قطر الصغرى الكبرى (3): تنافسٌ على ضفاف الخليج 

تصميم توفيق الضاوي

قطر الصغرى الكبرى (3): تنافسٌ على ضفاف الخليج 

الأحد 31 تشرين الأول 2021

(الجزء الأخير من سلسلة من ثلاثة مقالات، تنشر أسبوعيًا، تتناول دور مخاوف النظام القطري، الداخلية والخارجية، في صياغة سياسته الخارجية وعلاقاته الدولية، الجزء الأول، الجزء الثاني)

الوساطة سبيلًا للبقاء وتعزيز المكانة

في سبيل تعزيز حضورها في المنطقة، وفي إطار استراتيجيّتها التي تمكّنها من البقاء، سعت قطر، منذ بدايات القرن الحالي، للتدخّل في مجموعة من النزاعات واسعة النطاق؛ من الصراعات في السودان إلى الخلافات الطائفية المعقّدة في لبنان، وحتى التوترات الدينية والقبلية في اليمن، وصولًا إلى جيبوتي وأفغانستان، وعودة إلى فلسطين التي تشهد انقسامًا سياسيًا حادًا. كما طرحت قطر عاصمتها وجهةً للعديد من المنتديات والمنظمات متعددة الأطراف، بما في ذلك جولة الدوحة لمفاوضات التجارة العالمية الشهيرة، والمؤتمر الإسلامي، والمنتدى الاقتصادي العالمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وغيرها. وقد حققت نجاحًا ملحوظًا في إبرام الاتفاقات والتسويات وبناء سمعتها بوصفها وسيطًا في المنطقة. 

دور الوسيط هذا عادةً ما كانت تلعبه في المنطقة الدول الكبرى؛ مثل السعودية وتركيا ومصر. إلّا أن قطر كسرت هذا الاحتكار، وباتت خلال العقدين الفائتين وجهة رئيسة لكافة اللاعبين السياسيين المهتمين بـ«حلّ النزاعات» أو على الأقل بمظهر حل النزاع. 

للتوسط وإبرام الاتفاقات، تستخدم قطر ذراع الدعاية وإمكانياتها الاقتصادية والمالية الكبيرة، بالإضافة إلى الدبلوماسية الشخصية المحنّكة للأمير السابق والحالي، وطاقمًا متمكّنًا من الدبلوماسيين القطريين. كما أن لدى قطر ميزة أخرى، إذ يُنظر إليها على أنها أقل تهديدًا وأكثر حيادية في تعاملاتها عند مقارنتها بجهات أخرى مثل السعودية. فعلى سبيل المثال، لسنوات طويلة، دعمت المملكة العربية السعودية بكل صراحة عائلة الحريري في لبنان، وهو ما يعنى أنها غير مؤهّلة للتوسط في حل الخلافات اللبنانية. أمّا قطر فقد تمكّنت من استضافة الفرقاء السياسيين في لبنان عام 2008، لينتج عن الوساطة اتفاق الدوحة الذي أنهى فترة استعصاء لبنانية طويلة. وقد تمكّنت قطر من لعب هذا الدور، جزئيًا، بسبب محافظتها على علاقات جيدة مع مختلف الطوائف والأحزاب اللبنانية، وتقديمها دعمًا ماليًا لمختلف الجهات في البلد، كما أنها لم تدعم علنًا في السنوات السابقة للاتفاق أي جهة لبنانية على حساب الأخرى. إن إجراءات قطر خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 دليل على ذلك، فقد تعهدت قطر بإعادة بناء بلدة بنت جبيل بجنوب لبنان حيث دُمّر 600 منزل حسب تقديرات حزب الله، كما كان أمير قطر أول زعيم عربي يزور البلد الذي دمّرت الحرب أجزاء كبيرة منه فور انتهاء القتال، وعلا صوت قطر في مجلس الأمن بإدانة العدوان الإسرائيلي على لبنان. كما كانت قطر الدولة العربية الأولى التي عرَضت على قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان إرسال قوات، وواصلت خوض حوار مفتوح مع مختلف أطراف الانقسام السياسي اللبناني. حتى أن حزب الله نصب لافتات كبيرة في أماكن مختلفة من لبنان تحمل شعار: «شكرًا قطر». 

وما زال لقطر دور فاعل في لبنان وتواصل مع الأطراف اللبنانية، ومؤخرًا أبدت قطر استعدادها دعم المبادرة الفرنسية المطروحة لإعادة بناء الاقتصاد اللبناني، والاستثمار المالي ما قد يساهم في تخفيف وطأة انهيار الليرة اللبنانية.

مما يثير الدهشة أن تظهر واحدة من أصغر الدول في الشرق الأوسط كوسيط رئيسي للنزاعات الإقليمية الكبرى بما فيها القضية الفلسطينية، حيث لعبت قطر دورًا في تمويل التهدئة في قطاع غزة بتنسيق بين حماس وحكومة الاحتلال. سعي قطر نحو لعب هذا الدور إقليميًا ودوليًا مردّه فهمُ قادة الإمارة للمكانة التي تستمدّها من ممارسة دبلوماسية على هذا المستوى العالي من الأهمية. في بعض الأحيان، تمارس الجهات المختلفة الوساطةَ رغبة منها في تجنّب ما قد ينشأ عن هذه الصراعات من نتائج يمكن لها أن تؤثّر سلبًا على القوى المتوسّطة، إلا أن الدافع في حالة قطر مختلف، إذ أن وساطتها جزء من استراتيجيتها الأوسع للتغلب على العقبات الرئيسية التي خلقها كونها دولةً صغرى في الشرق الأوسط ولتمكينها من بناء نفوذ أكبر، مما يكسبها احترام اللاعبين الآخرين في المنطقة. 

عادة ما ينظر لقطر على أنها وسيط أقل تهديدًا وأكثر حيادية في تعاملاتها عند مقارنتها بجهات أخرى مثل السعودية.

من خلال الوساطة، تسعى قطر نحو ترسيخ مكانتها قوةً سياسية وازنة رئيسية وطرفًا مهتمًا بالاستقرار إقليميًا. هذه الجهود لا تقتصر على المنطقة، بل إنها تتعداها لمناطق بعيدة نسبيًا عن قطر والمشرق العربي، مثل السودان وأفغانستان. كما أن هذا الدور يُمكّنها من تقديم خدماتها السياسية للعديد من الأطراف التي تمتلك مصالح حيوية في المنطقة، وبالطبع أهمها لقطر اليوم هي أمريكا وتركيا، خاصة وأن سياسات قطر في خضم الثورات العربية ساهمت في تآكل تموضعها كدولة صغيرة محايدة نسبيًا تلعب أدوار وساطة تتطلب علاقات جيدة مع كافة الدول والفرقاء السياسيين، وتحوّلها نحو سياسة أكثر خشونة سعت فيها قطر إلى تحويل لحظة الثورات العربية إلى لحظة صعودها الجيوسياسي كحاضن للأنظمة السياسية الجديدة.

يكاد يكون من المستحيل جمع قائمة كاملة بجهود الوساطة التي شاركت بها قطر نظرًا لسرية البعض منها. ومن بين أشهرها؛ المشاركة في إطلاق سراح الممرضات البلغاريات من السجون الليبية نتيجة لاتهامات أنهن ينشرن مرض الإيدز. كما شاركت قطر في حل قضية لوكربي وإطلاق سراح المتهم الليبي. وساهمت بحل النزاع الحدودي بين تشاد والسودان. وحاولت إقناع صدام حسين بجدية الولايات المتحدة فيما يتعلق بغزو العراق في 2003. وسعت مرارًا إلى الوصول لاتفاق بين حركتي حماس وفتح، ودعم جهود المصالحة، بعد الوصول إليها، من خلال تقديم حوافز مالية لكلا الطرفين تتمثل في تمويل مشاريع كبرى في الضفة الغربية مثل مدينة روابي والدعم الذي قدمته لحماس في غزة. وتوسطت بين الحوثيين والحكومة اليمنية عام 2010. وكان لها دور في الوساطة بين شمال السودان وجنوبه، وما بين قطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي. للمفارقة دور قطر الكبير في الوساطة الذي جعل منها مُنافسًا لدول كمصر والسعودية، أدى أيضًا لحاجتها هي للوساطة في حل الأزمات المتفاقمة بين الدوحة وجاراتها.

الدوحة بوصفها مساحة للنقاش الموجّه

وجه آخر لتحوّل الدوحة عاصمة سياسية للشرق الأوسط يتمثّل في استقبالها عددًا من المنفيين والمعارضين والهاربين من قمع أنظمتهم والمثقفين والفلاسفة على اختلافهم. شمل ذلك عضو الكنيست الإسرائيلي السابق عزمي بشارة وصولًا إلى شخصيات مثل يوسف القرضاوي، ومنح هؤلاء القدرة على التحدث إلى الملايين من خلال شبكة واسعة من المنابر الأكاديمية والإعلامية وتوفير بيئة مادية واجتماعية ملائمة لهم. تشكل هذه السياسة تحديدًا نقلة في دور المعارض-المنفي وشكل حضوره، فقطر لا تكتفي باحتضان هؤلاء ولكن تساهم في بناء مشاريع ومؤسسات حولهم تساهم في بناء نفوذها السياسي في المنطقة، بما فيها قدرتها على صقل الأجندات البحثية والرأي العام العربي.

كما سعت قطر إلى إحداث ثورة في نظامها التعليمي داعيةً الطلاب العرب والأجانب للدراسة في نخبة الجامعات الغربية التي أسست لها فروعًا في الدوحة. تتضمن القائمة جامعات كورنيل، وجورج تاون، وفرجينيا كومنولث، وكارنيغي ميلون، ونورث وسترن، وإتش إي سي باريس، والعديد من الجامعات الأخرى، إضافة إلى معهد الدوحة للدراسات العليا. ويتوافق تطوير الدوحة مدينتها التعليمية مع سعيها الأكبر لتحديث قوتها العاملة، وزيادة نفوذها كوجهة تعليمية للعديد من الطلاب العرب والأجانب الراغبين في الحصول على تعليم ذي مستوى عالمي وعالٍ.

لا تكتفي قطر باحتضان المعارضين والمثقفين ولكن تعمل على بناء مشاريع ومؤسسات حولهم تساهم في بناء نفوذها السياسي في المنطقة، بما فيها قدرتها على صقل الأجندات البحثية والرأي العام العربي

إن احتلال قطر لهذه المكانة بوصفها منبرًا للنقاش الفكري لا ينجم عن المفاهيم المثالية الليبرالية التي تتمتع بها دولة تحكمها عائلة ضمن نظام سياسي أقرب للشمولية، ولكن من فهمها أن أنجع طريقة للتأثير على التيارات السياسية والثقافية الرئيسية التي تشكل مستقبل المنطقة هي توفير المنصة التي تجري فيها مناقشة الأفكار هذه، والمساهمة الفاعلة في صياغة أسئلتها، بما يخدم مصلحة الرأسمال الخليجي وما يخدم بقاء ونفوذ الدولة القطرية. لهذا لم يكن مستغربًا مثلًا أن يتضمن تأثير قطر الإعلامي صياغة سياسية لكيفية خلق آليات تغيير في العالم العربي ارتبطت بمفهوم «الانتقال الديمقراطي»، واستخدام هذا المفهوم بشكل براغماتي لتحقيق مصالحها بصياغة شرق أوسط جديد ينطلق من رغبة أمريكية في رؤية حلفاء عرب ديمقراطيين، ومن رغبة قطر استحداث مواقع جديدة للتأثير والنفوذ من خلال قلب الموازين في بعض الأقطار العربية ضمن تنسيق مع الإدارة الامريكية، خاصة في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما. 

أدت الثورات العربية إلى مراجعة سياسية كانت أصلًا قائمة في الولايات المتحدة والتي رأت في غالبية الأنظمة العربية وطابعها الاستبدادي الداخلي قضية تحتاج إلى معالجة، خاصة وأن هذا الاستبداد ساهم في خلق البيئة لمجموعات جهادية استهدفت الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة والعالم. وقد وفّرت الثورات العربية اللحظة المناسبة لمحاولات بناء دولٍ جديدة تحافظ من جهة على المصالح الأمريكية ولكن تستطيع أيضًا إدخال تيارات إسلامية وعلمانية إلى الأنظمة الناشئة. وقد تلاقت هذه السياسة في واشنطن مع دور قطر الهام وشبكاتها السياسية والاجتماعية المنفتحة على تيارات إسلامية كالإخوان المسلمين وتيارات ليبرالية وأخرى علمانية. وبتعبير آخر كانت قطر لما تمتلكه من وفرة مالية وعلاقات واسعة مع تيارات سياسية خارج الحكم هي الأكثر استعدادًا للعب دور رئيسي في إعادة بناء المنطقة على أثر الثورات العربية.

بعد إعمار قطر لمدارس ومبانٍ دمرتها «إسرائيل» في عدوان تموز 2006، رُفعت يافطات شكرًا قطر في أماكن مختلفة من لبنان. تصوير حسن عمار. أ ف ب

 

الثقافة والرياضة: إنفاق بلا حساب

دفعت قطر أموالًا ضخمة في عملية بناء وجه ثقافي وفني، واستثمرت بشكل كبير في المشاريع الثقافية، عازمة على تحويل الإمارة الصغيرة إلى مركز ثقافي وفني في المنطقة والعالم. ومقابل 250 مليون دولار، اشترت واحدة من أشهر وأهم اللوحات الفنية للمدرسة الانطباعية «لاعبيْ الورق» للفنان بول سيزان. تشير التقديرات إلى أن قطر هي أكبر مشترٍ للفن المعاصر في العالم. وتشمل صفقاتها شراء عقار سونابيند (The Sonnabend estate) الذي يحتوي على أعمال فنية بقيمة 400 مليون دولار، وأعمال ليختنشتاين وكونز، ولوحة آندي وارهول «الرجال في حياتها» التي بيعت مقابل 63.4 مليونًا. ستُستضاف هذه الأعمال الفنية في متاحف عالمية في قطر وتشمل متحف المستشرقين، ومتحف الفن الإسلامي، ومتحف قطر الوطني، والمتحف العربي للفن الحديث.

في الواقع، تلخص هيئة متاحف قطر رؤيتها بإيجاز «أن نكون من الروّاد العالمين في عالم المتاحف والفنون والتراث». وذلك على أمل أن ترفع قطر من خلال زيادة مقتنياتها الفنية من مكانتها كوجهة ثقافية وفنية رائدة للفن العربي والإسلامي العالمي. فمثلًا، أعلنت مجلة آرت ريفيو (Art Review) أن ابنة الأمير القطري السابق، الشيخة المياسة بنت حمد بن خليفة آل ثاني، أكثر شخصية مؤثرة في عالم الفن.

كانت قطر لما تمتلكه من وفرة مالية وعلاقات واسعة مع تيارات سياسية خارج الحكم هي الأكثر استعدادًا للعب دور رئيسي في إعادة بناء المنطقة على أثر الثورات العربية

وأقحمت قطر نفسها في الأحداث الرياضية أيضًا، وأهم إنجازاتها على هذه الجبهة حصولها على حق استضافة كأس العالم 2022، الذي لم تستطع دول عربية أخرى -مصر والمغرب والسعودية- الحصول عليه. وللفوز بهذه الفرصة، وظّفت قطر مستشارين رفيعي المستوى، وقدّمت وعودًا بخطط طموحة. وقد أنفقت على البنية التحتية المتصلة بالمشروع مبالغ طائلة قد تصل 200 مليار دولار. كما نافست قطر على استضافة دورة الألعاب الأولمبية في 2020. وعلى الرغم من الاتهامات بالرشوة، فإن نجاح قطر باستضافة كأس العالم يعطيها جرعة كبيرة من الوجاهة والتأثير في العالم العربي، إذ أن كرة القدم هي هوس شعبي في العالم العربي، وإقامة أول كأس عالم في العالم العربي إنجاز كبير للدولة الصغيرة. 

ومن خلال استضافتها لفعاليات كهذه، تطمح قطر إلى نشر علامتها التجارية وبسط نفوذها وترسيخ وضعها كمركز دولي للرياضة والثقافة والفن، وفي نهاية المطاف، كمركز لصياغة السياسة. 

إن الاستراتيجية ثلاثية المحاور المتمثلة بالوساطة والدبلوماسية، واستحداث قطر كمركز للمناقشات السياسية والفكرية، واستضافة الأحداث الرياضية والفنية والثقافية الكبرى وبناء المتاحف، على عللها، هي بالفعل استراتيجية ناجحة في صياغة دور قطري مبتكر، مبنيٍ على قاعدة الاستقواء بالأجنبي، وحماية رأس المال القطري الصاعد في وجه مطامع جيرانه. وقد كان لهذه الاستراتيجية دورها في التشويش على القوى التقليدية في المنطقة، ما لفت الأنظار لقطر وجعلها عرضة للحصار. وقد تمكّنت الإمارة من خلال الحماية العسكرية التي توفرها الولايات المتحدة وتركيا، والعلاقة القوية مع إيران، ودورها مع العديد من الأطراف في المنطقة، ومن خلال انتداب سياسات ساهمت في تقليص الاعتمادية الاقتصادية على جيرانها في احتواء آثار هذا الحصار، والبقاء في واجهة القوى المهمة في المنطقة.

صاغت قطر رؤية سيادية استندت في لُبّها على الوفرة المالية التي وفرتها لها حقول الغاز لخلق موقع ودور سياسي يحمي مصالح العائلة الحاكمة ويصد توغل الجيران وتدخلاتهم، وقد يكون الحصار الرباعي الدليل الأكبر على نجاح قطر في بناء هذا الحصن السياسي الجديد في المنطقة. 

التنافس الخليجي

قد يكون التنافس هو العنوان الأهم في فهم العلاقات الخليجية الداخلية، تنافس يتخذ أشكال متعددة ومختلفة، ويرتبط بالخوف الدائم عند النخب السياسية والاقتصادية في الخليج من أن الحفلة على وشك الانتهاء، وأن العقود الثمانية الماضية من مراكمة الأموال والنفوذ قد تنتهي بأي لحظة لقد كان لاكتشاف النفط والغاز وقعٌ جذريٌ على الحياة الاجتماعية في شبه الجزيرة، فجعل من الخليج واحدًا من أهم المواقع الجغرافية والاقتصادية في العالم. ورغم أهمية ما سبق في فهم مطامع القوى العظمى المتنافِسة على النفوذ والموارد في الخليج، إلّا أنه لا يوضح لنا مدى وعمق التحول الذي طال المجتمعات الخليجية، والتي انتقلت من واقع اجتماعي مادي فقير إلى مستوى مادي عالٍ نسبيًا بشكل عام، ومغرقٍ بالثراء للنخب الخليجية الحاكمة. بالفعل، استطاعت النخب الخليجية بناء مدن جديدة وتوفّرت لها الإمكانيات لتصبح مدنًا عالميةً تجتذب العمالة من كل بقاع الارض. 

التحول الذي شهدته دول الخليج، والذي اعتمد بشكل مفرط على ثروات طبيعية تحت الأرض، بُني منذ البداية على التعويل على من يستطيع أن يحمي تلك الثروات فوق الأرض. وهو ما دفع تلك الدول نحو صياغة تحالفات معقدة لحماية الفضاءات السيادية لمراكمة رأس المال. هذا الإرث الطويل من التحالف النخبوي مع القوى العالمية ومن الاستقواء بالأجنبي يستمر بأشكال مختلفة وضمن معادلات دقيقة تُوازِن فيها دول الخليج مصالحها وعلاقتها مع الدول الكبرى. 

بكلمات أخرى يمكن القول إن دول الخليج قد بُنيَت على أسس ضعيفة هوياتيًا وسياسيًا، بل وحتى جغرافيًا، وبالتالي لم تكن قادرة على حماية نفسها من التدخلات الخارجية للقوى الكبرى. ولذا تنافست النخب الحاكمة بشكل كبير على الاستقواء بالأجنبي، سعيًا لتحقيق سيطرة داخلية، وضمان بقاء الدولة والعائلة الحاكمة. ويمكن فهم التحولات التي حصلت في الخليج في الثلاثين عامًا الماضية على أنها تحولات في شكل هذا الاستقواء. وإن كان هذا الاستقواء، في القرن التاسع عشر، قد اتخذ بُعدًا عائليًا وعشائريًا، فإنه اليوم أصبح يعبّر عن صعود طبقة رأسمالية عابرة للأقطار العربية، وتمثّل مصالحها الخاصة، وتتخذ من الاستقواء سياسة مسلّمًا بها في صياغة شكل وطبيعة علاقتها مع جيرانها ومجتمعاتها.

قطريون يحتفلون بحصول الإمارة على فرصة اسضافة كأس العالم 2022. تصوير مروان نعماني. أ ف ب

 

في خدمة الإمبراطورية 

شهد العقد الفائت تسارعًا في خفوت الدور الأمريكي وفي استعداد الولايات المتحدة للقيام بتدخلات عسكرية تساهم في حماية دول الخليج وحكّامه، إذ تمّت إعادة صياغة السياسة الأمريكية بحيث صارت أكثر التصاقًا بمفهوم «توازن القوى»، مع استمرار محاولة تحييد التدخل الإيراني المباشر والعسكري في المنطقة. ما تحاول الولايات المتحدة فعله هو هندسة واقع إقليمي لا تستطيع معه أيٌ من القوى المتصارعة التغلّب على الأخرى، ما يمنع صعود مشروع مهيمن بديل، وما يضمن أمن «إسرائيل» وبقاءها، وما يوفر لأمريكا إمكانية التلاعب باللاعبين وتجيير التوترات المتصاعدة بينهم لصالحها.

لم يحاول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تغيير هذه السياسة العامة، بالرغم من إعلائه للمواجهة مع إيران، خاصة في الشق الاقتصادي وفي بعض عمليات التخريب والاغتيال، بل حاول الاستفادة من تهافت السعودية والإمارات من خلال حُمى الشراء العسكري الذي صحب دخول ترامب البيت الأبيض كمحاولة لاستمالة الأخير لسياسات أكثر دعمًا للثورة المضادة ومحاولات دول الخليج إعادة الأمور إلى نصابها في المنطقة خاصة في مصر وليبيا واليمن وسوريا وتونس، وبالعلاقة مع إيران أيضًا. 

صاغت قطر رؤية سيادية استندت على الوفرة المالية التي وفرتها حقول الغاز لخلق موقعٍ ودور سياسي يحمي مصالح العائلة الحاكمة ويصد تدخلات الجيران

بالتالي، لا زال لقطر دور مهم في مشروع الولايات المتحدة في المنطقة، حيث لا تتناقض توجهاتها مع سياسات الولايات المتحدة بشكل جوهري، وتلتصق مع توجهاتها العسكرية ويتضح هذا من الأدوار التي تلعبها قاعدة العديد، كما أنها تلعب دورًا مهمًا كحلقة وصل مع العديد من الأطراف السياسية في المنطقة، وخاصة حركات الإسلام السياسي. بل إن علاقة قطر بحركات المقاومة؛ حماس وحزب الله، إنما هي جزء ممّا يجعلها ذات أهمية لحلفائها الكبار، بحيث يمكنها التأثير على سياسات تلك القوى ولعب أدوار وساطة في في خضم الأحداث أو عقب انتهائها كما يحصل في قطاع غزة. 

ساهم الربيع العربي، والأحداث المرتبطة به، بإظهار ما كان مستترًا من تنافسٍ واختلافٍ عميقين بين دول الخليج حول عدد من القضايا السيادية والاقتصادية والحدودية، وأظهر كذلك إشكاليات ترتبط بموقع كل عائلة ودورها، بل وبدور بعض الحكام وطموحهم. وصحبه خلاف عميق حول استراتيجيات احتواء الانتفاضات، وسبل الحدّ من التوجهات الأكثر جذرية فيها من خلال التحالف مع قوى حذرة ولا مشكلة لديها مع وضع خطوط حمراء فيما يتعلق بإبقاء الاقتصاد السياسي للمنطقة دون مساس. فاتسمت استراتيجية قطر بدعم بعض قوى التغيير التي تمتلك برامج مواتية لمصالحها، والتي بالإمكان عقد علاقات عمل معها تُعزّز من مكانة قطر كوسيط بين تلك التيارات والقوى العظمى، وتجلّى ذلك أساسًا بالعلاقة مع الإخوان المسلمين في مصر وغيرها. أمّا استراتيجية السعودية والإمارات فتمثّلت بمحاولة ضرب الثورات وقمعها بما حملته من مقولات أرادت زعزعة الوضع السياسي والاقتصادي القائم، وخلق أفق مادي وسياسي جديد متمثّل بمخيال جذري قد يطال ممالك مدن الملح بمن فيها من نخب. 

هذا الخلاف ما بين احتواء ناعم للانتفاضات، وما بين رفض للتغيير والتوجه نحو المساهمة المباشرة في القمع من خلال دعم «الثورات المضادة»، أدى إلى نشوب صراع في الخليج، صراع ساهم فيه أيضًا صعود ترامب، وما مثّله من دعم معنوي ومباشر لسياسات السعودية والإمارات التي رأت في لحظة صعود ترامب لحظة مواتية للجم قطر وإجبارها على الالتزام بالخطوط العامة للسياسة الخليجية التي ترسمها، أساسًا، السعودية والإمارات.

وهكذا يمكن لنا أن نفهم «الحصار» الذي فرضته السعودية والإمارات والبحرين على قطر، وكذلك ردة الفعل القطرية المتمثلة بإقامة علاقات عسكرية مع تركيا وبدرجة أقل الحفاظ على علاقات ودّية مع إيران، وذلك لموازنة التهديد الذي تُشكّله المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ولتعزيز سيادتها الاقتصادية والسياسية في ظل حصار ناعم حاولت من خلاله دول الجوار إعادة قطر إلى موقع ثانوي في المنطقة.

مع انتصار الثورات المضادة في العديد من الدول العربية، خاصة في مصر وسوريا، كان لدور قطر أثرٌ معاكسٌ لما أرادت تحقيقه، فبدلًا من أن تصبح الدولة الأكثرَ أهميةً في صياغة واقع ما بعد الانتفاضات العربية، قلّت خيارات الدوحة وازدادت حاجتها للتقرب من دول مثل إيران وتركيا، وللاستثمار أكثر في العلاقة بالولايات المتحدة التي تمتلك مصالح مهمة في قطر، والتي تتخذ من وضعية التنافس بين قوى الخليج مدخلًا لتمرير مصالحها الاقتصادية والعسكرية والسياسية في المنطقة. استطاعت قطر أيضًا توظيف علاقاتها لاحتواء أثر الحصار وتوظيف قدراتها الناعمة في إقناع دول عديدة بالبقاء على الحياد من الصراع في الخليج، وفي تمكين عمليات إنتاج تستبدل فيها البضائع السعودية، وفي إبقاء الخطوط القطرية في الجو من خلال إبرام اتفاقات مع إيران. 

التحول الذي شهدته دول الخليج، والذي اعتمد بشكل مفرط على ثروات طبيعية تحت الأرض، بُني منذ البداية على التعويل على من يستطيع أن يحمي تلك الثروات فوق الأرض

لكنّ هذا لا يعني أن الحصار لم يكن صفعة في وجه السياسة الخارجية القطرية لما شكّله من تهديد ضمني بعد سعي دول الجوار الفاعل للجم قطر واحتواء نفوذها في الإقليم، بل تضمن الحصار أيضًا تهديدًا ضمنيًا من قبل دول الحصار يهدد أساسات حكم آل ثاني. فقد عبر الحصار نفسه عن فشل السياسة الخارجية القطرية في تحويل لحظة الثورات العربية إلى لحظة إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم دورها الصاعد، وأتى نتيجة النجاحات التي حققتها الثورات المضادة في مصر تحديدًا، وتطلب من قطر تحصين نفسها من خلال تعميق أوصال العلاقة مع تركيا وإيران من جهة، والسعي إلى إصلاح العلاقات مع مصر وغيرها من الفرقاء السياسيين في المنطقة كما تسعى اليوم. 

اجتمعت عدة عوامل في صياغة موقع ودور قطر الحاليين، وفي إحساس دول الجوار أن الدور القطري الداعم لبعض تيارات التغيير في العالم العربي يشكل خطرًا حقيقيًا عليها، خاصة وأنها تخاف مما يعنيه التغيير من اختلالات قد تنال من سلطة النخب الحاكمة ورأسمالها. بكلمات أخرى رأت السعودية والإمارات أن رهان قطر على بعض قوى التغيير المحافِظة والتي يمكن صياغة علاقة مواتية لمصالح الخليج معها كانت سياسة مجنونة، وعبّرت عن رؤية قطر لنفسها ودورها في المنطقة كمنافس حقيقي لموقع ودور الدول الأخرى؛ إن كان في العلاقة مع القوى العظمى أو في رؤية قطر المغايرة النابعة بالنهاية من خوفها من أن تُبتلع من قبل جيرانها. 

خاتمة

كان الاقتصاد السياسي لدولة قطر، وما زال، مدعومًا بفائض احتياطيات النفط والغاز، على الرغم من المحاولات الأخيرة لتجاوز النفط والاعتماد على استثماراتها المتزايدة عبر صندوق الثروة السيادي. بهذا المعنى، يُصاحب السياسة الخارجية القطرية أيضًا رغبتها في رؤية عائد مالي حقيقي من استثمارها في التوسيم والدبلوماسية وخلق آليات التأثير الناعمة. هذا العائد المالي آني بمعنى أن له دورًا في العديد من المشاريع الاستراتيجية في المنطقة بما ينتجه من فائض ربحي، وكذلك له دور في حماية استقلالية طبقتها الرأسمالية، خاصة من نفوذ ودور الرأسمال الخليجي الأكثر قدمًا في الإمارات والسعودية.

ترى السياسات الرسمية الخليجية في الأقطار العربية على شاكلة مصر وسوريا ولبنان والعراق خطرًا على الرأسمال الخليجي، وتحديدًا التوجهات العروبية والتقدمية للعديد من التيارات السياسية في المشرق، والتي كان نصب أعينها تحويل الرأسمال هذا إلى محرّك لعملية التنمية في الأقطار العربية، واستخدام الفائض المالي المستنِد إلى النفط والغاز لقلب العالم العربي وإخراجه من ثنائية التبعية السياسية والفقر.

تلعب قطر دورًا مهمًا في مشروع الولايات المتحدة في المنطقة، تلتصق مع توجهاتها العسكرية، كما أنها تلعب دورًا مهمًا كحلقة وصل مع العديد من الأطراف السياسية في المنطقة، وخاصة حركات الإسلام السياسي.

صعد الدور القطري في نهايات القرن الماضي في ظل ضعفٍ ووهنٍ نال من التيارات العروبية واليسارية عمومًا، مساهمًا في تشكيل البيئة الملائمة لتنافس مضطرد بين القوى الخليجية المتحرّرة من خوفها من تلك التيارات وحليفها الأبرز الاتحاد السوفيتي. ما يدفع قطر للتشويش على السعودية والإمارات هو الخطر الذي تشكله الدولتان تاريخيًا، وإلى يومنا هذا، على الدولة الصغيرة واستقلاليتها وقدرة طبقتها الرأسمالية المرتبطة بالعائلة الحاكمة على حماية منظومة التراكم في قطر وحماية مؤسسات الدولة.

لقد عملت قطر الكثيرَ لتستحق أن يُحسب لها حساب، فقد أصبحت واحدةً من أكبر منتجي الغاز الطبيعي المسال مع احتياطيات ضخمة يقدر أن تستمر لمدة 200 عامًا، وهي في طريقها لأن تصبح القوة العظمى الجديدة للطاقة في الخليج، حيث يتحول المزيد من استهلاك الطاقة إلى الغاز في الاقتصاد العالمي. وأصبحت الدوحة مركزًا ماليًا كبيرًا وواحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم. وهي واحدة من أغنى دول الشرق الأوسط، ولديها أعلى دخل للفرد في المنطقة. وقد صنعت من الدوحة نجمة صاعدة في عالم الفنون واللغة والثقافة. واستضافت الإسلاميين ذوي العقلية الإصلاحية، والسلفيين المتشددين، والقوميين العرب، موفّرة على نحو متزايد منصة للمناقشات الفكرية والسياسية. كما وتستضيف الجزيرة، القناة التي أحدثت ثورة في المشهد الإعلامي ووضعت قطر على الخريطة، ونوّعت من نفوذها الإعلامي بالعديد من المشاريع تضمنت استثمارًا في شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية والمعرفية والثقافية. ونجحت في التوسط في العديد من النزاعات، بما في ذلك تلك التي اعتبرت تاريخيًا ملعب القوى الأكبر والأكثر نفوذًا مثل المملكة العربية السعودية ومصر. كما وحافظت على شبكة معقدة من العلاقات تتمثل في السعودية وإيران، وإسرائيل، وفتح وحماس، وكافة اللاعبين السياسيين اللبنانيين، بينما تحافظ على علاقة قوية مع تركيا تمظهرت ببناء قاعدة عسكرية التركية في قطر.

افتقرت قطر تاريخيًا إلى الموارد البشرية للدفاع عن نفسها وخوض الحروب أو حتى تلبية الحد الأدنى من العمالة المطلوبة لاقتصادها الناشئ. لذلك، كانت هدفًا للتوسع الإقليمي، كما كان الحال في علاقتها مع المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات في حقب وأزمنة مختلفة. كان التشكيك في شرعيتها على المسرح الخليجي والعالمي حاضرًا دائمًا، وهو عامل ساد في السنوات الأولى لاستقلال قطر. إن وجود قطر على المدى القريب ليس موضع شك، إلّا أن وجودها واستمراريته على المدى البعيد سيبقى سؤالًا مؤرّقًا للعائلة الحاكمة، وبالتالي، فإن الاستراتيجيات التي اتبعتها كانت جزءًا من حماية مكتسبات رأسمالها وتعزيز حظوتها عند القوى الكبرى. استخدمت قطر في ذلك المسعى مزيجًا ناجحًا من استراتيجيات التغلب على حجمها الصغير، ونجحت في تمكين نفسها في منطقة تلتهم الضعفاء. وأصبحت بالفعل أحد المراكز الرئيسية للسياسة والثقافة والأكاديميا والإعلام في العالم العربي. 

يروى أن الأناركي الروسي ميخائيل باكونين قد قال لأحد أصدقائه يومًا «حاذروا من الدول الصغيرة». كان باكونين يحذر من دور الدول تلك لأنه رآها إمّا فضاءً وموقعًا لصراعات الكبار، أو موقعًا للتشويش على الآخرين، فهي دول تُفلح أحيانًا في جرّ الآخرين لمعاركها. 

نجحت قطر بالفعل بالانتقال من موقع وفضاء سياسي تكون فيه موضوعًا لصراعات الآخرين إلى كونها فضاءً خلّاقًا لبناء القوة الناعمة. في هذا الصدد تحالفت مع تيارات سياسية ضمن إطار يساهم في بناء قوتها، وساهمت في بناء شبكات وبيئات إعلامية ومعرفية. هذا لا يعني أنها تختلف عن باقي القوى الخليجية في مسعاها لحماية عمليات التراكم، أو في كونها جزءًا من تبعية سياسية شهدتها المنطقة منذ دخول الاستعمار، بحيث توظف الأجنبي وتستقوي به لحمايتها من المنافس المحلي. هذا الفضاء المستحدث يضع قطر في موقع مرتبك ما بين دولة تحاول صياغة سيادتها السياسية وبالتالي تستفيد من عمليات التشويش، وما بين حاجتها لإبقاء المنطلقات والقواعد العامة للمنطقة كما هي، أي في بقاء الحماية العسكرية الأمريكية والحفاظ على عمليات التراكم الاقتصادي لنخبة عربية محدودة على حساب عملية نهضوية اقتصادية تعيد إنتاج قواعد التراكم ما يخدم المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية