شركات الأدوية وجائحة كورونا: منفعة متبادلة

الخميس 19 أيار 2022
جرعة من لقاح فايزر. المصدر أ ف ب

(نشر هذا المقال في مجلّة تريبيون بالإنجليزية، بتاريخ 9 أيّار الحالي) 

خلال الأسبوع [قبل] الماضي، أخبرت شركة الأدوية العملاقة فايزر المستثمرين أنها تتوقع جني أكثر من 50 مليار دولار من أدوية كوفيد-19 هذا العام. لقاح الشركة هو الدواء الأكثر ربحًا في التاريخ، حيث حقّق 37 مليار دولار في عام 2021، ما جعل عائدات الشركة تحلّق إلى مستوى مرتفع جدًا. بحلول نهاية هذا العام، تأمل الشركة تحقيق 100 مليار دولار، وهو مبلغ يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لمعظم البلدان على وجه الأرض.

لقد كانت جائحةً جيدةً لشركة كانت، حتى وقت قريب، الأقل موثوقية في القطاع الأقل موثوقية في الولايات المتحدة. لم تكتسب الشركة ثروة من أدوية كوفيد فحسب، بل أصبحت أيضًا اسمًا مألوفًا، مع رئيس تنفيذي يتحرك بين أقوى القادة في العالم، ويشرب نخبه الناس العاديون في جميع أنحاء العالم، والذين هم في أمس الحاجة لانتهاء هذه الجائحة. لقد كانت حملة علاقات عامة ناجحة فعلًا.

ومع ذلك، ببحثٍ معمّقٍ، ستكتشف بسرعة أن أرباح فايزر ليست جزاءً مبررًا مقابل حلّ تشتد الحاجة إليه من أجل الأزمة الأبرز في زماننا. بدلاً من ذلك، بُني دخل فايزر على ممارسات الشركة العدوانية والاستغلال القاسي الذي أدى إلى عدم مساواة فاحشة في الوصول إلى لقاحات كوفيد-19، ما أدى بدوره إلى إطالة أمد هذه الجائحة بدلاً من إنهائها. والأسوأ من ذلك، أن فايزر ليست حالة استثنائية، إنها مجرد مثال واحد من بين العديد من الشركات في هذه الصناعة التي أصبحت رمزًا لاقتصادنا العالمي الاحتكاري المُؤَمْوَل.

أرباح الجائحة

من السهل معرفة مصدر أرباح شركة فايزر. تدّعي الشركة أن تكلفة لقاحها أقل بقليل من خمسة جنيهات إسترلينية للجرعة، على الرغم من أن الخبراء يقولون إن تكلفة الجرعات يمكن أن تصل إلى 76 بنسًا. في كلتا الحالتين، دفعت حكومة المملكة المتحدة 18 جنيهًا إسترلينيًا مقابل كل جرعة في طلبيتها الأولى، و22 جنيهًا إسترلينيًا في الطلبيات اللاحقة. حتى لو صدقنا شركة فايزر، فإن هذا يعني أن هيئة الخدمات الصحية الوطنية في إنجلترا (NHS) دفعت هامش ربح لا يقل عن ملياري جنيه إسترليني، ما يعادل ستة أضعاف تكلفة زيادة الأجور التي وافقت الحكومة على منحها للممرضات العام الماضي. حتى هذا السعر يبدو معقولًا إلى حدّ ما مقارنة بالمبلغ الذي زُعم أن شركة فايزر حاولت فرضه على الحكومة الأمريكية: 100 دولار مقابل الجرعة الواحدة، ما دفع مسؤولًا أمريكيًا كان يعمل سابقًا في الوقاية من الأمراض إلى اتهام الشركة بـ«التربح من الحرب».

تفتخر شركة فايزر بأنها لم تأخذ أية أموال من الحكومة مقابل لقاحها، مدّعية أنها استثمرت أموالها الخاصة في تطوير اللقاح. لكن تمويلًا كبيرًا لهذا اللقاح جاء بالفعل من القطاع العام.

تأمل شركة فايزر، تحقيق 100 مليار دولار مع نهاية عام 2022، وهو مبلغ يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لمعظم البلدان على وجه الأرض.

مثل جميع لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، بُني دواء شركة فايزر على عقود من البحث العام. إذا كان الفضل في هذا اللقاح سيُعزى إلى شركةٍ ما، فهي شركة بيونتك، شريك فايزر، وهي شركة تابعة لمركز جامعي ألماني، والتي حصلت على تمويل عام كبير. استثمرت شركة فايزر ما قد يصل إلى مليار دولار من أموالها لإنتاج العقار، ولكنها تلقت أيضًا عقودًا حكومية مضمونة بمبيعات تصل إلى ملياري دولار تقريبًا في الولايات المتحدة وحدها. غالبًا، شكّل استثمار فايزر جزءًا صغيرًا من الصورة الواسعة، وهو ضئيل جدًا مقارنة بالعائد الذي حققته الشركة. أعرب مسؤولٌ حكومي أمريكي سابق عن أسفه قائلًا «إنه ليس حتى لقاحهم»، ووصف حقيقة أن اللقاح معروفٌ عالميًا باسم حقنة «فايزر» بأنه «أكبر انقلاب تسويقي في تاريخ الأدوية الأمريكية».

لسوء الحظ، هذا اللقاح مملوك قانونيًا لشركة فايزر. ومثل جميع الأدوية المهمة تقريبًا، بُني اللقاح على المعرفة العامة، ولكن خُصخصت تلك المعرفة بعد ذلك، وسُلمت إلى شركة متعددة الجنسيات يمكنها بعد ذلك أن تملي أوامرها بمن يمكنه إنتاج اللقاح، وكم ستكون تكلفته، ومن يمكنه شراؤه. ليس من المستغرب أن تبيع فايزر الغالبية العظمى من جرعاتها للدول الغنية، و1.3٪ فقط من إمداداتها إلى كوفاكس، الهيئة العالمية التي أُنشئت لمحاولة ضمان توزيع أدوية كوفيد-19 بشكلٍ أكثر إنصافًا.

بُني دخل فايزر على ممارسات الشركة العدوانية والاستغلال القاسي الذي أدى إلى عدم مساواة فاحشة في الوصول إلى لقاحات كوفيد-19، ما أدى بدوره إلى إطالة أمد هذه الجائحة بدلاً من إنهائها

ليس هذا أسوأ ما في الأمر. لقد منع احتكار شركة فايزر الآخرين من الإنتاج، وقنّن الإمدادات حتى تتمكّن الشركة من الحفاظ على السيطرة على التكنولوجيا المنقذة للحياة. إن أكثر من 100 مصنع ومختبر حول العالم كان بإمكانهم إنتاج اللقاحات لو أنه تمت فقط مشاركة التكنولوجيا. لكن فايزر أخذت على عاتقها تقويض أي محاولة لتبادل المعرفة، شاجبة مبادرة الأمم المتحدة لجمع براءات الاختراع [لأجل مشاركتها] باعتبارها «هراء» و«خطيرة».

حتى بعد أن جنت ثروة، رفضت فايزر مشاركة لقاحها مع المختبر المدعوم من منظمة الصحة العالمية في جنوب إفريقيا والذي أُنشئ خصيصًا لمساعدة البلدان ذات الدخل المنخفض على بناء قدرتها على إنتاج اللقاحات. نتيجة عدم المساواة، المروع في حد ذاته، أُعطي الفيروس أيضًا أفضل فرصة ممكنة للانتشار والتحور، ما قد يقوّض اللقاحات التي تلقيناها. لكن ما أهمية ذلك لفايزر عندما يكسب عدد من كبار مساهميها مليارات الدولارات في الأسبوع التالي لاكتشاف متحور أوميكرون بفعل ارتفاع سعر أسهمهم مع احتمال بيع المزيد من اللقاحات؟

فنّ الملكية الفكرية

إن الاحتكارات التي تتمتع بها شركة فايزر مرتبطة بقوة بقواعد الاقتصاد العالمي. في الثمانينيات من القرن الماضي، أدركت حفنة من الشركات، بقيادة رئيس تنفيذي سابق لفايزر، أن أهم أصولها لم تكن مصانعها أو قواها العاملة أو حتى قاعدة أبحاثها، بل كانت الملكية الفكرية التي تربّعوا عليها؛ براءات الاختراع ومعارف التصنيع والعلامات التجارية. فشرعوا في إقناع حكومة الولايات المتحدة بضمان حماية هذه الملكية الفكرية بأقصى قدْرٍ ممكن. وفي منتصف التسعينيات ضُمّنت قوانين براءات الاختراع، المُعدّة على النمط الأمريكي، كمتطلب عالمي في منظمة التجارة العالمية المشكلة حديثًا، ما قوّض أشكال المشاركة والنسخ وتقليد التكنولوجيا التي سمحت لدول مثل كوريا الجنوبية بالانتقال من الفقر إلى اقتصاد متقدم خلال جيل واحد.

كان من المفترض أن تُشجّع الحماية المُحكَمة للملكية الفكرية على الابتكار، وأن تُكافئ الأعمال التجارية المحفوفة بالمخاطر في البحث عن الاكتشافات الطبية، [لكن] كان لها تأثير معاكس تمامًا. بدلاً من ذلك، خفّضت شركات الأدوية الكبرى ميزانياتها للبحث والتطوير، وركزت على شراء الأبحاث، التي أُنشئ الكثير منها للاستخدام العام، حتى يتمكنوا من امتلاك الملكية الفكرية المرتبطة بها لعقود. خلص تحليل ستات نيوز في عام 2018 إلى أن فايزر قد طورت جزءًا بسيطًا -حوالي 23%- من أدويتها داخل الشركة. وحتى الأبحاث التي تجريها هذه الشركات بنفسها، فغالبًا ما تحدث في محاولة لإطالة عمر براءات الاختراع، من خلال إجراء تغييرات طفيفة على الأدوية التي تمتلكها بالفعل.

وبهذه الطريقة، أصبحت هذه الشركات أشبه بصناديق استثمارية أكثر من كونها منشآت بحثية، همّها استخراج كل فلسٍ من الأرباح من ملكيتها الفكرية. هذه أخبار رائعة لمستثمري فايزر ذوي الثراء الفاحش. أعلنت الشركة الأسبوع [قبل] الماضي بفخرٍ أنها أعادت خلال الأشهر الثلاثة الأولى فقط من العام الحالي 4.2 مليار دولار مباشرة إلى المساهمين. بين عامي 2016 و2020، كانت العائدات حوالي 70 مليار دولار، وهو ما يتجاوز بكثير ميزانية أبحاث الشركة، بل ويتجاوز صافي دخلها. تفاخر ألبرت بورلا، الرئيس التنفيذي لفايزر، بأن الشركة كانت «أكثر الآلات كفاءة في تحويل المواد الخام إلى جرعات». سيكون أكثر دقة أن توصف الشركة بأنها أكثر الآلات كفاءة في تحويل الموارد العامة إلى ثروةٍ لمساهميها.

بناء شيءٍ مختلف

تمتلك شركة فايزر طرازها الخاص من القسوة التي أدت إلى سلسلة من التحقيقات على مدار الجائحة. الشركة متهمة بنشر معلومات مضللة حول لقاح أكسفورد-أسترازينيكا المنافس، بما في ذلك تمويل دراسة ادعت أن لقاحات مثل أسترازينيكا خطيرة على المرضى الأكثر ضعفًا ويمكن أن تسبب السرطان، وهو أمرٌ لا أدلة عليه، واستُخدم بعد ذلك لتضليل العاملين في قطاع الصحة في كندا.

نعلم أيضًا أنهم قدموا مطالب غير عادية للبلدان التي أرادت شراء لقاحاتها، مطالبين هذه البلدان بتحمل المسؤولية الكاملة، ليس فقط عن الآثار الجانبية غير المتوقعة، ولكن أيضًا عن الإهمال أو الاحتيال أو سوء النية من قبل الشركة نفسها، وفي بعض الحالات طالبت الحكومات بوضع أصول سيادية، مثل مباني السفارات والقواعد العسكرية، كضمان ضد قضايا التعويض المستقبلية التي قد تُرفع ضد الشركة. قال أحد المفاوضين الحكوميين إن الأمر يبدو وكأنه «احتجاز رهينة لقاء فدية». حتى بريطانيا وافقت على نظام تحكيم خاص للمستثمرين في عقدها مع فايزر، ما يعني أن أي نزاع قد يكون بين الحكومة البريطانية والشركة لن يتم الفصل فيه في المحاكم البريطانية، ولكن في محكمة خاصة، يشرف عليها محامو الشركات. وضعت فايزر نفسها حرفيًا فوق قانون البلدان التي كانت تبيع لها.

منع احتكار شركة فايزر الآخرين من الإنتاج، وقنّن الإمدادات حتى تتمكّن الشركة من الحفاظ على السيطرة على التكنولوجيا المنقذة للحياة

ولكن بينما تكون فايزر متطرفة أحيانًا، فإن الاتجاهات الأساسية متشابهة عبر قطاع الأدوية. إن شركات صناعة الأدوية الكبرى غير قادرة على تطوير الأدوية التي نحتاجها بسعر يمكننا تحمله. ومع ذلك ما زلنا نعتمد عليها، بسبب قواعد التجارة العالمية والفشل في بناء مؤسسات بديلة. تُظهر الجائحة بوضوح أننا لا نستطيع الاستمرار على هذا النحو. لا يمكننا الاعتماد في رعايتنا الصحية على مدراء تنفيذيين للشركات، حافزهم مضاعفة عوائد المساهمين لأعلى قدرٍ ممكن.

الخبر السار الأول هو أننا ننفق بالفعل مبالغ ضخمة من الأموال على الأبحاث الطبية. فلنتوقف عن تسليمها لشركات الأدوية بدون شروط، ولنستخدمها لبناء قاعدة من المعرفة والتكنولوجيا خاضعة للرقابة العامة. الأمر الإيجابي الثاني هو أن العديد من دول الجنوب بدأت بالفعل في فعل الأشياء بشكل مختلف. لقد خذلهم السوق الدولي فبدؤوا يبنون مصانع ومختبرات لتطوير قدراتهم الخاصة على التكيّف. ومن الأمثلة البارزة على ذلك «مركز الحمض النووي الريبوزي المرسال mRNA» الجديد في جنوب إفريقيا، والذي يعيد إنشاء تقنية الـ«mRNA» مع الالتزام بمشاركتها بحرية مع المنتجين في جميع أنحاء العالم.

لقد كشف كوفيد-19، بشكل غير مسبوق، عن اقتصادنا الرأسمالي الاحتكاري. لا يمكن لهذا الشكل من الاقتصاد أن يحمينا من الأوبئة أو من تغير المناخ أو من تدخل الشركات الكبرى في أكثر الجوانب الشخصية في حياتنا. لقد أصبح هدم الاحتكارات مسألة حياة أو موت.

_________________________________________________________

*نيك ديردِن هو مدير منظمة «العدالة العالمية الآن» (Global Justice Now).

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية