فلسطين: التواطؤ المسموع في صمت الأكاديميين

الأحد 23 أيار 2021
متظاهرون يرفعون لافتة تنادي بالحرية لفلسطين في مظاهرة في برلين في 19 أيار 2021. تصوير جون ماكدوغال. أ ف ب.

بتاريخ 14 أيار الجاري، نشرتُ نصًّا قصيرًا تناولت فيه ممارسات «الأكاديميا المتخاذلة» (Apologist academia) عبر أحد حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي. ينتقد النص صمت الأكاديميين والمثقفين المنخرطين في موضوعات الشرق الأوسط، خصوصًا أولئك الذين تتمحور أعمالهم حول الأرشيف والأدب الفلسطيني. أشبّه ذلك التخاذل المؤذي برغبة نيكروفيلية؛ دائمًا ما تفضّل الماضي، أو الميت، على الحاضر والمستقبل وكلّ ما هو حيّ. كما أمرّ على هوس البعض ببناء الأرشيف، وأقارن ذلك بإصرارهم على دراسة تاريخ الشرق الأوسط بينما يغضون الطرف عن التعليق على الحاضر الجمعيّ، الفعليّ، الذي يمرّ بحالة من الثورة.

مثّل النص محاولة لمشاركة مشاعر اللاجدوى والإحباط العميق مع الآخرين، من خلال فضائي الرقمي الصغير، تجاه صمت الأكاديميين، خصوصًا في العالم الغربي. على بساطة الأمر، إلا أن الانتشار السريع لذلك النص القصير وعلى امتداد رقعة واسعة، يشير إلى مسألة جوهرية: يدرك الناس الأذى الكبير الذي تنطوي عليه «الحيادية» في صمت الأكاديميين والمثقفين حيال عدوان دولة الاحتلال الدموي المتنامي بجنون.

الصمت، أو تعمّد تجاهل أيّ شكل من الاعتراف أو مناقشة ما يجري حقًّا في فلسطين، وكيف أن الأحداث الجارية نتاج خالص لنظام استطيانيّ يمارس الإبادة الجماعية، يؤدي إلى عطب أدوات الأكاديميا، خصوصًا في مجال دراسات ما بعد الاستعمار.

رغم أن تضامن الأكاديميين [مع القضية الفلسطينية] لم يكن معدومًا في ألمانيا وغيرها من المناطق في العالم الغربي، إلا أن الصمت الذي يغرق فيه الكثير من الأكاديميين والمثقفين مقلق. مَرَدُّ ذلك أنه يؤمل من الأكاديميين، خصوصًا في ألمانيا، أن يجهروا بآرائهم حول الصراع الفلسطيني، بل وينقذوا الخطاب الفلسطيني وحق الفلسطينيين في سرد روايتهم من التقييد والإقصاء بسبب الشعور الألماني بالذنب. يشمل ذلك محاكمة الأساتذة والباحثين بناء على آرائهم الداعية إلى أنسنة الفلسطينيين، أبرزهم الأستاذ الكاميروني أخيل إمبيمي، الذي تعرّض لنقد شديد في الأوساط الألمانية في شهر نيسان من العام الفائت، واتُّهم بمعاداة السامية. وفقًا لموقع DW، فإن إمبيمبي «جعل من الهولوكوست مسألة نسبية» بانتقاده للفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل، وانضمامه لحركة مقاطعة إسرائيل BDS، كما تذكر المقالة أن «الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني غاية في الحساسية داخل ألمانيا». إن ذلك يصيب المرء بالحيرة، بل بالصدمة، تحديدًا لأن إمبيمبي يجهر ويعترف بكل وضوح بالمعاناة التي عاشها اليهود على امتداد التاريخ، خصوصًا في كتابه الفذّ «سياسات العداوة» الصادر عام 2019. فيه يقارن إمبيمبي الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل بالفصل العنصري الذي مارسته أفريقيا الجنوبية، ويخلُص إلى أن الأول أكثر تعقيدًا ومتقدم تكنولوجيًّا. كما يقول إن «مشروع [الفصل العنصري] قائم على أساس ميتافيزيقي ووجوديّ في آن. إن المصادر المروّعة والكارثية التي تغذّيه أكثر تعقيدًا، وتأتي من جذر تاريخي أعمق، مقارنة بما جعل من الكالفينية الجنوب أفريقية ممكنة». رغم أن إمبيمبي يضع المعاناة والصراعات التي عاشها اليهود في مقدمة حجّته ضد سلطة العداوة، لكنّ ألمانيا اعتبرته مذنبًا.

الصمت، أو تعمّد تجاهل أيّ شكل من الاعتراف أو مناقشة ما يجري حقًّا في فلسطين، وكيف أن الأحداث الجارية نتاج خالص لنظام استطيانيّ يمارس الإبادة الجماعية، يؤدي إلى عطب أدوات الأكاديميا، خصوصًا في مجال دراسات ما بعد الاستعمار، أو نزعه. بناءً على ما سبق، فإن صمت الأكاديميين أمام العنف الاستعماري الذي يمارس إبادة جماعية، وأمام إمكانية الثورة عليه، لا يعمل فقط على تعزيز استمرارية ذلك النظام، بل ويحرم الفلسطينيين من إظهار فاعليّتهم/ قوّتهم في وجه تلك الأنظمة. وبصمتهم هذا، «يقولون» ضمنيًّا، ألّا مكان لدراسات ما بعد الاستعمار في العالم «الحقيقي»، وإنها تنتمي لعالم التنظير فقط. بالتالي، تتحوّل تلك المجالات البحثية، المتروكة على رفوف الكتب، وداخل ملفات الحاسوب، وفي المؤتمرات الدولية، إلى زخارف تزيّن القاعات الأكاديمية؛ مجرّد خيال مثقفين. نتيجة لذلك، فإن إنكار ممارسات نزع الاستعمار التي تجري حاليًّا [في فلسطين]، والإصرار على إبقائها داخل حيز مغلق، يشير ضمنيًّا إلى أن أولئك الأكاديميين الصامتين يعتبرون الأكاديميا عاجزة بطبيعتها [عن التغيير].

رفض التعاطي مع الأحداث الراهنة التي تجري أمام عيوننا جميعًا قد يشير إلى أننا كأكاديميين مترفّعون عن الواقع، وبالتالي عن الحاضر

إضافة إلى ما سبق، فإن رفض التعاطي مع الأحداث الراهنة التي تجري أمام عيوننا جميعًا قد يشير إلى أننا كأكاديميين مترفّعون عن الواقع، وبالتالي عن الحاضر. كما يشير ذلك إلى الفتشيّة حيال الأرشيف، حيث يصير الماضي، ودراسته الهادئة والباردة، المساحة الوحيدة التي تستحق الدراسة. بالتالي، يصير الحاضر في حالة حرجة، والمستقبل غير ذي أهمية. ما يبدو واضحًا حيال خيار «البقاء بعيدًا عن السياسة» (رغم أن ذلك يرتبط مباشرة، وبلا مواربة، بجميع مناحي حياة الفلسطينيين والعرب عمومًا)، هو حقيقة أنه «خيار» لدى أولئك الأكاديميين الصامتين. يمثّل هذا الأمر امتيازًا عظيمًا، ويضع في أيديهم قرار اختيار أي الأحداث أجدر بالتدارس (حظي الربيع العربي، على سبيل المثال، بتأثير كبير في وقته)، وأيها يُمتنع عن الاعتراف به. يصطدم ذلك مع المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق الباحثين الفلسطينيين وغيرهم، الموجودين في الغرب، في إدخال عملية نزع الاستعمار الجارية حاليًّا إلى حيز الأكاديميا صعب الوصول. هنا يكمن مربط الفرس، لأن ذلك يتعلّق مباشرةً بوجود الشعب الفلسطيني بحدّ ذاته، ورفضه القاطع لمحوه من التاريخ.

هذا التجوال بين المدن، والثقافات، والتاريخ، واللغات، والفنون، والحراكات في الشرق الأوسط، دون إحساس حيّ بالمسؤولية، يجعل من الأكاديمي المتخاذل الذي يدرس ويحلّل شؤون المنطقة أشبه بفلانور سامّ. تعزّز الفلانوريّة السامة الامتياز الموجود لدى الأكاديميين الصامتين في الغرب. يغدو الشرق الأوسط مرة أخرى مساحة غريبة ومثيرة (Exotic) مفتوحة للتحليل الأكاديمي، ويتحوّل الأكاديميّ الصامت إلى المستشرق الجديد/ القديم. نتيجة لهذه الفلانورية، يضمن المستشرق الإبقاء على العربيّ في الماضي؛ مجرّد قطعة أثرية، وليس فاعلًا في واقعه يعمل على استعادة تاريخه المسروق.

ربما يكون صمت الأكاديميين مرتبطًا بالفرص والامتيازات الأكاديمية التي قد يفقدها من يُعلن تضامنه مع الفلسطينيين. مع ذلك، وبينما يتحوّل حاليًّا مفهوم دولة الاستعمار والفصل العنصري، فإن صمت أولئك الأكاديميين والمثقفين لن يُنسى. الأساتذة والباحثون الذين ينطقون بالحق أمام من بيده السلطة لا يفعلون ذلك باندفاع طائش، بل على العكس، إنهم مدركون (وأنا من ضمنهم) لإمكانية أن يعود الإدلاء بآرائهم حول مسألة شائكة كهذه بالضرر عليهم.

حان الوقت لاعتماد ممارسات أكاديمية حيوية ومؤثرة بشكل مباشر. يجب ألا تكون دراسة فلسطين والفلسطينيين مروّضةً ومختصرة بسبب الشعور بالخوف. يجب ألا تُبعَد دراسة فلسطين والفلسطينيين إلى حيّز الماضي الممتد بلا نهاية. فلسطين والفلسطينيون ليسوا تجريدًا. إننا نعيش في الحاضر ونغيّر التاريخ، ولن يُسكتنا أحد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية