شبه الجزيرة الأنجلو-عربية: بريطانيا في الخليج

الإثنين 01 تشرين الثاني 2021
تصميم دعاء علي

منذ سحب الولايات المتحدة قواتها العسكرية من أفغانستان، ومع تصاعد المواجهة مع الصين كأولوية للسياسة الخارجية الأمريكية، تزايد الحديث عمّا يسمى الانسحاب الأمريكي من منطقتنا، وبُنيت على هذه الفرضية قراءات سياسية واستراتيجية متعددة. لكن النظر إلى الامتدادات التاريخية للحضور الغربي عمومًا في المنطقة يقدم صورة مختلفة؛ صورة عن علاقة أعمق تربط القوى الغربية بالأنظمة الحاكمة في منطقتنا، وخاصة في دول الخليج، لا يمكن مقاربتها بأدوات السياسة الخارجية فحسب، ولا يبدو أنها تتغير بتغير عناوين هذه السياسة كذلك. 

عبر تناول العلاقة الخليجية البريطانية تحديدًا، يحاول كتاب «شبه الجزيرة الأنجلو-عربية: لماذا تهتم بريطانيا بالثروة الخليجية»[1] تقديم فهم أوضح، ليس للأبعاد التاريخية والمعاصرة لهذه العلاقة فحسب، بل للعلاقة مع بريطانيا كجزء من كل، أي كتعبير عن مجمل العلاقة الكلية التي تربط دول الخليج بالقوى الغربية، وتبدلها وتحولاتها التاريخية. وهو ما يقود إلى شرح موقع الخليج وتأثير ثرواته في نمط الرأسمالية العالمي تحت هيمنة الولايات المتحدة.

يقدم الكاتب ديفيد ويرينغ، الحاصل على الدكتوراه في العلاقات البريطانية الخليجية من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن (ساوس)، تشريحًا مفصلًا لحزمة العلاقات المادية التي ربطت الخليج العربي بالمملكة المتحدة، ضمن إطار مفاهيمي منطلق من طبيعة الاقتصاد السياسي العالمي. فيحاول فهم دور بريطانيا، في مراحلها الإمبراطورية وبعد ضمورها، في آلية عمل شبكات المصالح الاستعمارية والرأسمالية على مستوى الكوكب، وانعكاس ذلك على توظيف نخب الخليج ضمن هذا الدور.

أكثر من مدن ملح

كثيرًا ما يُختزل تاريخ دول الخليج على نحو كسول بالاستكشافات النفطية. فرغم أن النفط بطبيعة الحال جزء محوري من التشكيل التاريخي للخليج، لكنه لا يشكل بداية هذا التاريخ ولا نهايته. فحتى وسم «مدن الملح» الشهير الذي أطلقه الروائي العربي عبد الرحمن منيف على هذه الدول، باعتبارها بتعبيره «لم تظهر نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، وإنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة» أدى فيها النفط إلى «قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد»، لا يغني عن شرح هذه التحولات. فهذه الحالة «البالونية» لا تقتضي انفجارًا ينهي وجود هذه المجتمعات ودور بنى الحكم فيها، بقدر ما هو تبدل ونهاية شكل من أشكالها التاريخية ضمن الدور الذي ترسمه العلاقة بشبكات المصالح الاستعمارية التي شكلت منطقتنا، من علاقات المجتمعات ببعضها إلى صيغة الدول وأشكال خرائطها وأسمائها. 

من هنا، يضع الاستقصاء الذي يقدمه ويرينغ في هذا النص الدور الذي لعبه النفط ضمن حجمه وسياقه الزمني، وسط هذه الشبكة من المصالح الاستعمارية. إذ يرسم خريطة تستعرض هذه الشبكات على مدار قرنين، مقسمًا هذه الحقبة الزمنية إلى ثلاث مراحل رئيسة: الأولى من القرن الثامن عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي تمثلت بالسطوة الإمبريالية البريطانية المباشرة على الخليج. حيث اختلقت بريطانيا نخبًا تعمل لصالحها وتوفر لهم الحماية، سواء ضمن عملية تأمين مصالحها في شبه القارة الهندية فيما يطلق عليه «درة التاج البريطاني» وربطها مع أوروبا، أو من خلال تأمين الحصص النفطية المكتشفة حديثًا بدايات القرن العشرين. وتمتد المرحلة الثانية من بداية الحرب الباردة وحتى عام 1971، وهي المرحلة التي شهدت ضمورًا إمبراطوريًا تزامنَ وتفاعل مع انحدار بريطانيا الاقتصادي وبروز الولايات المتحدة وظهور الحركات القومية في المنطقة. لتكون المرحلة الثالثة والممتدة حتى اليوم تحت عنوان تكيف المملكة المتحدة مع انكماش قوتها السابقة عبر ضمان مصالحها الصناعية والمالية مستفيدة من الثروة الهائلة في الخليج بعد الطفرات النفطية. 

كوّنت هذه الثروة بمختلف تمظهراتها المحدد الرئيس لطبيعة العلاقة المستمرة حتى اليوم بين الخليج وبريطانيا، والتي يسميها الكاتب الاعتماد المتبادل غير المتكافئ (asymmetric interdependence)، مبينًا أن شكل العلاقة التي ربطت القوى الاستعمارية كفرنسا وبريطانيا بمجتمعاتنا في مراحل ما قبل الاستقلال وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين تمحورت حول عملية نقل المواد الخام وفائض القيمة الرأسمالي إلى الغرب، في ظل الحماية والدعم الاستعماري المباشر للنخب المحلية، وقمع أي تطلعات شعبية تهدد سير عمل منظومة المصالح تلك. بيد أن طبيعة العلاقة اليوم وفي ظل الهيمنة الأمريكية قد اختلفت تحديدًا في حالة دول الخليج، فهذه الدول اليوم مستقلة وذات سيادة، إلا أنها في حاجة تبادلية مع حلفائها في الشمال العالمي وإن كانت كفة القوة تميل للأخير عبر مظلة الهيمنة. 

اعتماد الحرب العالمية الثانية الكبير على الأسلحة الآلية جعل منطقة الخليج تلعب دورًا محوريًا في إمدادات الطاقة، خصوصًا المملكة العربية السعودية.

يشرح ويرينغ هذه العلاقة المتبادلة بين الخليج والمملكة المتحدة بشكل يفصّل صيرورة التراكم الرأسمالي في لندن وما تحصل دول الخليج في مقابله. اليوم، لم تعد بريطانيا بحاجة مباشرة لإمدادات الطاقة من الخليج وبدرجة أولى للنفط، حيث أن مجمل الصادرات النفطية الخليجية تصب في الأسواق الشرقية (الصين والهند). إلا أن المصالح البريطانية هنا تتعلق بحاجة السوق الرأسمالي بإطاره العالمي لاستمرار إمدادات الطاقة بشكل يضمن الهيمنة الأمريكية، التي تقتضي المصالح الإنجليزية الحفاظ على ديمومتها. حيث أن الاستراتيجية الأساس للمملكة المتحدة في مرحلة ما بعد أفول الإمبراطورية البريطانية هي في تمكين وتقوية دعائم مصالحها في ظل نظام عالمي رأسمالي تقوده الولايات المتحدة. مصطدمةً بعدم مقدرتها على منافسة أو مجاراة المكاسب الإمبريالية الأمريكية حول العالم، ارتأت لندن العمل من ضمن وخلال مصالح الأمريكيين والتنافس مع غيرها من القوى الغربية في التموضع كقوة دولية ثانية تتلو واشنطن، وهذا الذي تجلى بشكل واضح إبان احتلال العراق، أو حتى في الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي رأته النخبة الحاكمة الإنجليزية كمكبل لطموحاتها وحجمها.

تتجسد المصلحة البريطانية فيما يتعلق بالنفط في أن مسألة السيطرة على موارد الطاقة في الخليج تشكل قيمة جيوسياسية أساسية لميزان القوى الأمريكي على المستوى العالمي، خصوصًا أن للشركات النفطية الغربية وخصوصًا البريطانية كـ«شيل» و«برتيش بتروليوم» مصلحة تجارية مباشرة في آلية التنقيب والإنتاج النفطي في الخليج في ظل احتكار التكنولوجيا العلمية الحديثة. 

وتلعب الريوع النفطية على هيئة البترودولار دورًا رئيسيًا ضمن شبكة العلاقات المادية، حيث تتم إعادة تدويرها في بورصة لندن التي تشكل الوجهة المفضلة لرؤوس الأموال الخليجية كما يبين الكاتب، وبأشكال تتنوع من علاقات تجارية واستثمارات، وبشكل أساسي عبر صفقات الأسلحة. فبالإضافة إلى المنفعة المالية المباشرة منها، تشكل هذه الصفقات شريان حياة لرفد الصناعات العسكرية البريطانية بشكل يساهم في الحفاظ على إسقاط القوة (projection of power) لدى الجيش البريطاني وعلى مكانة المملكة المتحدة كإحدى القوى العسكرية الدولية.

أفول الإمبراطورية، استمرار الإمبريالية

يرى المؤلف أنه لا يمكن فهم علاقة بريطانيا بالممالك الخليجية بعيدًا عن كونها نتاجًا لصيرورة عمرها مئتا عام، فطبيعة العلاقة التي نشهدها اليوم وتحديدًا مع أفول الإمبراطورية البريطانية ليست سوى تمظهر لذلك التراكم التاريخي. وعلى ذات الصعيد، فإن شكل الرأسمالية العالمية تبدل وكذلك طبيعة ومكانة بريطانيا فيها، حيث انحدرت المكانة الإنجليزية سواء نسبيًا أو على المستوى المطلق، وعليه، حصلت هنالك نقلة في طبيعة علاقات البريطانيين مع كل من خصومهم وحلفائهم. 

عبر مسح تاريخي، يعود الكاتب بنا إلى أول عمليات إلحاق الخليج ضمن حزمة شبكات المصالح الاستعمارية البريطانية عام 1798. حين اكتسب الخليج أهميته للبريطانيين كردة فعل على احتلال نابليون لمصر، حيث شكل تموقع قوة غربية معادية في الأفق الغربي لشبه القارة الهندية تهديدًا لبريطانيا استدعى توقيع أول معاهدة مع سلطان عمان في ذات العام، بشكل صمم لمنع وصول البحرية الفرنسية لمياه الخليج، وبناء عليه كُلفت السلطات البريطانية في الهند بعملية تأمين مياه الخليج. وتبعت هذه المعاهدة سلسلة من المعاهدات الأخرى مع مختلف حكام الخليج على امتداد القرن التاسع عشر وصولًا لعام 1914، تحت مظلة هدف أساس هو خلق طوق أمني يحيط بالهند.

إلا أنه وفي هذا العام تحديدًا، بدأ تصاعد الأهمية الاستراتيجية للنفط في الخليج، وتحديدًا في ضفته الإيرانية، مع قرار ونستن تشرشل استبدال الفحم بالنفط كوقود للبحرية الملكية، كمؤشر على لعب النفط دورًا محوريًا خلال الحرب العالمية الأولى. وبذا، بدأ النفط يشكل في نظر مختلف القوى الغربية رصيدًا استراتيجيًا بالغ الأهمية. 

حين نتحدث عن تبعية دولة ما للغرب، فنحن نتحدث عن علاقة مركبة تحكمها ضوابط ومجال للمناورة ومساحة من الاستقلالية، إلا أن المفصل الحاكم فيها هو ميزان القوى القاهر للغرب.

من هنا، بدأت ترتسم معالم عصر النفط خليجيًا. فاعتماد الحرب العالمية الثانية الكبير على الأسلحة الآلية جعل منطقة الخليج تلعب دورًا محوريًا في إمدادات الطاقة، خصوصًا المملكة العربية السعودية والتي وقعت عام 1915 معاهدة شبيهة بباقي حكام الخليج مع البريطانيين، تبعها بقرابة العقد اتفاق آخر عام 1927 عرف بمعاهدة جدة، تعترف فيها بريطانيا بالاستقلال الكامل لمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها. ثم أضيف على هذه المعاهدة الدعم العسكري البريطاني لقوات الملك عبد العزيز، الذي شمل دعمًا جويًا كان حاسمًا في ترجيح كفة هذه القوات كما يبين الكاتب. حيث إن إقصاء قوات ابن سعود للهاشميين أكسبها إطلالة على البحر الأحمر الذي يعتبر أحد أهم الطرق الواصلة بين أوروبا والهند. كما أن الموقع الجغرافي لحقول النفط السعودية التي تقع جنوب نظيراتها الإيرانية والعراقية مما يجعل مسألة الدفاع عنها أمام تهديد قوات الحلفاء أمرًا أكثر سهولة. 

تكمن أهمية حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي يستعرضها الكاتب في أكثر من جانب. فهي من جهة أوج الاكتشافات النفطية ومن ثمة الطفرات الاقتصادية، وبشكل متوازٍ هي فترة ضمور الإمبراطورية البريطانية وتدحرجها إلى ظلال القوة الأمريكية الصاعدة. هذه التقاطعات شكلت مرحلة مفصلية من تاريخ الخليج، في ظل تبدل في موازين القوى العالمية، وإن كان التغيير من داخل المعسكر الغربي. وعليه، كان على حكام الخليج من جهة تأمين موقعهم ضمن عملية التبدل هذه، وهذا ما يعيد مريدو المملكة العربية السعودية ترويجه بأن الملك عبد العزيز ارتأى بحذاقة ومنذ الأربعينيات ربط مصالحه مع الأمريكيين خصوصًا في مسألة التنقيب عن النفط.

من جهة أخرى، كان على لندن ضمان استمرارية مصالحها الإمبريالية في الخليج، وبالتحديد تلك المتعلقة بالنفط وارتباطه بالجنيه الإسترليني، وسطوة الشركات النفطية البريطانية على الموارد النفطية الخليجية التي كانت تتداول بالجنيه، بشكل يمثل عصب حياة لميزان المدفوعات البريطاني، خصوصًا خلال الخمسينيات والأزمة المالية في الستينيات. 

أمّا بالنسبة للأمريكيين، فقد كان الوجود البريطاني في الخليج مهمًا من ناحية تقسيم المهام الإمبريالية في المنطقة. إلا أن التكلفة الاقتصادية لاستمرار البقاء المباشر للقوات البريطانية كانت عالية بشكل حتّم عملية الانسحاب، وهو ما استدعى ردات فعل وفزعٍ سعودي وأمريكي. إلا أن هذا الفزع لم يغير من واقع ضمور الدور البريطاني العالمي، الأمر الذي أجبر لندن على تغيير نمط علاقتها بالخليج عبر إعلان «استقلال» مختلف الأقطار الخليجية عام 1971، لتقوم بتأمين مصالحها عن طريق إنشاء قوات عسكرية وجيوش محلية عبر التدريب والمستشارين، وعلى وجه الخصوص صفقات الأسلحة خلال الثمانينيات أي مع التغييرات البنيوية التي قامت بها مارغريت ثاتشر من سياسات نيوليبرالية حجمت من دور الصناعات البريطانية مقابل صعود أهمية بورصة لندن.

عصر النيوليبرالية: علاقة الثروة الخليجية بالرأسمالية البريطانية

يتكرر عادة الحديث الفضفاض عن الأهمية الاستراتيجية المعاصرة لدول الخليج من المنظور الغربي دون الخوض في التفاصيل المادية لهذه العلاقة. وهذا تحديدًا ما يفصله الكتاب، وبالتحديد الأهمية التي توليها لندن لهذه البقعة من العالم، وعلى الطرف المقابل أيضًا أهمية الرأسمالية البريطانية للطبقة الحاكمة في الخليج من أجل الحفاظ على ملكها. ففي حين يسود الحديث عن دور النفط كمصدر للطاقة وتحديدًا من بعد نهاية الحرب الباردة، فإن السرد التاريخي الذي يستعرضه الكتاب يستخلص انتهاء نموذج علاقة المنتج والمستهلك بين الطرفين، لعوامل متعددة ومختلفة زمنيًا من اكتشافات النفط في بحر الشمال، وصولًا إلى تحولات نمط استهلاك الطاقة. فعلى نقيض للنفط، لا يزال الغاز القطري يلعب دورًا في تشكيلة مصادر الطاقة التي تعتمد عليها المملكة المتحدة. 

بيد أن الأهمية المستمرة إلى اليوم تتركز حول المنفعة التجارية لكل من «بريتيش بتروليوم» و«شيل» كشركات تريد حصة من رؤوس الأموال المتراكمة لدى الشركات الغربية في عملية الإنتاج النفطي في الخليج. ويستذكر الكاتب هنا حادثة تعود إلى عام 2012، حيث استغل الإماراتيون هذه الحاجة التجارية للشركات البريطانية عبر محاولة إنهاء عقود لشركة «بريتيش بتروليوم» كردة فعل على الدعم والتسهيلات التي يقدمها الإنجليز لحركات الإخوان المسلمين. هذه الحادثة بالتحديد مهمة لفهم طبيعة العلاقة الدولية اليوم بين دول الجنوب، أسيرة الهيمنة الغربية، مع دول المركز الرأسمالي. فحين نتحدث عن تبعية دولة ما للغرب، فنحن نتحدث عن علاقة مركبة تحكمها ضوابط ومجال للمناورة ومساحة من الاستقلالية، إلا أن المفصل الحاكم فيها هو ميزان القوى القاهر للغرب. ويأتي شكل هذه العلاقة كنتيجة تاريخية لعدم جدوى استمرار علاقة العبودية المباشرة والفجّة للاستعمار، بما له من آثار سلبية على استمرارية عملية النهب والاستغلال، ليتخذ الاستعمار آلية جديدة أكثر تعقيدًا، يصعب على جماهير البلد الذي يرزح تحت وطأتها رؤيتها واستيعابها. 

لعب البترودولار الخليجي دورًا أساسيًا في تشكيل نمط الرأسمالية العالمي الحالي المتمحور حول الاستثمارات والقطاعات البنكية، حيث نشهد تدفق رؤوس الأموال من الجنوب إلى الشمال العالمي وليس العكس.

في الحقيقة، إن تتبع العلاقة التي تحكم آلية التراكم الرأسمالي في لندن وعملية مراكمة وتنظيم الموارد في الخليج وتحديدًا بعد الطفرة النفطية ومنذ الثمانينيات كشفَ عن ترابط بنيوي فاق تصوري المسبق. فالأواصر بين عملية بناء الرأسمالية الخليجية وعصر النيوليبرالية البريطانية لا تحتمل الانعتاق عن بعضها، ولم يكن شكل الاقتصاد في البقعتين هو ذاته لولا هذه العلاقة، فيما يسميه ويرينغ توافقًا مثاليًا (A perfect fit).

يوضح ويرينغ كيف أن الرأسمالية البريطانية لم تتطور تاريخيًا بعوامل مؤطرة بحدود المملكة المتحدة، بل إن العامل الإمبريالي من تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي الى نهب الهند شكلتا الديناميات الأساس في عملية التراكم التي أفضت لهذا الشكل من الرأسمالية الإنجليزية. ويضيف على ذلك، الاستغلال الذي حصل في منطقة الخليج عبر إلحاقه ونخبه المحلية بالاقتصاد العالمي. 

يحدد الكاتب البريطاني هنا على وجه الخصوص الطفرات النفطية التي شكلت نواة تضخم الدول الخليجية وأجهزتها البيروقراطية وعليه أيضًا الرأسمالية الخليجية. حيث أن هذه الطفرة النفطية الأولى أفضت الى تطور البنية الاقتصادية الخليجية بشكل متكامل ومتفاعل مع التغيرات النيوليبرالية. هنا، كانت لرؤوس الأموال البترودولارية الخليجية دور رئيس في تمكين هذه التغيرات في بريطانيا، عبر ضخ الأموال وإعادة تدويرها في البنوك الإنجليزية، سواء عبر الصادرات والاستثمارات أو عبر صفقات الأسلحة وأبرزها صفقات «اليمامة».

أما الطفرة الثانية خلال الألفية، فقد أدخلت الصناديق السيادية الخليجية للمعادلة عبر استثمارها المباشر في السوق المالية العالمية ومنها لندن. فالبترودولار الخليجي لعب دورًا أساسيًا في تشكيل نمط الرأسمالية العالمي الحالي المتمحور حول الاستثمارات والقطاعات البنكية، حيث نشهد تدفق رؤوس الأموال من الجنوب إلى الشمال العالمي وليس العكس. لم نعد هنا نتحدث عن آلية انتقال ريوع إمبريالية ومواد خام من آسيا وإفريقيا إلى أوروبا كما كان الأمر خلال الحقبة ما بين القرن الثامن عشر إلى منتصف العشرين، بل أن الآلية هنا تتخذ شكلًا أكثر طواعية، تتقاطع فيه مصالح الطبقات الحاكمة في الخليج مع الطبقات الرأسمالية الأوروبية، وهذا تحديدًا ما يوصلنا الى البعد السياسي لهذه العلاقة الاقتصادية وتفاصيلها.

إن الموجّه العام لسير عملية الاستثمار هذه سياسي، وهذا ما يعكسه زمان ومكان كل صفقة، سواء الاستثمارات المالية أو التجارية أو العسكرية، وهو ما ينجح الكتاب بتتبعه ببراعة. فمثلًا، وفي أوج الاحتجاجات العربية عام 2011، قامت كل من الإمارات وقطر والسعودية بجولات مكثفة لدفع الشركات البريطانية في شمال شرق إنجلترا للقيام بجولات تروّج لفرص استثمارية في الخليج. والغاية الأساس من هذه الجولات هو توطيد العلاقة الاقتصادية بالمملكة المتحدة بشكل يربط مصالح الطرفين ببعض، لتكون المصلحة الاستراتيجية للندن هي الحفاظ على السلطات الحاكمة في العواصم الخليجية وليس التفريط بها، وهذا تحديدًا ما حدث. مثال آخر يذكره الكاتب هو أن البريطانيين كانوا أول من اعترف بحكم الأمير القطري حمد بن خليفة بعد انقلابه على أبيه عام 1995، ليعقد الأمير بعدها بعام صفقة أسلحة مع بريطانيا تقدر بنصف مليار جنيه استرليني. وللمفارقة، كان هذا شكل الكثير من النزاعات الخليجية-الخليجية، أي توطيد كل طرف علاقته بالسوق والاقتصادات الغربية بشكل أكثر من الآخر. 

هذه المنفعة بالذات هي ما سيقود دفة العلاقة البريطانية بالخليج في العقود المقبلة. إذ باتت صادرات بريطانيا للخليج تشكل 58% من صادراتها إلى دول مجموعة البريكس مجتمعة. كما أن التقديرات تشير إلى أن مشاريع البنية التحتية المستقبلية في الخليج ستبلغ ترليونيْ دولار، وهو ما يدفع البريطانيين لتوثيق شراكتهم مع دول الخليج. 

لكن مبيعات الأسلحة البريطانية للخليج، وتحديدًا للمملكة العربية السعودية، لها جانب يتعدى المصلحة والعلاقة الاقتصادية، بل لها غاية استراتيجية موازية تتعلق بالحفاظ على مكانة بريطانيا كقوة عسكرية عالمية. ومن ناحية خليجية، فإن الحفاظ على هذه القوة عبر صفقات السلاح في منطقة غير مستقرة وشرعية داخلية مهزوزة أمر مهم واستراتيجي. هنا، شكلت حرب اليمن فرصة ذهبية لبريطانيا، فإلى جانب الدعم اللوجستي، صادقت الحكومة البريطانية على صادرات عسكرية للسعودية بلغت 4.6 مليار جنيه إسترليني بين أعوام 2015 و2017، 2.8 مليارًا منها كانت في الستة الأشهر الأولى من الحرب، مقارنة بـ102 مليونًا فقط كصادرات عسكرية صودق عليها في السنة السابقة للحرب.

من يسعى إلى «فك الارتباط»؟ 

إن استيعاب شبكة المصالح المادية بين الخليج وبريطانيا يقود إلى أمر آخر هو فهم جوهر آلية عمل الدولة في الغرب. فالدولة الرأسمالية في الغرب كما يقول ويرينغ لا تمثل الـ«المصالح الوطنية» لشعوبها، بل تمثل حزمة من المصالح الاجتماعية والاقتصادية لطبقات محددة بهدف إعادة إنتاج امتياز هذه الطبقات. هذا لا يعني أن الدولة أسيرة لقرار الشركات الكبرى بشكل مباشر، بل أن الدولة تعمل كناظم عام للمحصلة الكلية لمصالح القطاع الخاص البريطاني. لذا، نرى مشاهد كأن ينتقل مدير المخابرات البريطانية MI6 من منصبه إلى مجلس إدارة «بريتيش بتروليوم» عام 2015، أو أن يكون المدير التنفيذي لشركة «شيل» هو ذاته السفير البريطاني السابق لدى واشنطن. 

يستعير ويرينغ هنا شرحًا للأكاديمي البريطاني بوب جيسوب عن ماهية الدولة الغربية، حيث يقول إن الدور الأول الذي تلعبه الدولة الغربية هو إقامة وتأمين شروط التراكم الرأسمالي عبر الاستعمار والإمبريالية بشكل لا يستطيع القطاع الخاص القيام به. والدور الثاني هو تنظيم المصالح الخاصة للشركات دون أن تطغى إحداهما على الأخرى. أما الدور الأخير فيكون في تنظيم آلية توزيع هذه الثروات المتراكمة على المجتمع بنطاقه الأوسع، بشرط أن لا يؤثر ذلك على آلية تراكم رؤوس الأموال للقطاع الخاص. وهذا الدور الأخير، وعملية التنظيم هذه، هي ما نطلق عليه «الديمقراطية الليبرالية»، التي تصبح وفقًا لها وظيفة 300 ألف بريطاني في الصناعات العسكرية مرتبطة بشكل جوهري باستهلاك هذه الأسلحة على شعب ومقدرات اليمن. 

شكلت حرب اليمن فرصة ذهبية لبريطانيا، فإلى جانب الدعم اللوجستي، صادقت الحكومة البريطانية على صادرات عسكرية للسعودية بلغت 4.6 مليار جنيه إسترليني بين أعوام 2015 و2017.

في حين يُبين المؤلف مآلات هذه الحالة التبادلية في المنفعة بين الطبقات الاقتصادية في بريطانيا ونظيرتها الحاكمة في الخليج، وهي مآلات تمتد من الاستغلال الاقتصادي إلى دعم القمع والحروب المدمرة، يصل في نهاية الكتاب لاقتراح تبنّي لندن نموذجًا اقتصاديًا مغايرًا يفضي إلى تغير في نمط هذه العلاقة. أي بعبارة أخرى، أنه على المملكة المتحدة أن تكف عن الاعتياش على هذه العلاقات التي ورثت حزمة العلاقات الاستعمارية التي بنتها على مدار قرون. 

وهنا يكمن مأخذي على الكتاب، فهذا الطرح تعبير عن إشكالية بنيوية في معظم الأدبيات الأكاديمية الغربية، تكمن في أن المركز الغربي هو المنطلق الأول لأي آلية تغييرية، رغم تمكن هذه الأدبيات من توثيق البيانات التاريخية وجمعها وطرحها بشكل منظم. إذ يجري التعامل مع هذا المركز بوصفه الناظم والمحرك التاريخي «الناضج» الذي عليه المبادرة والانحياز «للقيم»، وتمسي شعوب الجنوب، وشعوب دول الخليج في حالتنا، خارج المعادلة وفي موقع المتأثر لا المؤثر. من جهة أخرى، فإن قراءة الكتاب توضح للقارئ التأثير المهول والخطير لفك ارتباط اقتصادات دول الجنوب بالرأسماليات الغربية، فاستقلال رؤوس الأموال الخليجية عن القطاعات المالية والصناعية البريطانية له أثر مباشر على المملكة المتحدة وباقي دول غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، حتى مع الحديث اليوم عما يسمى انسحابًا أمريكيًا من المشرق العربي وانزياحًا في ثقل المصالح الأمريكية إلى الشرق الآسيوي. وهو ما يجعل فكرة أن تبادر القوى الغربية إلى فك الارتباط هذا أمرًا غير واقعي. 

ما يستفاد من الكتاب هو استيعاب تفاصيل المصالح المادية التي تربط المملكة المتحدة بدول الخليج. ويبنى على هذا الفهم أن تبادل المصالح بين الطبقات الحاكمة الخليجية ونظيرتها البريطانية سيستمر خلال العقود القادمة رغم كل الحديث عن ضمور دور النفط وانسحاب الغرب من المنطقة. ومن ناحية عملية، ومن منظورنا نحن كشعوب المنطقة كفاعل تاريخي، فإن هذا الاستيعاب يقتضي العمل على فك الارتباط عن شبكة هذه المصالح، وإعادة تنظيم مواردنا ورؤوس أموالنا في قطاعاتنا العامة الطبية والعلمية والمعرفية والعسكرية على أساس المصالح الشعبية، لا على أساس امتيازات الطبقات الحاكمة.


1) Wearing, David. Angloarabia: Why Gulf Wealth Matters to Britain. Cambridge: Polity Press, 2018. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية