ستُقذف بقنابل هيدروجينية بدءًا من موسكو وسانت بطرسبرغ إلى برلين وبوتسدام ووارسو ومعظم ما يعرف الآن باسم أوكرانيا وبيلاروسيا. وأتمّ الجنرالات عام 1960 خطّة شاملة لهجوم الضربة الأولى، وتُعرف بالخطة العملياتيّة المتكاملة الأحاديّة أو باسم SIOP-62. وبحسبها، ستقوم الولايات المتحدة في حالة النزاع غير النوويّ مع الكُتلة السوفييتيّة، بإلقاء 3423 قنبلةً نوويّة على الأراضي السوفييتيّة وأوروبّا الشرقيّة والصّين، (وهي الخطّة التي من المُفترض أن يشارك فيها السّلاح الجويّ الملكيّ البريطانيّ RAF). وعلى إثر ذلك، كان من المقرّر أن تُدمّر كلّ مدينة في الاتحاد السوفييتيّ والصّين. كما كانت قوّة الأسلحة النوويّة المزمع استخدامها على موسكو وحدها أكبر أربعة آلاف مرّة من تلك التي استخدمت في هيروشيما. وتوقّع محلّلون عسكريّون مقتل 600 مليون شخص تقريبًا، 100 مليون منهم في أوروبا الغربيّة و100 مليون في الدّول المحايدة المجاورة للكتلة الصينيّة السوفييتيّة مثل أفغانستان والهند واليابان. وسيكون عسيرًا المحاجّة بأنّ هناك أيّ وثيقة تاريخيّة تنطوي على شرّ أعظم من هذا؛ فما من شيءٍ حتى في الأرشيف النازيّ يقارب شرًّا كهذا.

عام 1961، أُحضِرَ بعض مثقفي الدّفاع، ممّن أمضوا العقد السابق وهم يعملون على الاستراتيجيّة النوويّة، إلى إدارة كينيدي، حيث اختُبِرَت أفكارهم. اكتشفت الإدارة الجديدة -بفضل إلسبيرغ- خطة SIOP-62، وسعت إلى التحسين عليها. وتطوّرت الاستراتيجيّة النوويّة الأميركيّة في اتّجاه نظريّة «القوة المضادّة»، وبحسبها فالصواريخ والقذائف يجب أن تستهدف قوى العدوّ النوويّة لا المُدن. ربّما تبدو القوّة المضادّة منطقيّة حينما تُقارن بالتدمير الجنونيّ الطائش التي حبّذته الخطط السّابقة، إلّا أن المُقترح الجديد لم يكن أقلّ فتكًا وإماتةً، ففي حال فشلت المفاوضات التي من المُفترض أن تمشي بالتزامن مع الضّربات على منشآت الصّواريخ والمهابط الجويّة، فيجب أن يظلّ تدمير المدن مُهددًا به. وفوق ذلك، كثيرًا ما تكون المواقع العسكريّة على مقربةٍ من المدن. وبمجرّد أن حصل الاتحاد السوفييتيّ على قوات نوويّة قادرة على القيام بضربة ثانية، لاحت المخاطرة بتصعيد لا تمكن السيطرة عليه. لقد وفّرت القوّة المضادّة الأرضيّة المنطقيّة لسباق التسلُّح، وتنامت المخزونات النوويّة إلى حدّ يتجاوز كلّ اعتبار عمليّ. وحينما تكون هناك أعدادٌ طائلة من الأسلحة النوويّة؛ لا يعود من المهمّ إطلاقًا ما هي الأهداف الاسميّة المُستهدفة.

عام 1960 اقترح الجنرالات الأمريكيون الخطة SIOP-62، وتنص على أن الولايات المتحدة في حالة النزاع غير النوويّ مع الكُتلة السوفيتيّة، ستقوم بإلقاء 3423 قنبلةً نوويّة على الأراضي السوفيتيّة وأوروبّا الشرقيّة والصّين.

لم تصرّ النسخة المنقّحة من خطة SIOP-63 على التدمير الأوتوماتيكيّ للصّين ردًّا على مشاجرةٍ في أوروبا. بيد أنّها أيضًا كانت خطة من أجل الضربة الأولى. يتحدّث مؤرّخو [السلاح] النوويّ عن فترات متمايزة في الحقبة النوويّة، إلّا أنّ التحولات تكون إمّا طفيفة أو تحولات وهميّة. بقيت خطّة SIOP-63 عقيدةً رسميّةً حتى بواكير السبعينيّات من القرن العشرين. وعبثت الإدارات اللاحقة بوثائق الإرشاد النوويّ -وأضافت إدارة كارتر البيوت الريفيّة الصيفيّة للقادة السوفييت كأهدافٍ لها-، لكن الخطة الفعليّة كانت لا تزالُ تحت إمرة القيادة الجويّة الاستراتيجيّة. وقدّم السياسيّون تعليماتٍ حول كيف يجب أن تُشنّ الحرب النوويّة، وتجاهلها الجنرالات في أوماها. وفي حال نشوب أزمة، فسيُعطى الرئيس الأميركيّ ملفًا يُسمّى «الكتاب الأسود» يحتوي على أربعة أو خمسة خيارات للحرب النوويّة. وحتّى الخيار الأكثر تحفظًا ينطوي على مئات من الضربات. وستُضمَّنُ التفاصيل الكاملة -بما فيها الأسلحة التي ستُستخدم والأهداف التي ستقصَف- في «الكتاب الأزرق» الذي لم يُسمَح لأيّ رئيسٍ أو قائد مدنيّ بالاطلاع عليه حتى عام 1989. وتُعرَف آخر خطّة مكافئة لخطّة SIOP بخطة OPLAN 8010-12. ونحن لا نعلمُ شيئًا عمّا تنطوي عليه هذه الخطة، غير أنّ هناك تخمينًا في محلّه بأنّ فيها موادّ جديدة متعلّقة بالصين.

يُعدّ كتاب كابلان الجديد المسمّى «القنبلة» بمثابة تتمّة وتحديث لكتابه «تاريخ الحرب الباردة». بعد عام 1991 لم يعد مناسبًا الادّعاء بأنّ موسكو كانت منافسًا جادًا للسّلطة العالميّة الأميركيّة. بيد أنّ الصواريخ الأميركيّة لا تزالُ موجّهة ناحية المُدن الروسيّة والمصانع الغامضة والحقول النائية التي ربّما تكون مهابط جويّة مرتجلة. ومع ذلك، فعلى مدار العقد التالي، خُفّضَ المخزون النوويّ لكلّ من الولايات المتحدة وروسيا إلى النصف. وكانت معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة ساريةً منذ عام 1970، من أجل ثني الدّول اللانوويّة عن حيازة الأسلحة النوويّة، بيد أنّ القوى القائمة لم تفعل سوى التشدّق بالكلام حول نزع التسلح. كان بوسع الولايات المتحدة التركيز على الحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة بوصفه أداةً للسّلطة السياسيّة، لكنها كثيرًا ما فشلت في ذلك. فقد سعت إدارة كلينتون إلى كبح كوريا الشماليّة من حيازة القنبلة النوويّة، وفعلًا في 1994 بموجب الإطار المتّفق عليه نجحت في إعاقة برنامجها مؤقتًا. لكن بعد أن رفضت الولايات المتحدة أن تمول المفاعلات المدنية لكوريا الشمالية بموجب الضمانات الدوليّة، تعرّضت الاتفاقيّة للعرقلة، فانسحبت إدارة جورج دبليو بوش من الصفقة برمّتها. وحصلت بيونغ يانغ على سلاحها النوويّ الأوّل عام 2006. 

إن الترويج للحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة هو هوايةٌ محبّبة منتشرة عند المسؤولين الأميركيين المتقاعدين ممن لديهم الوقت والضمائر غير الناصعة. إذا كانت الولايات المتحدة ملتزمةً فعلًا بالحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة؛ فلا بدّ لها، على أقلّ تقدير، أن تعلنَ عن سياسة «عدم الاستخدام الأوّل» لترسانتها النوويّة العتيدة. فالاتحاد السوفييتيّ والصين والهند قدّموا، جميعهم، تعهدًا كهذا في الماضي (ولم تقدّم فرنسا ولا بريطانيا تعهدًا بذلك). ويحملُ كابلان رغبة أوباما المزعومة في «عالمٍ خالٍ من السّلاح النوويّ» على محمل الجدّ، بيد أنّ إدارة أوباما رفضت أن تعلن عن سياسة «عدم الاستخدام الأوّل». لقد طغى التزامها ببناء الجيل الجديد من أنظمة الأسلحة النوويّة الأميركيّة على نجاحها في المسائل النوويّة -مثل الاتفاق النوويّ الإيراني، ومعاهدة ستارت الجديدة لتخفيض الأسلحة مع روسيا والتي وُقعت عام 2010. وقريبًا، ستبدأ صواريخ «الردع الاستراتيجيّ الأرضيّ» الجديدة في الحلول مكان الصواريخ من نوع Minuteman III. وتحصلُ البحريّة الأميركيّة على رؤوس نوويّة حربيّة جديدة من فئة W93. وستمتلك القوّات الجويّة قاذفات شبح من طراز B-21 «صُمِّمَت لقهر الدفاعات الجويّة حتى للخصم المتقدمّ». كان أوباما، من نواح عديدة، بمثابة رئيس استمرارية شؤون الإدارة الإمبريالية.

لقد حاجج إلسبيرغ بأنّ كلّ رئيس أميركي قد استخدم الأسلحة النوويّة «بطريقة دقيقة مماثلة للطريقة التي تُستخدم بها البندقيّة عندما تصوّب إلى شخصٍ ما عند المواجهة، سواء أُسحِبَ الزناد أم لا». فقد هدّد آيزنهاور باستعمالها في الحرب الكوريّة وأيضًا ضدّ الصين. وشارف كينيدي على استخدامها أثناء الأزمة الكوبيّة. وهدّد نيكسون عام 1969 باستخدامها في فيتنام. وهدّد بوش العراق بـ«الانتقام النوويّ». ولا تعني حقيقة أنّ أيًّا من هذه التهديدات لم تُنفّذ فعليًا أنّها كانت تهديدات بلا معنى. فتهديد ترامب في 2017 بـ«التدمير الشامل لكوريا الشماليّة» بالنار والدم كان مثالًا متطرّفًا من الناحية الخطابيّة في مسيرةٍ حافلة. فقد وجّه آيزنهاور وفورد وكلينتون تهديدات مشابهة. وقد أطلقت الولايات المتحدة، ردًّا على التجارب الصاروخيّة لكوريا الشماليّة، صواريخَ تقليديّة لمرتين من كوريا الجنوبيّة في بحر اليابان. وانسحبت الولايات المتحدة عام 2019 من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى. كما قررت إدارة ترامب أن تحوز على مزيدٍ من الأسلحة النوويّة التكتيكيّة ذات النتائج المماثلة تمامًا لقنبلة هيروشيما. وكما يقول كابلان، فإنّّ نقاش الأسلحة النوويّة الأميركيّة يصفها على أنها رادعة، بيد أن «السياسة الأميركيّة دائمًا ما كانت هي صاحبة الضربة الاستباقيّة في المقام الأوّل». 

بعد عام 1991 لم يعد مناسبًا الادّعاء بأنّ موسكو كانت منافسًا جادًا للسّلطة العالميّة الأميركيّة. بيد أنّ الصواريخ الأميركيّة لا تزالُ موجّهة ناحية المدن الروسيّة.

غالبًا ما يقارب تحليل الاستراتيجية النووية من منظور واحدة من الدول المعنية، لكن من الممكن التعامل معها أيضًا من منظورٍ كوكبيّ. وُجِدت الأسلحة النووية منذ ثلاثة أرباع قرن، إلا أن هناك بضعة ضوابط دوليّة فقط، والأسلحة تبقى رهينة تقدير الدول التسع التي تمتلكها. فقط أربع دول، هي روسيا والصين والهند وباكستان، لديها ترسانات كبيرة في وضعية الاستخدام دون التشاور مع الولايات المتحدة. لقد انخفض العدد الإجمالي للرؤوس النووية منذ ثمانينيات القرن الماضي، غير أن أنظمة الدعم وآليات نقلها التي تعتمد عليها الحروب النووية أصبحت أكثر تطوّرًا. 

إنّ موازين القوى بين الدول النووية متقلبة. إذ سعت الولايات المتحدة على الدوام إلى التفوق النووي على بقية الدول، كما هددت باستخدام الأسلحة النووية باطراد مُبتذل. فهي لا تمتلك نزوعًا ثابتًا لمعاهدات الحدّ من الأسلحة كما تضمنت خططها الحربية أول ضربات إبادة جماعية. فقد اضمحلت القوى النووية الروسية خلال الفترة الممتدة بين تسعينيات القرن الماضي وبداية العقد الأول من الألفية الثالثة. كما أن غواصاتها المُسلّحة نوويًا لم تكن تقوم بدوريّات خلال جلّ هذه الفترة، لكنها استعادت خلال العقد الماضي بعضًا من عافيتها. إذ أبقت على العديد من الأسلحة النووية التكتيكية الأصغر، ويعزا ذلك في ظاهر الأمر لخوفها من غزوٍ بريّ من الغرب (وربما من الجنوب الشرقيّ). 

اعتمدت القوات النووية البريطانية، منذ الستينيات، على الصواريخ البالستية التي تطلق من الغواصات. تُستأجر تلك الصواريخ من أميركا وتُخزّن في قاعدة بحرية على ساحل جورجيا. وفي آذار 2021، التزمت المملكة المتحدة بزيادة مخزونها النووي بنسبة 40%، وهو الأمر الذي قلب أربعة عقودٍ من الانخفاض. ومواصلة للتقاليد البريطانية، مُرّر هذا القرار الاستراتيجي ضمن مراجعة حكومية متكاملة من 76 صفحة حول الأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية. لقد استبدلت بريطانيا غواصات فانغارد التي تمتلكها بأربع بوارج حربية ثقيلة، من المُقرّر أن تحصل عليها في أوائل 2030. كما طلبت الحكومة رؤوسًا حربية جديدة، والتي يجب أن تلتزم بشدة بالتصاميم الأميركيّة لتكون متوافقةً مع صواريخ ترايدنت التي تُطلق من الغواصات والدروع الجوية الخاصة بها. يروق للسياسيين البريطانيين الحديث عن «سلاحهم النووي الرادع المستقل» لكنه من الناحية العملية تابعٌ للقوة الأمريكية. إذ لا يوجد أي احتمال لاستخدامه إطلاقًا دون موافقة واشنطن. وكذلك هو حال أسلحة «إسرائيل» وفرنسا، بالرغم من إحجام قادتهم عن الظهور بمظهر الخانعين لأميركا. 

تعدّ الصين القوة النووية الحرارية الوحيدة التي تلتزم بسياسة عدم الاستخدام الأول. بالرغم من أن مخزونها أقلّ بكثيرٍ من مخزون الولايات المتحدة أو روسيا. فهي تمتلك ما يقارب من مئة صاروخٍ باليستي عابرٍ للقارات، والتي يمكن إخفاؤها وتغيير موضعها. لم يكن لدى الصين، لعقودٍ من الزمن، سوى عددٍ قليل من صوامع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، لكن صور الأقمار الصناعية تُظهر أنها الآن في طور إنشاء ما يزيد على مئتي صومعة في مقاطعتيْ جانسو وشينجيانغ. زاد هذا الاكتشاف التخوف من قدراتها النووية. إن وسائل الإعلام الناطقة بالإنجليزية مليئة بقصص تستعرض تطوراتٍ طفيفة بوصفها تقدمًا ثوريًا، إذ تصف التقنيات «فوق الصوتية» المدهشة وأنظمة «القصف المداري الجزئي» قديمة الطراز بأنها أسلحة جديدة مروّعة. كما صرّح الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، بأن الاختبار الصينيّ لهذه التقنيات يمثّل «لحظة سبوتنيك»، ومن المرجّح أن تكون تلك علامة على محاولة الصين مواكبة التقدم الأميركي في تقنيات الدفاع الصاروخي الباليستي. إن هذه الحتمية هي بمثابة تأكيد لقدرة قوتها النووية على الصمود في وجه الضربة الأولى. تمتلك الغواصات الصينية من فئة 094 المسلحة نوويًا قدرةً أكبر من الأجيال السابقة، وهناك بعض الجدل الدائر حول فيما إذا كانت في مأمنٍ بما يكفي لتجنب تعقبها، لكنها قد تشكل قريبًا، إلى جانب الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الأكثر تحصينًا، قوةً نووية يمكن الاعتماد عليها للنجاة من الضربة الأولى والانتقام. مما يعني أن الولايات المتحدة الأميركيّة لن يكون لها خيار شنّ هجومٍ شامل على الأراضي الصينية، حيث هددت بذلك عدة مراتٍ سابقًا. شهدت ستينيات القرن الماضي أخطر لحظة في الحرب الباردة، حين وجدت قوةٌ نووية عدوانية ومهيمنة نفسها في منافسة مع خصم لا يمتلك قوة نوويةً مكافئة، وبالتالي ربما تقترب أميركا والصين من الوصول إلى نقطة مماثلة. 

يروق للسياسيين البريطانيين الحديث عن «سلاحهم النووي الرادع المستقل» لكنه من الناحية العملية تابعٌ للقوة الأمريكية. إذ لا يوجد أي احتمال لاستخدامه إطلاقًا دون موافقة واشنطن

هناك اعتقادٌ سائد بأنه يمكن التوجه بالشكر للأسلحة النووية وذلك لأنه منذ 1945 لم تقم حرب شاملة بين القوى العظمى. يحاجج روبرت جيرفس من معهد دراسات الحرب والسلام في جامعة كولومبيا، والذي يعدّ من أبرز مؤيدي هذا الرأي، بأنه لم يعدّ من الممكن لمثل هذه الحروب أن تحدث إذا كان رجال الدولة عقلانيين. في المقابل، يشير كير آي ليبر وداريل بريس في كتابهما «أسطورة الثورة النووية» بأن هذه الادعاءات الكبيرة خاطئة. فبالفعل لم تحدث حروبٌ واسعة النطاق، ولكن من جميع النواحي الأخرى فإن السياسات الدولية مشابهة لعصر ما قبل الطاقة النووية. حيث نجد أن الدول التي تمتلك سلاحًا نوويًا لا تتصرف كما لو أنها محصنةٌ ضد أي هجومٍ خارجي، وما تزال تنخرط ضمن حملات حروبٍ متهورةٍ وتتعارك أحيانًا مع بعضها. إن الحجة الأساسية التي يقدمها لبير وبريس تتمثل بأن هذا ليس مجرّد إرثٍ لسلوك قديم وإنما نتيجة لطبيعة الأسلحة النووية. 

الأسلحة النووية فتاكة للغاية بالنسبة لمعظم السيناريوهات: وبعبارة إدوارد لوتواك غير المنمقة، فإنها «تتجاوز نقطة الذروة في المنفعة العسكرية». تكمن المنفعة الوحيدة التي تتمتع بها الدول التي تمتلكها في الحماية من أي غزو لأراضيها. لكن الجيوش التقليدية ما زالت مطلوبة. يعرض ليبر وبريس بأن الجمود بين القوى النووية لا يحدث تلقائيًا. فهو يتطلب جهدًا للبناء والمحافظة على قوة نووية يمكنها الصمود في وجه الضربة الأولى والردّ عليها. وبمجرد وصول الدول إلى الجمود مع قوات الضربة الثانية -الاتحاد السوفييتي في السينيات، والصين الآن- ينبغي عليها مراقبة خصومها بحثًا عن علامات اختراق تكنولوجي قد تسمح بشن هجوم من شأنه نزع سلاحها. 

لقد صعبّت تطورات تكنولوجيا الأسلحة حمايةَ القوى النوويّة. حيث أصبح من السهل العثور على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات وكذلك تدمير الصوامع. الصواريخ الباليستية -وبالأخص تلك التي تُطلق من الغواصات- أكثر دقة مما كانت عليه في نهاية الحرب الباردة، وتوفر «الصمامات الفائقة» مزيدًا من التحكم في تفجير رؤوسها الحربية. يعتقد ليبر وبريس بأن ضربة تطلق من الغواصات الأمريكية تجاه صوامع الصواريخ الباليستية سيزيد معدّل دقتها التدميرية عن 96%. يتبنى الكاتبان وجهة النظر الأمريكية التقليدية عن كون الولايات المتحدة قوة حميدة، لكن تطبيقات حجتهما واضحة. فإلى أي مدى يمكن لنا أن نكون على ثقةٍ من أنّ فجوة السبعين عامًا ليست مجرّد تهدئة؟ 

ينطوي كتاب أسطورة الثورة النوويّة على إغفال فاضح. فمنذ أوّل مرة فجّرت فيها قنبلة هيدروجينية، دار الكثير من النقاشات حول الآثار المناخيّة للحرب النوويّة. تمثّل الخوف الأساسيّ في «الشّتاء النوويّ»؛ أي فكرة أنّ العواصف الناريّة سوف ينبعث منها الكربون الأسود إلى الغلاف الجويّ بما يكفي لأن يتسبب في حدوث انخفاض عالميّ في درجات الحرارة وفشل كامل في المحاصيل وحصول مجاعة. وقد قوبلت هذه الفرضيّة بالرفض في الماضي، غير أنّ الباحثين الأميركيين قد أصرّوا عليها وتمسكّوا بها، من أمثال آلان روبوك وبريان تون وآخرين في المركز الوطنيّ لأبحاث الغلاف الجوي في كولورادو. الفرضيّة موضع خلاف؛ بيد أنّ الدمّار المزمع خطير إلى درجة أنّّه سيكون غباءً أن نتجاهله. إنّ المخاطرة بكارثة مناخيّة، كما هلاك مئات الملايين على الفور، يجب أن توضع في الاعتبار بعناية عند أيّ مناقشةٍ لمخاطر الأسلحة النوويّة. ومع ذلك كلّه، فلم يشر صاحبا الكتاب إلى ذلك البتّة.

قدّم مجلس الاستخبارات الوطنيّ الأمريكي في آذار الماضي أحدث تقرير له عن «التوجّهات العالميّة» للرئيس بايدن. اشتملَ التقرير على حكمٍ بأنّ استخدام الأسلحة النوويّة «مرجّح أكثر من ذي قبل في هذه البيئة الجيوسياسيّة التنافسيّة». لقد سقطت الجهود المبذولة لإيجاد دورٍ للأسلحة النوويّة في الصراع عند أقدام قاعدة إدوارد لوتواك. بيد أنّ الخطر لا يكمن فقط في الاستعمال المتعمّد. فالاستراتيجيّون النوويّون يبخّسون، بشكل نسقيّ، من فرص وقوع حادثٍ نوويّ، فلا مكان له داخل منطق الاستراتيجيّة. غير أنّ هناك الكثير من لحظات الخطر الداهم بحيث لا يمكن إغفال الاستخدام العرضيّ لها من الحسبان. ما هو على المحك قد يكون استئصالًا للجنس البشري، بيد البشر.

حاججَ ليبر وبريس بأنّ الأسلحة النوويّة جعلت من العالم «مكانًا أفضل»، وأنّ إلغاء الأسلحة النوويّة سيقود إلى المزيد من الحروب التقليديّة. إلّا أنّ الافتراض القائم على أنّ الأسلحة النوويّة ستمنع نشوب الحروب الكبيرة إلى أمد طويل هو افتراض يقوم على تفاؤل لا مبرر له. الحجّة الأقوى ضد إلغاء الأسلحة النوويّة هي حجّة عمليّة، إذ يمكن إبطال الأسلحة النوويّة، لكن لا يمكن ذلك على القدرة النوويّة: فاحتياجنا من الطاقة لا يسمح بذلك. وبما أنّك تتمتّع بهذه المقدرة، فيمكنك دائمًا أن تعيد تعبئة المخازن. وحينما تكون القاعدة الوحيدة هي قاعدة القوّة، فستكون الاتفاقات بين الدول دائمًا مشروطة. لقد طُرحت وقدّمت حلول لهذه المشكلات، وما المعاهدات الجديدة، مثل معاهدة حظر الأسلحة النوويّة التي وقّعت عليها كثيرٌ من الدّول غير النوويّة، سوى سبيل لذلك. وهناك أيضًا سبيل آخر متمثل في إعادة صياغة متعلقة بالوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة (IAEA) أو في وضع مرافق الوقود تحت المراقبة الدوليّة. بيد أنّ مقترحاتٍ كهذه نادرًا ما تفي بالحاجة. عوضًا عن ذلك، فالمخزونات آخذةٌ في الازدياد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية