تركيا بين الغرب وروسيا: ما الذي تغير؟

الخميس 03 تشرين الثاني 2022
أردوغان
أردوغان وبوتين في قمة سمرقند لمنظمة شنغهاي للتعاون. المصدر: وكالة الأناضول.

«أقول للمستخفّين بروسيا، أنتم مخطئون، فهي ليست دولة يستخف بها»
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أيلول 2022

لا زالت تركيا تحاول المحافظة بشكل صارم على سياسة إمساك العصا من المنتصف بين روسيا وأوكرانيا -والغرب من خلفها- في سعي حثيث إلى مراعاة توازنها الحساس جدًا سياسيًّا واقتصاديًّا بين الطرفين. لكن يمكن للمتابعين رؤية تغيّر مهم في الخطاب التركي، يمكن تلخيصه بأن هنالك تصاعدًا في اللهجة الصدامية من تركيا تجاه الغرب، وتحديدًا من الرئيس رجب طيب أردوغان. إذ بات الخطاب التركي أميل بوضوح إلى انتقاد الغرب في مقابل سعيٍ ملحوظ للتعاون مع روسيا وخطاب أكثر لينًا تجاهها. بالتأكيد لا يدعي هذا المقال أن هذا التغير يشير إلى انحياز تركي لصالح روسيا في حربها على أوكرانيا، أو إلى تغير جوهري في سياسة البلاد الحالية (إمساك العصا من المنتصف)، بل يدافع أن هذه اللهجة الصدامية التركية مرتبطة بأسباب داخلية وخارجية وليس بروسيا نفسها أو بالحرب المستمرة في أوكرانيا.

تأتي تصريحات أردوغان كأبرز الأمثلة على هذه اللهجة الصدامية. فمثلًا انتقد أردوغان بشدة في تصريحات له السياسات الغربية تجاه روسيا، معتبرًا إياها سياساتٍ «غير صائبة»، ومشيرًا إلى أنها سياسات «استفزازية وتحريضية» فقط. ليس هذا وحسب، بل وانتقد أردوغان أيضًا جودة الدعم الغربي المقدم لأوكرانيا متهمًا الغرب صراحةً بإرسال «أسلحة خردة» إلى أوكرانيا.

كما وصرح أردوغان أيضًا في سياق تعليقه على أزمة الطاقة المتوقعة هذا الشتاء في أوروبا بقوله إن الأخيرة «تحصد ما زرعت»، مؤكدًا أن سبب هذه الأزمة الرئيس هو العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. بل وكرر مرارًا في الأشهر الأخيرة قوله إن هذا الشتاء سيكون قاسيًا على أوروبا، وأن تركيا لا تعاني مشكلة كهذه بسبب سياستها المتوازنة. إضافة إلى ذلك، وعلى هامش حديثه المستمر عن جهود تمديد اتفاقية تصدير الحبوب من أوكرانيا (التي تنتهي في 19 تشرين الثاني القادم)، دعم أردوغان مطالب بوتين بالسماح أيضًا لروسيا بتصدير حبوبها وسمادها واستثناء هذه المنتجات من العقوبات، وأيَّد أيضًا انتقادات بوتين حول حصر تصدير غالبية الحبوب الأوكرانية بالدول الغنية دون الفقيرة.

وفي السياق نفسه، وبعد لقائه مع بوتين على هامش القمة السادسة لمؤتمر التفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا (سيكا)، التي انعقدت مؤخرًا في كازاخستان، أعلن أردوغان عزمهم «نقل الحبوب والأسمدة الروسية إلى البلدان الأقل نموًا عبر تركيا» مشيرًا أن هذه الخطوة «ستغير العديد من التوازنات في العالم»، ومؤكدًا أن الخطوات التي ستتخذها تركيا وروسيا «ستزعج بعض الأوساط المعروفة» في تلميح إلى انتقادات الدول الغربية للعلاقات التركية الروسية التي نمت وتعززت بشكل خاص خلال هذه الأزمة. إضافة إلى ذلك، وفي ظل العزلة الغربية التي فُرضت على روسيا، كان أردوغان من أكثر القادة لقاءً مع بوتين.

ويبرز من بين هذه اللقاءات قمة طهران التي عُقِدت بين روسيا وتركيا وإيران في تموز الماضي مباشرة بعد زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التحشيدية ضد روسيا في المنطقة، وما تحمله هذه القمة من دلالات. أثارت هذه القمة أصداءً مختلفةً في الغرب، بعيدًا عن سوريا موضوعها المباشر، إذ اعتبرتها صحف غربية بمثابة «جبهة متمردة مناهضة للغرب» ووسيلة لإثبات أن روسيا «ليست معزولة كما يريد لها الغرب». أمّا عن المشاركة التركية فيها فقد اعتبرها البعض مشاركة في «قمة تحدت الغرب».

لم ينعكس هذا التغيير في الخطاب التركي تجاه الغرب من خلال انتقاد سياساته تجاه روسيا والتعاون معها فقط، بل وأيضًا من خلال تصريحات أردوغان حول مستقبل تموضع تركيا السياسي. حيث انتقد أردوغان خلال لقاء تلفزيوني مع قناة أمريكية الشهر الماضي ما وصفه بـ«تكتيكات الإلهاء» التي يتبعها الغرب مع تركيا فيما يتعلق بمسألة عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي، مشيرًا إلى أن الأخير «يماطل تركيا باستمرار منذ 52 سنة»، رغم مساهماتها الكبيرة في أمن واستقرار الغرب كعضو مهم في الناتو. وفي السياق نفسه أضاف أردوغان أيضًا أن بلاده قد تكون مقبلة على البحث عن «خيارات أخرى» بديلة في ظل انسداد أفق هذا المسار. وعند الحديث عن هذه الخيارات صرّح أردوغان قبلها بيومين عن رغبة بلاده في الانضمام إلى منظمة شانغهاي للتعاون التي تقودها الصين وروسيا وتحمل عضويتها إيران، والتي تعتبر تكتلًا مناوئًا للغرب فيما سيفصله المقال لاحقًا. يمكن محاولة تفسير منطلقات هذه اللهجة التركية في خطابها الرسمي من خلال تناول أسباب خارجية وأسباب -بالأحرى فرص- داخلية متنوعة، تدفع نحو تعزيز هذا التوجه.

توتر مع الغرب، تقارب مع الشرق

تاريخيًّا، لطالما شهدت العلاقات بين تركيا ومعسكر الغرب فترات توتر وتصادم متلاحقة رغم التحالف الرسمي بينهما منذ الخمسينات. وفي إطار هذه التوترات يُلاحظ بوضوح نزوع تركي للتقرب من الشرق، خاصة روسيا، من باب اللعب على التوازنات الإقليمية والدولية، وربما تلويحًا بالقدرة على توظيف هذه التوازنات للمناورة لخدمة المصالح القومية.[1] وعليه، ورغم التزام تركيا بحياد أوكراني الهوى في الأزمة الحالية بين روسيا والغرب، إلا أنها أصبحت تتبنى خطابًا يميل نحو الشرق أكثر في ظل التوترات المتزايدة في علاقاتها مع الغرب.

ترتكز الأزمة الحالية بين تركيا والغرب على عدة قضايا، يأتي على رأسها قضية عضوية الاتحاد الأوروبي. حيث ظلت تركيا تدور في فلك الغرب لعقود، بل لا تزال ترى مستقبلها كجزء من منظومته السياسية والعسكرية والحضارية، لكنها لم تحقق أي تقدم يذكر في مسألة الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، لأسباب ترى أنها سياسية وتمييزية مجحفة. حيث ترى تركيا أن الاتحاد الأوروبي اتبع معها سياسة مماطلة تراوحت بين الرفض الكامل أو أنصاف الحلول كما في أطروحة «الشراكة المميزة» كبديل للعضوية الكاملة، والتي ترفضها تركيا على اعتبار أنها «عضوية من الدرجة الثانية». كما وانعكست هذه الأزمة على هامش الحرب الروسية في أوكرانيا أيضًا، فبينما أعلن أردوغان عن تقديره لجهود إدخال أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، طالب الأخيرَ بمعاملة بلاده بالمثل دون انتظار أن «تضربها حرب» مؤكدًا أن «تركيا لن تنتظر كارثة».

رغم التزام تركيا بحياد أوكراني الهوى في الأزمة الحالية بين روسيا والغرب إلا أنها أصبحت تتبنى خطابًا يميل نحو الشرق أكثر في ظل التوترات المتزايدة في علاقاتها مع الغرب.

وفي هذا السياق يبرز الخلاف التاريخي المتجدد بين تركيا واليونان كأحد أهم الأزمات المؤثرة في العلاقات التركية مع الغرب. حيث لا يزال البلَدان يخوضان صراعًا سياسيًا خطرًا وقابلًا للانفجار في العديد من الملفات الحساسة، كقبرص وشرق المتوسط وليبيا واللاجئين والجرف القاري في بحر إيجه وغيرها. وفي هذا السياق ترى تركيا أن الاتحاد الأوروبي منحاز لخصمها لا سيما مع توظيف اليونان لعضويتها في الاتحاد للضغط على تركيا في صراعاتهما الثنائية والدعم الأوروبي الملحوظ لما تصفه تركيا بـ«تجاوزات اليونان».

كذلك، تلعب الأزمة المستمرّة بين تركيا والولايات المتحدة دورًا مهمًا في الميل التركي شرقًا، حيث تشهد العلاقات بين البلدين توترًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة لا سيما في قضايا مثل سوريا والدعم الأمريكي للقوى الكردية التي تعتبرها تركيا إرهابية، إضافة إلى ما تراه تركيا تحيّزًا أمريكيًا لصالح تحالف اليونان-قبرص[2] مثلًا. لكن أحد أبرز ملفات الخلاف الأمريكية التركية الحالية هي أزمة الصناعات العسكرية بين الطرفين، إذ دفع رفض الولايات المتحدة تزويد تركيا بمنظومات دفاع جوي الأخيرة نحو روسيا، ما أدى إلى أزمة منظومة الصواريخ الروسية «إس-400» التي لا تزال تبعاتها مستمرة.

واليوم، وفي نفس الملف، ظهرت أزمة جديدة بين البلدين حول صفقة الطائرات المقاتلة من نوع إف-16. إذ ورغم موافقة الإدارة الأمريكية على الصفقة إلا أنها لا تزال متعثرة بسبب شروط من الكونجرس الأمريكي ترفضها تركيا. ترتبط هذه الشروط التي لا تزال محل نقاش بضرورة أن تكون الصفقة متماشية مع المصالح الأمريكية، وضرورة أن تتعهد تركيا بعدم استخدام هذه المقاتلات فوق الأراضي اليونانية. ومع استمرار هذه الأزمة منذ أشهر صرح أردوغان أن الولايات المتحدة ليست الخيار الوحيد أمام تركيا، وأنهم يمكن أن يحصلوا على طلبهم من مكان آخر «كما فعلوا مع الـ إس-400» في إشارة إلى إمكانية تعمق الأزمة، وربما الميل شرقًا، أكثر.

تتباين الآراء حول تحليل مدى جدية هذا الميل نحو الشرق في الخطاب التركي الحالي، فمن جهة يراه البعض إشارة إلى إمكانية واردة لحدوث تحول جذري في تموضع تركيا السياسي في ظل الأزمة مع الغرب. حيث يرى هؤلاء أن مشاركة أردوغان للمرة الأولى في القمة التي عقدتها منظمة شانغهاي للتعاون في مدينة سمرقند الأوزبكية في شهر أيلول الماضي بدعوة مباشرة من بوتين، وتصريحه علانيةً أن تركيا تسعى للانضمام إلى هذه المنظمة دلالة واضحة على إمكانية هذا التحول الجذري في ظل تعمق الأزمة مع الغرب.

لكن، ومن جهة أخرى، يرى البعض أن هذا الميل نحو الشرق في تركيا الآن ليس إلا ورقة ضغط تستخدمها نخب العدالة والتنمية للمناورة في مواجهة الغرب. فهذه ليست المرة الأولى التي يعلن أردوغان فيها عزمه الانضمام إلى منظمة شانغهاي للتعاون، إذ إنه وفي لقاء مع بوتين أيضًا عام 2012، وبعد انتقاد إغلاق الاتحاد الأوروبي الطريق أمام عضوية تركيا فيه، أعلن نيته الانضمام لهذه المنظمة وإعادة التفكير بالسعي إلى الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي. لكن سرعان ما تراجع أردوغان عن تصريحاته هذه عام 2013 مؤكدًا أن السعي إلى عضوية منظمة شانغهاي للتعاون مفتاح لتعزيز التعاون مع أعضائها وليس بديلًا عن عضوية الاتحاد الأوروبي.

وهذه المرة أيضًا تبدو تصريحات أردوغان مناورة سياسية أكثر منها رغبة حقيقية في الانضمام إلى هذا التكتل أو تغيير التوجه الجيوستراتيجي لتركيا. فصوره كقائد ذي حضور وتأثير بين زعماء تلك الدول المناوئة للغرب وتصريحاته برفقتهم تبدو أداة مناسبة، وربما كافية للآن، في خلافه الحالي مع الغرب. لكن حتى وإن كانت نية تركيا حقيقية في الانضمام إلى هذه المنظمة والتوجه شرقًا، فإن تصريح مسؤولي الخارجية الروسية بأن تركيا «يجب أن تتخلى عن عضوية الناتو لكي تصبح عضوًا في منظمة شانغهاي للتعاون» يجعل انضمامها إلى هذه المنظمة أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلًا لاعتبارات متنوعة خاصة أن تركيا ترى الاتحاد الأوروبي كنظير لمنظمة شنغهاي للتعاون مع فصل كامل للناتو من هذه المعادلة.

الفرص في قلب الأزمة

أمّا داخليًا فيمكن ربط هذا التغير في لهجة الخطاب التركي بالفرص المتنوعة سياسيًّا واقتصاديًّا -وبالتالي انتخابيًّا- التي أفرزتها هذه الأزمة الدولية. فبدايةً نجح أردوغان في توظيف النجاحات الدبلوماسية المختلفة التي حققتها تركيا كوسيط منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا لرسم صورة القائد المؤثر عالميًا الذي تمكن من تعزيز مكانة تركيا الدولية أمام جمهوره في الداخل. ومن جهة أخرى ساهمت العقوبات الغربية وسياسات هذا المعسكر في محاولة فرض عزلة متعددة الطبقات على روسيا في تمهيد الطريق أمام تعميق العلاقات بين روسيا وتركيا على مستويات مختلفة. حيث ترى تركيا في تعميق العلاقات مع روسيا فرصة مهمة لا سيما لتحسين الوضع الاقتصادي في ظل الأزمة المتفاقمة التي تمر بها البلاد والتي من المتوقع أن تكون أحد أهم العوامل المؤثرة في الانتخابات المصيرية القادمة.

فمثلًا يُلاحظ أن أردوغان قد طلب رسميًا من بوتين خلال لقائهما على هامش القمة الأخيرة لمنظمة شانغهاي للتعاون سعرًا مخفضًا للغاز الطبيعي، بل وحتى تأجيل بعض مدفوعات الطاقة التركية إلى عام 2024، إضافة إلى تحويل مدفوعات الطاقة إلى العملات المحلية تدريجيًا بدل الدولار. حيث تحاول تركيا من خلال هذه الخطوات تخفيض فاتورة الطاقة التي تثقل كاهل البلاد سنويًّا والحفاظ أيضًا على العملات الصعبة داخل حدودها خاصة في ظل انخفاض أسعار الليرة التركية. يجدر بالذكر أن تركيا تعتمد على الغاز بشكل كبير ليس فقط في القطاعات الصناعية، بل وفي التدفئة وتوليد الكهرباء أيضًا ما يجعل أي تخفيض أو تحسن في هذا الملف أداة مؤثرة ومباشرة لمخاطبة هموم المواطنين الاقتصادية وتحسين أوضاعهم في هذه الفترة السياسية الحرجة. حيث أعلن البلدان لاحقًا أنهما اتفقا على أن تدفع تركيا 25% من ثمن الغاز الروسي بالروبل[3] في خطوة تستهدف «تخفيض التكاليف».

 نجح أردوغان في توظيف النجاحات الدبلوماسية المختلفة التي حققتها تركيا كوسيط منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا لرسم صورة القائد المؤثر عالميًا الذي تمكن من تعزيز مكانة تركيا الدولية أمام جمهوره في الداخل.

وفي سياق آخر، ومنذ توقف خط أنابيب «السيل الشمالي» نحو أوروبا كرر بوتين مرارًا عرضه تعويض الكميات المفقودة من الغاز المصدرة إلى أوروبا من خلال خط أنابيب «السيل التركي» عبر تركيا. حيث طرح بوتين فكرة إمكانية تأسيس روسيا لمركز كبير لنقل للغاز في تركيا وتحويلها إلى «أكبر مركز لتوزيع الغاز إلى أوروبا» مشيرًا إلى أن تركيا هي «الشريك الأكثر موثوقية» في نقل الغاز. تلقفت تركيا هذا العرض بترحيب كبير حيث أعلن أردوغان أن تركيا ستصبح مركزًا دوليًا لنقل وتوزيع الغاز مؤكدًا أن البلدين سيبدآن العمل فورًا على هذا المشروع. وفي السياق نفسه أعلنت روسيا أنه يمكن تصدير نحو 63 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا عبر تركيا إلى أوروبا. حيث ستساهم هكذا خطوة في حال نجاحها في تعزيز مكانة تركيا الدولية خارجيًا، وكذلك في تعزيز صورة أردوغان وحزبه داخليًا.

ومن جهة أخرى شهد مشروع محطة أكويو النووية في مدينة مرسين التركية، أحد أهم المشاريع المشتركة بين روسيا وتركيا، تطورات مهمة لافتة التوقيت في هذه الفترة أيضًا. إذ أن هذا المشروع، الذي تشرف عليه المؤسسة الروسية الحكومية للطاقة النووية «روس آتوم» والذي من المخطط أن يغطي 10% من احتياجات تركيا الكهربائية عند انتهائه، كان حاضرًا بوضوح على أجندة لقاءات أردوغان وبوتين المتكررة في الفترة الأخيرة خاصة أن أول توربيناته سيتم افتتاحه في العام المقبل. كما تناقلت وسائل الإعلام التركية خبرًا مفاده أن روس آتوم خصصت مبلغ 15 مليار دولار لاستثمارها في محطة أكويو النووية أي 75% من تكلفة البناء الكلي مضيفةً أن خمس مليارات دولار من هذا المبلغ وصلت بالفعل إلى تركيا في نهاية شهر تموز المنصرم. وعقب محادثات أردوغان وبوتين الأخيرة في كازاخستان أعلنت شركة روس آتوم أنهم بدأوا مباحثات مع الجانب التركي بخصوص إنشاء محطة للطاقة النووية في ولاية سينوب شمالي تركيا.

اقتصاديًا شهد التبادل التجاري بين البلدين زيادة ملحوظة حيث أشارت صحيفة فايننشال تايمز أن الصادرات التركية إلى روسيا في أشهر حزيران وتموز وآب المنصرمة زادت بنسبة 46% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. كما وتشير أرقام هيئة الإحصاء التركية للتجارة الخارجية في الأشهر الستة الأولى من عام 2022 أن التبادل التجاري التركي الروسي زاد بشكل ملحوظ. إذ أن الواردات التركية من روسيا تضاعفت بنسبة 119.7% رغم الحرب الأوكرانية لتصبح 27.74 مليار دولار مقارنة مع 12.63 مليار دولار في نفس الفترة عام 2021. أمّا الصادرات التركية إلى روسيا فزادت بنسبة 10.07% فقط مقارنة مع أرقام العام الماضي في زيادة يراها المراقبون متواضعة بسبب الخوف من العقوبات الغربية.

حذر مسؤولون أمريكيون وأوروبيون المسؤولين الأتراك من محاولة روسيا استخدام تركيا ونظامها البنكي كثغرة لتجاوز العقوبات الغربية المفروضة عليها خاصة أن قرابة 500 شركة روسية بدأت العمل في تركيا خلال النصف الأول من العام الجاري. ومارست هذه الدول ضغوطًا كبيرة على تركيا تمخضت حتى الآن عن وقف البنوك الخاصة والعامة في البلاد العمل بنظام التسديد المالي الروسي «مير» في ظل مساعٍ تركية لتوفير بديل عملي.

وبعيدًا عن العلاقات الروسية التركية الرسمية، يُلاحَظ على المستوى الشعبي أن تركيا، أصبحت منذ بداية الحرب في أوكرانيا واحدة من أكثر الوجهات المفضلة لدى الروس لا سيما الأغنياء منهم ما فتح الباب أمام فرص اقتصادية متنوعة لتركيا. حيث أشارت صحف مختلفة أن تركيا أصبحت ملاذًا مهمًا، ليس فقط للأغنياء ورجال الأعمال الروس ورؤوس أموالهم، بل ولذوي الياقات البيضاء منهم أيضًا. فلقد أعلنت تركيا مبكرًا على لسان وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو ترحيبها بطبقة رجال الأعمال الروس للعمل في تركيا بشرط الالتزام بالقوانين في نزوع واضح نحو جذب رؤوس الأموال التي تأثرت بالأزمة لتوظيفها في خدمة الاقتصاد التركي. ولا زالت تركيا ملاذًا سياحيًّا يستقبل أعدادًا ضخمة من السياح الروس رغم استمرار الحرب في أوكرانيا خاصة الراغبين منهم في تلافي التجنيد الإجباري بعد قرار التعبئة الجزئية الأخير. حيث تربع المواطنون الروس للمرة الأولى على رأس قائمة المواطنين الأجانب الأكثر شراءً للعقارات في تركيا، إذ تجاوزت العقارات التي قاموا بشرائها في الشهور السبعة الأولى من هذا العام أكثر من ضعف ما اشتروه في الفترة نفسها من العام الماضي.

لا يلقى هذا التقارب التركي الروسي إجماعًا داخليًا في تركيا، إذ أبدت المعارضة التركية قلقها من دوافع وتوقيت هذه التطورات في العلاقات الروسية التركية. حيث اعتبرت العديد من الشخصيات المحسوبة على المعارضة أن هذه الخطوات تأتي في سياق المحاولات الروسية لدعم أردوغان وأن «بوتين أصبح عضوًا في حزب العدالة والتنمية». ليس هذا وحسب، أشار نائب رئيسة الحزب الجيد، آيتونتش تشراي، أن بوتين «أصبح العضو الثالث في تحالف الشعب [تحالف العدالة والتنمية-والحركة القومية الحاكم]». إضافة إلى ذلك صرح أردوغان توبراك، النائب البرلماني عن حزب الشعب الجمهوري ومستشار رئيسه، أن بوتين يقدم «قرضًا انتخابيًا ليستخدمه أردوغان في حملته الانتخابية». وترى المعارضة، المعروفة بميولها الواضحة نحو الغرب، أن روسيا ومن خلال هذه الخطوات المتتابعة تسعى إلى دعم العدالة والتنمية من خلال العمل على تهيئة ظروف أفضل لأردوغان الذي تراه شريكًا مهمًا في الداخل والخارج.

خاتمة

لا يمكن اليوم تخمين حجم التأثير الذي من الممكن أن تتركه هذه اللهجة الصدامية المتجددة على تركيا لا سيما على سياستها الداخلية وقدرة حزبها الحاكم على المناورة. إذ أن هذه اللهجة، التي من المتوقع استمرار تصاعد حدتها أكثر على المدى القريب، تنطوي على العديد من التحديات الصعبة والمركبة. حيث إن السؤال الرئيس أمام العدالة والتنمية اليوم على هامش هذا التغير في لهجته هو إن كان من الممكن لهذا الميل العملي شرقًا نحو روسيا، وما يوفره ذلك من أدوات خطابية واقتصادية يمكن توظيفها داخليًا، أن يساهم في تحسين فرص الحزب في الاستحقاق الانتخابي المصيري المقبل؟ أو إن كان يمكن أصلًا توظيف هذا الميل شرقًا لترك أثر جوهري على مستقبل الصراع السياسي داخل البلاد؟

فمن جهة يمكن أن تساهم هذه اللهجة الصدامية والندية مع الغرب في تحشيد ناخبي أردوغان المحافظين والقوميين سياسيًا خلف صورة القائد القوي، لكن وفي حال استمرار الأزمة الاقتصادية وتفاقم آثارها دون تحسن مباشر على حياة المواطنين فإن موقف أردوغان حتى أمام قاعدته الصلبة سيكون صعبًا. وعليه أصبح التحدي الأكبر بالنسبة للعدالة والتنمية اليوم هو القدرة على التوظيف الفاعل لأي فرص اقتصادية ممكنة من هذا الميل شرقًا بشكل ينعكس عمليًا على حياة المواطنين ليُمكن استثمار هذه السياسة بشكل فاعل في الانتخابات. لا تبدو هذه المعادلة بسيطة أبدًا، إذ يجب أن تلتحم عوامل داخلية وخارجية مختلفة للتمكن من حلها ما يترك مجالًا للعديد من التساؤلات عن إمكانية نجاح العدالة والتنمية وسعة الوقت المتبقي حتى الانتخابات، بل وحتى التكلفة المستقبلية لهذه السياسة التي تشبه إلى حد كبير السير في حقل ألغام.

  • الهوامش

    [1] تعتبر هذه السياسة امتدادًا لسياسة الموازنة التي اتبعتها الدولة العثمانية خلال فترة انحدارها عبر اللعب على التوازنات والتناقضات في محيطها حيث ورثتها تركيا الجمهورية كما يُلاحظ خلال الحرب الباردة، وقد برزت هذه السياسة بوضوح أيضًا في النصف الثاني من حكم العدالة والتنمية.

    [2] يجدر بالذكر هنا أن أردوغان عاتب مؤخرًا الولايات المتحدة في هذا الملف تحديدًا على اعتبار أنها لا تتصرف بشكل عادل بين اليونان وتركيا وأن الأخيرة عضو أهم من اليونان في الناتو.

    [3] منذ بداية الحرب في أوكرانيا زاد دخول عملة الروبل إلى تركيا بشكل كبير من خلال زيادة السياح الروس والتجارة الخارجية مع روسيا وهجرة رؤوس الأموال والشركات الروسية إلى تركيا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية