حراك الريف

حراك الريف: سيرة نضال مُجهض

متظاهرون ضمن حراك الريف يهتفون ضد الحكومة في مدينة الحسيمة. أ ف ب.

حراك الريف: سيرة نضال مُجهض

الجمعة 28 تشرين الأول 2022

ليلة 28 تشرين الأول 2016، حجزت سلطات مدينة الحسيمة، شمال المغرب، أسماك الشاب محسن فكري، وأمرت بإتلافها في شاحنة نفايات. احتج محسن على الأمر، ورمى نفسه داخل الشاحنة لمنع التنفيذ. بحسب شهود عيان، أصدر ممثل السلطة أمرًا لسائق الشاحنة قائلًا: «طحن مو»، أي «اطحن أمه». نفذ السائق الأمر، فكانت النتيجة مفجعة. لفظ محسن فكري أنفاسه الأخيرة، وتحول إلى شهيد، وأصبح أمر «طحن مو» وَسْمًا غزا شبكات التواصل الاجتماعي، ورددته الحناجر في التظاهرات، إشارة إلى أن الدولة كلها «تطحن أم الشعب».

كان ذلك بداية احتجاج، سيتطور إلى حراك يعم منطقة الريف كلها، مثيرًا موجة تعاطف على المستوى الوطني والدولي، وإن تبددت في النهاية.

استمر الحراك عمليًا منذ نهاية تشرين الأول 2016 حتى نهاية صيف 2017، حين بدأت موجة الاعتقالات الواسعة التي طالت عشرات الشباب في المنطقة (تجاوزت 400 معتقل في نهاية تشرين الأول 2017) والمتضامنين من مناطق أخرى من البلد. وانتفى الحراك نهائيًا بإصدار غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء الأحكام الثقيلة على 47 معتقلًا بالسجن لمدد بلغ بعضها 15 و20 سنة.

أثار الحراك عاصفة من النقاشات، سواء أثناءه أو بعده، يركز أغلبها على الخلفية التاريخية للحراك، وربطه بـ«الصراع التاريخي بين الريف والدولة المركزية»، أو المخزن حسب المصطلح المغربي، مع دفع المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي صاغها الحراك وصادق عليها في آذار 2017 إلى الوراء.

تصر أغلب الكتابات الأكاديمية على فرادة حراك الريف عن حراكات سابقة. وهو ما أكده ناصر الزفزافي، القيادي البارز في هذا الحراك، بقوله: «إننا نقول إن هذا الحراك يختلف تمامًا عن الحراكات السابقة».[1] فما هذه وجه «الفرادة»؟ يلخص رشيد شريت هذا الطرح، الذي يتفق معه عديدون، بأن حراك الريف «وإن تقدم بمطالب مادية هي من صلب التزامات الدولة المغربية مثل التعليم والتطبيب والتشغيل (..) إلا أنه تغذى على الموروث التاريخي العميق، في استدعاء مباشر للتاريخ. فالمظلومية التاريخية وما تعرضت له الذاكرة التاريخية الريفية ظلت حاضرة في الحراك بشكل لافت، والنفس الخطابي بقي يملأ جنبات الحراك».[2]

لكن بالعودة لعدد من التحركات الشعبية السابقة، نجد أن الحراك ليس استثناءً فيما يخص هذه السمة. فانتفاضة سيدي إفني جنوب المغرب، بين 2005 و2008، تغذت بدورها على الموروث التاريخي العميق لمقاومة قبائل آيت باعمران للاستعمار الإسباني، واستحضرت شخصية المقاوم أمغار سعيد. الشيء نفسه يصدق على انتفاضة كديم إيزيك، في مدينة العيون بالصحراء الغربية، التي تغذت على الموروث التاريخي للشعب الصحراوي ومقاومته للاستعمار الإسباني والاستبداد الملكي المغربي. وخارج المغرب، فعلت انتفاضة «الربيع الأمازيغي» في منطقة القبائل بالجزائر سنة 2001 الشيء نفسه، واستحضرت شخصيات تاريخية مقاومة، مثل عبان رمضان، أحد أبرز قادة الثورة الجزائرية.

منذ بداية الألفية الثانية، صدر عدد هائل من الأبحاث والكتابات حول الريف، في إطار محاولة الملك الجديد آنذاك، محمد السادس، لتصفية ملفات القمع الموروثة عن أبيه الراحل، الحسن الثاني، ضمن ما سمي مبادرة مصالحة، أنشئت لها «هيئة الإنصاف والمصالحة». لذا، كان هذا الركام من الكتابات والأبحاث يركز على هذا الجانب من المسألة. فمن الطبيعي أن الشباب الذين تلقوا تربيتهم السياسية والفكرية من هذا الركام الأدبي سيضعون هذا «الإرث التاريخي» الهائل في إطار صراعهم مع الدولة.

إلا أن ما لم يستحضره الأكاديميون والمنخرطون في الحراك هو المسألة الاجتماعية المتفجرة. من هنا، سيركز هذا المقال على استجلاء الجذور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للحراك، دون إهمال الجذور التاريخية، مع استحضار السياق الإقليمي (انتصار الثورة المضادة في المنطقة) والدولي (الأزمة الاقتصادية في أوروبا)، لتشكيل خلفية تقييم إجمالي لحراك الريف.

الجذور التاريخية لحراك الريف

يجري استحضار الأحداث التاريخية في منطقة الريف وصراعها مع «الدولة المركزية» بصفّها واحدًا إلى جنب آخر (الثورة الريفية 1921-1926 ضد الاستعمار الإسباني، انتفاضة الريف 1958- 1959، انتفاضة 1984)، دون رابط منطقي، يُستنتج منه العلاقة بين تلك الأحداث وحراك الريف الأخير. والأمر هنا كما لو أن أحدًا ربط ثورة 25 يناير 2011 بالثورة العرابية 1879-1882، أو الثورة التونسية نهاية 2010 بالانتفاضة المسلحة التي نظمها صالح بن يوسف عشية الإعلان عن «الاستقلال» عام 1956. لكن هذا الربط التعسفي لن يغني عن تقديم لوحة تاريخية للأحداث التي تدفع الكثيرين للحديث عن «خصوصية» الريف.

دفعت القبائل الريفية (المكونة في الغالب من صغار الفلاحين) أسرة عبد الكريم الخطابي إلى قيادة المقاومة المسلحة ضد الإمبريالية الإسبانية المتداعية، والمُرغَمة من طرف بريطانيا وفرنسا على تهدئة الريف الذي شكل نصيبها من القسمة الاستعمارية الممنوحة لها من طرف مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906؛ المؤتمر الذي شكل تسوية دبلوماسية بين القوى الاستعمارية المتنافسة على المغرب، واستثنى ألمانيا منها.

حققت المقاومة الريفية أبرز انتصار لها في معركة أنوال في 20 تموز 1921، واستمرت المعارك لخمس سنوات، انتهت بالهزيمة أمام تحالف الجيش الفرنسي والإسباني، بدعم سياسي معلَن من طرف السلطان يوسف. جرى نفي الخطابي إلى جزيرة لارينيون، وظل بها حتى سنة 1947 يوم نزوله بالقاهرة.

تزامنت هزيمة المقاومة الريفية مع الأزمة السياسية الإسبانية التي اندلعت عقبَها حربٌ أهلية، انتصر فيها الجنرال فرانكو مستعينًا بفيالق الريفيين.[3] اضطر فرانكو المحتاج إلى خلفية استعمارية هادئة إلى معاملة الريفيين بحذر (ومن هنا ينبع قول بعض ناشطي الريف بأن الاستعمار الإسباني كان أرحم من الاستقلال). ولكن الإمبريالية الإسبانية المتخلفة تركت الريف تقريبًا كما وجدته، مقارنة بما أنجزته فرنسا من «تنمية رأسمالية» في منطقتها المستعمَرة من المغرب.

بعد إعلان «الاستقلال» سنة 1956، ضُمت منطقة الريف وفرض فيها نظام مركزي، أدخل إلى الريف ما لم يكن معهودًا قبل الاستعمار وأثناء حكم فرانكو. تفاقم الوضع مع سعي حزب الاستقلال إلى إرساء حكمه في المنطقة كحزب وحيد، فانطلقت انتفاضة 1958- 1959، التي أخمدها النظام بقيادة ولي العهد آنذاك «الأمير الحسن» (الذي سيصبح الحسن الثاني)، بتدخل قاسٍ من الجيش المغربي. كان قمع هذه الانتفاضة وتفكيك جيش التحرير المغربي في الجنوب بتعاون مع الجيشين الفرنسي والإسباني، بمثابة استئصال شأفة ما كان يمكن أن يكون تعبيرًا سياسيًا عن الفلاح الصغير المغربي.

لعقود بعدها، ظلت المنطقة تلعق جراحها في ظل تحكّم عسكري وتهميش اقتصادي. سنة 1983، سيؤدي تطبيق برنامج التقويم الهيكلي إلى مفاقمة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مع إلغاء 19 ألف منصب مالي من أصل 44 ألفًا مبرمَجة في ميزانية سنة 1983، ورفع ثمن المواد الاستهلاكية المدعمة، بسبب انخفاض الدعم الموجه لصندوق المقاصة من ملياريْ درهم سنة 1982، إلى 1.4 مليار درهم سنة 1983.[4] وستشهد مدن المنطقة (الحسيمة، تطوان، الناظور) إلى جانب المدن المغربية الأخرى، انتفاضة شعبية سنة 1984، واجهها النظام بقمع رهيب، وخصها الحسن الثاني بخطاب اتهم فيه المنتفضين بـ«الأوباش».

إثر قمع الانتفاضة، فُتحت شرايين المنطقة لنزيف شبابها نحو أوروبا، والتهريب المعيشي عبر معبري مليلية وسبتة (اللذين تحتلهما إسبانيا)، وزراعة الكيف.

ستعود المنطقة إلى الواجهة، بعد زلزال الحسيمة سنة 2004، الذي خلف قرابة ألف قتيل وخرابًا في العمران. وأمام مفارقة الحضور القمعي الدائم للدولة، وغيابها عن إغاثة ضحايا الزلزال، نُظمت مظاهرات شعبية في مدينة الحسيمة.

بعد مجيء محمد السادس إلى الحكم وتنظيم الخدعة السياسية المسماة «إنصافًا ومصالحة»، جرى ادعاء طي صفحة تهميش المنطقة، وأطلقت الوعود بتنميتها. لكن دار لقمان ظلت على حالها، لتشهد المنطقة عام 2011 احتجاجات 20 فبراير، التي قُتل فيها خمسة شبان وألقي بهم داخل مصرف بعد حرق جثثهم، وجرى إيقاف التحقيق حول الحادثة.

بعد توقف تظاهرات حركة 20 فبراير، استمر النضال الاجتماعي في المنطقة من طرف الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب وخريجي اليسار الطلابي. وأُسّست لجان لمتابعة الشأن المحلي ببلدات بني بوعياش وتماسينت وميضار وغيرها، للنضال من أجل ملفات مطلبية تتعلق أساسًا بالتشغيل والبنية التحتية. أوقفت الدولة تلك الدينامية بحملة اعتقالات وأحكام بالسجن تراوحت بين ثلاث سنوات و12 سنة نافذة، وجريمة قتل الناشط كمال الحساني في حزيران 2011، وصولًا إلى فرض حالة طوارئ غير معلنة ومنع أي شكل من أشكال التجمهر أو الاحتجاج منذ أواسط سنة 2012 إلى غاية استشهاد محسن فكري عام 2016،[5] الذي سيمثل شرارة استئناف النضال في النقطة التي توقف فيها بُعيد انكفاء حراك 20 فبراير، تحت مسمى «الحراك الشعبي بالريف».

وقبل المقتل المريع لمحسن فكري، شهدت مدينة طنجة (أقصى شمال غرب المغرب) سنة 2015، أضخم تظاهرات منذ سنة 2011، احتجاجًا على غلاء أسعار الكهرباء، الموزَّع من قِبل الشركة الفرنسية أمانديس.

العوامل الاقتصاديةالاجتماعية

على غرار باقي مناطق المغرب، أُرسي في الريف نموذج تنمية قائم على فتح المجال للاستثمار أمام رأس المال المحلي والأجنبي. ونظرًا إلى أن المنطقة غير مغرية من الناحية الاقتصادية، فقد تركزت الاستثمارات على قطاعات «ريعية» مثل العقار والسياحة، فضلًا عن الاتجار في المخدرات الصلبة.

ولأن هذا النموذج من التنمية لا تنساب ثماره على الكادحين، عكس ادعاءات نظرية «الانسياب الاقتصادي» التي يروج لها البنك الدولي، فإن شباب المنطقة لم يجدوا أمامهم سوى أبواب الهجرة نحو أوروبا، والعمل في زراعة الكيف، أو التهريب المعيشي.

أُرسي في الريف نموذج تنمية قائم على فتح المجال للاستثمار أمام رأس المال المحلي والأجنبي، ولأن هذا النموذج لا تنساب ثماره على الكادحين، فإن شباب المنطقة لم يجدوا أمامهم سوى أبواب الهجرة نحو أوروبا.

ستضيق هذه النوافذ مع مستجدات الأزمة الاقتصادية العالمية 2007-2008، والانكماش الاقتصادي في أوروبا. إذ تقلصت عائدات المهاجرين، التي تشكل إعانات تضاهي ما تنفقه الدولة والاستثمار الخاص في المنطقة، وشددت أوروبا سياسة الهجرة، مقيّدة التجمع العائلي أو لم شمل الأسرة التي هاجر أحد أفرادها، وذلك بعد انهيار نظام القذافي في ليبيا وتعقد الأوضاع الأمنية في تونس، عقب الثورة المضادة الظافرة منذ سنة 2013. وفي نفس الوقت، بادرت الدولة المغربية إلى التضييق على التهريب في معبري سبتة ومليلية.

كان برنامج «الحسيمة منارة المتوسط»،[6] الذي وقعت عليه عدة قطاعات وزارية أمام الملك في تطوان يوم 17 تشرين الأول 2015، كغيره من مشاريع «التنمية المجالية»، مندرجًا ضمن نفس المنظور النيوليبرالي: استعمال المالية العمومية لتجهيز بنية تحتية موجَّهة لاستقطاب الاستثمار الخاص، خصوصًا الأجنبي. بالتالي، لم يكن موجَّها لتنمية الريف بما يخدم سكانه من معطلين وشغيلة وفلاحين صغار.

تحول الريف (خاصة مدن الحسيمة والناظور والدريوش) إلى مجال يتجول فيه مئات من الشباب، من خريجي الجامعة والمتسربين من المدرسة دون شهادات. واحتدت الأزمة الاجتماعية بغياب البنية التحتية الطرقية والاستشفائية، في منطقة تعرف أكبر معدلات الإصابة بالسرطان، نتيجة الأسلحة الكيميائية التي كانت إسبانيا قد استعملتها لهزيمة الثورة الريفية (1921- 1926).

أضف هذا إلى الإرث التاريخي من القمع والتهميش الذي جعل الجرح الريفي دائم النزيف، ما جعل الريف (على غرار كل مناطق المغرب) برميل بارود شديد التفجر، ينتظر شرارة للاندلاع في وجه صناع الأزمة. وكان المقتل المأساوي لمحسن فكري هو الشرارة. 

السياق السياسي لاندلاع الحراك

قبل استشهاد محسن فكري بثلاثة أسابيع، نُظمت في المغرب الانتخابات التشريعية في السابع من تشرين الأول 2016، لتمنح حزب العدالة والتنمية الإسلامي ولاية جديدة على رأس الحكومة. عرقلت الملكية وأحزابها تشكيل تلك الحكومة، لدرء رئاسة عبد الإله بنكيران لها، أو على الأقل إضعاف موقعه الحكومي، لتولد بذلك «أزمة» أطلق عليها مصطلح «البلوكاج» أو الانسداد الحكومي.

على مدى ستة أشهر (من تشرين الأول وحتى آذار) انشغل الرأي العام الموجَّه من طرف الصحافة الحزبية، الليبرالية وحتى اليسارية، بهذه المناوشة بين الملكية ورئيس حزب العدالة والتنمية والسجال حول عزل بنكيران، هل هو «سحب تكليف أم إقالة». ولم يلتفت أحد إلى الحراك الذي يتّقد على نار هادئة، بين تظاهرات ووقفات احتجاجية يومية، وإعلان نقاش الملف المطلبي للحراك بشكل ديمقراطي لمدة ثلاثة أشهر.

كانت سياسة التجاهل التي أبداها النظام تجاه الحراك طيلة مرحلته الأولى، محكومة بهذه الأزمة السياسية. فالملكية لم تكن تريد الزج بأدواتها القمعية في لحظة فراغ حكومي، ما قد يعقد الأمور، على نحو يمكّن تلك الأزمة من فتح ثغرة ينطلق منها الدفق الشعبي من كل مناطق المغرب، اقتداءً بما يقع في الريف.

استعادت الملكية المبادرة بعد إعفاء عبد الإله بنكيران ببلاغ صادر من الديوان الملكي يوم 15 آذار 2017، وتكليف خلف سعد الدين العثماني بتشكيل حكومة جديدة يوم 26 نيسان 2017، لتبدأ الاعتقالات الواسعة والقمع الشديد للحراك بعدها بشهر. وسنرى فيما بعد عاقبة إهمال هذا المستجد السياسي من طرف ناشطي وقادة الحراك.

الحراك وتعامل السلطة

انطلق الحراك منذ ليلة طحن محسن فكري عبر مسيرات ليلية بمدينة الحسيمة. وطيلة الفترة الممتدة بين خريف 2016 وخريف 2017، لم تهدأ التظاهرات والوقفات الاحتجاجية والتجمعات الخطابية، التي قدَّرها وزير الداخلية عبد الوافي الفتيت في جلسة مساءلة برلمانية بـ«معدل أربعة احتجاجات يوميًا»،[7] فيما تفاوتت ردة فعل السلطة بين التدخل العنيف أحيانًا والتجاهل أحيانًا أخرى.

في الخامس من آذار 2017، صادق الحراك الشعبي على الملف المطلبي الذي تضمن مطالب اقتصادية واجتماعية وسياسية، تراوحت بين المحاسبة على الجرائم المرتكبة بحق محسن فكري والناشطين، إلى التخلي عن التعامل العسكري مع الحسيمة والريف، إلى تطوير الخدمات التعليمية والصحية ورفع التهميش الاقتصادي.

يمكن تقسيم تعامل الدولة مع الحراك إلى فترتين: الأولى هي فترة التعامل الحذر الممتدة بين تشرين الأول 2016 ونيسان 2017، أي منذ «الأزمة» السياسية المسماة «بلوكاجًا». وقد تراوحت ردود فعل النظام بين قمع محسوب وحذر وترك التظاهرات دون تدخل، مع محاولة نزع الفتيل، كما حصل في زيارة وزير الداخلية محمد حصاد لعائلة الشهيد محسن فكري يوم 30 تشرين الأول. والثانية هي فترة القمع الشديد، مباشرة بعد أضخم مسيرة شهدها الحراك في 18 أيار 2017، ردًا على اتهامات أحزاب الأغلبية الحكومية للحراك بالانفصال والعمالة وتلقي أموال من الخارج.

ظل الملك خارج التدخل المباشر، حتى 25 حزيران 2017، عند ترؤسه للمجلس الوزاري، حيث عبَّر عن «انزعاجه وقلقه» من عدم تنفيذ المشاريع التي يتضمنها برنامج «الحسيمة منارة المتوسط»، الذي تم توقيعه تحت رئاسة الملك، في الآجال المحددة لها، وأصدر تعليمات بفتح تحقيق بشأنه، تلاه إقالة بعض الوزراء.

اعتبرت الملكية حراك الريف تحديًا سياسيًا مباشرًا، خصوصًا وأن قادته، وعلى رأسهم الزفزافي، رفضوا أي تعامل مع المبادرات الحكومية والوزارية المرسَلة إلى الريف، وأصروا على أن الحوار سيكون مباشرة مع من يكلفهم الملك بذلك، كونه صاحب الأمر والنهي، وأن الحكومة والأحزاب مجرد عكاز تتكئ عليه الملكية/ المخزن.

طيلة هذه الفترة الثانية، اشتد أوار التظاهرات والاحتجاجات، التي بلغت ذروتها في مسيرة 18 أيار. واستغلت الدولة حادثة اقتحام ناصر الزفزافي للمسجد يوم 26 أيار اعتراضًا على خطيب الجمعة الذي هاجم الحراك ونعته بالفتنة، لبدء عملية واسعة من الاعتقالات، طالت 20 شخصًا، كان الزفزافي من بينهم يوم 29 أيار.

استمرت الاحتجاجات التي ركزت على مطلب إطلاق سراح المعتقلين، وكان أهمها مسيرة 20 تموز 2017، تخليدًا لذكرى معركة أنوال المجيدة، واجهها النظام بقمع شرس بعد منعها قانونيًا، واستُشهِد على إثرها عماد العتابي الذي أصيب «بشظايا الرصاصة المرتطمة بالأرض».[8]

وفي خطاب ذكرى عيد العرش 29 تموز 2017، أشاد الملك بالشرطة قائلًا «إن قوات الأمن أظهرت ضبط النفس والالتزام بالقانون»، محملًا المسؤولية للتطاحنات الحزبية بالقول: «لم يخطر لي على بال أن يصل الصراع الحزبي وتصفية الحسابات السياسوية، إلى حد الإضرار بمصالح المواطنين». ونفى وجود صراع بين جناحين داخل الدولة، مشيرًا إلى أن «هناك من يقول بوجود تيار متشدد، وآخر معتدل، يختلفان بشأن طريقة التعامل مع هذه الأحداث. وهذا غير صحيح تمامًا. والحقيقة أن هناك توجهًا واحدًا، والتزامًا ثابتًا، هو تطبيق القانون، واحترام المؤسسات، وضمان أمن المواطنين وصيانة ممتلكاتهم».

انتهت فصول هذه المواجهة العنيفة بين الدولة وحراك كادحي/ات الريف في خريف 2017، بعد إصدار الأحكام الثقيلة على المعتقلين، وتشتيتهم بين سجون المملكة، وتحولت المعركة إلى نضال من أجل إطلاق سراح المعتقلين وتأسيس لجنة عائلاتهم. وبعد التطويق الكامل لمدينة الحسيمة، استمرت بعض التحركات في الهوامش القروية (مثل تماسينت وتلارواق). لكن مركز المعركة انتقل إلى العاصمة الإدارية (الرباط) والاقتصادية (الدار البيضاء)، عبر التعويل على المعركة القانونية التي قادها المحامون، وتضامن هيئات سياسية تخشى من الحراك أكثر مما تعمل على تطويره وتجذيره.

«الظاهرة الزفزافية»؟

ليلة استشهاد فكري، وأثناء الاحتجاج العفوي، برز شاب بلحية خفيفة يساجل وكيل الملك وعامل إقليم الحسيمة، اللذين سارعا لنزع الفتيل وتطمين المحتجين بأن القانون سيأخذ مجراه. ذكَّر ناصر الزفزافي ممثلي الملك في الإقليم بحادثة حرق الشبان الخمس في أحداث يوم 20 فبراير وإيقاف التحقيق القانوني. وكان تصريحه «نحن ليس لدينا مشكل مع القانون… لدينا مشكل مع تطبيق القانون»،[9] إشارةً دالة إلى حدود معارضته للملكية والدولة البرجوازية؛ الحدود المحكومة بالتقاليد السياسية التي أرستها أحزاب الحركة الوطنية (يمينها ويسارها) في البلد.

ينفي ناصر الزفزافي كونَه قائدًا للحراك، وقد صرح: «أنا لستُ قائدًا. أنا مجرد ناشط كباقي النشطاء الآخرين».[10] لكن كونه قائدًا للحراك أمر واقع فرضته الظروف، وهو ما لم ينفِه الزفزافي لاحقًا في جواب على سؤال صحفي: «قد تكون القيادة مفروضة عليك الآن»، حين قال «ربما يراها الآخر كذلك، وأنا احترم ما يراه الآخر من رأي».[11] وقد أكملت صحافة التسويق والتشويق، الباحثة عن القارئ/ الزبون، بالتركيز على الأشخاص بدل الجماهير، وأصبح الحديث عاديًا عن تراتبية قيادة الحراك بين «الصنديد الزفزافي»، و«احمجيق دينامو الريف»، و«المجاوي حكيم الريف»، إلخ.

يتناسب حجم الفرد وعلاقته بالجماهير في النضال مع الخبرة السياسية والمراس التنظيمي الذي راكمته الجماهير قبل اندلاع الأحداث. فكلما كانت الجماهير أقل خبرة سياسيًا وتنظيميًا كان دور الفرد أكثر تضخمًا. يحيلنا هذا إلى القاعدة الصدامية لحراك الريف وكيف تماثلت أمزجتها واستعدادتها العاطفية مع وجود شخص يعبر عن تطلعاتها وتخوفاتها. تشكلت هذه القاعدة من شبان ذوي تجربة سياسية ونضالية ضئيلة أو منعدمة: «شباب عاديون غير مؤدلجين. سنهم يتراوح ما بين 15 و35 سنة. أغلبيتهم دون عمل وغير متمدرسين، والقليل منهم يشتغل بائعًا متجولًا، بائع سمك، نادلًا، جباصًا، سائقًا، أو يشتغل في الإلكترونيات، الصيد البحري، النجارة، الجبس. والطابع الموسمي غير المستقر والهش هو الذي يغلب على علاقتهم بالعمل، فكثيرًا ما ينتقلون من عمل لعمل آخر أو يشتغلون بشكل متقطع وأحيانًا يضطرون للتوقف عن العمل لمدة طويلة. وبعضهم اضطر للعمل أو للانقطاع عن متابعة دراسته الجامعية ليعمل ويساعد أسرته خصوصًا بسبب وفاة الأب بشكل مبكر».[12]

يقطن أغلب هؤلاء الشبان الأحياء الهامشية لمدينة الحسيمة التي استولت عليها شركات العقار، أو المراكز الصغرى المحيطة بالمدينة، وهي «أحزمة فقر وهشاشة تعرف أعلى نسبة كثافة سكانية وتحتوي أكبر نسبة من الشباب، وهي تحتضن العديد من مظاهر الاستبعاد الاجتماعي: البطالة، الانقطاع عن الدراسة، الإجرام وتجارة المخدرات». إنهم شباب يشعرون أن العالم كله تخلى عنهم: الدولة، الأحزاب التي أطلقوا عليها «دكاكين سياسية» والجمعيات والتي أطلقوا عليها «استرزاقية».[13]

المستوى النضالي/ السياسي الصفري أو الضئيل لهذه القاعدة الشابة، جعلها تتماهى مع قائد شاب مثلها (انتقل الزفزافي بدوره بين عدة مهن هشة)، وتستجيب لخطابه الذي يشكل مزيجًا ينهل من خلفيات فكرية دينية وليبرالية وإنسانية، وأحيانًا يسارية، مع كثرة الإحالة إلى عبد الكريم الخطابي والاستشهاد بالآيات القرآنية.

كان الزفزافي يعبر إذن عن تلك الكتلة البشرية، التي يشكلها شباب بلا هوية اجتماعية بفعل البطالة وهشاشة الشغل، وبلا هوية سياسية بفعل الممارسة الحزبية التي فرضتها الملكية على البلد وغياب بديل سياسي ذي مصداقية. وما زاده مصداقيةً عدم سعيه وراء مكاسب سياسية، رغم حجم الإغراءات المقدَّمة له أثناء الحراك، من مال ومنصب وظيفي، ورفضه التماس العفو الملكي بعد سجنه. لم يكن بإمكان كل شاب ساخط بالريف أن يكون «زفزافيًا»، ولكن قطعة من الزفزافي توجد داخل كل شاب ساخط.

هذا هو السر وراء طفو الزفزافي فوق سطح الحراك منذ البداية، وبعد ذلك التحكم فيه عبر آليات تنظيمية شديدة المركَزة، منعت كل حرية لإبداء الرأي، بمبرر الحفاظ على وحدة الحراك.

إشكالات تنظيمية وسياسية

اتسم حراك الريف ببعض مظاهر الديمقراطية، وتظهر بفعل تباينها مع التقاليد التنظيمية اللاديمقراطية السائدة في مجمل الحقل الحزبي والنقابي. ظهر ذلك في المصادقة على الملف المطلبي بعد استشارة واسعة، ونقل اجتماعات الناشطين عبر آلية البث المباشر، وغيرها. ولكن يصعب كثيرًا الإمساك بالآلية التنظيمية للحراك ونعتها بأنها ديمقراطية. فرغم الدعوة لتشكيل لجان الأحياء، إلا أن هذه الأخيرة لم تر النور، وظل القرار حبيس الحلقة الضيقة للنشطاء وعلى رأسهم الزفزافي. وبدل قيادة منتخَبة، شُكِّلت «لجنة الإعلام والتواصل»، وأُعلِن أن الصفحة الرسمية لناصر الزفزافي هي الناطق الرسمي باسم هذه اللجنة.

لا يفسر هذا بنزوع تحكمي لدى النشطاء، حتى وإن كان قائمًا. بل يفسَّر بضعف التجربة التنظيمية والسياسية لقاعدة الحراك، ما جعل النشطاء يتوجسون من أي إشراك لتلك القاعدة، وهو ما عبره عنه كاتب سيرة الحراك محمد المجوضي بالقول: «كان بالإمكان تفويض أو توزيع الكثير [من الصلاحيات]، أو البعض منها على الأقل، إن حضر الأشخاص المناسبون والكافين».[14] وفي هذا الاتجاه تأتي محاولة الزفزافي ورفاقه توسيعَ دائرته «عبر استقطاب نخب وأطر متخصصة في مجالات متعددة».

ليس رفض السياسة ميزة لحراك الريف، بل إحدى سمات تحولات كبيرة يشهدها المجتمع بعد موجات ثورات 2011 وما تلاها من ثورة مضادة؛ مجتمع يعيش مرحلة انتقالية ما بين تفكك وتحلل ما كان قائمًا ومهيمنًا، ومحاولة بناء وبلورة ما هو جديد.

ورغم تأكيد الزفزافي بأنه «لا يحيد عما تقرره الجماهير»، فإنه مبادراته الشخصية متعددة في هذا الجانب دون الرجوع إلى قرار الجماهير، ومنها اقتحامه للمسجد في أيار 2017، ومزايدته على اتهام النظام له بالانفصال بالقول: «أقول لإحدى الصراصير المرتزقة المسمى جبهة البوليساريو الوهمية، كونوا بعيدين (..) قلناها سابقًا، لو كنتم قريبين منا، لكنا ذبحناكم».

ليس هذا حكرًا على حراك الريف، فبعد عام من انطفائه، انطلقت موجة نضال شبيبية أخرى كان «الأساتذة المفروض عليهم التعاقد» عمادها، وشهدت نفس الآليات التنظيمية من حصر القرار في يد مجلس وطني، وظلت الجموع العامة محض أماكن لإبلاغ الأساتذة بالقرار المتخَذ من طرف القيادة.

من جهة أخرى، تبرز إشكالية علاقة الحراك بالأحزاب. نفى الزفزافي دومًا انتماءه إلى أي حزب، ونعت الأحزاب بالدكاكين السياسية. ولكن رغم ذلك لم تختلف خطابات الزفزافي عن الخط الحزبي الراسخ منذ عقود في التقاليد السياسية للبلد: خط زرعت بذرتَه الحركة الوطنية البرجوازية، وأينع تحت قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. يقوم هذا الخط على تجنب معارضة الملكية مباشرة وإلقاء المسؤولية على مؤسسات وَاجِهَتِه من برلمان وحكومة وأحزاب. تعكس تصريحات عديدة للزفزافي مثل هذا التوجه.[15]

المرتكز الآخر لهذا الخط الحزبي هو تفادي اتهام النظام الاقتصادي والاجتماعي، والتركيز على بنيته السياسية الفوقية، أي تركيز النيران لا على السياسات النيوليبرالية المطبَّقة منذ ثلاثة عقود، وإنما على مظاهر الفساد والريع والاختلاس، ومنع كفاءات المنطقة من الاستثمار.[16] فما فائدة بناء المستشفيات والمدارس إن لم تُفعّل وتُتح للعامة، في ظل سياسة تقشف نيوليبرالي تُحمل الكادحين/ات كلفة الاستفادة من خدمات لم تعد مجانية؟ هذا ما عبر عنه أحد الشباب بالقول: «بعد مرور كل هذه الأعوام، لا يوجد أي تحسن في أحوالنا. الدولة تقول إنها تفعل ما بوسعها، ولكن طالما ظلت المشافي تعاني من نقص الأطقم الطبية فلن تكون إلا مبانٍ خرسانية».

ليس رفض السياسة ميزة لحراك الريف، بل إحدى سمات تحولات كبيرة يشهدها المجتمع بعد موجات ثورات 2011 وما تلاها من ثورة مضادة؛ مجتمع يعيش مرحلة انتقالية ما بين تفكك وتحلل ما كان قائمًا ومهيمنًا، ومحاولة بناء وبلورة ما هو جديد. وفي هذا الفراغ الانتقالي تتناسل تصورات رفض السياسة والحزب والنقابة.

لماذا فشل الحراك؟

ساجل عديدون بأن الحراك لم يهزم، وأن انتصاره هو انتصار معنوي، إذ زرع روح النضال في الشعب. لكن هذا النوع من الانتصار متعلق بالآفاق التاريخية البعيدة، وليس بالمنظور الآني والمتوسط.

لم يستطع الحراك تحقيق ملفه المطلبي، باستثناء الحكم الهزلي على المتورطين مباشرة في قتل محسن فكري بالسجن 47 شهرًا. أما مشاريع البنية التحتية التي أُطلِقت فليست سوى تنفيذًا لبرنامج «الحسيمة منارة المتوسط» الموجهة لتجهيز البنية التحتية لاستقطاب رأس المال. لذا، يبقى السؤال مطروحًا حول أسباب فشل الحراك.

يرتبط السبب الأول بالتوقيت غير الملائم. فقد انفجر الحراك الشعبي بالريف في قعر الموجة المضادة للثورة بالمنطقة، التي توسطت موجتين ثوريتين؛ الأولى امتدت من 2011 حتى 2013، في حين استجدت الموجة الثانية سنة 2019 مع الثورة السودانية والجزائرية والتظاهرات بلبنان والعراق. يشكل هذا سببًا رئيسيًا وراء تمكن الملكية من إطفاء حراك الريف، وفي نفس الوقت تفاديها امتداد الموجة الثورية الثانية إلى المغرب، إذ أرعبت الأحكام السجنية الثقيلة الشعب من الالتحاق بالشعب الجزائري المنتفض ضد الطغمة العسكرية الحاكمة منذ استقلال البلد.

ساجل عديدون بأن الحراك لم يهزم، وأن انتصاره هو انتصار معنوي، إذ زرع روح النضال في الشعب. لكن هذا النوع من الانتصار متعلق بالآفاق التاريخية البعيدة، وليس بالمنظور الآني والمتوسط.

من جهة ثانية، اتسم الحراك عمومًا بالعزلة. فقد أثار مقتل محسن فكري موجة هائلة من التظاهرات على الصعيد الوطني، عمت المدن الكبرى والصغرى. لكن قادة الحراك لم يسعوا إلى مده نحو باقي المناطق، ولم يكن هذا البعد يدخل في حساباتهم. صرح الزفزافي: «قوة هذا الحراك هي التي سترغم الدولة على تحقيق مطالب هذه المنطقة»، وجوابًا على سؤال التواصل مع بقية المناطق قال: «ما يحدث لإخواننا في جبال الأطلس مثلًا من حصار وتجويع يهمنا أيضًا، ونتمنى أن نساعدهم ونؤازرهم قدر المستطاع، كان في نيتنا التواصل والتعبئة العامة في الناظور ووجدة وغيرها من المناطق، ولم نتمكن من القيام بذلك لأسباب كثيرة».[17] حالَ غياب طابع وطني موحد دون الارتقاء السياسي للنضالات، ومن ثم قاد انعدام مشروع بديل إجمالي عن النظام الاقتصادي-الاجتماعي القائم وملازمه السياسي. يعني هذا كله غياب الاستراتيجية، وهو الوجه الآخر لغياب حزب نضال عمالي وشعبي.

شكل غياب هذه القوة السياسية العمالية الثورية عنصرًا حاسمًا. فالموجة التضامنية مع الحراك لم تجد من يمركزها ويمدها بأفق سياسي يتجاوز حس التضامن. سرعان ما انطفأت هذه الموجة، لأن القوى السياسية والنقابية بالبلد آثرت عدم المغامرة بالسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، وفضلت توجيه التحذيرات للنظام بأن سلوكه القمعي قد يزج بالبلد في مهاوي الفوضى، كما هو شأن سوريا واليمن. وهي نفس الحجة التي استعملها النظام لعزل حراك الريف عن الحاضنة الشعبية في بقية ربوع البلد.

لم تدع أي نقابة لأي إضراب وطني (باستثناء مبادرة محلية بالحسيمة دون أي أثر)، فالبيروقراطيات النقابية موقِّعة على السلم الاجتماعي مع الدولة منذ أواسط التسعينيات، وتتفادى أي مناوشة قد تهدده. ويقتصر عملها على مواكبة السياسة النيوليبرالية للدولة بالتماس إجراءات تخفف وقعها الاجتماعي على الشغيلة. أما النضال من أجل المطالب الشعبية الأخرى، فغير وارد إطلاقًا.

أخيرًا، لا شك أن لأخطاء الحراك نفسه دورًا فيما آل إليه. لسنا هنا بمعرض جرد كل الأخطاء، وقد تحدثنا عن بعضها أعلاه (الإشكالية التنظيمية). لكن يبدو أن الحراك قد وقع في فخ الاستهانة بتجاوز النظام لـ«الأزمة» السياسية (البلوكاج الحكومي). فقبيل ذلك بأيام صرح الزفزافي قائلًا: «هذه الجولة الأولى بيننا وبين المخزن انتصرنا فيها. نحن إذن ما يزال لدينا الكثير من أساليب المواجهة، وهذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة لنوجه صفعة أخرى للنظام المخزني».[18] لقد كان إعفاء عبد الإله بنكيران وتكليف خلفه سعد الدين العثماني بتشكيل الحكومة، إشارة إلى أن الدولة ستتفرغ للقضاء على حراك الريف. لم يتوقع قادة الحراك ذلك، ولم يستعدوا له.

مكاسب الملكية

 فضلًا عن قمع الحراك، جيّرت الملكية الأزمة لصالح مشروعها النيوليبرالي المُملى من البنك الدولي. شرح الملك –بعبارات منقولة من تقرير البنك الدولي الصادر سنة 2017- أعطاب النموذج التنموي القائم، وركز على ضعف «القطاع العام الذي عانى من ضعف الحكامة وقلة المردودية مقارنة بالقطاع الخاص الذي يتميز بالنجاعة والتنافسية، بفضل نموذج التسيير، القائم على آليات المتابعة والمراقبة والتحفيز». وإذ أشاد بالإنجازات الاقتصادية للمغرب، فقد أشار إلى ثمارها الاجتماعية والمجالية الضعيفة التي «أصبح من المخجل أن يقال إنها تقع في مغرب اليوم». أي أن النموذج الاقتصادي النيوليبرالي القائم حفّز القطاع الخاص ووجّه المالية العمومية نحو ذلك الهدف، ناجح تمامًا. وهو ما قام حراك الريف، وبعده حراك جرادة، ضده.

تلقف الأكاديميون والمثقفون الرسالة، ونشروا البضاعة الملكية على نطاق واسع، وصدر تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (وهي مؤسسة دستورية عينها الملك في شباط 2011)، حول النموذج التنموي وأعطابه. بعد ذلك كلف الملك شكيب بنموسى (وهو وزير الداخلية الذي أشرف على القمع الشرس لانتفاضة مدينة سيدي إفني صيف سنة 2007)، بتشكيل لجنة قادت مشاورات موسعة، من أجل «بلورة نموذج تنموي جديد». وقد أصدرت اللجنة تقريرها في أيار 2021، وتضمن الحفاظ على نفس الاختيارات الاقتصادية النيوليبرالية التي شكلت أصل البلاء الذي قام ضده حراك الريف، مع تنويعات إحسانية لتلطيف وقع تلك الخيارات على أكثر الشرائح فقرا، سُمِّيَت «تعميمًا للحماية الاجتماعية».[19]

على المستوى السياسي، استغلت الملكية وقع الأحكام القاسية والقمع الشديد، لتشديد القبضة القمعية: محاكمات دورية لتأديب المعارضين بسبب تدوينات أو دعوات للتظاهر، فضلًا عن ترتيب حكومة على المقاس، بإلحاق هزيمة انتخابية قاسية بحزب العدالة والتنمية الإسلامي، ووضع رجل أعمال (عزيز أخنوش، مالك أكبر محطات الوقود بالبلد) على رأس حكومة الواجهة.

ماذا بعد؟

هل سيستأنف كادحو الريف الحراك في الأمد القريب أو المتوسط؟ لا يستطيع أحد الإجابة. فالانتفاضات الشعبية لا تسير وفق التمنيات والتوقعات. وعليه، فإن الأهم من سؤال متى يقع الانفجار، هو محاولة فهم هذه المرحلة وسماتها الخاصة وأثرها المحتمل على الواقع السياسي المهيمن ومآلات التغيير فيه.

يبدو أن حجم القمع والأحكام القاسية فضلًا عن إفراغ الريف من قاعدته الشابة عبر الهجرة السرية التي تسامحت معها إسبانيا، قد حرمت المنطقة من كادر شاب تمرس طيلة سنة على أساليب النضال والتحريض والمواجهة. «لا يمكننا الاحتجاج اليوم… قرار الهجرة جاء في الوقت الذي قضيت فيه سنتين في سجن عكاشة في الدار البيضاء. وعندما تم إطلاق سراحي، كان الوضع كئيبًا وكانت منطقتنا تعيش تحت حصار، وكنا مضطهدين، وهذا ما لم أستطع تحمله والبقاء صامتًا. لم أستطيع الاستمرار في العيش في المغرب، وكنت أفضل الموت في قارب وسط البحر عوض البقاء هناك»، هذا ما صرح به المناضل الحراكي جمال منى.

بالعودة إلى سوابق تاريخية، يظهر أن هذا الأسلوب يقضي على بذرة الاحتجاج في الأمد المنظور. أدى القمع القاسي لانتفاضة سيدي إفني سنة 2007 والهجرة السرية نحو إسبانيا عبر جزر الخالدات إلى غياب المدينة عن أكبر محطة نضالية شهدها البلد؛ أي حراك 20 فبراير السياسي وما وازاه من نضالات عمالية وشعبية. الشيء ذاته يقال عن مدينة العيون بالصحراء، إذ أجهض القمع القاسي والأحكام الغليظة، فضلًا عن التطويق البوليسي الدائم، إمكانية مشاركة مدن الصحراء في حراك 20 فبراير. ولا تزال المنطقتان (إيفني ومدن الصحراء) على الحال ذاته حتى الساعة.

قد ينفجر النضال من أي منطقة من المغرب، وقد يكون الريف أو جرادة أو مدن الصحراء منطلق ذلك النضال. فحجم القنبلة الاجتماعية التي راكمتها السياسات النيوليبرالية، وفاقمتها أزمة كوفيد- 19، والجفاف، والغلاء، وتداعيات حرب روسيا على أوكرانيا، يجعل من المغرب مرجلا يغلي، ونقطة الغليان قد تحين في أي وقت.

ليس دورنا في التكهن بذلك الوقت، بل بالاستعداد له. وأول الواجبات هو تجاوز نقطة القصور الرئيسية في تاريخ النضال العمالي والشعبي بالمغرب: غياب قوة سياسية مناهضة للرأسمالية وصيغتها الحالية النيوليبرالية.

 ليست المطالب الآنية، نقابية كانت أو اجتماعية، ومن أجل الحريات، غير منطلقات النضال، من شأن تحقيقها أن يُحسِّن أوضاع المعيشة في حدود لن تتوانى البرجوازية ودولتها عن السعي لتضييقها مجددًالكن الفائدة الأعظم تبقى هي التمرس واكتساب الثقة في المقدرات الذاتية. أمّا ضمان حياة لائقة للشعب الكادح، تخلو من صنوف الاستغلال والاضطهاد في بيئة سليمة، فيتطلب مشروعًا مجتمعيًا بديلًا. وهذا غائب كليًا لدى الحركة النقابية كما لدى حركة النضال الشعبي. فكل ما ترفع بعض مكونات الحركة النقابية لواءه من عناصر بديلة لا يتعدى «ترميمًا اجتماعيًا» للرأسمالية التابعة القائمة، وإصلاح نظامها السياسي (الملكية البرلمانية)، وسعيًا لتطهيرها من شوائب الريع وانتهاك قواعد الاقتصاد الليبرالي. وهذا ما علينا تجاوزه مستقبلًا.

  • الهوامش

    [1] حوار مع الزفزافي أجراه موقع أنوال دوت نت، 6 آذار 2017، نقلًا عن «محنة الريف، من الانتفاضة إلى الحراك»، محمد أمزيان، مطبعة الخليج العربي، تطوان- المغرب، الطبعة الأولى 2018، ص 172.

    [2] «الحركات الاحتجاجية بنفس تاريخي: حينما يكون التاريخ محركًا وحاضنًا للحراك. حراك الريف أنموذجًا»، رشيد شريت، كاتب وباحث في التاريخ المغربي المعاصر- وجد. مساهمة في مؤلف جماعي: «الدولة وحراك الريف. السلطة، السلطة المضادة وأزمة الوساطة»، تنسيق محمد الروضاني، سلسلة بدائل قانونية وسياسية، مطبعة المعارف الجديد، الرباط- المغرب، الطبعة الثانية 2018، ص 97.

    [3] «مغاربة في خدمة فرانكو»، ماريا روسا دي مادارياغا، سلسلة ضفاف الصادرة عن منشورات الزمن، سنة 2006.

    [4] «تأثير الحراك الشعبي بالريف، قراءة أولية»، محمد المجوضي، مطبعة الحمامة، تطوان، المغرب، الطبعة الأولى 2020، ص 36.

    [6] برنامج ملكي بغلاف مالي يقدر بأكثر من 6.5 مليار درهم استهدف إنجاز مشاريع بنية تحتية (طرق، مباني، استشفاء، تعليم.. إلخ).

    [7] «تأثير الحراك الشعبي بالريف، قراءة أولية»، محمد المجوضي، مطبعة الحمامة، تطوان- المغرب، الطبعة الأولى 2020، ص 97.

    [8] بحسب تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول حراك الريف.

    [9] «مداخلة الزفزافي ليلة طحن محسن فكري بحضور وكيل الملك وعامل الإقليم»، نُشر بتاريخ 29 أكتوبر 2016، شوهد يوم 22 سبتمبر 2022.

    [10] موقع أنوال. نت، مرجع مذكور، ص 174.

    [11] المرجع نفسه، ص 174.

    [12] «حراك الريف: بين الحاجة للدولة والريبة منها. جروح التاريخ وتصدعات الحاضر»، محمد سعدي، أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية بجامعة محمد الأول بوجدة، مساهمة ضمن مؤلف جماعي سبق ذكره، «الدولة وحراك الريف»، الروضاني، ص 92.

    [13] المرجع نفسه، ص 93.

    [14] محمد المجوضي، مرجع مذكور، ص 146.

    [15] كلمة ناصر الزفزافي في تجمع خطابي بالحسيمة في ختام مسيرة 18 أيار 2017.

    [16] انظر «السمات العامة لحراك الريف»، العربي الحفيظي، 

    [17] موقع أنوال. نت، مرجع مذكور، ص 169، 187.

    [18] المرجع نفسه، ص 171-173.

    [19] انظر: مذكرة عامة حول تقرير «اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي» من أجل مغرب آخر ممكن، واقتصاد يقطع مع النموذج الرأسمالي النيوليبرالي.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية