الخيال الكارتوغرافي للهيمنة: تاريخ التوظيف الكولونيالي للأطالس الجغرافية

الخميس 10 تشرين الثاني 2022
خريطة إفريقيا
«القارة الأفريقية»، حسن فريد أفندي، محي الدين أفندي وحافظ علي شريف باشا، «دنيا أطلس» (أطلس العالم)، 41*51 سم، الأرشيف العثماني لرئاسة الوزراء.

إن الفكرة القائلة بأن الخرائط يمكن أن تنتج صورة علمية دقيقة للعالم، حيث يتم تصوير العالم الواقعي دون تحيز، فكرة تستقر برسوخ في أساطيرنا الثقافية.
جون بريان هارلي، جغرافي ورسام خرائط

ارتبطت عملية إنتاج المعرفة الجغرافية الطبيعية تاريخيًا بالاحتياجات الدفاعية والإدارية والتجارية للدول، ولكن وسط هذه الحاجة الموضوعية تلعب الأيديولوجيا والدعاية السياسية دورًا مهمًا للغاية في هذه العملية. من بين نماذج المعرفة التي مكنت المجتمعات الحديثة والمعاصرة من تطوير فهم جديد للعالم الأرضي بعد مشاريع الاستكشاف والغزو التي قامت بها القوى الأوروبية هي الأطالس الجغرافية. والتي بمجرد ظهورها في أوروبا في نهاية القرن السادس عشر، احتلت مكانة حاسمة بوصفها مصدرًا بصري متقن للفضاء. وكذلك إحدى وسائل إنتاج الخيال الكارتوغرافي (الخارطي) للهيمنة الأوروبية البيضاء الناهضة على بقية أقاليم الكرة الأرضية.

في كتاب «شكل المعرفة، شكل من أشكال السلطة: الأطالس الجغرافية في العصر الحديث والمعاصر»،[1] الذي صدر حديثًا عن منشورات المدرسة الفرنسية في روما تحت إشراف جان مارك بيس،[2] تسعى مجموعة من الأبحاث، ذات الموضوعات المختلفة، إلى دراسة هذه الأطالس الجغرافية ضمن سياقات إنتاجها وتحولاتها وتداولها وآثارها الاجتماعية والسياسية، أي الدور الذي ربما لعبته في ممارسة الهيمنة، وفي إنشاء المناطق، وخاصة في تطوير التصورات السياسية.

يتوزع الكتاب على ثلاثة أقسام. يعالج القسم الأول مسألة «الأطالس وصنع المناطق»، أي الوظيفة السياسية لهذا الشكل من إنتاج المعرفة. أما القسم الثاني فيدرس الأطلس بوصفه نموذجًا معرفيًا، وفقًا لمنهج ابستمولوجي نقدي، فيما يعالج القسم الثالث والأخير «الأهمية النسبية للشكل»، أي الحالة التي يقدم من خلالها الأطلس الصورة التركيبية المتجددة للعالم الأرضي، حيث شكلت الأطالس الجغرافية، منذ اختراعها وعبر التاريخ الحديث، أحد «الأماكن» التي تلقى فيها العالم الأرضي (صورته) شكلًا إدراكيًا ومفاهيميًا.

وعلى أهمية القسمين الثاني والثالث، إلا أن هذه المراجعة ستركز على القسم الأول، الذي يدرس الوظائف السياسية للأطالس في العصر الحديث والمعاصر، وتأثيره على الخطابات والمشاريع السياسية التي قادتها قوى الهيمنة الإقليمية والإمبراطورية، وتحليل كفاءة هذا الشكل من إنتاج المعرفة في بناء الفراغات والهويات السياسية ودوره في مشاريع الاستيلاء والسيطرة والإدارة للأراضي على مستويات مختلفة. فالأطلس ليس فقط مجرد تجميع للخرائط والمعلومات الجغرافية، ولكنه أيضًا بناء لــ«سردية سياسية» (أوحتى سردية مضادة) حول المناطق التي يرسمها والجمهور الذي يخاطبه. سيستعرض هذا المقال أمثلة ثلاث؛ المحاولات الباكرة للإدارة الاستعمارية الفرنسية في رسم خرائط الجزائر، وأطلس المبشر مارتينو مارتيني حول الصين، وأخيرًا المساعي العثمانية لإنتاج أطلس يكرس السردية الجغرافية للخلافة.

أطلس إيالة الجزائر: النقش المكاني للغزو الاستعماري

في أعقاب الإنزال الفرنسي في سيدي فرج بالقرب من الجزائر العاصمة في عام 1830، والذي يؤرخ لبداية احتلال مديد لن ينتهي إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، نشب نقاش سياسي واسع داخل النخبة الفرنسية الحاكمة حول حدود هذه المستعمرة الجديدة. في عام 1937 خطب النائب جوبير داخل الجمعية الوطنية في باريس: «ما هي الجزائر؟ هل هي المدينة؟ هل هي ضخمة؟ هل هي وهران وأم البوقي، هل هي وصاية داي الجزائر السابق؟ هل تصل إلى الصحراء الكبرى؟» هذا السؤال يلخص حالة عدم اليقين الجغرافي التي كانت تعيشها النخب الاستعمارية. من خلال هذه الأسئلة حول حدود «الجزائر»، كان النائب يريد اكتشاف سياسة الحكومة الجديدة للملك لويس فيليب حول ماهية الامتدادات التي يجب أن تمنح لهذا الاحتلال العسكري، لأي غرض وبأي ثمن؟ هل ستكتفي القوات الفرنسية بالسيطرة على مدن الشريط الساحلي، أم ستتوغل في العمق الصحراوي، الذي كان قبل ذلك مشاعًا دون وصاية أي حاكم من حكام المنطقة؟ تجلى هذا اللايقين الجغرافي في مدونة الخطب السياسية وأرشيف التقارير العسكرية، لكنه يبدو واضحًا بالصور والأشكال في مخطوط «أطلس إيالة الجزائر»، والذي من خلاله تحلل هيلين بليز[3] دور هذه الوثيقة الجغرافية في إضفاء الشرعية على الغزو الاستعماري، عبر العودة إلى سياق إنتاج هذا الأطلس والخرائط التي يتألف منها.

خريطة أراضي الجزائر، أطلس إيالة الجزائر، لوحة 1، نقش على ورق ممزّق، 63*110 سم، 1834، إيكس أون بروفانس، الأرشيف الفرنسي لما وراء البحار.

يقدم أطلس الإيالة الجزائرية سلسلة من الخرائط التي تم إنتاجها داخل الجيش في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وهو منتج فريد: نسخة وحيدة تضم مجموعة من الخرائط غير المتجانسة في كتاب مزود بجدول من المحتويات يقدم تمثيلات لإقليم في طور الغزو، بدءًا من مخططات المدينة إلى الخرائط الهيدروغرافية، مرورًا بالرسومات التخطيطية الإقليمية. كان هذا الأطلس في حوزة المارشال جان ديو دي سولت (1769-1851)، دوق دالماتيا، وزير الحرب من عام 1830 إلى عام 1834، والذي سيتولى رئاسة الحكومة بين عامي 1839 و1847. كان ضابطًا رفيع المستوى يتمتع بشرعية قوية وخبرة استثنائية، وهو ما يفسر سبب اختياره من قبل الملك لويس فيليب وزيرًا للحرب، وبالتالي، فإن صاحب هذا الأطلس هو شخصية سياسية من رموز «ملكية يوليو»، ويحتل موقعًا مركزيًا في العقد الأول من غزو واستعمار الجزائر. يضم الأطلس، ذا الغلاف الجلدي، 16 خريطة للمدن الرئيسية، بالإضافة إلى خريطة منفصلة لولاية الجزائر. 15 من من الخرائط تم إنتاجها بين عامي 1831 و1834. والخريطة الأخيرة، وهي خريطة ولاية الجزائر، التي ربما أُضيفت لاحقًا نظرًا لأنها غير مذكورة في جدول المحتويات، تعود إلى عام 1838. في عام 1834، وبعد أربع سنوات من إنزال القوات الفرنسية، لم يكن المستقبل الاستعماري للجزائر ثابتًا. لا يتحدث الفرنسيون رسميًا عن الجزائر، بل يتحدثون عن إيالة الجزائر، وهو مصطلح يشير إلى الاسم الأوروبي لدول المغرب العربي الواقعة تحت السيطرة العثمانية. إن عنوان الأطلس، كما يظهر في جدول المحتويات المكتوب بخط اليد، يشير في هذا الصدد إلى لحظة من التردد اللغوي والسياسي. لا تزال المنطقة المذكورة تحمل اسمًا يشير إلى انتمائها العثماني.

كان الجناح الاستعماري داخل النظام الفرنسي -والذي تمثله أساسًا مؤسسة الجيش التي تحتكر رسم الخرائط- يستعمل الأطلس كأداة لتخيل مجال قابل للاستعمار، وإقناع المجّمع السياسي في المركز الباريسي بذلك.

خرائط المدن المستقلة وخريطة الولاية غير المستقرة على صفحات الأطلس تكشف بوضوح التردد السياسي في المشروع الاستعماري إلى حدود 1838، ذلك أن نظام ملكية يوليو، الذي قام أسابيع قليلةً بعد احتلال الجزائر قد وجد نفسه يقود غزوًا بوحدات عسكرية قوية على الأرض، تم شنه في ظل النظام السابق (حكومة شارل العاشر المحافظة) دون أفق استعماري واضح. في هذا المناخ الجديد كان السؤال هو ما إذا كان ينبغي الاحتفاظ بالجزائر أم لا. قطاع من نخبة الحكم ممن يسمون «بمناهضي الاستعمار» يعارضون أي حيازة إضافية، وفقًا لمعايير مرتبطة بالاقتصاد الليبرالي (الخوف من تكلفة الاستعمار). في الناحية الأخرى كانت النخب الاستعمارية ترى من الضروري تعميق احتلال الأراضي ليس عسكريًا فحسب، بل واقتصاديًا أيضًا، وبالتالي توسيعها لضمان سيطرة منهجية ومستمرة على المنطقة. يتوافق إنتاج هذا الأطلس مع مرحلة مهمة في بناء الجزائر الاستعمارية. كونها «إيالة الجزائر»، الاسم الذي أطلقه الغربيون على الأراضي العثمانية، والذي يظهر في العنوان، يذكرنا بأننا لم نكن بعد في لحظة تأكيد استعماري. لكن السؤال هو معرفة إلى أي مدى يمكن أن يكون تجميع هذه الخرائط، والتي لا تعكس منطقة موحدة، قد شكل وسيلة لإعطاء الوحدة للبلد المحتل.

كان الجناح الاستعماري داخل النظام الفرنسي -والذي تمثله أساسًا مؤسسة الجيش التي تحتكر رسم الخرائط- يستعمل الأطلس كأداة لتخيل مجال قابل للاستعمار، وإقناع المجّمع السياسي في المركز الباريسي بذلك. فمن جهة، تظهر الخرائط المستقلة للمدن مدى تفكك المجال وقابليته للخضوع العسكري والاستغلال الاقتصادي، ومن جهة ثانية يكشف ترتيب الخرائط المتتالي، والذي يتوج بخريطة كاملة للإيالة وحدة هذا المجال، وضرورة السيطرة عليه كليًا كي لا تبرز على حواشيه جيوب مقاومة، كون قطاعًا واسعًا من النخب الفرنسية كان يحصر وصف «الجزائر» على مدينة الجزائر، كما هو سائد قبل احتلالها. كما تشهد الخرائط المضمنة في الأطلس على مشروع استعمار ثقافي، حيث تظهر أسماء القبائل على نحو ضئيل على الخرائط. فمعظم هذه الخرائط تميل إلى محو الاستخدامات الاجتماعية للأماكن من قبل السكان الجزائريين.

مارتينو مارتيني: أطلس إعادة اختراع الصين

في العام 1653 عاد المبشر اليسوعي مارتينو مارتيني من رحلة طويلة قادته إلى الصين. وصل مارتيني إلى العالم القديم متجولًا في مدنه من أمستردام إلى بروكسل وميونخ وصولًا إلى المدينة البابوية، باحثًاعن رسامين مهرة للخرائط، للشروع في تحرير أطلسه الخاص حول الصين. من حيث الخصال الشخصية، لم يكن مارتيني مرتبطًا بأي شكل من أشكال التخصص، لا من حيث التدريب ولا من حيث الرسولية. كونه يسوعيًا مؤمنًا بالموسوعية، وكان ذلك مصدر موهبته، فلم يكن ولعه بالجغرافيا والخرائط مانعًا له من التميز في التاريخ -الذي جعله مشهورًا- وخاصة تاريخ الصين، ناهيك عمّا يتعلق بالترجمة واللاهوت. الصلة بين هذه الأنشطة المختلفة راسخة بالنسبة له، من وجهة نظر عقائدية وعلى المستوى العملي. كما يشير الاقتباس التالي، فإن التحقيق في التاريخ والمجال ليسا مفككين:

ولأنه لا يمكن للمرء أبدًا أن يكون لديه معرفة كاملة بتاريخ بلد ما، دون الرجوع إلى الخرائط حيث نرى مدى المناطق، وموقع المدن، ومسافاتها، ومجرى الأنهار، والبحيرات، والجبال، والغابات، وأشياء أخرى كثيرة ، والتي من منظور واحد تعطي فكرة عن أكثر البلدان غموضًا، قررت طباعة أطلس لهذه الممالك العظيمة، حيث سأضع بدقة كبيرة ما لاحظته في كل رحلاتي.[4]

من خلال دراسة أطلس مارتينو مارتينو، تسعى أنتونيلا رومانو[5] إلى تسليط الضوء على المنطق السياسي والفكري والتحريري الذي يؤدي إلى بروز الاختلافات العددية لرسم الخرائط الصينية، حيث أدى احتكار مارتيني للمعرفة الجغرافية حول الصين في أوروبا في القرن السادس عشر إلى إنتاج تأثير مزدوج للمعرفة التي يقدمها الأطلس: فمن ناحية، يُدخل حيز التنفيذ، من خلال تتابع الخرائط، مقياسًا غير مسبوق للمعرفة المكانية لأوروبا: المقاطعات إمبراطورية ذات حدود معاد تشكيلها؛ ومن ناحية أخرى، يمنح هذه المساحات عمقًا تاريخيًا، والذي يرافق مجموعة الخرائط ويشحنها ببعد زمني.

واجهة الكتاب في أطلس مارتينو مارتيني أمستردام ، 1655، إدنبرة ، مكتبة اسكتلندا الوطنية

لتفسير هذه الإشكالية الشائكة، لابد من العودة إلى السياق الذي عزز مكانة «أطلس» مارتيني في أوروبا. أولًا، قدمت خمسينيات القرن السادس عشر ظرفًا مزدهرًا بشكل خاص للمبشر الرحالة: فقد عملت المصالح المتزايدة للفاعلين التجاريين والسياسيين في آسيا على تغذية طلب رسم الخرائط الذي يستجيب له مجتمع الطباعة. شكلت هولندا التي قصدها مارتيني قادمًا من الصين مفترق طرق مميزًا لمثل هذا الوضع، بوصفها قوة استعمارية ناهضة. ثانيًا هي معرفته بالأراضي الصينية في سياق رحلة صعبة، وكان شاهدًا على الهجمات العنيفة المتزايدة للتتار، ليكون أول الأوروبيين الذين عادوا ومعهم ليس فقط المعلومات، ولكن أيضًا الرواية الأولى لهزيمة سلالة مينغ، وتصورًا عامًا للعرض الكتابي والخرائطي للآثار الأولى لإعادة التشكيل المكاني للصين، المرتبط بهذه الاضطرابات السياسية. في حين أنه ليس من المؤكد تمامًا أن أوروبا كانت قادرة على تقدير أهمية الحدث على الفور، تظل الحقيقة أن عودته تتزامن مع نهاية سلالة راسخة، وهو الشاهد الأول في الغرب الذي كان قادرًا على تقدير أهمية هذا التحول.

مارتينو مارتيني، زيت على قماش، 69.5*59 سم، 1654، ميكيلينا ويوتييه

في هذا السياق الاستثنائي ولد أطلس الصين، الذي نُشر عام 1655. على مستوى رسم الخرائط، فإن الأطلس يجعل من الممكن التأكيد على دور مسح المساحات في الإنتاج وكذلك في إضفاء الشرعية على الخريطة: يقترح مارتيني بالفعل تمثيلًا جديدًا للصين، استنادًا إلى تحركاته داخل هذا الفضاء المعين وتحويله من خلال الأحداث السياسية التي يعد شاهدًا جزئيًا عليها، مع تركيز واضح على تحديد حدود المقاطعات الصينية، لكأنه في سعي حثيث لإعادة تشكيل صين جديد مفكك، على بضع وعشرين إقليمًا، خارج أفقه الإمبراطوري الموحد. إن عملية معرفة رسم الخرائط ذات شقين: فهي تهدف إلى تحديد مساحة على مقياس العالم، وكذلك على «نطاقها الخاص»، وفقًا للمنطق التجاري والإمبراطوري الذي حرك أوروبا في القرن السادس عشر.

أطلس إسطنبول: منظر عثماني للعالم

بين عامي 1889 و1891 نشرت دار هاشيت الفرنسية أطلس الجغرافيا الحديثة في عدة أعداد، وأعيد إصداره بعد ذلك عدة مرات. احتوت النسخة الأولية على 64 خريطة مطبوعة ملونة مصحوبة بنص جغرافي وإحصائي وإثنوغرافي، وحوالي 600 وثيقة داعمة (خرائط تفصيلية وأشكال ورسوم بيانية). في الوقت نفسه ظهر هذا الأطلس في إسطنبول مترجمًا جزئيًا بتصرف لإنتاج خرائط جدارية للمدارس في الإمبراطورية العثمانية. وقد أشرف على ذلك ثلاثة ضباط من هيئة الأركان العثمانية، هم حسن فريد أفندي ومحي الدين أفندي وحافظ علي شريف باشا. كان حافظ شريف من الجيل الثاني من الطلاب الذين أرسلتهم الحكومة العثمانية للدراسة في باريس قبل أن يعود إلى إسطنبول في عام 1869، حيث عمل في هيئة الأركان العامة. ليكرس جزءًا كبيرًا من نشاطه لترجمة الخرائط الأجنبية إلى العثمانية، ولا سيما تلك الخاصة برسام الخرائط الألماني هاينريش كيبرتت[6] ويساهم في إنتاج العديد من الأطالس المدرسية والخرائط الجدارية. بدايةً من عام 1880 تم إنشاء قسم مخصص لرسم الخرائط والتضاريس داخل هيئة الأركان العامة العثمانية. تبنت الإمبراطورية العثمانية على مر السنين منهج رسم الخرائط الغربية، وهي أنظمة الإسقاطات والتوجيه والمقياس المتري.

من خلال تحليل مضامين الأطلس العثماني المترجم عن الفرنسية، تحلل سيغولين ديبار[7] مسار انتقال المعرفة الجغرافية بين الغرب المنتج والشرق المستهلك عبر دراسة عملية الترجمة والإضافات والتحولات الخاصة بمواد رسم الخرائط. حيث يتم إيلاء اهتمام خاص لاستيراد الفئات الأوروبية («المجموعات العرقية» و«المستعمرات») التي تشارك في بناء وجهة نظر للعالم وتعكس المشاريع السياسية للإمبراطورية في حالة تحول. يكشف مسار رسامي الخرائط عن التدفقات والتبادلات العسكرية والعلمية التي كانت قائمة في ذلك الوقت بين أوروبا والإمبراطورية العثمانية.

حسن فريد أفندي، محي الدين أفندي وحافظ علي شريف باشا، «دنيا أطلس» (أطلس العالم)، 41*51 سم، اسطنبول، باشبكانليك عصمالي أرشيف

تلاحظ ديبار أن الكرة الأرضية العثمانية المأخوذة من أطلس هاتشيت 1889-1891 تحتفظ بإسقاط مركاتور وتتركز على المحيط الأطلسي بالإضافة إلى العواصم الرئيسية وخطوط الحدود وخطوط التلغراف. وهي مصحوبة بخريطة للكثافات السكانية وإسقاطان قطبيان لتحديد مواقع الشعوب المختلفة على سطح الأرض. تحتفظ الترجمة العثمانية دون تعديل التصنيف العنصري الذي اقترحته الكرة الأرضية الفرنسية، وهكذا نجد الهندو-أوروبيين، ومجموعات الأورال-ألتاي، والمغول، وسكان الأينو، والباسك وغيرها، كما لا يظهر في هذا التصنيف المصطلح «التركي» -الذي تم إدراجه في عائلة «الأورال الألتية»- والذي أكد نفسه في ذلك الوقت في الكتابات القومية العثمانية. تؤكد الترجمة الحرفية فضول النخب العثمانية للمعرفة اللغوية والإثنوغرافية الأوروبية. كما تتبع النسخة العثمانية من الأطلس الفرنسي الاقتراح الغربي بتقسيم العالم إلى قارات، حيث يؤدي هذا التقسيم بشكل متناقض إلى قيام رسامي الخرائط العثمانيين بالحفاظ، حتى تسعينيات القرن التاسع عشر، على تمثيل مجزأ لإمبراطوريتهم. وهكذا تظهر الإمبراطورية العثمانية على أنها محيط أوروبا وهامش آسيا. يُنظر إلى أوروبا على أنها منطقة تمتد من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال.

لكن هذا التماهي مع النص الأصلي، ليس مطلقًا. من خلال دراسة الاختيارات والتعديلات التي تم إجراؤها، تحدد الباحثة مجموعة من آليات المقاومة والطعن في الخطابات الغربية في العمل العثماني المترجم. إن «الرؤية العثمانية للعالم» التي اقترحها أطلس إسطنبول ليست مجرد تبني للفئات الأوروبية، بل هي أيضًا تعديل لها. لا تتكرر الخرائط بدون تحليل نقدي، خاصة وأن التلوين اليدوي يسمح بإضافات وتصحيحات للطباعة الحجرية الملونة الأولية. الفوارق في رسم الخرائط التي يمكن ملاحظتها في ترجمة أطلس هاشيت شائعة في غالبية الخرائط التي تم إنتاجها في الإمبراطورية العثمانية في الأعوام 1890-1900، وهي تتعلق في المقام الأول بأراضي البلقان وقبرص.

كان تداول وإنتاج الخرائط في الدولة العثمانية تحت سيطرة أجهزة الدولة، وكان يخضع لرقابة صارمة. فقد كانت مسألة حدود الإمبراطورية حساسة بشكل خاص، وتحظر الحكومة العثمانية المنتجات الأوروبية التي لا تتوافق مع وجهات نظرها.

كان تداول وإنتاج الخرائط في الدولة العثمانية تحت سيطرة أجهزة الدولة، وكان يخضع لرقابة صارمة. حيث تراقب وزارة التعليم العام عدم نشر التصريحات المخالفة للخطاب الرسمي. فقد كانت مسألة حدود الإمبراطورية حساسة بشكل خاص، وتحظر الحكومة العثمانية المنتجات الأوروبية التي لا تتوافق مع وجهات نظرها.

في النسخة الفرنسية من خريطة أوروبا السياسية، تم وضع روميلي الشرقية ضمن حدود بلغاريا. في عام 1885، ضمت بلغاريا روميلي الشرقية، وهي مقاطعة تتمتع بالحكم الذاتي تم إنشاؤها في عام 1878 بموجب معاهدة برلين. بينما في النسخة العثمانية، تعتبر روميلي الشرقية جزءًا من «أوروبا العثمانية، حتى إذا كان الحد الأحمر يشير إلى حالة الحكم الذاتي للمقاطعة. على عكس البلدان المجاورة الأخرى، مثل اليونان أو صربيا، يتطابق اللون المختار لبلغاريا مع لون الإمبراطورية العثمانية). كان هذا التمثيل لمنطقة البلقان سائدًا في الإمبراطورية العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى.

مثال آخر، تم التنازل عن إدارة قبرص لبريطانيا خلال مؤتمر برلين، لكن الجزيرة ظلت بحكم القانون أراضٍ عثمانية، تمامًا مثل مصر والسودان. يصور الأطلس الفرنسي قبرص كجزء من الإمبراطورية البريطانية بينما يضعها الأطلس العثماني تحت سيادة السلطان. هذا الاحتجاج الذي عبرت عنه الترجمة العثمانية لا يقتصر على حوض البحر الأبيض المتوسط بل يمتد ليشمل جميع المجال الاستعماري الأوروبي، ولا سيما في أفريقيا. من ناحية أخرى، تعترف الترجمة العثمانية بـ«حكومة الكونغو المستقلة» والولايات الخاضعة للمحميات الألمانية، دون ذكر اسم المستعمر. حيث تولي خرائط عثمانية أخرى في ذلك الوقت أهمية خاصة لمستعمرات الرايخ: من المحتمل أن يتم تفسير الوضع الخاص لهذه المستعمرات من خلال سياق التقارب العسكري بين ألمانيا والإمبراطورية العثمانية.

خاتمة

في مفتتح الكتاب يذهب جان مارك بيس -المشرف على التحرير- إلى أن هذا العمل يطبق فرضية رئيسية تتمثل في طرح الأسئلة من وجهة نظر تاريخية وإبستمولوجية، حول الأطلس بالمعنى الواسع الذي درسته الأبحاث التي يضمها (أي مجموعة خرائط مجمعة ومرتبة ومجلدة في كتاب)، كشكل رسومي وتحريري لإنشاء وحفظ وتصور وتنظيم المعرفة والصور والأشياء، وكيف لهذا الشكل الفريد من المعرفة أن يتحول إلى شكل من أشكال السلطة/ الهيمنة. ولا يتعلق الأمر فقط بالمحتوى الجغرافي ولكن أيضًا من وجهة نظر الاستراتيجيات المرئية والرسومية وبشكل أعم عمليات التحرير التي يتم تنفيذها، حيث يعد الأطلس بمثابة الشكل الفعال للكتابة، والذي يسمح بالتسجيل والعرض المرئي شبه المتجانس للمعلومات، والأرشفة، والحفظ، وكذلك جدولة الوثائق ونقلها.

أبعد من ذلك، يسمح هذا النموذج بتكوين المعرفة والأشياء، وحتى إنتاج معرفة جديدة، من خلال المقارنات والتوليفات، أي (إعادة) القطع و(إعادة) المونتاج التي تحدث في الأطلس نفسه، وبالتالي تشكيل السرديات والسرديات المضادة أحيانًا في حالة الترجمة. بمعنى آخر، كان الأطلس الجغرافي، بوصفه منتجًا أوروبيًا خالصًا، مساحة لتوضيح الصورة العالمية والموحدة للعالم الأرضي ونشر الرواية الغربية المتعلقة بالتنظيم والتوجه الجغرافي والتاريخي للعالم الأرضي: عالم من المفترض أن يتمحور حول أوروبا ومنطقة المحيط الأطلسي، ينتقل من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب. الفضاء المرئي، الذي يفتح بداخل الأطلس هو فضاء بنّاء نقدي وهرمينوطيقي، سيسمح تحليله للمؤرخ بالتشكيك في طرق إدراك وتصور الأرض كعالم.

  • الهوامش

    [1] Forme du savoir, forme de pouvoir : Les atlas géographiques à l’époque moderne et contemporaine –  Jean-Marc Besse – École Française de Rome – 2022

    [2] Jean-Marc Besse – Jean-Marc Besse est directeur de recherche au CNRS (UMR Géographie-cités) et directeur d’études à l’EHESS. Ses recherches portent sur l’histoire et l’épistémologie de la géographie et de la cartographie à l’époque moderne et contemporaine.

    [3] Hélène Blais 6 École Normale Supérieure-PSL – IHMC

    [4] M. Martini, « Lettre à Athanase Kircher », Bruxelles, le 21 février 1654, dans Martini 1988, p. 251-252.

    [5] Antonella Romano – EHESS, Centre Alexandre Koyré.

    [6] DÉBARRE Ségolène, Cartographier l’Asie mineure. L’orientalisme allemand à l’épreuve du terrain, Peeters (Louvain), Collection Varia Turcica, 2016, p. 270.p.

    [7] Ségolène Débarre est maître de conférences à l’Université Paris 1 Panthéon-Sorbonne, chercheure au laboratoire Géographie-Cités (UMR 8504), chercheure associée au Centre d’Études Turques, Ottomanes, Balkaniques et Centrasiatiques (UMR 8032) et à l’Institut Français d’Études Anatoliennes (USR 3131). Ses recherches portent sur la construction de savoirs géographiques européens sur le monde turc et sur les circulations migratoires entre la Turquie et la France.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية