تركيا بعد الرابع عشر من أيار: كيف نقرأ النتائج؟

الثلاثاء 16 أيار 2023
من إسطنبول، 2023، أ ف ب
من إسطنبول، 2023، أ ف ب

قبل أيّام، خاضت تركيا واحدة من أهم الجولات الانتخابية في تاريخها، إن لم تكن الأهمّ على الإطلاق، ورغم النصر البرلماني الذي خرج به تحالف الشعب، الذي يقوده حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسه الرئيس رجب طيب أردوغان، في مواجهة تحالف الأمّة، الذي يقوده حزب الشعب الجمهوري، وعلى رأسه مرشح المعارضة كمال كلتشدار أوغلو، إلّا أن الجزء الرئيس من الانتخابات لم يحسم بعد، إذ لم يحقق أيٌ من المرشحين لانتخابات الرئاسة نتيجة الحسم، فحصل أردوغان على 49.51% وكلتشدار أوغلو على 44.88%. 

زخرت الجولة الأولى من الانتخابات بالمفاجآت، ولعبت عوامل عدّة دورًا مهمّا في النتيجة، بينها الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب تركيا منذ فترة، والتي انعكست في تراجعٍ لقيمة الليرة التركية وارتفاعٍ لمعدلات التضخم ووصول الغلاء المعيشي لمستويات قياسية.  

عبر الإجابة على خمسة أسئلة، يسعى نور الدين العايدي، لتقديم قراءة لأبرز نتائج الجولة الأولى من الانتخابات، وما يمكن أن نستشفه من هذه النتائج التي ستلعب دورًا في الجولة التالية منها، التي ستجري في 28 أيّار الحالي.

حبر: يمكن القول إن واحدة من مفاجآت الانتخابات التركية الحالية خسارة الرئيس رجب طيب أردوغان لمدينة إسطنبول ولو بفارق بسيط، فما الذي تعنيه هذه الخسارة، وكيف يمكن قراءة التوزيع الجغرافي للأصوات التي حصل عليها كلٌ من أردوغان وكلتشدار أوغلو؟

نور الدي العايدي: في البداية من الدارج القول في تركيا إن المناطق الغربية من البلاد على ساحل بحر إيجه ومنطقة تراقيا وغيرها هي مناطق نفوذ للتيار الكمالي العلماني، وبالتالي تعتبر قلاعًا لحزب الشعب الجمهوري، يحصل فيها على الصدارة دومًا. وفي المقابل، تعدّ مناطق وسط الأناضول وسواحل البحر الأسود -في الجزء الأكبر منها- مناطق محافظة وقومية تمثل قلاعًا للعدالة والتنمية. 

أمّا مناطق جنوب البلاد وشرقها، والتي تحظى بوجود كرديّ وازن، وتعد مواقع قوة للحركة السياسية الكردية، ويحصل فيها حزب الشعوب الديمقراطي الكردي (حزب اليسار الأخضر) على الصدارة بشكل متواتر، فحصل فيها كلتشدار أوغلو على صدارة ساحقة، بفعل هذا التحالف.

في الجولة الأولى من الانتخابات، شهدت مناطق ساحلية مثل مرسين وأنطاليا، التي كانت في السابق مناطق متأرجحة، انزياحًا برلمانيًا ورئاسيًا نحو «الشعب الجمهوري»، في إشارة إلى تحول بدأت بوادره بوضوح في السنوات الأخيرة، لا سيما منذ الانتخابات المحلية في العام 2019.

تصدّر أردوغان في 51 ولاية تركية، لكن أصواته انخفضت عن معدلاتها السابقة في الانتخابات الماضية، حتى في المناطق التي تعدّ قلاعه. لكن مع هذا، تمكن عبر حملة انتخابية مكثفة مدعومة بإمكانيات الدولة، لا سيما خطاب الإنجازات والحرب على الإرهاب، من السيطرة على نزيف أصواته وتثبيت كتلة صلبة قوية كادت تمنحه فوزًا حرجًا. وإن نظرنا إلى حقيقة أنه قد حصل على عدد أصوات أعلى من ذاك الذي حصل عليه تحالفه البرلماني، نجد أن أردوغان تمكن إلى حد كبير من ضبط الكتلة الداعمة له، بل والحصول على جزء من الأصوات المترددة أيضًا.

لا يمكن إنكار رمزية تقدم كلتشدار أوغلو على أردوغان خاصة في إسطنبول، لكن هذه الانتخابات وظروفها الاستثنائية، أثبتت أن الفوز في إسطنبول -على أهميته- ليس كافيًا لتحديد قَدَر البلاد.

أمّا كلتشدار أوغلو فتصدر في ثلاثين ولاية، من بينها الولايات الكبرى، لكن المثير للاهتمام هو أن أصوات الأحزاب الداعمة له برلمانيًا تجاوزَت أصواته في الرئاسة، بما يوحي بأنه لم يتمكن من حشد أصوات جميع الأحزاب الداعمة له. إذ وإضافة إلى الكتلة الكمالية التقليدية للشعب الجمهوري، سعى كلتشدار أوغلو عبر خطابه المنفتح الجديد وتحالفاته إلى اختراق أصوات كتلتيْ المحافظين والقوميين. لكن من الواضح أن أردوغان قد حافظ على أكثريّة المحافظين، أمّا القوميون، وتحديدًا في «الحزب الجيد» فلم يصوت جزء منهم لكلتشدار أوغلو، وإنما صوتوا لمرشح تحالف أتا (السلف)، سينان أوغان، بدلًا منه، بسبب عدم رضاهم عن علاقاته مع الحركة السياسية الكردية التي تراها شريحة من القوميين مرتبطة بحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًا في تركيا. وبالتوازي مع ذلك، كان من اللافت أن قلاع الشعوب الديمقراطي الكردية كانت المناطق التي حصل فيها كلتشدار أوغلو على أعلى تصويت نظرًا لنجاحه في اختراقها بفضل علاقاته والتحولات في خطابه. 

أمّا المدن الكبرى، والتي يكن وصفها بأنها مختلطة سياسيًا وأيديولوجيًا، فكانت النتيجة مختلفة فيها هذه المرّة، إذ تصدر كلتشدار أوغلو في إسطنبول وأنقرة، بفارق ضئيل. ويمكن تلخيص المشهد فيها في أن الطرفين نجحا في تحشيد حلفائهما في هذه المدن بحيث كانت النتائج متقاربة بشكل ملحوظ، لكن العامل الأساسي كان ميْل المترددين للمعارضة. يمكن ردّ هذا لآثار الأزمة الاقتصادية التي تبدو أثقل وطئًا في هذه المدن، لا سيما في أسعار السلع وإيجارات البيوت وغيرها من مؤشرات يومية، ما يدفع الناخب المتردد لعقاب الحكومة بشكل خاص.[1] 

ومن الجدير بالذكر أن الانطباع السائد في السياسة التركية بأن الفائز في إسطنبول يفوز في تركيا على اعتبارها المدينة الأضخم التي تضم عناصر وازنة من كافة المدن والأيديولوجيات ما قد يجعلها مرآة للبلاد. لا يمكن إنكار رمزية تقدم كلتشدار أوغلو على أردوغان خاصة في إسطنبول لا سيما من حيث إشارتها إلى تراجع الأخير بعد عقدين من التقدم فيها، لكن هذه الانتخابات وظروفها الاستثنائية، أثبتت أن الفوز في إسطنبول -على أهميته- ليس كافيًا لتحديد قَدَر البلاد، خاصة إن كان الفرق ضيقًا نسبيًا (أقل من 2%).

كيف من الممكن أن ننظر إلى نتيجة المرشح سنان أوغان، وما الذي ننتظره منه في الجولة الثانية من الانتخابات؟

يتفق الكثيرون على أن المرشح أوغان كان مفاجأة كبيرة، خاصة لعبه دورًا كبيرًا في ذهاب الانتخابات إلى جولة ثانية. فبينما حصل التحالف الذي يمثله على 2.45% من الأصوات فقط في الانتخابات النيابية، تمكن أوغان من الوصول إلى نسبة 5.17% بفارق حوالي 1.6 مليون صوت عن تحالفه، في دليل واضح على أنه كان قبلة الأصوات الاحتجاجية في هذه الانتخابات.

استهدف أوغان الشريحة القومية بشكل خاص، كما في حزبيْ الحركة القومية في تحالف الشعب الحاكم، والجيد في تحالف الأمة المعارض، ما عنى قدرته على سحب الأصوات من الطرفين، لكن تشير المعطيات الحالية إلى أن أردوغان نجح إلى حد كبير في السيطرة على قاعدته، حتى القومية منها، بما قلل نزيفها، بينما فشل كلتشدار أوغلو بشكل واضح في ذلك، خاصة وأن العديد من التحليلات ترى بأن أوغان حصل على جزء من أصوات قوميي الحزب الجيد الرافضين لعلاقات مرشح تحالف الأمة مع السياسة الكردية. ومع انسحاب المرشح، محرم إنجه،[2] على خلفية ابتزازه بادعاءات تسريبات، ذهبت كتلة إنجه إلى أوغان بشكل جزئي، ما جعله عنوان الباحثين عن طريق ثالث خارج السياسة التقليدية.

تمكن أوغان من الوصول إلى نسبة 5.17% من الأصوات، بفارق حوالي 1.6 مليون صوت عن تحالفه، في دليل واضح على أنه كان قبلة الأصوات الاحتجاجية في هذه الانتخابات.

ليس من الممكن توقع سلوك أوغان بعد، خاصة وأن شروطه التي يطرحها لدعم أحد المرشحيْن للجولة الثانية صعبة عليهما. فمنذ بداية حملته الانتخابية كان من الواضح أن هدفه هو دفع الانتخابات إلى جولة ثانية يفاوض فيها أحد الطرفين لفرض سياساته، إضافة إلى الحصول على بعض المناصب. إذ يركز أوغان على قضية الحرب على الإرهاب ويهاجم السياسة الكردية ويربطها بالتنظيمات الإرهابية، لا سيما في نموذج الشعوب الديمقراطي حليف كلتشدار أوغلو، الذي يعتبره امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، وحزب الهدى (الدعوة الحرة) الكردي المحافظ حليف أردوغان،[3] الذي يعتبره امتدادًا لتنظيم حزب الله الكردي المصنف إرهابيًا في تركيا أيضًا. ليس هذا وحسب، بل يتبنى وتحالفه سياسة متطرفة يسعى لفرضها لإعادة اللاجئين السوريين «بالقوة إن لزم الأمر»، عدا عن معارضته للنموذج الاقتصادي التركي الحالي الذي يحارب الفائدة على اعتبار أنه سبب الأزمة الاقتصادية.

وعليه، أمام هذه الشروط والخطوط الحمر، سيواجه الطرفان صعوبة في التفاوض مع أوغان. فمن جهة، ورغم تقاربهما الجزئي في الموقف من قضية اللاجئين،[4] وحتى ولو قبل كلتشدار أوغلو بمنحه مناصب متغاضيًا عن فكرة أن ذلك سيزيد تعقيد حكومته الائتلافية أصلًا، فإنه من الصعب أن يتخلى عن دعم حزب الشعوب الديمقراطي الاستراتيجي، خاصة وأن الناخبين الأكراد قد يكونون من أبرز داعميه في الجولة الثانية. وعلى الطرف الآخر، ورغم توافقهما في الموقف من حزب الشعوب الديمقراطي، وحتى ولو قبل أردوغان جدلًا بتعديلات على مقاربته الاقتصادية، فإنه لا يخفي معارضته للصيغة المتطرفة التي يطرحها أوغان في ملف اللاجئين، عدا عن تمسكه بدعم حزب الهدى الذي يراه مهمًا في المناطق ذات الأغلبية الكردية. 

لذلك، وفي حال تشدد أوغان في مطالبه، قد لا يلجأ الطرفان للمفاوضات المباشرة معه، خاصة أنه لا يمكن الجزم بسيطرته على ناخبيه، ولا بقدرته على توجيههم، خاصة من أتوه احتجاجًا، وبالتالي من الممكن أن يستغل أردوغان رفض جزء من كتلة أوغان للعلاقة بين كلتشدار أوغلو والشعوب الديمقراطي لجذبهم، بينما قد يحاول كلتشدار أوغلو استغلال فكرة أن أصوات كتلة أوغان بالأساس أصوات معارضة لأردوغان بالمقام الأول.

كيف ستنعكس الأغلبية التي حصل عليها تحالف الشعب في الانتخابات النيابية على الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وما شكل الحكم الذي ينتظر كلتشدار أوغلو في حال فوزه بالرئاسة مع خسارته للبرلمان؟

سيسهم فوز تحالف الشعب بالأغلبية، بمنحه معنويات عالية يدخل عبرها الجولة الثانية من الانتخابات، وستكون هذه النتيجة أهمّ أدواته في إقناع الناخب المتردد بالاصطفاف خلف أردوغان عبر التركيز على رغبته بالاستقرار، إذ إن خلق حالة تواؤم بين البرلمان والرئاسة عبر السيطرة عليهما من جهة واحدة سيسهم في إدارة البلاد بسلاسة وتجنب إيقاعها في أزمات سياسية ودستورية.

كما تمثّل هذه النتيجة ضربة لأهم مشاريع تحالف الأمّة وأدواته الدعائية، وأعني هنا الدعوة لتغيير شكل النظام السياسي في تركيا من رئاسيّ إلى برلماني معزز. هذه الضربة لا شك سيستعين بها أردوغان وتحالفه في الطعن في مختلف أطروحات المعارضة وبالتالي إثبات أحقيتهم أمام الناخب في الجولة الثانية. كما ستسهم نفسية الهزيمة في إضعاف معنويات قواعد المعارضة على اعتبار أن اهتزاز ثقتهم بقادة أحزابهم قد يقلل من تماسك هذه الكتلة ويمنح تحالف الشعب دفعة انتخابية مهمة.

تمخضت انتخابات 14 أيار عن نصر برلماني مهم لتحالف الشعب بما يضعف قدرة المعارضة على الحديث عن تنفيذ مشاريعها، وتحديدًا مشاريعها المتعلقة بتغيير النظام السياسي التركي.

لكن في الوقت نفسه، تعتبر فترة أسبوعين في السياسة التركية فترة طويلة جدًا يمكن أن تحمل الكثير من التطورات، لذلك لا تزال المعارضة تراهن على قدرتها على تحقيق فوز -صعب- في الجولة الثانية. يرتكز هذا الرهان بالأساس على فرضية رياضية ترى بأن هناك هامش أصوات يمكن أن تجتهد المعارضة للحصول عليه بما يوفر لها فرصة الفوز. إذ إن فارق الأصوات بين المرشحَيْن المتأهلين للجولة الثانية هو حوالي 2.5 مليون صوت، وأصوات المرشحَيْن الخاسرين تصل إلى حوالي ثلاثة ملايين صوت مع وجود 9.5 مليون بين أصوات لاغية وأخرى لمن لم يقترعوا، وبالتالي تتحدث المعارضة عن قدرتها على جذب هذه الأصوات بما يضمن الفوز على اعتبار أن الذهاب للجولة الثانية بمثابة خسارة أردوغان لشعبيته عند نصف المجتمع. 

رغم أن هذه الاحتمالية غير قوية ضمن المعطيات الحالية، لكن في حال حدوثها، وبالتالي فوز كلتشدار أوغلو بالرئاسة، ستصبح الدولة التركية دولة برأسين حرفيًا. فبينما يمنح النظام الرئاسي الحالي صلاحيات تنفيذية واسعة للرئيس بما يمكنه من إدارة البلاد عمليًا بدون البرلمان، ستساهم سيطرة طرف آخر على البرلمان وقدرته على سن القوانين في إعاقة معظم مشاريع كلتشدار أوغلو ووضعه في موقف دفاعي صعب، خاصة في القوانين التي تحتاج البرلمان مثل قانون الميزانية. ومن اللافت أن تحالف الشعب في الدورة البرلمانية السابقة تبنى سياسة واضحة لاستغلال أغلبيته في البرلمان للتضييق على المعارضة عبر رفض مشاريع قوانينها ومقترحاتها بما يقلص قدرتها على الحركة ويضعها في موقف دفاعي دائم. لذلك في هذا السيناريو الصعب من المحتمل أن يستمر تحالف الشعب في السياسة نفسها، ما سيضع خصومه أمام تحدٍ كبير قد يعوق قدرتهم على إدارة البلاد ويؤدي إلى فشلهم.

قرابة خمسة ملايين شاب تركي، شاركوا بالانتخابات لأول مرة في حياتهم، ويقال إنه كان هنالك تعويل عليهم تحديدًا من مرشح المعارضة كلتشدار أوغلو، فهل نعلم لمن صوتوا؟ وكيف يمكن أن نتخيل تصويتهم في الجولة التالية؟

ليس من الممكن تخمين شكل تصويت هذه الكتلة الوازنة، خاصة وأن الانتخابات حملت مفاجآت مختلفة. فمن جهة أشارت معظم التوقعات السابقة إلى توجه هذه الفئة بشكل مكثف إلى كلتشدار أوغلو على اعتبار أنها كتلة شابة مستاءة من أزمات البلاد، لا سيما الاقتصادية، وتبحث عن التغيير ولا تتأثر بخطاب أردوغان الأيديولوجي التقليدي، لكن النتائج الحالية تشير إلى أن هذه الخلاصة ليست صحيحة بالضرورة. إذ تنافس جميع المرشحين على جذب هذه الكتلة، لا سيما كلتشدار أوغلو وأردوغان اللذيْن خصّصا لها جزءًا مهمًا من حملاتهما. فبينما راهن كلتشدار أوغلو على رغبة هذه الكتلة بالتغيير ومغازلة مطالبهم المختلفة خاصة الاقتصادية، قدم أردوغان أطروحة «جيل تكنوفيست» -نسبة إلى اسم مهرجان شبابي حاشد ترعاه الحكومة وجمعيات مجتمع مدني وشركات تكنولوجية مقربة منها-[5] وقدّم عبرها دعاية التطورات التكنولوجية المحلية، لا سيما في الصناعات الدفاعية، في قالب شبابي جماهيري، بهدف جذب هذه الكتلة.

الخلاصة هي أنه بفضل هذه الأطروحة، والتي استمرّ العمل عليها لسنوات، ومع الاعتراف بأنه من المحتمل أن جزءًا مهمًا من هذه الكتلة قد صوّت للمعارضة بمختلف أحزابها ومرشحيها بالفعل، فإن قدرة أردوغان وتحالفه على جذب هذه الكتلة لا يمكن الاستخفاف بها، خاصة في المناطق المحافظة. 

من الجدير بالذكر هنا أن الجولة الثانية ستشهد اكتساب قرابة 50 ألف ناخب شاب جديد بلغ السن القانونية في الداخل والخارج الحق في الانتخاب.

كيف يمكن قراءة نتائج أصوات الخارج، وما مدى تأثيرها في الجولة الثانية؟

شهدت هذه الانتخابات ارتفاعًا في نسبة مشاركة أتراك الخارج بالانتخابات، فوصلت النسبة 53.20% بزيادة أكثر من 400 ألف صوت عن الانتخابات الماضية، وتصدّر الرئيس أردوغان بفارق كبير بحصوله على 57.19% منها، مقابل حصول كلتشدار أوغلو على 39.85%.

وما حسم الأمر لصالح أردوغان بهذا الشكل خاصة مع تصدر كلتشدار أوغلو في دول مختلفة مثل الولايات المتحدة وكندا والصين وروسيا هو حضوره التاريخي القوي عند العديد من جاليات الدول الأوروبية التي تمتلك تواجدًا تركيًا كبيرًا وتصدُّره بفارق كبير فيها في دول مثل ألمانيا، وفرنسا، وهولندا، وبلجيكا.[6] 

يمكن ربط تصدر أردوغان الخارجي، والأوروبي بشكل خاص، بحرصه على نسج علاقة قوية مع الجالية التركية هناك عبر السعي لتقديم نفسه كقائد يحمي مواطنيه في المهجر. فبتوظيف المشاعر الدينية والقومية للمغتربين والخطاب الهجومي لأجلهم، خاصة في البلدان الأوروبية التي يتعرضون فيها لعنصرية ممنهجة على أساس عرقي وديني وصلت إلى حد جرائم القتل كما في بعض الحوادث في ألمانيا، نجح أردوغان في رسم صورة المدافع عن كتلة عريضة من أتراك المهجر، خاصة من ذوي الميول المحافظة والقومية أمام ظواهر التمييز والعنصرية والكراهية التي تستهدفهم. وبعد أجيال كبرت في غربتها دون ظل الدولة يحاول أردوغان اللعب على هذا الوتر العاطفي لجذب هذه الشرائح غير المتأثرة بشكل مباشر بالأزمات في تركيا كما في نموذج مواقفه من قضية اللاعب الألماني تركي الأصل، مسعود أوزيل، مع منتخب ألمانيا. لذلك من الممكن أن يعمل على حشد هذه الشريحة أكثر في الجولة الثانية بما يزيد من نصيبه الخارجي دون التأثير بشكل جوهري على النتيجة، على اعتبار أن عددهم ليس كبيرًا جدًا.

أخيرًا

تمخضت انتخابات 14 أيار عن نصر برلماني مهم لتحالف الشعب بما يضعف قدرة المعارضة على الحديث عن تنفيذ مشاريعها، وتحديدًا مشاريعها المتعلقة بتغيير النظام السياسي التركي. وعلى عكس العديد من التوقعات الداخلية والخارجية التي منحت كلتشدار أوغلو الصدارة، تمكن أردوغان من تصدر الجولة الرئاسية الأولى بفارق كبير عن خصمه. 

لا تمتلك تركيا تجربة سابقة في الجولات الرئاسية الثانية، لكن الواضح من المعطيات الحالية أن أردوغان يدخلها بفرص أقوى خاصة على صعيد أغلبية تحالفه البرلمانية والفارق في الأصوات مع أقرب منافسيه. ولكن لا تزال المعارضة عازمة على القتال حتى آخر لحظة أملًا في تحقيق معجزة في هذه الانتخابات المصيرية التي ستحدد مستقبل البلاد بشكل كبير، فهل من الممكن أن يحدث ما يفاجئنا؟

  • الهوامش

    [1] برلمانيًا حصل العدالة والتنمية على الصدارة في إسطنبول وأنقرة (عدا دائرتها الأولى) نتيجة لتوزع أصوات الأحزاب الكبرى، لكن رئاسيًا اجتمعت هذه الأحزاب، إضافة إلى المترددين، لتمنح كلتشدار أوغلو صدارته المهمة فيها.

    [2] رغم انسحابه في اللحظات الأخيرة، اعتبرت اللجنة العليا للانتخابات أصوات إنجه سارية، وحصل بالفعل على 0.44% (أكثر من 238 ألف) من الأصوات التي يمكن اعتبارها احتجاجية.

    [3] دعم هذا الحزب العدالة والتنمية في المناطق ذات الأغلبية الكردية خاصة المحافظة في مواجهة الشعوب الديمقراطي ودعايته. وفي هذا السياق تخلى عن دخول الانتخابات بقائمة منفردة ليدخل عبر قوائم العدالة والتنمية ويتمكن من الحصول على أربعة نواب منها.

    [4] من الجدير بالذكر أن كلتشدار أوغلو حرص على تمييز نفسه عن مقاربة أوغان وتحالفه المتشددة من حيث التركيز على فكرة العودة الطوعية «لكن خلال مدة أقصاها سنتان» وعلى فكرة أن هذه العملية ستتم بلا عنصرية على حد تعبيره.

    [5] بينها شركة بايكار المصنعة للمسيرات التركية.

    [6] مثلًا ألمانيا وحدها تضم حوالي 1.5 مليون ناخب تركي خارجي من أصل مجموع كلي هو 3.4 مليون حول العالم. شارك في ألمانيا أكثر من 700 ألف ناخب، حصل أردوغان على نسبة أكثر من 65% منهم منفردًا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية