تونس منذ 25 تموز: تصحيح للمسار أم انقلاب عليه؟

الثلاثاء 03 آب 2021
عناصر من قوات الأمن التونسية في وجه متظاهرين مناهضين للحكومة خلال تجمع حاشد أمام البرلمان في العاصمة تونس في 25 تموز 2021. تصوير فتحي بلعيد. أ ف ب.

تعيش تونس مُنذ الإعلان عن النتائج النهائية لانتخابات سنة 2019 على وقع أزمتين، الأولى سياسيّة، وأبرز سماتها انعدام الاستقرار الحكومي والفراغ على رأس عدد من الوزارات التي تُدار بالنيابة (بالنظر إلى تحويرات أجراها رئيس الحكومة لم تلق قبول رئيس الجمهورية)، والشلل شبه التام في مؤسسة البرلمان، وتعطّل استكمال بناء المؤسسات الدستورية (بغياب المحكمة الدستورية)، وانعدام التنسيق بشكل شبه كلي بين الرئاسات الثلاث (الحكومة والبرلمان والرئاسة)، فضلًا عن انتشار المناكفات السياسيّة والخطابات الشعبويّة الهابطة التي غلبت على المشهد ووصلت حدّ ممارسة العُنف داخل البرلمان.

أمّا الأزمة الثانية فاقتصاديّة، وأهمّ دلالاتها تكمُن في ارتفاع معدّل البطالة التي بلغت 18% في يناير 2021، ومعدّل نمو سلبي (بلغ -8.2 سنة 2020)، وارتفاع معدّل الفقر الذي بلغ 16.2% في سبتمبر 2020، وارتفاع نسبة التضخّم. وقد زادت حدّة الأزمة مع الانتشار الواسع لوباء كوفيد-19 خلال السنة المنصرمة، مقابل تعامل حكومي ضعيف في مواجهة الجائحة. ليس غريبًا إذن أن ينعكس هذا الواقع على المزاج السياسي لعموم الشعب التونسي، الذي وجد نفسه محكومًا من نُخبة سياسيّة تنسف آماله في واقع أفضل. 

لم تكُن مظاهرات 25 تموز الأولى من نوعها في تونس، حيث طغت على الفضاء العام خلال السنوات المنقضية أجواء احتجاجيّة رافضة للخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تنتهجها الأغلبيات البرلمانية الحاكمة (على اختلاف تركيباتها والفاعلين فيها)، وعلى رأسها حركة النهضة، التي لم تُغادر الحُكم منذ وصولها إليه سنة 2011، رغم تغيّر حلفائها فيه. وتزايد الغضب الشعبي في الفترة الماضية نتيجة استفحال الأزمة الصحيّة (سجلت تونس 19,686 وفاة حتى 31 تموز 2021) مما ساهم في استفحال الأزمة الاقتصادية، فيما قوبلت كافة الاحتجاجات بالقمع البوليسي الشديد لتصل حدّ السحل في الشوارع.

في مثل هذا الظرف الحرج لم تتوانَ حركة النهضة عن زيادة تأزيم الوضع، وذلك عبر مطالباتها رئيس الحكومة هشام المشيشي بصرف تعويضات تُقدّر بثلاث مليارات دينار تونسي (1.075 مليار دولار أمريكي) لمن يسمون بـ«ضحايا الاستبداد»، وهم المناضلون السياسيون الذين تمتعوا بالعفو التشريعي العام إثر سقوط نظام بن علي. وجاءت هذه المطالبات بشكل فجّ وحاد في تصريح عضو المكتب التنفيذي للحركة ورئيس مجلس الشورى فيها عبد الكريم الهاروني بتاريخ 2 تموز، حيث لمّح أنّ الحركة ستلجأ إلى التصعيد في حال لم تُلبّ الحكومة مطلبها قبل تاريخ 25 تموز. قوبلت هذه الدعوة برفض شعبي واسع تجلّى عبر منصات التواصل الاجتماعي، كما في الشارع. وانطلقت دعوات للتظاهر رفضًا للتعويضات المُطالب بها من قِبل الحركة، وحُدّد تاريخ 25 تموز كتاريخ للنزول إلى الشارع، والذي يوافق عيد إعلان الجمهورية في تونس، باعتباره رمزيًا إجابة رفض شعبية صريحة وواضحة لمطالبات الهاروني ومن ورائه الحركة التي يُمثّلها. 

يكشف الوضع الاقتصادي والاجتماعي للشعب التونسي بوضوح عن انحراف مسار الثورة التونسية التي قامت من أجل «الشُغل والحرية والكرامة الوطنية».

ورغم أنّ وزارة الداخليّة التي يترأسها هشام المشيشي رئيس الحكومة نفسه طوّقت أهمّ المناطق التي تنتشر فيها الاحتجاجات عادة في العاصمة تونس، إلاّ أن التعامل الأمني أخفق في إيقاف الاحتجاجات، التي انطلقت في أغلب الولايات التونسية، وشهدت مواجهات مع الشرطة، واقتحم المحتجون عدة مقرّات لحركة النهضة، وأحرقوها ونزعوا اليافطات المعلقة أمامها. وفي خضم الاحتجاجات ارتفع سقف المطالب من رفض التعويضات ليصل إلى مطالبة البعض بحلّ البرلمان. 

في ليلة 25 تموز، وفيما كانت الاحتجاجات متواصلة في عدد من جهات البلاد، بثّت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهوريّة التونسيّة على موقع فيسبوك مداخلة لرئيس الجمهوريّة والقائد الأعلى للقوات المُسلحة، أثناء اجتماعه مع قادة الجيش وعدد من القيادات الأمنية العُليا، أقرّ فيها مجموعة من الإجراءات وهي إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتجميد عمل واختصاصات البرلمان لمدة 30 يومًا قابلة للتجديد، ورفع الحصانة البرلمانية عن كُل أعضاء البرلمان، وتولّي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعيّنه رئيس الجمهوريّة، وترأس رئيس الجمهورية للنيابة العمومية (النيابة العامّة). وبرّر رئيس الجمهوريّة هذه القرارات الاستثنائية استنادًا إلى الفصل 80 من الدستور التونسي، الذي يسمح له بعد التشاور مع رئيسي الحكومة والبرلمان وبعد الرجوع إلى المحكمة الدستورية (غير الموجودة حاليًا بسبب تعطّل إقرار قانونها)، إعلان تدابير استثنائية في حال وجود خطر داهم يُهدّد كيان الدولة. ولاقت هذه الإجراءات مساندة العديد من التونسيين، حيث تحولت الاحتجاجات إلى احتفالات بقرارات الرئيس، واعتبرها كثيرون استجابة لنبض الشارع ومطالباته، بل وصل الأمر بالبعض أن اعتبروا هذه الاجراءات بمثابة النهاية الرسمية لحركة النهضة ووجودها السياسي في تونس. 

يكشف الوضع الاقتصادي والاجتماعي للشعب التونسي بوضوح عن انحراف مسار الثورة التونسية التي قامت من أجل «الشُغل والحرية والكرامة الوطنية». وتتحمّل حركة النهضة، التي لازمت الحُكم خلال عقد من الزمن (مع شركائها في الحُكم على تعدّدهم)، مسؤولية الوضع الذي وصلت إليه البلاد، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصاديّة، حيث أضحى كثيرون من أبناء الشعب التونسي يترحّمون على أيام الدكتاتورية ويلعنون الديمقراطية ومُسانديها. وفي حين يُمكن تفهّم فرحة أغلب التونسيين بقرارات الرئيس، إلاّ أنّه لا يُمكن تفهّم استغلال رئيس الجمهورية خيبات أملهم المتكرّرة ليُعلن نفسه قيصرًا على تونس. 

من الناحية القانونيّة الشكليّة، تجاوز رئيس الجمهوريّة الدستور ومُتطلبات الفصل 80، الذي ينصّ على أن يكون مجلس النواب في حالة انعقاد دائم، ويمنع تقديم لائحة لوم بالحكومة (أي لا يُمكن عزلها) طوال فترة الإجراءات الاستثنائية، وهو الرأي الذي تبنّاه فقهاء القانون الدستوري في تونس، ومنهم أولئك الذين عرفوا بمناهضتهم لحركة النهضة مثل الأستاذة سناء بن عاشور والأستاذ عياض بن عاشور. أمّا من الناحية السياسية، فقد جمّد رئيس الجمهوريّة العملية السياسيّة برمّتها وجمع بين يديه كافة السُلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، والأخطر من ذلك أنّه أقحم الجيش الوطني -الذي لطالما عُرف بحياده السياسي- في مسار موازين القوى السياسي الجديد.

يُضاف إلى ذلك أنّ رئيس الجمهورية لم يتقدّم بأيّ تصوّر عملي للخروج من حالة الاستثناء هذه نحو حالة تكون فيها الكلمة للشعب أي للصندوق، وبالتالي فإنّ المواصلة في هذه الحالة الاستثنائية باتت مواصلة في تجميع السُلطات بين يديه لا أكثر، وهو ما ينبئ بانقلاب لا على الدستور فحسب، بل على مطالب الثورة التي انتفض لأجلها الشعب مرّات ومرّات. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية