إدمان الأفيون

كيف ساهمت شركات الأدوية في نشر وباء المواد الأفيونية حول العالم؟

تصميم محمد شحادة.

كيف ساهمت شركات الأدوية في نشر وباء المواد الأفيونية حول العالم؟

الأحد 05 حزيران 2022

«المال ليس مجرد هدف فقط، بل هو أيضًا منبع الجشع».
كارل ماركس

«لا يمكن أن تأمل إلا شيئًا واحدًا في وجه الألم: أن يتوقف».
جورج أورويل، رواية 1984

لم تعرف البشرية مسكنًا يضاهي الأفيون. أدركت الحضارات الأولى هذه الحقيقة قبل ما يزيد عن 3000 عام قبل الميلاد، حين اكتشف السومريون «هول جيل» أو «نبات الفرح». في مصر، كان استخدام الأفيون يقتصر بشكل عام على الكهنة والسحرة والمحاربين، وقيل إن «إيزيس» والدة «حورس»، آلهة الشفاء والسحر، قدمته لـ«رع»، ملك الآلهة ووالد كل الخليقة، كعلاج للصداع. استخدم الأطباء اليونانيون والرومان الأفيون لأغراض متنوعة؛ منها علاج الصداع والدوار والصمم والصرع والسكتة الدماغية وضعف البصر والتهاب الشعب الهوائية والربو والسعال والمغص واليرقان وتصلب الطحال والحصى الكلوية والشكاوى البولية والحمى والجذام ومشاكل الحيض والكآبة. ورغم أن كل هذا قد يبدو كمزحة كبيرة اليوم، لكن كان من المقبول استعمال الأفيون لكل هذه الأمور حتى القرن السابع عشر، كما ذاع صيت مدن مختلفة مثل القسطنطينية والقاهرة والبندقية لجودة الأفيون المستخرج منها.[1] 

استخدم الأطباء المسلمون الأفيون على نطاق واسع جدًا، بل وكتبوا أطروحات خاصة حول بعض مستحضراته. أوصى به ابن سينا لعلاج الإسهال وقرحة العين، لكنه سرعان ما أدرك خصائصه الإدمانية، وقنن من استعماله، ونصح الأطباء بعدم استخدام المسكنات القوية إلا إذا كان ذلك ضروريًا للغاية. كما استخدمه الرازي كمخدر قبل الجراحة. وقد أوصلت القوافل التجارية العربية الأفيون إلى الصين لأول مرة في القرن السابع الميلادي، وكان يستخدم في المقام الأول للأغراض الطبية.

لم يشكل الأفيون مشكلة حقيقية إلى أن جلب البرتغاليون «الغليون» إلى الصين، حيث تغيّرت بعد ذلك المعادلة تمامًا وانتشر تدخين الأفيون بشكل سريع جدًا، مدفوعًا بالرغبة الجامحة للشركات البريطانية بتحقيق الأرباح بأي ثمن، مما أدى إلى إدمان قطاعات كبيرة من المجتمع الصيني، ونشبت حروب الأفيون المتتابعة التي شكلت بداية ما عرف لاحقًا بـ«قرن الإذلال» في تاريخ الصين، الذي خسرت فيه الصين كل حرب خاضتها وعانت من الانهيار الاجتماعي التام وفقدت السيطرة على تجارتها الخارجية، وأجبرت على دفع تعويضات مهولة وتنازلت عن سيادتها على عدة مناطق وموانئ، وقدمت التنازل تلو الآخر للقوات الغربية المتحالفة.[2] 

إعلان أمريكي من القرن التاسع عشر يروج لاستخدام مادة أفيونية للمساعدة في تسنين الرضع.

على مرّ التاريخ، تأقلمت نبتة خشخاش الأفيون مع أنواع عديدة من التربة والمواقع والبيئات الجغرافية المختلفة، كما أن مقاومة النبتة للحشرات والفطريات ساعدتها على التأقلم والانتشار. لهذه الأسباب، تستطيع حتى البلدان ذات الموارد المحدودة أن تزرع وتحصد كميات كبيرة من الأفيون (اليوم، خشخاش الأفيون هو المحصول النقدي الرئيسي في أفغانستان على سبيل المثال). يحتوي الأفيون على خمسة مكونات نشطة بيولوجيًا، هي المورفين (وهو أحد أقوى الأدوية المسكنة المعروفة للإنسان)، والكودين (وهو مسكن خفيف ومثبط للسعال)، والألفاناركوتين والبابافيرين (وهي مرخيات للعضلات)، والثيبين. سيشكل هذا الأخير أساسًا لدواء يقتل الآن أكثر من عشرين ألف أمريكي سنويًا، فيما تقتل مشتقات الأفيون مجتمعة ما يفوق 350 ألف شخص سنويًا حول العالم.[3] 

رغم الخصائص الإدمانية للأفيون فإن خصائصه المسكنة للألم لا يمكن إنكارها. يمتلئ التاريخ بمحاولات شتّى لفصل الخاصيتين عن بعضهما وإيجاد عقار يحتفظ بخصائص الأفيون المسكنة دون خصائصه الإدمانية. بدأت معظم هذه المحاولات بتجارب بسيطة نقلتها شركات الأدوية إلى السوق مدعمةً بحملات دعائية هائلة وخادعة، بهدف جني أكبر كمّ ممكن من الأرباح. في الحقيقة، لم يدخل أي عقار مخدر أو منشّط إلى السوق العالمي منذ بدايات القرن التاسع عشر إلا بعد تصنيعه وتسويقه عن طريق شركات الأدوية العابرة للقارات، والتي ما تزال حتى اليوم تمثل كبرى شركات الأدوية.[4] 

ستكون نتيجة هذه المحاولات كارثية على ملايين البشر حول العالم، خاصةً في الولايات المتحدة التي كانت السوق الأكبر لمثل هذه الشركات، في مغامرة جشعة ساهمت فيها شركات التأمين والهيئات الحكومية المعنية بالرقابة الصحية.

إعلان من مجلة هاربر الأسبوعية الأمريكية من القرن التاسع عشر، يشجع على استخدام الأفيون للتعامل مع تسنين الرضّع.

شركة «ميرك» والمورفين

في عام 1803، قام فريدريك سيرتورنر، وقد كان متدربًا في مختبر كيمياء صغير ويبلغ من العمر 20 عامًا في ذلك الوقت، بعزل العنصر الأكثر فعالية من نبتة الأفيون. وقد أسماه «مورفيوم» تيمنًا بإله الأحلام اليوناني مورفيوس. في وقت لاحق، تم تغيير الإسم إلى مورفين. اختبر سيرتونر آثار المنتج الذي اكتشفه على نفسه، ووجد أن المورفين أقوى بست مرات من الأفيون الخام، مما تسبب في نشوة فورية تقريبًا تبعها الاكتئاب ولاحقًا الاعتمادية على العقار الجديد. عندما أنهى دراسته، كان سيرتونر مدمنًا على «المورفيوم».[5]

 المحقن الأصلي الذي استخدمه ألكسندر وود.

بحلول عام 1827، بدأت شركة الأدوية الألمانية «ميرك» إنتاج المورفين على نطاق واسع، متجاهلة تحذيرات سيرتونر. وسرعان ما وصف الأطباء الأوروبيون المورفين لشتى الأمراض، بما في ذلك إدمان الكحول (تحول إدمان العديد من المرضى من الكحول إلى المورفين). ثم غيّر اختراع طبي وجه الطب كما غير طريقة تعاطي المخدرات في العالم. ففي عام 1853، قام ألكسندر وود (طبيب في إدنبره، اسكتلندا)[6] بإرفاق إبرة بمحقن،[7] مما سمح بحقن المورفين مباشرة في مجرى الدم (وبذلك أصبح المورفين أول عقار يعطى وريديًا في التاريخ). كانت أول مريضة لوود امرأة تبلغ من العمر 80 عامًا، وتعاني من الألم العصبي، وقد عالجه بنجاح عن طريق حقن منطقة الألم بمستحضر أسماه «مورفيا»، وقد كان خليطًا من المورفين مع نوع من أنواع الكحول. ادّعى وود بأنه إذا تم حقن المورفين بدل تناوله عن طريق الفم فلن يطور الناس «شهية» للدواء، وبالتالي لن يسبب المورفين المحقون وريديًا الإدمان. كما روّج بأنه قد وجد -أخيرًا- طريقة لفصل خصائص المورفين المسكنة عن خصائصه الإدمانية.

بحلول عام 1880، كان معظم أطباء الولايات المتحدة الأمريكية يمتلكون نسخة عن المحقن المطور، وانتشرت برامج لتوعية وتثقيف المرضى حول كيفية حقن المورفين في منازلهم. توفيت زوجة «وود» في وقت لاحق من جرعة زائدة من المورفين (وأصبحت بذلك أيضًا أول مريضة مسجلة في التاريخ تموت نتيجة جرعة زائدة من عقار وريدي).

إعلان يسوق المورفين في صحيفة أمريكية عام 1900.

شركتا «باير»[8] و«ليلي»[9] والهيروين

في عام 1874، قام صيدلاني في لندن يدعى آلدر رايت بغلي المورفين مع الخلّ لعدة ساعات، مما أدى إلى إنتاج «داي اسيتيل مورفين» (تسمى هذه العملية الأستلة). كان رايت مقتنعًا أنه -وأخيرًا- قد اخترع مسكنًا لا يسبب الإدمان. قام رايت بإعطاء المسحوق الأبيض الناتج عن عملية الأستلة لكلبه، خلال دقائق، أصبح الكلب مفرط النشاط بشكل مذعر، وعنيفًا جدًا. بعد أن كاد الكلب يموت تخلص رايت من المسحوق، ثم نشر النتائج التي توصل إليها في مجلة الجمعية الكيميائية في لندن، ولم يعد التجربة مرة أخرى.[10]

بعد عدة سنوات اكتشف هينريك دريسر، وقد كان أستاذ كيمياء يعمل في شركة أدوية على وشك الإفلاس في ألمانيا، مقال رايت. كان دريسر أيضًا يحاول تخليص المورفين من خصائصه الإدمانية، ولاقت الورقة التي نشرها رايت إعجابه. كان دريسير يدرك أن المركب الناتج عن أستلة المورفين يمكنه الوصول إلى الدماغ بسرعة أكبر. باعتقاده كانت هذه الخاصية تعني أن الجرعات المسكنة من المركب الجديد ستكون أقل بكثير من المورفين، وبالتالي سوف تكون احتمالية الإدمان عليه أقل بكثير. لم يمتلك دريسير أي دليل علمي وراء هذا الادعاء.

في عام 1895، أوعز دريسر إلى مساعده فيليكس هوفمان، وقد كان في مرحلة ما بعد الدكتوراه، بأستلة المورفين. لم يكن هذا شيئًا جديدًا على هوفمان، الذي قام مؤخرًا بأستلة مادة كيميائية أخرى لها خصائص مضادة للالتهابات ومسكنة للألم، وهي ساليسيلات الصوديوم. وجد هوفمان أن أستلة ساليسيلات الصوديوم تحل مشكلة تقرحات المعدة الشديدة الناتجة عن تناول المركب الأخير، وبالتالي أصبح من الممكن استعمال سالسيلات الصوديوم كمسكن بشكل أكثر أمانًا. في عام 1899، قامت شركة دريسر وهوفمان -التي سميت باسم مؤسسها فريدريك «باير»- بتسويق عقارها الجديد، ساليسلات الصوديوم المؤستلة، تحت اسم الأسبرين.[11]

رغم الخصائص الإدمانية للأفيون فإن خصائصه المسكنة للألم لا يمكن إنكارها. ويمتلئ التاريخ بمحاولات شتّى لفصل الخاصيتين عن بعضهما وإيجاد عقار يحتفظ بخصائص الأفيون المسكنة دون خصائصه الإدمانية.

بعد النجاح الذي حققه دريسر وهوفمان مع الأسبيرين استعدا لتجربة حظهما في عملية مماثلة مع المورفين، إذ بعد أستلة كمية من المورفين قاما بإعطائها لعدد قليل من الفئران والأرانب التي غدت أكثر نشاطًا وحيوية، ثم أطعما المسحوق الرمادي لأربعة عمال في الشركة وقد أحبوه أيضًا (في الواقع، لقد أحب العمال الدواء أكثر من اللازم، وحاولوا مرارًا بشكل بائس تكرار التجربة). في ختام تجاربهم، جرب دريسر وهوفمان الدواء على عدد قليل من المرضى في مدينتهما. في أيلول 1898، قدم هينريك دريسر النتائج التي توصل إليها في المؤتمر السبعين لعلماء الطبيعة والأطباء الألمان. وادّعى دريسر أن المركب الجديد «داي اسيتيل مورفين» بإمكانه علاج نزلات البرد والتهاب الحلق والصداع، فضلًا عن الالتهاب الرئوية الحادة والسل (وقد كانا السببين الرئيسيين للوفاة في ذلك الوقت). وعلاوة على ذلك، كان المركب الجديد أكثر فعالية بخمس مرات من المورفين في تسكين الألم.

لكن الادعاء الإشكالي الأكبر كان أن هذا المركب الجديد لا يسبب أي نوع من الإدمان (لم يكن دريسر في هذه المرحلة قد اختبر المركب الجديد إلا على الفئران والكلاب وعلى عدد قليل من الناس لمدة أربعة أسابيع تقريبًا). صفق له الحاضرون في المؤتمر، كما صفق له المدراء التنفيذيون في «باير» وقرروا تسويق المركب الجديد على أوسع نطاق ممكن. في محاولة لإيجاد اسم تسويقي جاذب، أراد بعض العاملين في الشركة أن يطلقوا عليه اسم وندرليش، بمعنى المعجزة، لكن دريسر فضل اسم هيرويش، بمعنى البطولة.

في عام 1898، بدأت «باير» بتسويق عقارها الجديد، وقد أطلقت عليه اسم «الهيروين». من المفارقة أنه في ذلك الوقت لم يكن من الممكن الحصول على الأسبرين إلا بوصفة طبية بعد مراجعة طبيب، نظرًا لتخوف الأطباء من تقرحات المعدة التي كانت تنتج عن تناول المركب الأصلي، في حين كان من الممكن أن يشتري أي شخص الهيروين، باعتباره «العقار الآمن والفعال»، من أي صيدلية، دون الحاجة إلى أي وصفة أو توصية طبية.

في عام 1900، بدأ إيلي ليلي، مؤسس شركة «ليلي» للأدوية، وبالتعاون مع «باير»، بتوزيع الهيروين دون وصفة طبية في الولايات المتحدة، والترويج له جنبًا إلى جنب مع الأسبرين كعلاج لنزلات البرد والإنفلونزا.[12] وادّعت «ليلي» أن الدواء يمكن أن يعطى بأمان ليس فقط للأطفال، ولكن أيضًا للرضع والحوامل. بيعت ملايين الجرعات ووصلت أرباح الهيروين في الولايات المتحدة لأرقام خيالية، كما قام الجيش بإعطاء الدواء عن طريق الوريد للجنود في الميدان خلال الحرب العالمية الأولى. ووصل الأمر بأن تطلق جمعيات خيرية حملات لإرسال الهيروين المجاني إلى مدمني المورفين لتخليصهم من إدمانهم. في عام 1906، ذكرت مجلة الجمعية الطبية الأمريكية أن الهيروين «يوصى به لعلاج أمراض التهاب الشعب الهوائية والالتهابات الرئوية والسل والربو والسعال الديكي والتهاب الحنجرة وأشكال معينة من الحساسية». ولم يمض وقت طويل حتى أدرك الجميع حجم المأساة التي صنعوها.

إعلان لشركة باير مطلع القرن العشرين يروج الهيروين كمهدئ للسعال.

في عام 1902، تم الإبلاغ عن عدة وفيات عند أطفال رضع بعد تناولهم الهيروين. ولأن الهيروين يعبر المشيمة، ولد العديد من الأطفال وهم يعانون أعراض الانسحاب الشديد نتيجة تناول الأمهات الهيروين بانتظام خلال الحمل. بحلول عام 1910، كان المجتمع الطبي على علم تام بمخاطر الهيروين، وانخفض تعاطيه بشكل كبير. «باير»، من ناحية أخرى، لم تتوقف عن الإعلان عن أن الهيروين مادة آمنة حتى عام 1913. بحلول عام 1918، كان أكثر من 200 ألف مدمن على الهيروين يعيشون في مدينة نيويورك وحدها.

في عام 1924، أقر الكونغرس قانون الهيروين، والذي جرّم تصنيعه وبيعه.[13] نتيجة لذلك، أصبح الاتجار بالهيروين مصدر كسب مالي للعصابات. في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، كان الموزعون الرئيسيون للهيروين في الولايات المتحدة الأمريكية هم ثلاثة رجال عصابات يهود (كان يطلق على الهيروين في كثير من الأحيان اسم «سماك»، من الكلمة اليديشية «شيمشير» والتي تعني «مدمن»). في منتصف الثلاثينيات تولت المافيا الإيطالية زمام الأمور، وأنشأت «الوصلة الفرنسية»، وهي خط زراعة وتصنيع وشحن للأفيون من الهند الصينية أو تركيا إلى لبنان حيث يتم تحويله إلى مورفين، ثم شحنه إلى مدينة مرسيليا الساحلية الفرنسية حيث يتم تحويله إلى هيروين عالي الجودة وتهريبه إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

شركة «بوردو فارما» والأوكسيكودون[14]

تبع المحاولات السابقة للعثور على الدواء المعجزة محاولة أخرى، هذه المرة على نطاق أوسع بكثير، أوصلت العالم والولايات المتحدة الأمريكية بالذات إلى ذروة الأزمة فيما يتعلق بانتشار إدمان المواد الأفيونية. في هذه المرة، حوّل العلماء أنظارهم إلى مكون آخر من الأفيون هو الثيبين، والذي سمي تيمنا باسم بلدة مصرية قديمة «طيبة» كان يزرع فيها الأفيون. تم إنتاج النسخة الصناعية الأولى من الثيبين في عام 1916 من قبل كيميائيين ألمان يعملون في جامعة فرانكفورت، وأطلقوا عليه اسم «الأوكسيكودون».

في أوائل الخمسينيات، ظهر الأوكسيكودون لأول مرة في الولايات المتحدة. حيث تم خلطه مع مجموعة متنوعة من الأدوية الأخرى. على سبيل المثال، كان هناك عقار بيركودان (وهو مزيج من الأوكسيكودون والأسبرين)، وعقار كومبونوكسي (وهو مزيج من الأوكسيكودون والإيبوبروفين)، وعقار بيركوسيت (وهو مزيج من الأوكسيكودون والأسيتامينوفين). ولكن المنتج الأقوى، والأكثر إدمانًا، كان الأوكسيكونتين[15] (وهو عبارة عن أوكسيكودون نقي وغير مخلوط مع أي أدوية أخرى). سوقت بوردو فارما، الدواء كمسكن لالتهاب المفاصل المزمن. وحققت بذلك أرباحًا خيالية ارتكبت في سبيلها كمًّا كبيرًا من الفظائع التي ما زال المجتمع الأمريكي يعاني منها حتى اليوم.

عقارات الأوكسيكونتين التي أنتجتها شركة بوردو فارما.

في أواخر عام 1995، وافقت إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية على طلب «بوردو فارما» بتصنيع عقار «أوكسيكونتين». قام فريق مبيعات الشركة بتسويق الدواء لعلاج آلام أسفل الظهر والتهاب المفاصل والصدمات النفسية والألم العضلي الليفي وأوجاع الأسنان والعظام المكسورة والإصابات الرياضية والألم الناتج عن الجراحة. بعبارة أخرى: كل أنواع الألم. في عام 1996، تمت كتابة أكثر من 300 ألف وصفة طبية لأوكسيكونتين في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، حققت منها «بوردو فارما» أرباحا صافية تجاوزت الـ44 مليون دولار. ضاعفت بوردو فارما حجم فريق المبيعات والمبالغ المخصصة للتسويق، وعرضت كوبونات لوصفات مجانية من الدواء لمدة سبعة أيام إلى 30 يومًا، غالبًا ما تكون كافية لتشكيل عادة عند المريض. كما رفعت «بوردو فارما» ميزانية الإعلانات السنوية إلى 200 مليون دولار. في عام 2001، حصدت بوردو فارما 1.45 مليار دولار من بيع الأوكسيكونتين فقط. وقد شكلت في ذلك الوقت، أعلى أرباح ناتجة عن دواء يباع بالتجزئة في العالم.

استفادت مبيعات أوكسيكونتين من السوق السوداء أيضًا. فقد كان أكثر من نصف مستخدمي أوكسيكونتين يستخدمونه لأغراض ترفيهية. وانتشر بيع الوصفات الطبية بين الأصدقاء والأقارب بشكل كبير وكان من السهل جدًا الحصول عليه عبر الإنترنت. قامت بعض الصيدليات أيضًا ببيع العقار دون وصفات طبية وبشكل غير قانوني، وفي الكثير من الأحيان كان الدواء يسرق من الصيدليات (ما يصل إلى 90% من جميع السرقات المسجلة في بعض المدن الأمريكية كانت لسرقة الأوكسيكونتين).[16] في بعض الأحيان، ولسدّ حاجاتهم المادية المتبقية بعد صرف شيكات الضمان الاجتماعي الهزيلة، كان المسنون الفقراء يحصلون على علبة أوكسيكونتين على حساب التأمين الصحي الحكومي ثم يبيعونها في السوق السوداء بدولار لكل ملليغرام (100 حبة من عيار 80 غرام تساوي قيمتها ثمانية آلاف دولار).

استغل الأطباء هذه الفوضى أيضًا وأدرك بعضهم إمكانية الكسب المادي من هذا الموضوع. في أحد أشهر القصص حول الأوكسيكونتين كتب طبيب في إنديانابوليس وصفات تجاوزت قيمتها المليون دولار، دفع ثمنها برنامج ميديكيد في الولاية، 130 ألف دولار من هذا المبلغ كانت ثمن وصفات لمريضة واحدة هي عضو في عصابة متخصصة ببيع الأوكسيكونتين.[17] وفي قصة أخرى كان أحد أطباء كنتاكي يعاين أكثر من 150 مريضًا يوميًا، ويكتب وصفات طبية لمسكنات الألم بعد قضاء أقل من ثلاث دقائق مع كل مريض.[18] ألقي القبض على الكثير من الأطباء ووجهت إليهم تهم القتل العمد وغير العمد وسجن بعضهم. لتحسين صورتها، قامت بوردو فارما، بإطلاق حملات تلقي اللوم على المدمنين، كأن إدمانهم كان نتيجة استعمالهم الخاطئ للدواء فقط، لا أنهم ضحايا لأحد أعنف الاستراتيجيات التسويقية في العالم. عندما كان ريتشارد ساكلر رئيسًا لشركة بوردو فارما في عام 2001، حثّ زملاءه على إلقاء اللوم على المرضى، واصفا إياهم بازدراء بأنهم «مذنبون» و«مجرمون متهورون».[19]

في تضارب صارخ في المصالح، ما يقارب نصف ميزانية مؤسسة الغذاء والدواء الأمريكية تدفع من قبل شركات الأدوية نفسها التي من المفترض أن تراقبها.

بحلول نيسان 2002، أبلغت إدارة الأغذية والعقاقير عن 1300 حالة وفاة ناتجة عن تناول جرعة زائدة من الأوكسيكونتين. في معظم الحالات، حصل المتوفي على الدواء بوصفة طبية. في نفس العام كانت مبيعات بوردو فارما قد تجاوزت 30 مليون دولار أسبوعيًا، وأكثر من ملياري دولار سنويًا. في عام 2004، كان هناك أكثر من ثلاثة ملايين شخص في الولايات المتحدة الأمريكية يستخدمون دواء أوكسيكونتين بانتظام، وما يزال الدواء حتى اليوم مسكن الألم الأكثر انتشارًا في الولايات المتحدة. في عام 2007، توفي 14 ألف شخص بسبب جرعات زائدة من مسكنات ألم موصوفة طبيًا، وتجاوزت تكاليف الرعاية الصحية والمعاملات الجنائية 55 مليار دولار، وفي عام 2008، توفي 15 ألف شخص بسبب مسكنات الألم الموصوفة طبيًا، وتصدرت الجرعات الزائدة لائحة أسباب الوفاة في 30 ولاية أمريكية. في عام 2009، أنفقت شركات التأمين الصحي 72 مليار دولار لسدّ تكاليف الرعاية الصحية المباشرة الناتجة عن مضاعفات مسكنات الألم الموصوفة طبيًا. بحلول عام 2010، كان عدد الأشخاص الذين توفوا بسبب الجرعة الزائدة من الأوكسيكونتين أكبر من عدد الأشخاص الذين توفوا بسبب الهيروين والكوكايين مجتمعين.

لا يمكن تمييز أعراض الجرعات الزائدة من الأوكسيكونتين عن أعراض الجرعات زائدة من الأفيون أو المورفين أو الهيروين، فجميعها تثبط معدل وعمق التنفس، حيث يهبط المعدل إلى ما يصل إلى أربع مرات في الدقيقة. يبدأ ضغط الدم في الانخفاض، تنخفض درجة حرارة الجسم، ويصبح الجلد باردًا ومزرقًا. ونتيجةً لفشل الجهاز التنفسي، لا يحصل الدماغ على ما يكفي من الأكسجين فيبدأ المريض بالتشنج ويموت في نهاية المطاف.

لم تقم شركات التأمين الصحي الأمريكية (والتي عادة ما تنصب نفسها وصيًا على الممارسات الطبية بادعائها الزائف بأنها ترفض تغطية أي علاج لا يتبع أعلى التوصيات العلمية) بالقيام بأي فعل يذكر للحد من المصيبة. قبل انتشار الأوكسيكودون، كان الألم المزمن يعالج بمزيج من العلاج النفسي وممارسة الرياضة والعلاج الطبيعي بالإضافة إلى بعض المسكنات غير الأفيونية. ورغم أن العديد من الدراسات قد أظهرت أن هذا النهج يؤدي إلى نتائج أفضل من تعاطي الأدوية المخدرة بشكل مستمر، إلا أن الحقيقة هي أن تكلفة الأوكسيكودون كانت أقل من تكلفة هذه العلاجات. ونتيجةً لذلك، انتهي الأمر بالعديد من شركات التأمين بأن تشجع انتشار الأوكسيكودون وغيره من الأدوية الأفيونية.

في أيار 2007، اعترفت «بوردو فارما» ممثلةً بثلاثة من المدراء التنفيذيين لها، بالذنب في تهمة واحدة فقط وهي «التسويق المضلل». في حكم هزيل جدًا، حكم على المدراء التنفيذيين الثلاثة بدفع غرامة قدرها 34.5 مليون دولار (دفعتها الشركة)، ومنعوا من العمل في أي شركة منتجات طبية لمدة 12 عامًا، كما طلب منهم أداء 400 ساعة من الخدمة المجتمعية في مراكز علاج وتأهيل المدمنين على المخدرات. ودفعت «بوردو فارما» عقوبةً إضافيةً قدرها 634 مليون دولار (كل هذه الغرامات مجتمعة، لا تتجاوز الأرباح الناتجة عن مبيعات أوكسيكونتين في سنة واحدة).[20] كما واصلت باير تسويق الهيروين عندما كان من الواضح أن العقار يسبب الضرر الجسيم، استمرت بوردو فارما بتسويق الأوكسيكونتين بذات الطريقة المخالفة لمدة عشر سنوات بعد صدور الحكم.

لم تكن الاستراتيجيات المتبعة من قبل الشركات المصنعة للمواد الأفيونية لترويج منتجاتها والسيطرة على السوق جديدة أو مبتكرة. حيث وضعت هذه الاستراتيجيات بمشورة وتوجيه شركات عملاقة في مجال العلاقات العامة، والاستشارات الإدارية، وشركات إدارة الأزمات بشكل مماثل للاستراتيجيات المتبعة من قبل شركات التبغ في السابق، لإلقاء ظلال من الشك على الأضرار الناجمة عن منتجاتها أو ممارساتها التجارية. وهذه الاستراتيجيات واسعة النطاق وشاملة على حد سواء، وتشمل شبكات علاقات مع الحكومة والمؤسسات الأكاديمية والمجتمع المدني.

 أرادت شركات الأدوية توسيع نطاق صرف المواد الأفيونية لمرضى السرطان في المراحل النهائية من مرضهم (وهو استخدام جائز وواجب أحيانًا، وعلى العكس فإن هذه المجموعة من المرضى تحرم أحيانًا من المسكنات اللازمة نتيجة تخوف الأطباء وأهالي المرضى وحتى المرضى أنفسهم من الأعراض الجانبية المختلفة) إلى مجموعة أكبر وأكثر ربحًا، وهم المرضى الذين يعانون من الآلام الحادة أو المزمنة وغير المرتبطة بالسرطان، مثل آلام المفاصل وغيرها. لم يكن هناك أي دليل علمي على فعالية هذه المسكنات المخدرة في هذه المجموعة من المرضى.

لم يدخل أي عقار مخدر أو منشّط إلى السوق العالمي منذ بدايات القرن التاسع عشر إلا بعد تصنيعه وتسويقه عن طريق شركات الأدوية العابرة للقارات، والتي ما تزال حتى اليوم تمثل كبرى شركات الأدوية.

بين عامي 2014 و2015، كان واحد من كل سبعة أطباء تقريبًا في الولايات المتحدة قد تلقى هدية ما من شركات الأدوية الأفيونية. خلال تلك الفترة، أكثر من سبعين وصفة طبية لمادة أفيونية كانت تصرف لكل مئة أمريكي في كل عام. وأظهرت الكثير من الدراسات أن تلقي الهدايا من شركات الأدوية يرتبط بشكل مباشر بزيادة معدل صرف الوصفات من قبل الأطباء. وهذا هو، بطبيعة الحال، السبب وراء انخراط شركات الأدوية في مثل هذه الممارسات. كما أظهرت وثائق من محاكمة بوردو فارما أن مرضى الأطباء الذين التقوا بمندوبي الشركة كانوا أكثر عرضة بعشر مرات للوفاة بسبب جرعة زائدة من مرضى الأطباء الذين وصفوا المواد الأفيونية دون أن يلتقوا بمندوبي المبيعات من الشركة.

في عام 2020، وبعد 13 عامًا من الصراعات القانونية بعد صدور الحكم الأول، ونظرًا للكم الهائل من الأدلة الدامغة، اعترفت بوردو فارما بتقديم الرشوات للأطباء لحثهم على كتابة وصفات الأوكسيكونتين، والتحايل على القوانين الفيدرالية لدائرة مكافحة المخدرات الأمريكية للاستمرار بالترويج بعد صدور الحكم الأول عام 2007. أعلنت بوردو فارما إفلاسها بعد أن غرمتها محاكم أمريكية عدة بأكثر من 10 مليارات من التعويضات، بعد أن رفعت ضدها أكثر من 2000 قضية لما تسببت به من وفيات قدرت بـ470 ألف أمريكي منذ عام 2000.[21] 

اليوم، تصرف 80% من الوصفات الطبية للمواد الأفيونية في العالم في الولايات المتحدة، رغم أن 5% فقط من سكان العالم يعيشون هناك.

لم يقف أي شيء في وجه هذه الشركات في سبيل تحقيقها لأكبر كم ممكن من الأرباح إلا الآلاف (بل عشرات الآلاف) من المرضى الذين فقدوا حياتهم نتيجة الإعلانات المضللة وقدرة شركات الأدوية على شراء ذمم بعض الأطباء لترويج منتجاتهم. لم يوقفهم الافتقار للدليل العلمي وراء ادعاءاتهم، ولا معرفتهم بالأعراض الجانبية الممكنة، ولا حتى القانون، حيث استمرت معظم الشركات بالترويج المضلل حتى بعد صدور أحكام من القضاء.

تستمر هذه الشركات وغيرها، في الولايات المتحدة خصوصًا، حيث تمتلك القدرة على الإعلان للمستهلك بشكل مباشر على عكس دول العالم، بالتحايل على كافة القوانين الموجودة لإيجاد طريقة ملتوية تمكنها من أن تستملك شريحة أكبر من السوق بأي ثمن. ينطبق هذا الأمر على معظم شركات الأدوية المصنعة لشتى أنواع العقارات (أدوية الأمراض المناعية والسرطان بشكل خاص)، وقد وصل تأثيرها اليوم إلى مؤسسة الغذاء والدواء الأمريكية نفسها، الجهة المسؤولة عن حماية الصحة العامة من خلال ضمان سلامة وفعالية وأمن الأدوية المطروحة في السوق، حيث إن ما يقارب نصف ميزانيتها تدفع من قبل شركات الأدوية نفسها التي من المفترض أن تراقبها،[22] في تضارب صارخ في المصالح.

  • الهوامش

    [1] Forces of Habit: Drugs and the Making of the Modern World by David T. Courtwright

    [2] تتوفر العديد من المصادر حول تاريخ الأفيون وأثره على الصين، للمزيد حول هذه النقطة، يمكن الإطلاع على تقرير شامل صادر عن مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة في عام 2008 بعنوان «قرن من مكافحة المخدرات في العالم».

    [3] تقرير لمنظمة الصحة العالمية.

    [4] للمزيد حول تاريخ المواد المخدرة أو المنشطة المختلفة (ابتداء بالكافيين وانتهاء بالهيروين) يمكن الرجوع إلى كتاب Forces of Habit: Drugs and the Making of the Modern World by David T. Courtwright

    [5] Schmitz, R. (1985). Friedrich Wilhelm Sertürner and the Discovery of Morphine. Pharmacy in History27(2), 61–74.

    [6] للمزيد حول سيرة وود الذاتية, يمكن العودة إلى موقع الكلية الملكية للأطباء – إدينبره

    [7] Hypodermic syringe, England, 1855-1865 (Science Museum, London). Credit: Wellcome Collection. Attribution 4.0 Internationa

    [8] للإطلاع على تسلسل زمني للأحداث, يمكن الرجوع إلى: History of Heroin: UNODC.

    [9] Pandora’s Lab: Seven Stories of Science Gone Wrong by Paul A. Offit

    [10] On the action of organic acids and their anhydrides on the natural alkaloïds. Wright C.R.A.
    J. Chem. Soc.
    , 1874,27, 1031-1043

    [11] The story of Aspirin – a versatile medicine with a long history. International aspirin foundationaccessed May 29, 2022.

    [12] Dark Paradise: A History of Opiate Addiction in America by David Courtwright

    [13] يمكن الحصول على النص الأصلي للقانون من أرشيف الكونجرس الأمريكي.

    [14] Empire of Pain: The Secret History of the Sackler Dynasty by Patrick Radden Keefe

    [15] US FDA package insertAccessed May 29, 2022

    [16] أرشيف دائرة مكافحة المخدرات الأمريكية.

    [17] Doctor to Face US Charges In Drug Case – The New York Times.

    [18] مكتب المدعي العام للمقاطعة الغربية في ولاية كنتكيaccessed on May 29, 2022.

    [19] Ex-Purdue Pharma CEO Richard Sackler called opioid addicts ‘scum,’ ‘criminals’ in emails By David Matthews. New York Daily News. May 07, 2019.

    [20] Purdue Pharma, Execs to Pay $634.5 Million Fine in OxyContin CaseAccessed on May 29, 2022.

    [21] U.S Department of Justice: Opioid Manufacturer Purdue Pharma Pleads Guilty to Fraud and Kickback Conspiracies. November 24, 2020. Accessed on May 29, 2022

    [22] Fact Sheet: FDA at a Glance. November 2021. Accessed May 29, 2022.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية