سفينة عبد الحميد

حقل سكاريا في تركيا: السياسة في الغاز والغاز في السياسة

إحدى سفن الحفر التركية تغادر في مهمة في البحر الأبيض المتوسط. تصوير آدم ألتان. أ ف ب.

حقل سكاريا في تركيا: السياسة في الغاز والغاز في السياسة

الخميس 11 أيار 2023

يُمكن اعتبار يوم الخميس، 20 نيسان 2023، والذي بدأ فيه إنتاج الغاز الطبيعيّ من حقل سكاريا في البحر الأسود، يومًا تُركيًّا تاريخيًّا. فرغم أنّ بلاد الأناضول عرفتْ اكتشافات النفط والغاز منذ أربعينيّات القرن الماضي، إلا أنّ الكميّات المُنتجة منهما عبر عقودٍ طويلة ظلّت متواضعة للغاية بالنسبة لبلدٍ كبيرٍ بحجم تركيا، الأمر الذي وضع البلاد دومًا تحت رحمة الاعتماد شبه الكامل على الخارج لتأمين احتياجاتها من الطاقة، بكلّ ما ينطوي عليه هذا الوضع الهشّ من عواقب سياسيّة واقتصاديّة كبيرة. 

لم يكن غريبًا لذلك أن يحظى تدشين الإنتاج من سكاريا بهذا الاهتمام من قِبل الساسة الأتراك. كما لم يكن غريبًا أن يصل المسؤولون المعنيّون بملف الطاقة ليلهم بنهارهم خلال السنوات الثلاث الماضية ليضمنوا بدء الإنتاج منه في هذا العام بالذات، رغم كلّ ما انطوت عليه هذه المهمّة من تعقيدات، وذلك ليتزامن تدشينه مع احتفال تركيا بمرور مائة عامٍ على تأسيس الجمهوريّة، وحتى يسبق هذا التدشين موعد الانتخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة المُزمعة، والتي يعتبرها الكثير من المراقبين جولة مصيريّة في الحياة السياسيّة للبلاد. 

فالحقل الذي أُريد له أن يحمل اسم واحدةٍ من أهم معارك حرب الاستقلال، هو أكبرُ اكتشافٍ من نوعه في تاريخ تركيا والبحر الأسود. ورغم أنّه لن يُنهي اعتماد البلاد بالكامل على موارد الطاقة المستوردة، إلا أنّه سيُمكنها لأوّل مرّة في تاريخها من خلق توازنٍ بين اللجوء للخارج لتأمين الغاز الطبيعيّ وبين الاعتماد على الموارد المحليّة، وسيفتح الباب بالتالي لتخفيف تدريجيّ لفاتورة الطاقة الهائلة على الماليّة العامّة التركيّة في المدى المتوسّط، كما قد يكون من شأنه أيضًا تحسين المكانة الجيوسياسيّة لتركيّا في علاقات الطاقة الإقليميّة، وخصوصًا في ضوء أزمة إمدادات الغاز الروسيّ بعد اندلاع الحرب الأوكرانيّة. 

حقل سكاريا: بسرعة نحو الهدف 

اُكتشف حقل سكاريا في آب من العام 2020، وذلك بعد حفر بئر «تونا-1» على يد سفينة «الفاتح» التابعة لمؤسسة البترول الوطنيّة التركيّة، على عمق 4,525 متر في مياه البحر الأسود. كان اكتشاف الحقل جزءًا من مسعى تركيّ واسع النطاق لتحقيق اكتشافاتٍ كبيرة من النفط والغاز، وتحديدًا في المناطق البحريّة، وذلك في غَمرة التنافس الإقليميّ حول احتياطيّات الغاز في منطقة شرق البحر المتوسّط، والصراع على ترسيم حدود المناطق الاقتصاديّة الخاصّة التي قد تحوي هذا النوع من الموارد الهامّة. 

لهذا السبب، يُمكن عدّ حقل سكاريا، بشكلٍ ما، المولود الشرعيّ لطموحات الصعود السياسيّ التركيّة التي جسدّتها شخصيّة الرئيس رجب طيّب أردوغان، الذي أدرك ومعه الطبقة السياسيّة الحاكمة، أنّ توسيع نفوذ أنقرة وتقوية مكانتها الاستراتيجيّة في المنطقة مرهونٌ بتعزيز أمن الطاقة وإيجاد حلولٍ لحالة الاختلال الفادح التي يُمثّلها اعتماد البلاد الكامل تقريبًا على واردات الطاقة. ولعلّ هذا الإدراك هو ما يُفسّر النشاط الكبير للدبلوماسيّة التركيّة خلال السنوات الماضية في ملفّات ترسيم الحدود البحريّة ومشروعات نقل الغاز والاستثمار في بناء أسطولٍ من سفن التنقيب وإعطاءها أسماء مُستوحاة من التاريخ العثمانيّ بشكلٍ خاص، في إشارة لا تُخطئها العين للربط الواعي بين مسألة الطاقة ومشروع الصعود الاستراتيجيّ. 

قُدّرت احتياطيّات الحقل من الغاز الطبيعيّ عند اكتشاف الجزء الرئيسيّ منه بحوالي 11 تريليون قدم مُكعّب (ما يجعل هذا الجزء بحجم حقل «تامار» قُبالة سواحل حيفا تقريبًا). وعند اكتشاف الجزء الجنوبيّ منه في تشرين أوّل 2020، والجزء الشمالي في حزيران 2021، فإنّ احتياطيّاته وصلت، بحسب التقديرات، إلى حوالي 17 تريليون قدم مُكعّب. رغم ذلك، فإنّ هذه الأرقام يجب أن تُؤخذ بمقدارٍ من الحذر، خاصّة أننا لا نزال في المراحل الأوليّة لتطوير الحقل، إذ يُمكن لهذه التقديرات أن تخضع للتعديل والمراجعة بعد حفر المزيد من الآبار في الحقل والتعرّف بشكلٍ أفضل على خصائصه الجيولوجيّة.[1] ناهيك عن أنّه كثيرًا ما تلجأ الحكومات لتضخيم الأرقام المُعلنة عن اكتشافات النفط والغاز لخدمة أغراض الدعاية السياسيّة، وحالة سكاريا قد لا تكون استثناءً، خاصّة في ضوء الاستقطاب الهائل في الساحة السياسيّة التركيّة خلال السنوات الماضية، وحاجة الرئيس أردوغان لكلّ ورقة مُتاحة لتعزيز موقفه في ظلّ أزمة اقتصاديّة ضاغطة. 

بعد حفر الآبار الاستكشافيّة والتقييميّة والتأكّد من وجود احتياطياتٍ تجاريّة، كان تطوير الحقل ووضعه على خارطة الإنتاج، ضمن جدولٍ زمنيّ قصير، مهمّة تحمل في طيّاتها الكثير من التحديات. وانبثق أهم تحدٍ من حقيقة أن الحقل يقبع على أعماقٍ كبيرة في البحر الأسود في نطاق تركيبٍ جيولوجيّ مُعقّد نسبيًّا. وتُعدّ مشروعات تطوير حقول الغاز في المياه العميقة (Ultra-Deepwater Development) مشروعاتٍ صعبة من الناحية الهندسيّة والفنيّة، ويتطلّب تنفيذها خبراتٍ كبيرة نظرًا لدرجات الحرارة المتجمدة وضغط المياه الهائل والظلام الحالك الذي تجري فيه عمليّات التطوير. وتنعكس بيئة العمل المُعقّدة هذه بطبيعة الحال في هيكل التكاليف الخاص بهذا النوع من المشروعات، إذ قد تزيد تكاليفها الرأسماليّة أضعافًا عن تلك المشروعات التي تُنفّذ في اليابسة، وذلك نتيجة لطبيعة المعدّات الخاصّة التي تتطلبها والأعمال الهندسيّة الدقيقة التي تتضمنها والمخاطر المحيطة بكل جانبٍ من جوانبها. وقد زاد على هذه التعقيدات حقيقة أن حقل سكاريا اُكتشف وجرى البدء بتطويره في فترة جائحة كورونا العالميّة، والتي اتسمت بتأجيل الكثير من مشروعات الطاقة وتعطّل إمدادات المعدّات الثقيلة وارتفاع تكاليف الشحن. 

دفعتْ هذه العوامل التقنيّة والفنيّة، معطوفة على العوامل السياسيّة المعروفة، الكثير من المحلّلين للقول إنّ البدء بإنتاج الغاز الطبيعيّ خلال ثلاثة أعوامٍ من تاريخ اكتشاف سكاريا هو أمرٌ متعذّر، وأنّه في أكثر السيناريوهات تفاؤلًا، فإنّ تركيّا بحاجة للتعاون مع كُبريات شركات الطاقة العالميّة من أجل تطوير الحقل، خاصّة أنّ الشركة الوطنيّة، بحسب استخلاصاتهم، تفتقر للخبرة المطلوبة لهذا النوع من المشروعات، وأنّ هناك سوابق في البحر الأسود تُشير لصعوباتٍ حقيقيّة في تطوير أحواض الغاز الطبيعيّ ذات الطبيعة الجيولوجيّة المُعقّدة، ومنها حوض «نيبتون ديب» (Neptun Deep) الرومانيّ، الذي دخلت الشركات الأجنبيّة للتنقيب فيه عام 2000 ولكنّه لم يبدأ الإنتاج حتى يومنا هذا. 

يُمكن عدّ حقل سكاريا المولود الشرعيّ لطموحات الصعود السياسيّ التركيّة التي جسدّتها شخصيّة أردوغان، الذي أدرك أنّ توسيع نفوذ أنقرة وتقوية مكانتها الاستراتيجيّة في المنطقة مرهونٌ بتعزيز أمن الطاقة وإيجاد حلولٍ لحالة الاختلال الفادح التي يُمثّلها اعتماد البلاد الكامل تقريبًا على واردات الطاقة

إدراكًا منها لكلّ هذه الصعوبات، قامت مؤسسة البترول الوطنيّة التركيّة بالتواصل مع اثنتين من الشركات الأمريكيّة العملاقة، وهما «إكسون موبيل» و«شيفرون»، وشاركت معهما بياناتٍ عن الحقل أملًا في بحث سبل التعاون والتطوير المشترك، إلا أنّ هذا التواصل لم يصل لنتيجة. لم تُكشف الأسباب التي حالت دون مشاركة هذه الشركات الأمريكيّة في المشروع. وقد يكون الأمر مرتبطًا بالعوامل السياسيّة (إذ سبق للحكومة التركيّة أن حذّرت شركة «إكسون موبيل» عام 2018 من مغبّة الاستمرار في أعمال التنقيب في بلوك 10 قُبالة السواحل القبرصية، معتبرة هذه الأعمال انتهاكًا لجرفها القاريّ). وربما يكون مرتبطًا بعوامل استثماريّة وتجاريّة بحتة، إذ قد تكون هذه الشركات وصلت إلى نتيجة مفادها غياب جدوى المشروع أو ارتفاع تكاليفه، خاصّة وأنّ هاتين الشركتين بالذات سبق أن وقعتا اتفاقيات تنقيب في البحر الأسود مع الحكومة التركيّة قبل ما يزيد على عقدٍ من الزمن، قبل أن تنسحبا من مناطق الامتياز دون نتائج. ومن غير المستبعد أن تكون هناك أسبابٌ أخرى متصلة بالتكتيكات الكلاسيكيّة لشركات الطاقة الغربيّة الكبرى، والتي تقوم أحيانًا بتعطيل إنتاج بعض الموارد وأخذها كرهينة -من خلال احتكارها للخبرات والتقنيّات وسلاسل التوريد- وذلك من أجل الحفاظ على مستوى معيّن من المعروض من النفط والغاز في السوق العالمي بما يضمن لها الحصول على أسعارٍ أعلى لمبيعاتها. 

أمام هذا السيناريو، لم يكن أمام تركيا سوى اجتراح معادلة تمزج بين الاعتماد على القدرات والخبرات الذاتيّة، واللجوء في نفس الوقت للشركات الغربيّة الأصغر حجمًا من أجل الحقل.[2] وهكذا، فبينما عملت مؤسسة البترول الوطنيّة التركيّة على إنجاز عمليّات حفر الآبار في سكاريا من خلال حفّاراتها المختلفة: «يافوز» و«القانوني» و«الفاتح»، فإنّ عقدًا جرى توقيعه في تشرين أوّل 2021 مع «كونسورتيوم» مؤلّف من شركتي «Subsea7» و«Schlumberger» الأمريكيّة المعروفة، وذلك من أجل القيام بالأعمال الهندسيّة التي تتضمّن ربط الآبار بنظام إنتاج تحت الماء (Subsea Production System) وإنشاء محطّة الإنتاج والمعالجة الأوليّة ومدّ الأنابيب من الآبار إلى هذه المحطّة على شاطئ البحر الأسود. وفي شهر تشرين الثاني من نفس العام، وقعت شركة البترول الوطنيّة التركيّة عقدا مع شركة «سايبام» الإيطاليّة بقيمة 600 مليون دولار للمشاركة في إنجاز أعمال نقل الأنابيب وتركيبها، كما وقعت الشركة في نفس الشهر عقدًا آخر مع شركة «وود» البريطانيّة، وذلك للقيام بأعمال الإدارة المتكاملة للمشروع والتحقّق الهندسيّ من مراحله المختلفة. 

بحسب المخطط، فإنّ حقل سكاريا سيجري تطويره عبر مرحلتين. المرحلة الأولى، وهي التي بدأ منها الإنتاج الشهر الماضي، تضمّنت حفر 10 آبار، بالإضافة لإنشاء محطّة معالجة بطاقة إجماليّة مقدارها 350 مليون قدم مكعّب من الغاز يوميًّا، على أراضي بلدة «فيليوس» المُطلّة على البحر الأسود. وتتصل محطّة المعالجة بالآبار الإنتاجيّة من خلال خط أنابيب تحت البحر يبلغ طوله 170 كم. ويغطي الإنتاج من المرحلة الأولى حوالي 6% من استهلاك تركيّا من الغاز.[3] ورغم أنّ التكاليف النهائيّة لتطوير أعمال هذه المرحلة لم تُنشر من قِبل الجهات التركيّة، فإنّه وبالاعتماد على أعمال التطوير المُشابهة نسبيًّا لحقول الغاز في المياه العميقة للبحر المتوسّط، مثل مشروع تطوير حقل «تامار» قُبالة سواحل حيفا، فإنّ التكاليف الرأسماليّة لتطوير المرحلة الأولى من سكاريا يُمكن تقديرها عند حوالي ثلاثة إلى أربعة مليارات دولار. 

أما المرحلة الثانية من التطوير، والتي لم تُنشر عنها معلوماتٌ كثيرة بعد، فستتضمّن حفر 30-40 بئرًا جديدًا، وستدخل مرحلة الإنتاج بحلول نهاية العقد الحالي، وسترتفع بالكميات المُستخرجة من حقل سكاريا إلى حوالي 1400 مليون متر مكعّب يوميّا من الغاز الطبيعيّ، وهو ما سيغطّي 20% إلى 25% من احتياجات تركيّا من هذا الوقود في المدى المتوسّط. ومن غير المعروف حتى الآن إذا كانت تركيا ستلجأ لنفس تحالف الشركات التي طوّرت المرحلة الأولى، خاصّة وأنّ أعمال تطوير المرحلة الثانية ستكون أكثر اتساعًا، حيث سيتطلّب رفع إنتاج الحقل للمستوى المذكور إنشاء مرافق جديدة ومدّ المزيد من خطوط الأنابيب، وربما استجلاب خبراتٍ فنيّة وهندسيّة من مستوى أعلى أيضًا. وستنعكس هذه المتطلبات بطبيعة الحال في الحاجة لتمويل رأسماليّ أكبر، وهو أمرٌ قد يكون ضاغطًا نسبيًّا على موارد الخزينة العامّة، خاصّة إذا استمرّت الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة. لكن السرعة والكفاءة اللتين أُنجزت بهما أعمال المرحلة الأولى تُشيران إلى إمكانيّة تطوير المرحلة الثانية على نفس المنوال. ويكتسب هذا الأمر أهميّة سياسيّة اليوم، خاصّة في إطار مسعى أنقرة لإبراز نموذج الصناعة الوطنيّة المعتمد على القدرات الذاتيّة من خلال الإعلانات المتكررة عن توطين صناعاتٍ متقدمة مثل صناعة السلاح وصناعة السيارات الكهربائيّة وغيرها من الصناعات الأخرى. 

الغاز الطبيعيّ وميزان الطاقة التركيّ 

يلعب الغاز الطبيعيّ دورا مُهمّا في مزيج مصادر الطاقة التركيّة، وتحديدًا في هيكل توليد الكهرباء. وخلال عام 2021، مثّل الغاز الطبيعي حوالي 34% من مزيج مصادر التوليد، وقد انخفضت هذه النسبة في العام الماضي إلى حوالي 22.7%، مع ارتفاعٍ في حصّة الفحم التي وصلت إلى 36.4% من إجمالي مصادر الطاقة المستخدمة لتوليد الكهرباء، وذلك بسبب تفاقم أزمة إمدادات الطاقة بعد الحرب الأوكرانيّة، والتي دفعت بالكثير من بلدان العالم، بما فيها البلدان الصناعيّة الغربيّة، إلى زيادة استخدام الفحم لتوليد الكهرباء بسبب الأسعار المرتفعة للغاز الطبيعي. 

إذا تأملنا هيكل مصادر توليد الكهرباء في تركيّا، فبإمكاننا وضع أيدينا على بضعة ملامح لافتة. الملمح الأوّل هو أنّ حصّة الفحم والغاز من هذا الهيكل كانت تُمثّل أكثر من ثلثي إجمالي مزيج مصادر الطاقة المُستخدمة لتوليد الكهرباء في غالبيّة السنوات السبع الماضية، وهي نسبة تعكس الدور الحيويّ الذي يلعبه هذان الوقودان في قطاع الكهرباء التركيّ.

الملمح الثاني هو أنّ التذبذبات في حصّة الغاز في المزيج خلال تلك السنوات كانت مُرتبطة على الدوام بالتذبذبات في حصّة الطاقة الكهرومائيّة، بمعنى أنّ استهلاك الغاز لأغراض توليد الكهرباء كان يتراجع في السنوات التي تتزايد فيها حصّة الطاقة الكهرومائيّة والعكس صحيح. ويُمثّل هذا التذبذب أحد عوامل «اللا استقرار» في هيكل الطاقة التركيّ، لكنّه عاملٌ خارجٌ عن إرادة صنّاع السياسات، لأنّ توليد الكهرباء من الطاقة الكهرومائيّة وثيق الصلة بأحوال المناخ وتقلباته وبما تجود به السماء قبل كلّ شيء. ويُمكن رؤية تعبيرات هذا الأمر، بشكلٍ خاص، في عامي 2018 و2021، وهي سنوات عانت فيها بلاد الأناضول من الجفاف، حيث تراجعت حصّة هذا المورد من مزيج الطاقات المُستخدمة لتوليد الكهرباء إلى 20.2% و17.4% على التوالي.

أمّا الملمح الثالث فيتمثّل في الاتجاه التصاعدي للحصّة التي تمثّلها الطاقة المولدة من الرياح في المزيج، حيث ارتفعت من 5.7% عام 2016 إلى 11.2% عام 2022. وبمقدار ما يعكس هذا الاتجاه المسعى التركيّ لزيادة حصّة الطاقة المتجددة في هذا المزيج، وذلك عبر زيادة الاستثمارات في مشروع الرياح والمحطّات الشمسيّة، فإنه يُمكن النظر إليه أيضًا كمحاولة للتغطية على عدم الموثوقيّة الكاملة للطاقة الكهرومائيّة وذلك من خلال تعميق تنويع مصادر الطاقة عبر الاعتماد على طاقات متجدّدة أخرى. 

وإذا انتقلنا إلى النظر لهيكل الاستخدام القطاعيّ للغاز الطبيعيّ في تركيّا، فإننا سنكتشف أنّه يلعبُ دورًا محوريًّا أيضا خارج قطاع توليد الكهرباء. فخلال السنوات الثماني الماضية، استهلك القطاع الصناعيّ والخدميّ والقطاع العائليّ (في صورة غاز للتدفئة وأغراض الطهي)، ما بين 60% إلى 70% من الغاز الذي استوردته تركيّا. ونظرا لأنّ سوق الغاز المحلّي يُدار من قبل الدولة، حيث تحتكر شركة «بوتاش» الحكوميّة، بشكلٍ شبه كامل، استيراد ونقل وتوزيع الغاز إلى القطاعات المختلفة، فإنّ الغاز الطبيعيّ ينطوي في السياق التركيّ على أهميّة سياسيّة واجتماعيّة تتعدّى قيمته كوقود وحسب، خاصّة وأنّه يُباع للمستهلكين النهائيين بسعرٍ مدعوم. وتتيح سيطرة الشركة الحكوميّة على السوق المحلّي استخدام الغاز كأداة فعّالة في تخطيط سياسات التنميّة الإقليميّة من خلال التحكّم بالقطاعات التي يُمكن أن تحظى بالغاز بأسعارٍ مخفضة أو تلك التي ستحصل عليه بأسعارٍ أعلى. 

ومن جانبٍ آخر، فإنّ الغاز يُمكن أن يُستخدم أيضًا لتحقيق أهداف سياسيّة مباشرة من قبيل استمالة قطاعاتٍ اجتماعيّة واسعة من الجمهور. وتقدّم المعركة الانتخابيّة الجاريّة الآن مثالًا ناصعًا على هذا الاستخدام، حيث أعلن الرئيس أردوغان في حفل تدشين الإنتاج من حقل سكاريا عن إعفاء جميع المنازل من فاتورة الغاز بالكامل لمدة شهر واحد، وخصم ما يعادل 25 مترًا مكعبًا شهريًا من فواتير الغاز المنزلي (ما يقارب 130-140 ليرة) لمدة عام كامل. ورغم أنّ تركيا وضعت في العام 2001 قانونًا ينطوي على خطواتٍ عمليّة لتفكيك احتكار شركة «بوتاش» لسوق الغاز المحلّي، إلا أنّ عملية تحرير هذا السوق لم تتحرّك إلى الأمام كثيرًا خلال العقدين الماضيين، ربما لإدراك النخبة التركيّة الحاكمة أنّ مشروعها التنموي لبناء قاعدة صناعيّة ثقيلة تُمثّل أساسًا للدور الجيوبوليتيكيّ المأمول لن تكون ممكنة إذا تُرك هذا القطاع الحسّاس لشركات القطاع الخاص ولقوى السوق لتتلاعب فيه كما تشاء. 

تستورد تركيّا حاليًا كلّ احتياجاتها من الغاز الطبيعيّ تقريبًا من موردين خارجيين. وتحصل البلاد على الغاز من خلال شبكات الأنابيب من ثلاثة بلدان هي روسيا وأذربيجان وإيران، وذلك عبر عقودٍ طويلة الأجل. وتستحوذ روسيا على حصّة الأسد من واردات تركيّا من الغاز الطبيعيّ، حيث بلغت صادراتها في العام 2021 حوالى 45% من مجمل هذه الواردات، بينما بلغت في العام الماضي حوالى 39%، ويجري استيراد الغاز الروسيّ عبر خطّي أنابيب هما «السيل الأزرق» و«السيل التركي». وفي نفس الوقت، تستورد تركيا جزءًا من احتياجاتها في صورة غاز مُسال من خلال عقودٍ متوسطة وقصيرة الأجل مع الجزائر ونيجيريا، بينما تحصل على كميّات إضافيّة من سوق الغاز المُسال الفوريّ من بلدان مختلفة مثل الولايات المتحدة ومصر.[4] وقد بلغت فاتورة استيراد الغاز خلال عام 2022 حوالى 50 مليار دولار، فإذا ما أضيف إليها قيمة واردات الفحم التي بلغت في العام الماضي حوالى 8.3 مليار دولار، فإنّ عمليّة توليد الكهرباء في بلاد الأناضول تبدو مُكلفة بكل المقاييس، خاصّة حين نأخذ بعين الاعتبار أزمة الليرة التركيّة وضغوطها على ميزان المدفوعات. 

إدراكًا منها لهذه المعطيات الصعبة، وتحديدًا لحقيقة أنّها تعتمدُ على بلدٍ واحدٍ لتزويدها بما يقترب من نصف احتياجاتها من الغاز، بكلّ ما قد ينطوي عليه هذا الأمر من مخاطر جيوسياسيّة، فقد تبنّت تركيّا خلال الأعوام القليلة الماضية برنامجًا واسع النطاق لتنويع مصادر الطاقة. فبالإضافة إلى زيادة حصّة الطاقات المُتجدّدة في مزيج توليد الكهرباء، كما أسلفنا، فإنّ الملمح الأبرز في استراتيجيّة التنويع هذه يتمثّل في تشييد البنى التحتيّة المصممة لاستقبال الغاز وتخزينه. فبحلول نهاية هذا العام، سترتفع طاقة تخزين الغاز في البلاد إلى 11 مليار متر مكعّب (أي حوالى 20% من الاستهلاك السنوي للبلاد من الغاز الطبيعي)، وذلك بعد استكمال أعمال الإنشاءات في خزّان «سيليفري» في إسطنبول، أكبر منشأة لتخزين الغاز في أوروبا، وخزّان «طوز غولو» في أنقرة.

لكن أهم ما حدث خلال العقد الأخير كان توسيع القدرة على استقبال الغاز المُسال من خلال بناء مرافق جديدة. وتمتلك تركيا اليوم خمس محطّات تغييز (أي تحويل الغاز المُسال إلى صورته الطبيعيّة)، من بينها ثلاث محطّات عائمة، وتبلغ طاقة هذه المحطّات مجتمعة 53 مليار متر مكعّب سنويًا، وهو ما يعني، نظريًّا، أنّ البلاد بإمكانها تغطية كلّ الطلب المحليّ على الغاز من خلال هذه المحطّات في حالة انقطاع كل إمدادات الغاز القادمة عبر الأنابيب. وقد زاد اعتماد تركيا على واردات الغاز المُسال كجزءٍ من استراتيجيّة تنويع مصادر الطاقة، حيث بلغت حصّة هذا الوقود خلال العام الماضي حوالي 27% من إجمالي واردات الغاز التركيّة. 

وعلاوة على كلّ هذا التقدّم في استراتيجيّة التنويع، فإنّ السعي لدخول النادي النووي يمثّل أبرز الخطوات الاستراتيجيّة لتحقيق أمن الطاقة وتقليص الاعتماد على الخارج. وقد افتتح الرئيس أردوغان مؤخّرا محطّة «أكويو» النوويّة في ولاية مرسين، مُعلنًا وصول الوقود النووي إليها إيذانا بتشغيلها نهاية هذا العام أو بداية العام المقبل. المحطّة التي تبنيها وتملكها شركة «روساتوم» الروسيّة، والتي سيصل عمرها التشغيلي إلى 60 عامًا، تتألف من أربعة مفاعلات، بطاقة إنتاجيّة تبلغ 1200 ميجاوات/ ساعة لكلّ مفاعل، وستبدأ عملها عبر مفاعلٍ واحد في البداية، بينما ستصل إلى طاقتها الإنتاجيّة الكاملة بحلول العام 2028 بعد تشغيل كل مفاعلاتها تباعًا. وفي ذلك الوقت ستكون المحطّة قادرة على توليد 10% من استهلاك تركيّا من الكهرباء، وهو ما من شأنه توفير سبعة مليارات متر مكعّب من الغاز سنويًّا بحسب وزير الطاقة التركيّ. 

خاتمة 

يُعدّ النجاح التركيّ في وضع حقل سكاريا على خريطة الإنتاج في وقتٍ قياسيّ، وفي ظلّ تحديات متنوّعة، مؤشّرًا على حجم الإلحاح الذي يفرض نفسه على النخبة الحاكمة في بلاد الأناضول لإغلاق الثغرات المُختلفة في ملف أمن الطاقة. ويقدّم هذا النجاح أيضًا نموذجًا لإدراك هذه النخبة للعلاقة العضويّة بين معالجة الاختلالات في هيكل الطاقة، وتحديدًا لجهة الاعتماد الكبير على الخارج، ومشروع الصعود الاستراتيجيّ المُستنِد إلى قاعدة تنمويّة وصناعيّة متينة كما تتخيله هذه النخبة، بغضّ النظر عن مدى واقعيّة هذا المشروع ومستوى تبلوره في أذهانها. 

وإذا قُيّض للمرحلة الثانية من حقل سكاريا أن تبدأ إنتاجها بالمستويات التي أُعلن عنها بحلول نهاية العقد الحالي، فإنّ هذا الأمر سيُساهم بلا شك في تحسين أمن الطاقة التركي عبر خلق توازنٍ أفضل بين الاعتماد على الموارد المحليّة وتلك المستوردة من الخارج، خاصّة إذا نُظر إليه في سياق جهود التنويع الشاملة التي تطرّق إليها المقال. وعلاوة على ذلك، فإنّ هذا النجاح سيُشجّع الشركات الوطنيّة التركيّة على تكثيف حملاتها للبحث عن موارد طبيعيّة جديدة في البر والبحر، ففي حالاتٍ كثيرة قد يكون تحقيق اكتشافٍ كبير من النفط أو الغاز بمثابة إشارة لاحتماليّة وجود موارد أخرى غير مُكتشفة قريبًا منها. ولن يساعد الإنتاج المتزايد مستقبلًا من الحقل في تخفيض فاتورة الطاقة عبر الاستغناء التدريجيّ عن جزءٍ من واردات الغاز فحسب، بل من المرجّح أيضًا أن يُحسن شروط تركيّا في التفاوض مع البلدان التي تستورد منها الغاز، خاصّة أن عددًا من العقود طويلة الأجل الموقعة مع هذه البلدان ستنتهي بحلول منتصف هذا العقد. 

إذا قُيّض للمرحلة الثانية من حقل سكاريا أن تبدأ إنتاجها بالمستويات التي أُعلن عنها بحلول نهاية العقد الحالي، فإنّ هذا الأمر سيُساهم بلا شك في تحسين أمن الطاقة التركي عبر خلق توازنٍ أفضل بين الاعتماد على الموارد المحليّة وتلك المستوردة من الخارج.

ومن الواضح أن الاستثمارات الكبيرة التي جرى ضخها خلال العقد الماضي لتشييد بنية تحتيّة كبيرة لتخزين الغاز الطبيعيّ واستقبال الغاز المُسال على مستوى يفوق ذلك الموجود في بلدانٍ أوروبيّة كبيرة، لا تهدف فقط لجعل هيكل الطاقة التركيّ أكثر مرونة وتنوّعًا، بل ترمي بالأساس إلى استغلال الموقع الجغرافيّ المميّز للبلاد لتحويلها إلى محورٍ لتجارة الغاز بين منابعه في القوقاز وآسيا الوسطى وروسيا إلى مستهلكيه النهائيين في أوروبا، وتحديدًا في بلدان البلقان وبلدان الجنوب الشرقيّ من القارّة العجوز. وقد بدأت تركيا بالفعل، قبل أيام قليلة فقط من بدء الإنتاج من حقل سكاريا، بضخّ الغاز لبلغاريا في إطار اتفاقٍ لمدة 13 عامًا، سيسمح لصوفيا بالوصول إلى محطات الغاز الطبيعي المسال في تركيا، وسيغطّي نصف احتياجاتها من هذا الوقود. 

رغم ذلك، فإنّ طموح التحوّل إلى محورٍ لتجارة الغاز بين الشرق والغرب على غرار المحاور الإقليميّة في الولايات المتحدة وأوروبا لن يكون سهل التحقيق. وسيتطلّب خلق مثل هذا المحور تحريرًا أكبر لسوق الغاز المحلّي في تركيا، وذلك للسماح للاعبين مُختلفين باستيراد وتصدير الغاز عبر الحدود وإنضاج آليّة تسعير تحكمها قواعد الطلب والعرض مع مرور الوقت. ويبدو أنّ النخبة التركيّة الحاكمة لا تُحبّذ هذا الخيار وترغب في الإبقاء على سيطرة الحكومة على نقل وتسويق الغاز توخيًا للأهداف التنموية والسياسيّة، وهذا ما تؤكده تجربة قانون تحرير سوق الغاز الذي أصدر عام 2001 والذي لم يتحقّق منه شيء حتى الآن. وربما يكون لدى هذه النخبة مشروعٌ بملامح مختلفة لتحقيق هذا الطموح من خلال الاعتماد على الشراكات بين الهيئات والشركات الحكوميّة عبر الحدود مثلًا. 

وعلاوة على ذلك، فإنّ خلق سوقٍ إقليميّ للغاز في تركيا سيطرح أسئلة مُركّبة عن العلاقات الجيوسياسيّة بين روسيا والغرب من جهة، وبين تركيا والغرب من جهة ثانية، وبين روسيا وتركيا من جهة ثالثة، ولذلك سيكون حيّزًا للصراعات على مساحات النفوذ بين هذه القوى جميعها، وخاصّة في ظلّ أزمة الطاقة الحاليّة والحرب الأوكرانيّة. ورغم أنّ الغاز الروسيّ يحظى بحصّة الأسد من إجمالي واردات تركيّا الغازيّة، إلا أنّ أنقرة تُدرك أنّ هذا ثمنٌ يُمكن تحمّله مقابل المزايا الاستراتيجيّة الكبيرة التي ستحصل عليها من علاقاتٍ سياسيّة وثيقة ومن شراكاتٍ اقتصاديّة طويلة في ملفّ الطاقة مع موسكو، رغم أنّ هذه المزايا لن تكون دون مخاطر بطبيعة الحال. 

فبدون الغاز الروسيّ، سيكون تطبيق فكرة محور الغاز التركيّ أكثر صعوبة، ليس بسبب الموارد الهائلة من الغاز التي تمتلكها روسيا فحسب، بل وأيضًا بسبب وجود بنية تحتيّة جاهزة حاليًا لنقل الغاز من روسيا إلى تركيا. وتبلغ الطاقة الإجماليّة لخطّي «السيل الأزرق» و«السيل التركيّ» اللذين ينقلان الغاز الروسي إلى تركيّا وأوروبا 47.5 مليار متر مكعّب سنويًّا، وهذه الشبكة من خطوط الأنابيب لا تعمل عند طاقتها القصوى، حيث إنّ 60% من طاقة خط «السيل التركيّ» البالغة 31.5 مليار متر مكعّب غير مستخدمة. وتكمن أهميّة المحور التركيّ في هذا الصدد أنّه سيسمح ببيع إمدادات الغاز الروسيّ من خلال «السيل التركيّ» أو أي أنابيب مستقبليّة إلى البلدان الأوروبيّة على أنّه غازٌ بلا جنسيّة، الأمر الذي يتلاءم مع مصالح بعض الدول التي تريد الغاز الروسيّ لكنها لا تريد في المقابل تعاملاتٍ مباشرة مع روسيا أو شركاتها إما بسبب العقوبات أو بسبب السياسة المعلنة للتخلّص من الإمدادات الروسية. وتدرك تركيّا أن من شأن الذهاب مع روسيا في هذا المشروع أن يزيد تباعدها عن واشنطن، كما أنُه قد يُرتّب مخاطر جسيمة متصلة بأمن الطاقة التركيّ نفسه، لعلّ أهمّها تكرار سيناريو تفجير خط «نورد ستريم» ولكن مع خط «السيل التركيّ»، وهو ما كان سيحدث فعلًا في تشرين أوّل 2022، أي في غضون شهر واحد من الحادث الأوّل. 

تجيء هذه التطوّرات الهامّة كلّها عشيّة انتخاباتٍ تركيّة، هي ربما الأكثر مصيريّة واستقطابا في تاريخ البلاد، ولذلك فإنّ العوامل الداخليّة التركيّة ستُضاف حتمًا إلى التعقيدات المرتبطة بملفّ الطاقة بأبعاده الاستراتيجيّة. إنّ وجود «حزب العدالة والتنمية» في السلطة بشكلٍ متواصل منذ عام 2001، منحه الوقت الكافي لإحداث تعديلاتٍ جذريّة في علاقات الاقتصاد السياسيّ في تركيّا ذاتها، وللارتقاء بمكانتها وتأثيرها الدوليين وشكل تحالفاتها وعلاقاتها إلى مستوى جديدٍ تمامًا. وقد تطبّعت مؤسسات الدولة التركيّة بطابع هذا البرنامج/ المشروع، حيث خُلقت على الأرض خلال العقدين الماضيين وقائعٌ رسمت صورة ومعنى آخر تمامًا للبلد الذي كنا نعرفه قبل عشرين عامًا. وسيكون من المثير تأمّل الطريقة التي ستتعامل بها المعارضة مع هذا الوضع في حال فوزها في الانتخابات، وإزاحتها للحزب عن السلطة: هل ستستطيع القفز عن هذه الوقائع أو تغييرها؟ أم أنها ستكتشف، بعد طول غياب، أنه لا مجال للقيام بذلك، وأنّ مشروع «العدالة والتنمية» سيظلّ يحكم تركيّا بغض النظر عمّن يجلس على كرسيّ الحكم؟

  • الهوامش

    [1] تستمر عمليّات مراجعة أرقام الاحتياطيّات في حقول الغاز حتى بعد سنوات من بدء الإنتاج منها، وذلك من خلال حفر المزيد من الآبار للوقوف على التكوينات الجيولوجيّة المختلفة التي يتألف منها الحقل ودراسة إمكانيّة استخراج الغاز منها، وطبيعة التكنولوجيا اللازمة لتحقيق هذا الهدف. ففي كثير من الأحيان يرتبط استخراج المزيد من الكميات الموجودة في هذه التراكيب بالإدارة الفنيّة الجيّدة للأحواض الطبيعيّة ومدى توافر المعدّات المتطوّرة. وكقاعدة عامّة، فإنه يُمكن استخراج 70–75% من إجمالي الاحتياطي الموجود في الحقول نظرًا لأنّ الضغط داخلها ينخفض مع استمرار الإنتاج منها، وهو ما يصعّب تدفق الغاز خارجها، ناهيك عن أنّ استخراج ما تبقى من الاحتياطيات يغدو غير تجاريًا عند نقطة معينة من عمر المشروع.

    [2] في عالم النفط والغاز، تُسمى الشركات التي استعانت بها تركيا لتطوير حقل سكاريا بـ«شركات خدمات الحقول النفطيّة»، وهي شركاتٌ أصغر بكثير في الحجم من شركات النفط العملاقة المعروفة مثل «إكسون موبيل» و«شل» و«بريتيش بتروليوم»، لكنها تلعب دورًا هامًا في الصناعة، وتحديدًا في المهام المرتبطة بنقل المعدّات وبناء المرافق وحفر الآبار. أمثلة هذه الشركات، شركة «Schlumberger» و«Baker Hughes» و«Saipem». وكثيرًا ما تلجأ الشركات العملاقة لهذه الشركات كـ«مقاولين» لأعمال محددة، بالنظر للخبرة الطويلة والتخصص العالي الذي تمتكله هذه الشركات، وتحديدًا في مجال استكمال حفر آبار النفط والغاز وتجهيزها للإنتاج، ناهيك عما تقدّمه هذه الشركات من مزايا للشركات الكبرى من ناحية السعر التنافسيّ واستخدام التكنولوجيا المتطوّرة.

    [3] اعتمادًا على أرقام الاستهلاك التركيّ من الغاز خلال العام الماضي والتي بلغت حوالى 60.4 مليار متر مكعّب.

    [4] حين يقرر بلدٌ ما تصدير الغاز الطبيعي من حقوله إلى الأسواق الخارجية، فإن أمامه طريقان، الأول أن يصدّره بحالته الغازية إلى بلد الاستيراد عبر خطوط الأنابيب (Pipelines) التي تتخللها في الغالب محطات ضغطٍ لتسهيل تدفقه إلى وجهته الأخيرة. أما الطريق الثاني فيتمثل في تسييل الغاز (أي تحويله إلى صورة سائلة عبر تبريده إلى 162 درجة مئوية تحت الصفر) قبل شحنه عبر ناقلاتٍ بحرية متخصصة إلى محطته النهائية في البلد المستورد. ويُباع غاز الأنابيب عبر عقودٍ طويلة الأجل قد تصل إلى 20-30 عامًا، ويكون سعره حينها مرتبطًا بأسعار النفط مع هامش مئوي للحماية من تقلبات هذه الأسعار. أما الغاز المُسال فهو يباع أيضًا بعقود طويلة الأجل مرتبطة بأسعار النفط، لكنّ العقد الاخير شهد انتشارًا واسعًا للعقود متوسطة الأجل بالإضافة لتعاملات السوق الفوري (Spot Market) وهو سوقٌ أكثر مرونة وأقل ارتباطًا بأسعار الخام الأسود.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية