بحثًا عن السيادة: عملة «الجنوب» والتخلص من الدولرة

الأربعاء 15 شباط 2023

نشر هذا المقال بالبرتغالية بداية في صحيفة فوليا دي ساو باولو البرازيلية. 

في نماذج تسعير الأصول الرأسمالية (المتعارف عليها بالاختصار CAMP)، تُعرّف الفائدة المدفوعة على سندات الدين الصادرة عن الحكومة إمّا على أنها مخاطر سيادية أو على أنها خالية من مخاطر الائتمان، وذلك بسبب قدرة السلطة النقدية على إصدار وسائل الدفع القادرة على تسوية التزاماتها وديونها ضمن حدودها الاقتصادية.

ومع أن الدول وعملاتها تتمتع بالسيادة داخل حدودها، إلا أنّ المنطق يختلف تمامًا على الصعيد الدولي، فهناك تسلسل هرمي بين العملات الوطنية في النظام المالي العالمي، حيث يحتل الدولار الصدارة، مانحًا الولايات المتحدة الأمريكية امتياز إصدار العملة الدولية.

أعاد الصراع الأخير بين روسيا وأوكرانيا إثارة المخاوف الكامنة، والتي كانت قد هدأت مع نهاية الحرب الباردة. فالتلويح بحرب تَستخدِم القوة النووية هدّد الوجود البشري، وأخذ شبح غياب احترام السيادات الوطنية يطارد الدول التي لا تملك قوة عسكرية متكافئة مع غيرها. وعلى إثر ذلك، استخدمت الولايات المتحدة وأوروبا قوة عملتيهما لفرض عقوبات شديدة على روسيا، عبر مصادرة الاحتياطيات الدولية واستبعادها من نظام المدفوعات الدولي (سويفت). ومع استحالة مواجهة قوة نووية أُخرى عسكريًا، وجنون هذه الفكرة، سعى جو بايدن وحلفاؤه إلى استخدام قوة عملاتهم لعزل العدو وإضعافه.

ليست هذه المرة الأولى التي تُستخدم فيها السلطة بهذه الطريقة، ففي عام 1979، أدى رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة -بهدف تأكيد قوة الدولار كعملة عالمية- إلى دفع العديد من البلدان إلى الإفلاس، بما في ذلك البرازيل وعدد كبير من دول أمريكا اللاتينية. وفي أزمة عام 2008، سمحت قوة الدولار للبنك الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الأمريكي) بالحفاظ على الأسعار في السوق المالية، عن طريق تدفق السيولة والمطالبة بالأصول.

إنشاء عملة لأمريكا الجنوبية هو استراتيجية لتسريع عملية التكامل الإقليمي، عبر أداة قوية للتنسيق السياسي والاقتصادي لشعوب أمريكا الجنوبية، وهي خطوة أساسية نحو تعزيز السيادة والحكم الإقليمي، خطوة ستثبت بالتأكيد أنها حاسمة في خلق عالم جديد.

استخدام قوة العملة على المستوى الدولي، فتح باب النقاش مرة أخرى حول علاقة ذلك بالسيادة والقدرة على التحكم في تقرير مصير الشعوب، خاصة بالنسبة للبلدان التي تُعد عملاتها غير قابلة للتحويل، لعدم اعتبارها وسيلة ذات قيمة للدفع أو التخزين في السوق الدولية، وبذلك فإن من يدير هذه العملة يعتبر أكثر عُرضة للقيود التي تفرضها تقلبات السوق المالية الدولية.

كما أدت الأزمات العالمية المتتالية إلى لجوء العديد من دول أمريكا اللاتينية لصندوق النقد الدولي خلال التسعينيات لتتمكن من سداد مدفوعاتها بالعملات الدولية، وعادة ما كان دعم هذا الصندوق مشروطًا بالالتزام بالسياسات الاقتصادية «المقترحة».

ووافق صندوق النقد الدولي في 25 آذار من العام الماضي على اتفاقية جديدة مع الأرجنتين، وهي الاتفاقية الـ22 منذ عام 1956. وراهنت دول أخرى على الدولرة كوسيلة لاستقرار الاقتصاد الكلي، متخليةً عن السيادة النقدية والاستقلالية في تنفيذ سياسات الاقتصاد الكلي. أما البرازيل، فقد راكمت الاحتياطيات النقدية الدولية وعكست موقفها من مدين إلى دائن دولي صافٍ اعتبارًا من عام 2003.

عادةً ما تعمل الاحتياطيات الدولية خلال التهديدات الحربية كمدافع عن العملات المحلية، بما في ذلك القيام بتثبيط الهجمات. ولكننا كدول ناشئة أو نامية، وبدرجات متفاوتة، ما زلنا جميعًا نعاني قيودًا اقتصادية ناجمة عن الهشاشة الدولية لعملاتنا.

وبذلك فإن خلق مشروع لتقوية التكامل الإقليمي لأمريكا الجنوبية، وتنمية التجارة والاستثمار المشترك، قد يؤدي إلى تكوين كتلة اقتصادية ذات أهمية كبرى في الاقتصاد العالمي وسيمنح قدرًا أكبر من الحرية لممارسة الديمقراطية، وتحديد المصير الاقتصادي الذاتي للمشاركين في الكتلة، بالإضافة إلى توسيع نطاق السيادة النقدية.

الأمر ليس سهلًا، نظرًا إلى التباين الهيكلي العميق وتفاوت الاقتصاد الكلي لبلدان المنطقة. وقد اقتصرت محاولات تعزيز وتسريع التكامل الإقليمي حتّى اليوم على إنشاء مناطق تجارية حرة، واتفاقيات في مجالات الائتمان والبنية التحتية. ولكن وتيرة هذه العملية بطيئة، واكتوت بعدّة لحظات من التراجع.

إن بدء عملية التكامل النقدي في المنطقة قادر على إدراج ديناميكية جديدة في خطة تقوية الكتلة الاقتصادية، عن طريق منح البلدان مزايا تشغيل وإدارة مشتركة لعملة ذات سيولة أكبر، تُستخدم في العلاقات الاقتصادية التي ستحتل وزنًا أكبر في السوق العالمية عند اتحادها. فالخبرة النقدية البرازيلية، مثل النجاح في إصدار وحدة القيمة الحقيقية (URV)، جديرة بدعم نموذج لإنشاء العملة الرقمية الجديدة لأمريكا الجنوبية، التي أطلق عليها «سور» (SUR)، أي الجنوب، والقادرة على تقوية المنطقة.

حيث يقوم مصرف مركزي في أمريكا الجنوبية بإصدار العملة، مع رسملة أولية من قبل الدول الأعضاء، بما يتناسب مع مشاركة كل منها في التجارة الإقليمية، تُؤخذ من احتياطيات البلاد الدولية أو عن طريق فرض ضريبة على صادرات البلدان خارج المنطقة. ويمكن استخدام العملة الجديدة لكل من التدفقات النقدية والتجارية بين دول المنطقة. وتمنح الدول الأعضاء هبة أولية من العملة الجديدة، بموجب قواعد واضحة متفق عليها، حيث يكون لها الحرية في اعتمادها محليًا أو الاحتفاظ بعملاتها الأصلية. أما عن أسعار الصرف بين العملات الوطنية والعملة الجديدة فتكون عائمة. وتوفر المطالبات المالية، والاحتياطيات الدولية مصدرًا لمنح العملة الجديدة بشكل متكافئ. إذ من المهم خلق آلية عادلة لسد الفجوة ما بين البلدان ذات الفائض وتلك التي تعاني عجزًا، على أن تستخدم الموارد الناتجة عن هذه الآلية لرسملة صندوق مقاصة أمريكا الجنوبية، بهدف الحد من التفاوتات بين الاقتصادات وتعزيز التآزر فيما بينها. 

وتكون الدول الأعضاء قادرة على شراء الـ«سور» لتكوين احتياطاتها الدولية، دون فرض ضرائب على المبالغ المكتسبة، كما أنه من الضروري إنشاء آليات لفرض الضرائب وتثبيط الهجمات التخمينية. 

وبذلك، فإن إنشاء عملة لأمريكا الجنوبية هو استراتيجية لتسريع عملية التكامل الإقليمي، عبر أداة قوية للتنسيق السياسي والاقتصادي لشعوب أمريكا الجنوبية، وهي خطوة أساسية نحو تعزيز السيادة والحكم الإقليمي، خطوة ستثبت بالتأكيد أنها حاسمة في خلق عالم جديد.


فرناندو حداد: وزير المالية الحالي، ومرشح رئاسة الجمهورية البرازيلية في انتخابات عام 2018 عن حزب العمال، وعمدة ساو باولو من 2013 وحتى 2016.

غابرييل جاليبولو: حاصل على ماجستير في الاقتصاد السياسي من الجامعة البابوية الكاثوليكية في ساو باولو، ورئيس بنك فاتور من 2017 وحتّى 2021.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية