رأي

زمان الوصل: «سيف القدس» يجترح الأفق الجديد

الأربعاء 26 أيار 2021
صواريخ المقاومة الفلسطينية تنطلق شمال قطاع غزة، وصواريخ القبة الحديدية تنطلق في غلاف القطاع، مساء 14 أيار 2021. تصوير أنس البابا، أ ف ب.

ليست كل الأيام سواء. ما يجعل بعض الأيام «تاريخية» بحق هو قدرتها على تكثيف الزمن، ووصل الماضي بالحاضر والمستقبل عبر وقائع تُخَط بالدم؛ أي قدرتها على كتابة التاريخ. هذا ما فعلته المقاومة في الجولة الأخيرة من القتال ضد «إسرائيل» في معركة «سيف القدس». كل النقاط المهمة التي يمكن الإشارة إليها في هذه الجولة، من توحد الفلسطينيين خلف هذا الخيار على كامل أرض فلسطين وخارجها، وتكامل جبهات غزة والقدس والضفة الغربية والداخل، وإحياء السردية الفلسطينية العربية للقضية في المنطقة والعالم بعد عقود من محاولات محوها وتشويهها، ما هي إلا تفجر لحقائق الصراع وواقعه عبر الصاعق الذي مثّله قرار المقاومة في غزة دخول المعركة من بوابة القدس.

مثّلت قضية تهجير أهالي حي الشيخ جرّاح ترميزًا فاقعًا للنكبة، إذ لم يكن ممكنًا فهم هذه القضية أو التعبير عنها دون البدء من لحظة النكبة وحقائقها المستمرة. خلق ذلك بتفاعله مع واقع القدس ككل، ثم واقع الضفة والداخل، الأرضية لهبة شعبية لم تنتفض ضد «الحل» الصهيوني التوسعي الذي يستمر فرضه على الأرض فحسب، بل أيضًا ضد «الحل» الذي وافق عليه «الممثل الشرعي والوحيد» للشعب الفلسطيني. فبعد عقود من التسوية، لم يعد بالإمكان، ولو خطابيًا، فصل الواقع المعيشي المتردي لأي مجموعة من الفلسطينيين عن جوهر القضية الوطنية؛ قضية استعمار وتحرير فلسطين. فالرباط في المسجد الأقصى، ومواجهة العدو في باب العامود، والاشتباك معه على حواجز الضفة، وحرق سيارات شرطته ومقار بلدياته في الداخل المحتل، كل ذلك لم يكن مجرد احتجاج غاضب على واقع التمييز والاضطهاد، الذي يأخذ أشكالًا مختلفة في المناطق المختلفة. بل كان قبل كل شيء تأكيدًا على أن لكل هذا أصلًا واحدًا هو وجود المستعمرة الاستيطانية الصهيونية، «إسرائيل». 

لكن التقاط المقاومة في غزة لهذه اللحظة، ودخولها المواجهة عبر تهديد العدو بسوء العاقبة ما لم يكف يده عن القدس وتنفيذ هذا التهديد، نقل المعركة إلى مكان آخر، وحوّل النصر الآني المتمثل في الصمود والمواجهة ورفض الاستسلام إلى نصر استراتيجي يخلق أفقًا جديدًا للصراع. أن يسير طفل مقدسي يرفع شارة النصر في شوارع القدس ويقول للجنود والمستوطنين الصهاينة «قصفناكو»، ليس مجرد تعبير عفوي عن نشوة الكرامة المستعادة، بل هو تعبير عن تاريخ جديد يُكتب في أذهان جيل لم يكن في الأغلب واعيًا لآخر حرب شنتها «إسرائيل» على غزة؛ تاريخ «نحن» أيضًا فيه نقصف، بل نبادر بالقصف. هذه المعادلة ما كانت ممكنة دون التضحيات الجسام التي قدمتها وتقدمها غزة من أجل دفع المواجهة للأمام.

وصلت المقاومة بين زمنين فصلتهما مرحلة التسوية: زمن النكبة وزمن التحرير. في مرحلة أوسلو، صارت النكبة ماضيًا سحيقًا، جرحًا تاريخيًا نبكي عليه أحيانًا، أو نستحضره كأرشيف أحيانًا أخرى. وصار التحرير مستقبلًا بعيدًا، يوتوبيا تغيب عن عالم السياسة والحياة اليومية. لكن المقاومة في غزة بتكاملها مع الهبة الشعبية خلقت لحظةَ حقيقة يُختصر فيها الزمن، ومدت جسرًا بين أمس النكبة وغد التحرير. هذا ما أسس لحالة الالتفاف حول المقاومة، ومنح السردية الفلسطينية قوتها وقدرتها على الإقناع وتأثيرها الواسع في المنطقة والعالم. 

كانت النتيجة الطبيعية لذلك أن مشروع التسوية وممثليه أصبحوا بشكل أو بآخر خارج التاريخ. لم يعد «حل الدولتين» مشروعًا تفريطيًا فحسب، يتنازل عن الحق التاريخي في فلسطين، وعن البشر الذين يستثنيهم في الشتات والداخل المحتل، بل بات ثابتًا بما لا يمكن العودة عنه أنه مشروع فاشل كذلك، يتنافى مع حقيقة المشروع الصهيوني القائم على السلب والمحو ومصادرة الأرض والطرد الجماعي والإحلال، والذي لا يشكل «الأبرتهايد» فيه سوى مكونًا فيه، ونتاجًا طبيعيًا له.

أن يسير طفل مقدسي يرفع شارة النصر في شوارع القدس ويقول للجنود والمستوطنين الصهاينة «قصفناكو»، ليس مجرد تعبير عفوي عن نشوة الكرامة المستعادة، بل هو تعبير عن تاريخ جديد يُكتب في أذهان جيل لم يكن في الأغلب واعيًا لآخر حرب شنتها «إسرائيل» على غزة.

يتناسى المتحمسون لمشروع التسوية، القدامى والجدد، الأسس التي تقوم عليها المستعمرة لضمان ديمومتها وبقائها، نظرًا إلى أن هذه الأسس لا تتسق مع التعامل مع قضية فلسطين وكأنها بدأت عام 1967. ما يميز الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين عن الاستعمار الاستيطاني في الأمريكيتين وأوقيانوسيا، كما يقول جوزيف مسعد، هو أن الأول لم يكن متاحًا له استخدام الإبادة الجماعية للتخلص من السكان بشكل شبه تام كما فعل الثاني. بالتالي، بقي أصحاب الأرض في نظر المستعمر تهديدًا وجوديًا قائمًا، تتعامل معه بالطرد والمصادرة والقتل المستمر. هذا ليس عرضًا، بل جزءًا جوهريًا من طبيعتها وحاضرها. لهذا، ستبقى «إسرائيل» نفسها تُفشِل محاولة قوى التسوية تقديمها كدولة «طبيعية» يمكن التعايش معها، وتبرز مجددًا طبيعتها الاستيطانية التوسعية بعد محاولات إخفائها أو قصرها على أطراف يمينية بعينها داخل الكيان. اليوم، بعد أن تحطمت كل أوهام إمكانية «العيش إلى جانب» المستعمرة، أو «إنهاء الاحتلال» في أراضي عام 1967، أو حتى «إيقاف عجلة الاستيطان»، لم يعد الحديث عن «حل الدولتين» سوى تبرير سياسي لوجود «إسرائيل»، ومحاولة للجم الشعب الفلسطيني ونضاله الشعبي والمسلح. 

أمام ما كشفته المعركة من هشاشة مشروع التسوية في المنطقة ككل واقتصاره على نخب متواطئة ومنتفعة تابعة بوضوح للولايات المتحدة و«إسرائيل»، شعر هؤلاء بالتهديد العميق. لذا، بدأنا منذ صباح يوم وقف إطلاق النار نشهد محاولات ستستمر لتقزيم منجزات المعركة وتقويضها والالتفاف عليها وتفتيت الجمع الذي توحد حولها. تعمل هذه المحاولات باتجاهين: ترويض الفلسطينيين وتقوية الإسرائيليين، وهي ليست سوى استكمال لسياسات إدارة أوباما التي أنفقت الكثير على أصحاب هذا المشروع في المنطقة، مقابل تضخم الدعم المتعهد به لـ«إسرائيل» والذي بلغ عام 2020 3.8 مليار دولار، كلها تقريبًا مساعدات عسكرية. ففي الوقت الذي تتعهد فيه إدارة بايدن بتقديم «مساعدات عاجلة للفلسطينيين» بقيمة 360 مليون دولار، منها 5.5 ملايين دولار في مساعدات فورية لإعادة إعمار غزة، وتحاول فرض السلطة الفلسطينية كقيادة للشعب الفلسطيني، توافق بفارق أيام فقط على «بيع» صواريخ موجهة كانت «إسرائيل» قد استخدمتها بهدم الأبراج والمنازل على رؤوس قاطنيها، بقيمة 735 مليون دولار؛ صفقة مرت بقرار تنفيذي رغم اعتراض عدد من أعضاء الكونغرس (وهو ما يعطينا مثالًا جديدًا على عمق «الديمقراطية الأقدم في العالم»). مواجهة هذه المحاولات بشكل فعّال ستتطلب فتح قنوات جديدة للتحرك والفعل السياسي، قادرة على استثمار الهبة الشعبية وتجذير نتائج المعركة. لكن الاعتقاد بأنه يمكن العودة إلى ما قبل الحادي عشر من أيار، والفصل بين المقاومة والناس أو وضعهما على طرفي نقيض، ليس سوى انعكاسًا لرواسب أوهام التسوية.

لكن المنجز الأهم ربما ليس دفن مشروع التسوية الذي ولد ميتًا، بل شقّ الأفق لمشروع جديد مناقض، يعبر عن خيار الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة في المقاومة والتحرير. بات واضحًا أن هذا الخيار الذي لطالما وُصف بالمغامرة واللاعقلانية أشد عقلانية وواقعية من التمسك بجثة حل الدولتين، الذي لم يجر سوى المزيد من العدوان والتهام الأرض وتكبيل الشعوب، ولم يحقق شيئًا مما وعد به من أنهار العسل. في المقابل، أمام القواعد التي ثبّتتها المقاومة في غزة وفي جنوب لبنان وتطور قدراتها، لم يعد مستبعدًا أن أي مواجهة عسكرية مقبلة تلتف حولها حالة من المواجهة الشعبية، ستكون قادرة ليس على الدفاع عن النفس فحسب، بل على شلّ المستعمرة  وإضعافها بعمق. وفي حدها الأقصى المتمثل في حرب متعددة الأطراف، يمكن أن تشكل هذه المواجهة خطوة كبيرة نحو تفكيك المستعمرة، تعطلها وتحيّد نقاط تفوقها، وتجعل خيار الاحتفاظ بالامتيازات في مكان آخر خيارًا منطقيًا لمستوطنيها. هذه الحقائق تؤسس لعقلانية جديدة، تنطلق من أن التناغم بين المقاومة الشعبية والمسلحة ضمن مشروع حركة تحرر وطني هو الخيار الأنجع والأقل كلفة، رغم كل أثمانه الباهظة.

من أجل أن ينبثق مشروع كهذا يعيد تعريف القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر وطني، لا بد من كيان سياسي واسع يحمله، ويعبر عن المكونات الاجتماعية والسياسية الفلسطينية القائمة، ويدفع أثناء عملية تشكله وتطوره الفلسطينيين في مختلف أماكنهم نحو التجمع والتنظيم في أطر جديدة متنوعة، تحت مظلة جبهة وطنية واسعة وموحدة، تتجاوز أوهام إعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية. مسؤولية الدفع في هذا الاتجاه لا تستثني أحدًا من القوى والأحزاب والناشطين في كل فلسطين والشتات، وفي مقدمتهم فصائل المقاومة في غزة بحكم الشرعية السياسية التي اكتسبتها والتي يمكن توظيفها في السعي لتشكيل برنامج وإطار سياسي جديد يعبر عن خيار المقاومة والتحرير، ويجترح أدواته. كيف سيتشكل هذا الكيان السياسي، وما القوى التي ستكون فاعلة فيه، وما المسار العملي الذي ستأخذه، هذه كلها أسئلة برسم المستقبل القريب. إلا أن الثابت هو أن هذا الإطار هو أحد متطلبات المسار الذي يريده الفلسطينيون، مسار تحرير الأرض وتفكيك المستعمرة وعودة اللاجئين والتأسيس لواقع جديد يضمن حقوق الناس بغض النظر عن دينهم وعرقهم. وعندها سيكون أمام شعب هذه الأرض بمختلف قواه وتكويناته أن يقرر ما إذا كانت غايته النهائية هي دولة على حدود فلسطين الانتدابية، أم فتح أفق جديد في المنطقة يتجاوز هذه الحدود ونموذج الدولة القطرية المتهالك.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية