الشعبوية في طورها الدَهْمَاوِيّ: قيس سعيد وطبيعة السلطة الجديدة في تونس

الإثنين 01 آب 2022
قيس سعيد
قيس سعيد يغادر مركز اقتراع في تونس، في 13 تشرين الأول 2022. تصوير فتحي بلعيد. أ ف ب.

 

يبدو من الجسارة والمجازفة تحليل طبيعة السلطة الجديدة في تونس، فيما تزال هذه السلطة بالكاد توطد أركان حكمها، جسارة نستشفها من تحاليل محلية وأجنبية، أكاديمية وصحافية، لطبيعة رأس السلطة قيس سعيّد. ومن أمثلتها قول عالم السياسة الفرنسي، ميشيل كاماو، في مقابلة[1] مع جريدة «لوموند» الفرنسية إن «قيس سعيد يضع الأساس لتوجه أيديولوجي قومي عربي»، في محاولة تبدو غير موفقة لتصنيف الرئيس التونسي سياسًا، والأغرب أنها تصدر عن أكاديميّ متخصص في دراسة المسألة السلطوية في بلاد المغرب، وخاصة تونس، منذ أكثر من ثلاثة عقود. فيما تتجه مجلة «ماريان» الفرنسية إلى القطع بيقين لا يهزه شكّ نحو وصف الرئيس سعيّد ودستوره بـ«الإسلامي».[2] 

ينبع هذا التسرع في التصنيف، أو سوء الفهم، أولًا من النظرة الثقافوية لقطاع واسع من الأكاديميا الغربية لما يجري في دول الجنوب، خارج المركز الأورو أمريكي. وهي نظرة ممتدة إلى وسائل الإعلام السائدة، خاصة اليمينية منها. وثانيًا -وهو العامل الأكثر أهمية- الغموض الذي يحيط بظاهرة قيس سعيد منذ انتخابه رئيسًا في العام 2019، وصولًا إلى الاستفتاء الدستوري الذي أجراه قبل أيام، وما بينهما من انقلاب القصر قبل عام والخطوات التي أعقبته في اتجاه احتكار السلطة وتأميم المجال العام. غموض نراه في التحليلات الأجنبية والمحلية على حد سواء. لذلك، يسعى هذا المقال للانخراط في محاولة لتفكيك طبيعة السلطة الحالية ورأسها قيس سعيد، من خلال رسم صورة لأبرز ملامحها، مع الثقة بأنها لا تقدم يقينًا.

أعمدة الدَهْمَاوِيّة الثلاث

تسعى محاولات تصنيف قيس سعيد، على اختلاف نتائجها، إلى إيجاد قالب أيديولوجي كي تضع سعيد داخله. وهي رغبة مشروعة أمام غموض الظاهرة، ذلك أن الأكاديمي والمثقف وحتى الإنسان العادي ينزع -على نحو لاواعٍ أحيانًا- لتصنيف الفاعلين سياسيًا أو اجتماعيًا، في محاولة عقلانية للسيطرة على الظواهر، بل إنه يفضل أحيانًا التصنيف الخاطئ، بكل ما يعنيه من وعي زائف، على ترك بعض الظواهر أو الأفراد خارج التصنيف.

أعتقد أن قيس سعيد، وإن عبّر عن نزوع محافظ، قومي وديني، إلا أنه لا يمكن أن يكون قوميًا أو إسلاميًا بالمعنى الأيديولوجي، وليس من الصواب تصنيفه أيديولوجيًا، وإنما يمكن وصفه على أنه شعبويّ. ذلك أن الشعبوية ليس لها بأي حال أن تكون أيديولوجيا (أي نظام أفكار متكامل يقدم لمن يتبناه تصورًا شاملًا للوجود والمجتمع)، بقدر ما هي طريقة ونهج لممارسة السياسة، أو في أحسن الأحوال «أيديولوجيا هشة» تميل للتبسيط ولا تقدم برنامجًا سياسيًا شاملًا ولا تصورًا للعالم والمجتمع .

ولا يستحق الأمر كثير عناء كي يقبض الباحث على السمات الشعبوية في مشروع سعيّد وخطابه، فهو شعبوي دَهْمَاوِيّ نموذجي. شعبويته احتجاجية تخاطب عاطفة السكان بوصفهم حشودًا (دهماء) غير واعية، لا بوصفهم أنساق مواطنة مختلفة أنماط التفكير ومتنوعة التفضيلات. وهي ضرب من الشعبوية ليست قائمة على الهوية كما هو الحال في الشعبويات الأوروبية السائدة اليوم، وليست قائمة على تقاطع الغبن العرقي بالحيف الطبقي كما هو الحال في شعبويات أمريكا اللاتينية القديمة، ولكنها ذات طبيعة احتجاجية تتوفر فيها الأركان الثلاثة الرئيسية لأي مشروع شعبوي ذي نزوع استبدادي.

أولًا الشعب ضد النخبة

بخطاب واضح ومعلن، كان سعيد منذ دخوله الحملة الانتخابية لعام 2019 ينادي بإنهاء النموذج الديمقراطي التمثيلي، منطلقًا من فشل القوى الحزبية في إدارة البلاد على مدى السنوات العشر التالية للثورة. مُطالِبًا بنظام سياسي لا يكون فيه «التمثيل» حاجزًا بين الشعب والسلطة. لكن هذا الخطاب لم يكن قائمًا على التعارض التقليدي بين الشعب (عموم المحكومين) والنخبة باعتبارها أوليغارشية احتكارية للسلطة والثورة، وإنما يقوم أساسًا على فصل بين الشعب «الطاهر النقي» والنخبة «الفاسدة»، حيث تحضر هذه الفكرة بقوة في أي سردية شعبوية. ومع أن العديد من الأيديولوجيات تقوم على ثنائية الصراع بين الشعب (الأغلبية) والنخبة (الأقلية)، لكن العداء المفترض لدى الشعبويين ذو طبيعة مختلفة عن الصراع في الأيديولوجيات السياسية الأخرى. يتم التعبير عن صراع النخبة والشعب في الشعبوية بعبارات مانوية عميقة: الخير مقابل الشر، الطهارة مقابل الفساد. في حين أن الصراع بين الشعب والنخب في الاشتراكية يقوم على أساس طبقي، وفي القومية على مفهوم الأمة، أما في حالة الشعبوية، فالصراع طابعه أخلاقي بالأساس، يصعب قياسه ماديًا لأنه ينتمي إلى عالم المثل.

بالنسبة لسعيّد، يكمن جوهر الشعب في نقائه، بمعنى أنه أصيل، في حين أن النخب في الأساس فاسدة، لأن خطيئتها الأصلية هي محاولة تمثيل الشعب. هذا التفريق الجوهري في أساس الصراع الذي تفرضه الشعبوية بين الشعب والنخب، هو الفاصل الذي يمكننا من التفريق بين الخطاب الشعبوي الذي يمكن أن يستعمله اليساريون والقوميون والليبراليون، خلال الحملات الانتخابية أو في سياقات صراعات سياسية محدودة، وبين الجوهر الشعبوي لظواهر سياسية غير أيديولوجية، ومثالها سعيد.

لكن هذا الصراع الأخلاقي بين الشعب والنخبة، يقوم في وجه من الوجوه على تبسيط تعقيد الواقع، وتجاهل تناقضات الطبقات والمصالح والآراء المتأصلة في أي مجموعة بشرية، سواءً من خلال القفز على التناقضات داخل الشعب باعتباره كتلة واحدة منسجمة ذات مصالح واحدة، أو التناقضات داخل النخبة وتحديدها على أساس كتلة أوليغارشية ذات مصالح مشتركة تريد احتكار السلطة. وهذا التبسيط يغوص بسهولة في خطاب ديماغوجي ويميل إلى أن يقود عاجلًا أم آجلًا إلى سياسات استبدادية، ذات كمون فاشي. لكن الانعكاس الأكثر خطورة لهذا التصور الأخلاقي البسيط للصراع هو سياسات كسر الأجسام الوسيطة، التي يشرع فيها القائد الشعبوي حالما يصل السلطة، وهو ما بدأ فيه سعيد، من إخراج الأحزاب والمنظمات والنقابات من دائرة الفعل السياسي/الاجتماعي، ليفسح المجال واسعًا أمام علاقة مباشرة بينه وبين الشعب «الطاهر النقي»، بوصف هذه العلاقة المباشرة تعبيرًا عن الإرادة العامة.

ثانيًا الزعيم الرِسالي المُخلص

الركن الثاني لشعبوية سعيد «النموذجية»، هي حضور شخصية الزعيم/ القائد/ الرئيس صاحب الرسالة، المخلص المنقذ من ضلال النخب وفساد الديمقراطية التمثيلية. يظهر ذلك بوضوح في خطابه منذ صعوده إلى السلطة، ويزداد وضوحًا بعد انقلاب 25 تموز 2021. في مقابلة صحفية شهيرة نشرت له قبل دخوله قصر قرطاج في حزيران 2019، رد قيس سعيد على سؤال الصحفية: «أنت متهم بالشعبوية (..)؟»، بالقول: «لا لا، يقولون ما يريدون لأنهم لا يعرفون ما يقولون أصلًا، أترشح وأنا مكره على ذلك، قال تعالى، كتب عليكم القتال وهو كره لكم». أي أن سعيد كان زاهدًا في السلطة، غير أن نداء الواجب/ الأمة/ الجماهير/ الشعب قد دفعه إليها كرهًا، لأنه يحمل رسالة أكثر رقيًا من مجرد الرئاسة. ثم يضيف مفسرًا: «المسؤولية هي كره، حينما تقف على جبهة القتال كالجندي لا يحب أن يقتل لكن كتب عليه أن يقاتل، العملية بالنسبة لي ليست طموحا شخصيًا.[3] 

إن مشروع سعيّد وخطابه شعبوي دَهْمَاوِيّ نموذجي. شعبويته احتجاجية تخاطب عاطفة السكان بوصفهم حشودًا (دهماء) غير واعية، لا بوصفهم أنساق مواطنة مختلفة أنماط التفكير ومتنوعة التفضيلات.

ولأن الشعبوية، على نحو ما، هي سردية خلاصية، فقد نشر الرئيس التونسي قبل أيام من الاستفتاء على الدستور الجديد رسالة دعا فيها المواطنين إلى التصويت بـ«نعم»، خاتمًا إياها بجملة تلخص تفكيره، ومعللًا الدعوة بالقول: «قولوا نعم، حتى لا يصيب الدولة هرم، وحتى تتحقق أهداف الثورة، فلا بؤس ولا إرهاب ولا تجويع ولا ظلم ولا ألم». فهذه الـ«نعم» السحرية هي العصا التي سيحول بها القائد/ الأب المخلص، واقع الشعب المقهور. وبما أن الشعبوي يدّعي إعادة السلطة إلى الشعب في اتخاذ القرار، فإن خطابه دائمًا ما يعد بالخلاص من خلال التحرر من النير الذي تفرضه النخب. لذلك فهو يدعو إلى استعادة السيادة الشعبية من خلال العمل المباشر والفوري، وتجاوز المؤسسات، وهو وهم بوعد لن يتحقق.

إن إنكار البعد الزمني هو سمة للخطاب الشعبوي، بمعنى جعل الناس يعتقدون أن «كل شيء ممكن على الفور»، وأن معجزة التغيير قابلة للتحقيق، وهي طريقة لتعبئة الأمل، لكنه أمل زائف. وموضع الزيف في الحالة التونسية يبدو أكثر وضوحًا، لجهة تعقيدات الواقع الاجتماعي والاقتصادي، التي لن تكيفها مجرد «نعم» في صندوق الاقتراع كي تُفكك. وفي أغلب المشاريع الشعبوية تظهر شخصية الزعيم الشعبوي، باعتباره الرجل القوي الكاريزمي اللامع، الذي تتحول الأماني على يديه إلى واقع. ومع ذلك لا يوجد في الواقع نموذج أولي للزعيم الشعبوي، إلا أن القاسم المشترك بين هؤلاء القادة الشعبويين جميعًا أنهم يزعمون تجسيد الصوت الحقيقي للشعب، ويقدمون أنفسهم على أنهم من خارج الطبقة السياسية، وغالبًا ما تتم صناعة هذه الصورة بعناية من قبل الزعيم الشعبوي لتعكس الثقافة السياسية التي يعمل فيها. على سبيل المثال، ستكون شخصية الرجل القوي أكثر فاعلية في مجتمع أكثر ذكورية وتقليدية، في حين أن شخصية رجل الأعمال الشعبوي -مثل ترامب أو برلسكوني- ستكون أكثر نجاحًا في المجتمعات المتطورة رأسماليًا. وعلى أي حال، يجب أن يكون لدى شخصية الزعيم الشعبوي صدى مع الأيديولوجيا السائدة اجتماعيًا، كما يشير إلى ذلك كاس مودي وكريستوبال روفيرا في مقدمتهما الموجزة عن الشعبوية.[4] 

ثالثا إنتاج الحقائق البديلة

الركن الثالث، وغير المرئي، في مشروع قيس سعيد الشعبوي هو صياغة حقائق بديلة، مخالفة للواقع الموضوعي، والبناء عليها. حيث سيكون إقناع الشعب برسالية الزعيم الشعبوي ومشروعه الخلاصي، القائم على كسر احتكار النخب «الفاسدة» وتمكين «الشعب النقي» من حكم نفسه بنفسه بلا وسائط، أمرًا صعبًا انطلاقًا من الواقع الموضوعي. لذلك يتجه قيس سعيد، وغيره من القادة الشعبويين، إلى بناء نسق جديد من الحقائق البديلة، يقوم على التعميم والإطلاقية والبساطة، ومخاطبة العاطفة، أي يتشكل الرأي العام من خلال المعتقدات الشخصية للزعيم الشعبوي.

ويحضر التفسير المؤامراتي للواقع هنا كأحد أبرز تجليات «فقاعة ما بعد الحقيقة» التي يعيش داخلها الرئيس التونسي، إذ يُحيل كل فشل أو تعثر لإدارته إلى مؤامرات تقودها أطراف وأشباح خفية لا يسيمها، مشيرًا إليها دائمًا بضمير الغائب، وضمن هذا التفسير المؤامراتي تنتعش الحقائق البديلة وتنمو على نحو ساخر أحيانًا، كأن يتهم الرئيس أطرافًا لم يسمها بـ«التسلل إلى الأقمار الصناعية للتشويش على الاستفتاء» أو يؤكد «نجاح الاستشارة الإلكترونية» التي أطلقها في بداية العام الحالي حول طبيعة النظام السياسي الذي يريده التونسيون، مع أنه بنفسه يعلن عن عدد المشاركين فيها، والذي بالكاد بلغ نصف مليون مشارك من بين تسعة ملايين هو حجم الجسم الانتخابي، وغيرها من النماذج، الشبيهة بالمعلومات المغلوطة التي دأب على ترويجها القادة الشعبويون في العالم مثل الرئيس الأمريكي السابق ترامب أو المرشح الرئاسي الفرنسي إيريك زمور، دون أن يعني ذلك قطعًا تشابهًا كليًا بين قيس سعيد وهؤلاء.

طبيعة السلطة القائمة: تأميم السياسة وخصخصة الاقتصاد

اللوحة التفسيرية أعلاه يمكن أن تقودنا إلى رسم ملامح طبيعة السلطة الجديدة التي يريد قيس سعيد بناءها، أو هو بصدد ذلك منذ انقلاب 25 تموز 2021. كما أن وثيقة الدستور الجديد، الذي نجح سعيد في تمريره في الاستفتاء، لم يشارك فيه إلا أقل من 30% من مجموع الناخبين، تقدم شواهد أكثر رسوخًا ودقة لرسم هذه الملامح. وأول هذه الملامح أن السلطة الجديدة، خلافًا لما كان عليه الوضع على مدى عشر سنوات من انتقال ديمقراطي متعثر وهش، ستكون قائمةً على شكل من التنظيم تتجسد فيه الإرادة العامة (الشعب النقي الطاهر) في شخصية الزعيم الشعبوي (قيس سعيد)، ويتجلى ذلك بوضوح في الدستور الجديد، الذي يمنح الرئيس صلاحيات إمبراطورية من خلال احتكاره للسلطة التنفيذية كاملةً دون شريك، وامتلاك جزء هام من السلطة التشريعية ووصاية واضحة على السلطة القضائية، بل يمنحه «سلطة تأسيسية» غير مسبوقة.

هذا التركيز النظري للسلطات لم يكن بهذه القوة حتى في دستور 1959 الذي نظم على مدى خمسة عقود دولة الحزب الواحد الاستبدادية. هذا النزوع نحو «الرئاسوية» المطلقة نابع من الأساس الشعبوي القائم على وجود «الزعيم الرسالي المخلص» أولًا، وكذلك من قابلية المجتمع التونسي تاريخيًا وثقافيًا لذلك النوع الزعماء، ذلك أن قطاعات لا بأس بها من المجتمع، حتى في صفوف النخب، عبرت دائمًا عن رغبتها في صعود «رجل قوي»/ «مستبد وطني»/ «مستبد عادل» لإنهاء «مهزلة» الانتقال الديمقراطي، التي مرت من طور الائتلافات الحزبية إلى تحالف أوليغارشي يقوم على المصالح المشتركة. والقابلية هنا ليست جوهرية ولكنها نتيجة ركام هائل من قوة الدولة يمتد إلى ثلاثة قرون. ذلك أن الدولة الحديثة في تونس ارتبطت دائما بنموذج الفرد بداية من حمودة باشا (1782-1814) وصولًا إلى الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

هذه الرئاسوية «المتوحشة» -من خلال صلاحياتها الضخمة وعلاقتها المباشرة بالشعب- ستفضي ضرورةً إلى تحطيم كافة الأجسام البديلة، الحزبية والمدنية والنقابية، ليس عبر قمعها بالعنف فقط (وإن كان هذا وارد جدًا) وإنما من خلال عزلها عن المجال العام، ساحة عملها الأساسية، وكذلك تحجيم دورها العام وخنق مصادر تمويلها. كما أكد على ذلك سعيد مطلع العام الحالي، عندما أعلن عن تعديلات ستطال قانون الجمعيات لوقف التمويل الأجنبي لهذه الجمعيات، كما يتوقع أن يصوغ قانون انتخابات جديد يقوم على مبدأ التصويت على الأفراد بدلًا من القائمات الحزبية أو المستقبلة النسبية، وبذلك ينجح في إعادة صياغة مسألة التمثيل الشعبي، حيث يكون القائد الشعبوي (الرئيس) وحده من يملك أحقية وشرعية الكلام باسم الشعب والحكم بإسمه.

لكن هذا الفراغ الذي ستخلقه المؤسسات الوسيطة، في مجتمع عاش طويلًا بمؤسسات وسيطة حتى في عزّ سطوة أنظمة الاستبداد، سيسعى قيس سعيد إلى ردمه بتوسيع الجهاز البيروقراطي للدولة، سواءً القمعي أو الإداري، وبالتالي المزيد من المركزية. وقد عبر سعيد عن ذلك في الدستور الجديد بالإشارة إلى أن السلطة (التنفيذية، القضائية، إلخ) هي مجرد وظائف، والسلطة الحقيقية هي للشعب. ومن خلال هذا التحايل اللغوي يبدو أن سعيد، يريد إعادة صياغة علاقة الحكم على النحو التالي: جهاز دولة (محايد) وشعب (صاحب السيادة) بينهما رئيس (هو تجسيد سيادة الشعب في الدولة)، هذا على المستوى النظري، أما في العمق والتطبيق فالصورة مقلوبة تمامًا: رئيس (يحتكر السيادة) وشعب (خاضع) بينهما دولة (جهاز إدارة الخضوع). بينما كانت النظم الاستبدادية السابقة تدير حالة الإخضاع من خلال جهاز الدولة، وكذلك عبر المقايضة الطبقية مع النقابات ودور الأجسام الوسيطة الموالية (الاتحادات المهنية والفئوية، إلخ).

لا يقدم سعيد أي بديل اقتصادي لسياسة الاستدانة السائدة في البلاد، بل أكثر من ذلك لا يرى بأسًا لأي شروط تفرضها المؤسسات المالية الدولية، وهي شروط رفضتها الأنظمة السابقة لما لها من مخاطر اجتماعية يمكن أن تؤدي إلى اختلال أمني.

وفي الخلاصة يبدو أن النزعة الرئاسوية لقيس سعيد تهدف إلى وضع الكيان الاجتماعي التونسي، برمته، تحت وصاية سلطة الدولة وحدها مجردة من أي رافد شعبي، عبر إنهاء جميع الأجسام الوسيطة، دون أن يستبدلها بأجسام موالية كما تفعل النظم الاستبدادية التقليدية، وإنما حصر الوساطة في إرادته الشخصية، أي أن إرادة الشعب هي إرادة الرئيس التي هي إرادة الدولة. وهذا الاختزال المفرط يحتاج بالضرورة توسيعًا لجهاز الدولة القمعي -العنفي والاستخباراتي- لأن اختزالًا قهريًا من هذا النوع يبدو في حاجة إلى جيش هائل من أعوان المراقبة والعقاب، وعقيدة صلبة من الولاء، لا يبدو قيس سعيد قادرًا على تأمينها حتى الآن.

حتى اليوم ما زالت النخبة تحتفظ بمجال حركة واسع وقوة اجتماعية ليست قليلة. بعد عام كامل من الحكم منفردًا نجح سعيد في كسب ولاء البيروقراطية الأمنية والعسكرية، إلا أنه لم يتجه نحو تطبيق نموذج استبدادي كامل، رغم الكمون الاستبدادي في خطابه وجزء من ممارسته. وإلى اليوم لا يمكن أن نصف النظام القائم بالاستبدادي الراسخ، على أرض الواقع، حيث يمكن أن نصف طبيعة السلطة القائمة بـ«الديمقراطية غير الليبرالية» أو «التعددية المحدودة». ومع أن هذه الحالة غير دائمة ويمكن أن تتغير بعد الانتخابات التشريعية القادمة (كانون الأول 2022) إلا أنها ليست في حد ذاتها مشروعًا من بنات أفكار الرئيس، إنها حالة تفرض نفسها على أرض الواقع، على النظام الجديد غير القادر على ممارسة السيطرة الكاملة والمرور مباشرة إلى نظام استبدادي.

ويعود الفضل إلى ميشيل كاماو في نحت هذا مفهوم «التعددية المحدودة»[5] والتي تفسر طبيعة الأنظمة الاستبدادية في طور النشأة، حيث تكون هشة وغير مسيطرة تمامًا على المجال العام، لذلك تنزع إلى عدم إغلاق هذا المجال كليًا، بما أنها غير قادرة على ذلك بسبب وجود جيوب معارضة قوية، فتعمد إلى التدرج في توطيد أركان سلطتها من خلال تصفية الخصوم واحدًا بعد الآخر، بالتحالف مع بعضها ضد بعضها الآخر، وهكذا حتى يتم تصفية الساحة كليًا. ويتطور ذلك جنبًا إلى جنب مع توسيع مجال وصلاحيات وقوة وامتيازات الأجهزة القمعية للدولة.

الملمح الرابع لطبيعة السلطة الجديدة إلى جانب -الرئاسوية وتأميم المجال العام والتعددية المحدودة مؤقتًا- هو خصخصة الثروة. فبقدر ما يسعى قيس سعيد إلى «تأميم المجال العام» من خلال احتكار الدولة للكيان الاجتماعي كليًا (بما في ذلك احتكار الدين كما ينص الدستور الجديد)، يسعى في الوقت نفسه إلى «خصصة الثروة» في تماهٍ ساخر مع شعار زعيم اليمين الشعبوي الفرنسي جان ماري لوبان، الذي رفعه في انتخابات 2002: «اجتماعيًا على اليسار، اقتصاديًا على اليمين».[6] لا يقدم سعيد أي بديل اقتصادي لما هو سائد منذ سنوات في البلاد، من خلال الاتكاء على سياسة الاستدانة، بل أكثر من ذلك لا يرى بأسًا لأي شروط تفرضها المؤسسات المالية الدولية، وهي شروط رفضتها الأنظمة السابقة لما لها من مخاطر اجتماعية يمكن أن تؤدي إلى اختلال أمني. يمضي سعيد سريعًا لعقد اتفاق قرض جديد مع صندوق النقد الدولي مشروط برفع الدعم عن المواد الأساسية والوقود، يتمتع به قطاع واسع من الطبقة الوسطى وعموم الطبقات الشعبية، وكذلك وقف التوظيف في الخدمة المدنية، وتجميد الأجور في القطاع العام، وخصخصة عدد من الشركات العامة. وهي الوصفة التقليدية، التي عادةً ما يقدمها خبراء صندوق النقد والبنك الدولي لأغلب الدول، والتي أثبتت فشلها المديد، بل وعواقبها الكارثية.

ورغم معارضة الاتحاد العام التونسي للشغل، إلا أن سعيد وحكومته ماضيان في ذلك، يشجعهما القلق الذي ينتاب القوى الغربية، لاسيما الاتحاد الأوروبي، من أي انهيار اقتصادي/ مالي في تونس، على الطريقة السريلانكية يكون منطلقًا لموجات هجرة نحو شمال المتوسط. لكن هذه المقايضة الهشة، وإن خدمت سعيد مرحليًا، لن تكون على المدى المتوسط والبعيد صالحةً في ظل تعقيد الوضع التونسي.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية