نهر اليرموك

عندما يكون السلام أشد وطأة من الحرب

تصميم محمد شحادة.

نهر اليرموك وتشكيل المنطقة (3)

عندما يكون السلام أشد وطأة من الحرب

الأربعاء 21 أيلول 2022

بعد سنوات على حرب 1967 وما أعقبها من مواجهات عسكرية، عادت مسألة المياه إلى رأس الأولويات بالنسبة للأردن، ولكن هذه المرة بشكل أكثر إلحاحًا عما كانت عليه في بداية الخمسينيات، عندما اقترحت أولى المشروعات المائية الكبيرة. فكل ما تمخضت عنه حرب حزيران زاد الحاجة إلى المياه؛ سواء ما أصاب البنية التحتية المائية من تدمير إسرائيلي، خاصة باستهداف قناة الغور الشرقية المسؤولة عن نقل مياه نهر اليرموك، التي تعرضت للقصف ثمان مرات على الأقل بين عامي 1968 و1970،[1] أم الزيادة السكانية الكبيرة بعد نزوح مئات آلاف الفلسطينيين للضفة الشرقية، وما تبع ذلك من توسع عمراني.

شكلت هذه الحاجة المتزايدة، بالإضافة إلى العلاقة مع الولايات المتحدة منذ أكثر من عقدين، بما شملته من تمويل مشروط للمشروعات المائية، الأرضية التي هيأت الظروف لمحادثات سرية بين الأردن و«إسرائيل» حول قضية المياه برعاية أمريكية، قادت في النهاية إلى معاهدة سلام بينهما. ورغم أن الحفاظ على حصص الأردن من المياه كان أحد المبررات التي سيقت لتوقيع المعاهدة، إلا أن تتبع استغلال مياه اليرموك يكشف أن ما حصّله الأردن منها عبر السلام كان أقل مما كان يحصل عليه قبل السلام.

العودة إلى مشروع تنمية غور الأردن

خلقت التطورات التي تلت حرب حزيران حاجة ملحة لتحقيق تنمية اقتصادية لاستيعاب ما أمكن من الأيدي العاملة المكدسة. في سبيل إيجاد حلول، وإن جزئية، بدأ الأردن عام 1973 بتنفيذ خطة تنموية في غور الأردن، بعد حصوله على مساعدات وقروض مالية من الولايات المتحدة والبنك الدولي وعدة دول عربية وأوروبية. واستمرارًا في سياسة التقارب مع الولايات المتحدة، فإن الأخيرة لعبت دورًا محوريًا في صياغة الخطة وتوجيهها والإشراف على تطبيقها. استهدف المشروع تطوير البنى التحتية للقرى الموجودة فعلًا في المنطقة، إلى جانب تشييد بنى تحتية لعدد من التجمعات السكانية الجديدة، تشمل طرقًا رئيسة وخطوط كهرباء وشبكات مياه.[2] كان محور الخطة التنموية الاستفادة من بيئة غور الأردن بالعودة إلى زراعة ما كان مزروعًا من أراضيها، والتوسع بزراعة أراضٍ جديدة. أما المصدر الرئيس الذي وجب عليه توفير المياه لكافة هذه الاحتياجات، فقد كان نهر اليرموك. ولكن إذا كانت الظروف المتغيرة قد أدت إلى مضاعفة حاجة الأردن للمياه، فهل بقيت المياه على حالها؟

لم تكن المياه بالتأكيد استثناءً في واقع متغير متحرك. يدعي أحد المسؤولين الأردنيين أن الأردن «لم ينتبه إلى حجم التغيرات في كميات المياه في نهر اليرموك إلا في منتصف السبعينيات»،[3] وعند إدراكهم أن الأرض لم تزل تدور حول محورها، كانت كميات المياه التي تجري في النهر أقل بـ45% عما كانت عليه في بداية الستينيات. ففي الفترة بين عامي 1928 و1962 كان متوسط كميات المياه يتراوح بين 450-480 مليون متر مكعب سنويًا. أما في منتصف السبعينيات، فقد انخفض ليصبح 264 مليونًا، وذلك عند قياس المياه في نقطة العدسية في كلتا الفترتين.[4]

لم تكن البنى التحتية المائية التي أنشئت إثر معاهدة السلام سوى هياكل مادية رسخت معادلة غير متساوية تجري فيها المياه نحو الطرف الأقوى اقتصاديًا وسياسيًا.

يعود سبب انخفاض كميات المياه في نهر اليرموك إلى عدة عوامل جميعها مرتبطة بـ«إسرائيل» من حيث الجوهر، ولكنها مرتبطة بأطراف أخرى كذلك. إذ كنتيجة لحرب حزيران، سُلبت سوريا منفذها على مياه نهر الأردن وبحيرة طبريا، كما سُلبت الجولان ذات البيئة الخصبة والتي تحتوي مصادر مائية وفيرة.[5] ما قادها للاتجاه نحو نهر اليرموك، مستخدمةً كميات كبيرة من مياهه ومن المياه الجوفية في باطن الأرض في سبيل تحقيق تنمية زراعية موسعة في مناطقها الجنوبية،[6] وكان لذلك أثر كبير على كميات المياه الجارية باتجاه الأردن.

أما «إسرائيل»، فلم تكتفِ بالاستحواذ على مياه نهري بانياس والحاصباني، اللذين يشكلان رافدي نهر الأردن الأعلى، ولا بسيطرتها التامة على بحيرة طبريا، ولا بما تجره مستوطنات مثلث اليرموك منذ الثلاثينيات من مياهه، بل سعت كذلك إلى الاستئثار بمياه اليرموك بكل الوسائل الممكنة. فإثر احتلالها الجولان، بنت سدودًا تمنع وصول مياه مجموعة من الوديان إلى نهر اليرموك، وحفرت عددًا من الآبار الجوفية مستنزفة المياه التي كانت ترفد النهر.[7]

علاوةً على ذلك، لم يدخر الإسرائيليون الوقت لبناء عدة مستوطنات جديدة في الجولان، مُحمَّلين بالمضخات والأنابيب وشبكات الريّ، مدركين أهمية هذه المنطقة وخصوبة أراضيها، بالاعتماد على نهر اليرموك كمصدر مائي. كما بنت «إسرائيل» عام 1974 قناة تصل بين اليرموك وبحيرة طبريا، وذلك لنقل مياهه الزائدة عن استخداماتها إلى البحيرة.[8] ويقدر ما كانت تحصل عليه من مياه اليرموك بـ70-100 مليون متر مكعب سنويًا، أي ثلاثة إلى أربعة أضعاف الكمية التي حددت لها في خطة جونستون عام 1955 بـ25 مليونًا، والتي اعتمدت كمرجع في المفاوضات بين الأردن و«إسرائيل» لاحقًا.[9] كانت مثل هذه التغييرات تعبيرًا عن جوهر الاحتلال الإسرائيلي، فالعنف العسكري لا يعدو كونه صورةً سطحية له، تقبع تحته طبقات من الاستغلال لا تقل عنفًا، وتشكل سببًا ونتيجة لهذا الاحتلال. فأصوات مضخات المياه ليست أقل رعبًا من أصوات محركات الطائرات العسكرية، وأنابيب المياه ليست أقل عنفًا من المدافع، وشبكات الريّ ليست أقل خطرًا من الألغام الأرضية، أما صناعة هذه وتلك فمرتبطتان وجوديًا.

بالتالي، التقت حاجة الأردن المتزايدة للمياه في منتصف السبعينيات بكميات مياه متناقصة في نهر اليرموك الذي كان يمثل 40% من مصادره المائية آنذاك. لذلك، حاول الأردن مجددًا الحصول على تمويل لبناء سد المقارن (الذي سيُعرف لاحقًا باسم سد الوحدة) مستفيدًا من العلاقات الجيدة مع سوريا في تلك الفترة. إلا أن الولايات المتحدة والبنك الدولي، اللذين تم التوجه لهما كممولين، اشترطا موافقة «إسرائيل» على المشروع، التي اعترضت بدورها عليه، خوفًا من أن بناء هذا السد سيقلل كميات المياه التي تحصل عليها من نهر اليرموك. بالإضافة لذلك، توصلت دراسة حول تصميم السد وجدواه، مولتها الولايات المتحدة وأجرتها إحدى شركاتها، إلى نتيجة مفادها أن السد لن يكون ذا جدوى فعلية دون وجود منشأة لتحويل مياه النهر باتجاه قناة الغور الشرقية (التي أعيدت تسميتها لاحقًا بـ«قناة الملك عبد الله»). والمقصود بهذه المنشأة هو سد العدسية التحويلي، الذي تأخر بناؤه لعقود لاعتراض «إسرائيل».[10]

«إسرائيل» تجند أكياس الرمل

إن كان هناك ما يمكن أن يقف رمزًا لشح المياه في الأردن، فهو سد العدسية. فهذه المنشأة المائية توضح كيف أن شح المياه ليس نتيجة لندرتها كمصدر طبيعي فحسب، بل هو حصيلة مجموعة من العوامل المتداخلة على رأسها النهج الاقتصادي والسياسي الذي تتبناه الدولة والذي يحكم بدوره حجم نفوذها وقدرتها على توفير التمويل اللازم لبناء المنشآت التي تتحكم بالمياه.[11]

على مستوى تقني بحت، كان ينبغي أن يبنى سد العدسية في نهاية الخمسينيات كجزء من قناة الغور الشرقية لتحويل مياه نهر اليرموك باتجاه القناة، إلا أن الأردن لم يتمكن من بنائه في تلك الفترة لاعتراض «إسرائيل»، متذرعةً بأن السد يقع في منطقة الهدنة. لكن بعدما تبين تعذر إقامة سد المقارن منتصف السبعينيات، عاد الأردن لمحاولة حل مشكلة سد العدسية، للحصول على ما يمكن الحصول عليه من مياه اليرموك. ولتحقيق هذا الهدف، لجأ الأردن لحل «بدائي» تمثل في وضع مجموعة من الأكياس الرملية في مجرى النهر، لتقوم بصد المياه وتحويل جزء منها باتجاه القناة. ظل هذا الخيار مستعملًا حتى العام 1999 عندما وافقت «إسرائيل» على بناء السد التحويلي بعد خمس سنوات من معاهدة وادي عربة.

38 عامًا فصلت بين تشكل الحاجة الملحة لسد تحويلي وبين بنائه. مرارًا، طلب الأردن وساطة الولايات المتحدة لدى «إسرائيل»، إلا أنها كانت دائمًا ترفض، ثم تشترط، ثم تماطل. لم تكن معرفة الأهداف التي تقف خلف التعنت الإسرائيلي بحاجة إلى الكثير من الذكاء السياسي، فقد كان لها مصلحتان مباشرتان: الأولى مادية، إذ إن عدم وجود منشأة لتحويل المياه يعطيها أفضلية في استغلال مياه نهر اليرموك. أما الثانية فسياسية، إذ إن أكياس الرمل التي قامت مقام السد كانت تحتاج لإعادة ترتيب دائمة لتنظيم تدفق المياه، وهو ما لم يكن يتم إلا عبر التنسيق مع «إسرائيل»، مما عنى تواصلًا مباشرًا ودائمًا بين الطرفين.[12] 

مدفوعًا بالحاجة للمياه، توجه الأردن للولايات المتحدة، طالبًا منها أن تتوسط لدى «إسرائيل» للموافقة على إعادة ترتيب الأكياس الرملية التي تحولت من وسيلة لتوجيه المياه لقناة الغور الشرقية إلى عائق يحد من كمية المياه المتدفقة باتجاهها. فبعد عدة سنوات من عدم صيانة النفق التحويلي، وبعد قصف المنطقة عدة مرات، تحولت أكياس الرمل إلى كتلة كبيرة تكدس القسم الأكبر منها على بوابة النفق.

بعد تدخل السفير الأمريكي، وافقت «إسرائيل» على أن يعيد الأردن ترتيب الأكياس الرملية، بعد حصولها على تعهدات أردنية بضمانة أمريكية بأن ذلك لن يؤثر على حصتها من المياه، وسيتم تحت إشراف مراقبين من الطرفين. وبعد إتمام تنظيف مجرى النهر وإعادة ترتيب الأكياس الرملية، ادعت «إسرائيل» أن حصتها من المياه نقصت، لتحتجّ لدى الأمريكيين مطالبةً إياهم بالتدخل لتعود حصتها لما كانت عليه. ويذكر منذر حدادين، رئيس سلطة وادي الأردن بالإنابة حينها، أن الأمريكيين توجهوا إليه لحل هذه الإشكالية، معلقًا: «لقد تباطأ الإسرائيليون في الرد على الطلب الأردني بتنظيف القناة، حيث استغرق الأمر ثلاثة أسابيع قبل انعقاد الاجتماع، لذا اعتقدت أنه لا ينبغي على الإسرائيليين أن يمانعوا في رد مماثل [من قبل الأردن]».[13]

لكن بعد تنظيف مجرى القناة بثلاثة أيام فقط، لا ثلاثة أسابيع، تجاوزت قوة عسكرية إسرائيلية خط إطلاق النار واختطفت ثلاثة جنود أردنيين وقطعت خطوط الاتصال معهم، ثم أغلقت مدخل النفق الذي يحول مياه اليرموك إلى قناة الغور. احتشد الجيش الأردني في المنطقة، ليقابل بتحشيد إسرائيلي،[14] لكن نذر الصدام تلاشت بعد تواصل الطرفين، بوساطة الولايات المتحدة ولجنة الهدنة المشتركة، حيث أعيد ترتيب أكياس الرمل بالتوافق بينهما.

لكن سرعان ما جاءت حادثة جديدة لتكشف طبقة أخرى من علاقات القوة القائمة. فالمزارعون الإسرائيليون في مثلث اليرموك، الذين كانوا يحتلون منطقة الباقورة أيضًا، لم يكونوا راضين عن الاتفاق، ورأوا أنه يضر بمصالحهم لأن كمية المياه التي يحصلون عليها أصبحت أقل مما كانت عليه، وهو ما دفعهم إلى التحرك والنزول إلى النهر، ووضع مجموعة من الصخور على مدخل قناة الغور، منعت المياه من النفاذ إليها.[15] ومجددًا، تدارك الطرفان المسألة بعد تدخل الولايات المتحدة. مهدت هاتان الحادثتان لعقد لقاءات بين مسؤولين أردنيين وإسرائيليين عام 1979، للتنسيق حول تقاسم مياه اليرموك و«التعاون» في تحويل المياه لكل جانب، وبالطبع ترتيب الأكياس الرملية. وقد حصلت هذه المحادثات، التي سمتها الصحافة الأمريكية «محادثات طاولة النزهة» (Picnic Table Talks)، في منطقة على ضفة نهر اليرموك، تقع بالقرب من الموقع الذي سيبنى فيه سد العدسية التحويلي بعدها بعشرين عامًا.[16]

على عكس ما عبر عنه المنظر العسكري البروسي كلاوزفيتز في جملته الشهيرة «الحرب استمرار للسياسة، ولكن بوسائل أخرى»، فإن رفض «إسرائيل» السماح للأردن ببناء سد العدسية يعكس أن السياسة كانت استمرارًا للحرب، ولكن بوسائل أخرى. فحين اضطر الأردن لاستخدام أكياس الرمل، أصبحت «الدبلوماسية» الحل الوحيد لترتيب وإعادة ترتيب هذه الأكياس. هنا، يتضح أن هذه الدبلوماسية لم تكن حلًا للصراع أو تحييدًا له، بل جاءت لتثبيت نتائجه، التي استمرت تحت مسميات سياسية. بحيث أصبح الأعداء «أطرافًا»، وأصبحت مكامن الصراع وأساليب الهيمنة عبارة عن ملاحق للاتفاقيات، أما تنفيذ ما اتفق عليه فيها، فهو خاضع لإرادة الطرف المهيمن.

ورغم أن ضرورة الاتفاق على ترتيبات لتقاسم مياه نهر اليرموك كانت السبب المباشر والواضح لبدء المحادثات المباشرة حول المياه، إلا أن أنها لم تكن العلة الحقيقية التي تقف خلف هذا المسار الذي اتخذه المسؤولون الأردنيون منذ العام 1979. فالعلة حصيلة عقود من التحضير البنيوي لمؤسسات الدولة وموظفيها لتصبح جاهزة للانخراط في محادثات مباشرة، وصولًا لتوقيع معاهدة وادي عربة.

بنى السلام التحتية: كيف تجعل من عدم المساواة معاهدة

استمرت المحادثات السرية حول مياه اليرموك عدة سنوات، ورغم استخدام «لجنة الهدنة المشتركة» كمظلة لعقد هذه المحادثات، إلا أن الوسيط والراعي الفعلي كان الولايات المتحدة، التي حرصت على استمرارها. تعددت مواضيع هذه المحادثات، فتارة يجتمع الطرفان لنقاش كميات المياه المخصصة لكل طرف، وتارة يكون الموضوع تنظيف مجرى النهر، أو يجتمع الطرفان للتأكيد على ما تم التأكيد عليه. المهم كان استمرار هذه اللقاءات، ونتيجتها دليل على ذلك. فبعد 12 عامًا على بدئها، أصبحت هذه المحادثات السرية علنية مع تشكيل «لجنة المياه» خلال «مفاوضات السلام»، التي استمرت ثلاث سنوات وانتهت بتوقيع الطرفين لمعاهدة وادي عربة عام 1994.

ضم ملحق المياه عدة بنود حول نهر اليرموك، ليس لكونه مصدرًا مائيًا مشتركًا فحسب، بل أيضًا لأنه أصبح محطًا لعملية تبادل للمياه ولمشاريع مشتركة. ورغم أن بعض بنود الملحق يشوبها الكثير من الغموض، إلا أن المسؤولين الأردنيين سوّقوا معاهدة وادي عربة بأنها جاءت للحفاظ على المياه الأردنية. لكن الواقع والبنى التحتية والأرقام حول كميات المياه، جميعها تثبت بطلان هذه الحجة، على الأقل بالنسبة لنهر اليرموك.

بُني سد العدسية، المنشأة الجوهرية في حصول الأردن على مياه اليرموك، بعد 20 عامًا على بدء المحادثات السرية بشأن النهر. لكن معاينته تظهر كيف استطاعت «إسرائيل» أن تثبت عبر المعاهدة الواقع الذي فرضته بالسلاح. فتصميم السد يسمح بتجاوز كميات كبيرة من المياه من فوقه في أشهر الشتاء، هذا إلى جانب احتوائه على بوابات لإسالة المياه باتجاه المضخات الإسرائيلية. لذا لم يكن مفاجئًا أن الإسرائيليين نالوا ما أرادوه، إذ اعتبروا أن ما نصت عليه خطة جونستون، أي الـ25 مليون متر مكعب سنويًا، هي حصتهم في أشهر الصيف، أما في أشهر الشتاء فإن لهم الحق في استخدام المياه التي تجري بعد نقطة سد العدسية.[17] ورغم أن بنود ملحق المياه أعطت الجانبين حق استعمال المياه التي تفيض عن نقطة العدسية، يتضح أن «إسرائيل» هي الطرف الوحيد الذي قام بتشييد بنية تحتية لاستعمال هذه المياه.

بحسب سلطة وادي الأردن، فإن كمية المياه التي تحصل عليها «إسرائيل» عبر بوابات سد العدسية هي قرابة 37 مليون متر مكعب سنويًا، أي أكثر بـ50% من الحصة المحددة لها في خطة جونستون.[18] أما في أشهر الشتاء، فإن تصميم السد التحويلي يسمح بفيضان كميات كبيرة من المياه من فوقه، تقدر بـ32 مليون متر مكعب سنويًا. لا تظهر البيانات الإسرائيلية استخدام هذه المياه أو كمياتها، إلا أن «إسرائيل» أنشأت بحيرة صناعية لجمع مياه اليرموك الفائضة تسميها «خزان يرموكيم»،[19] تتصل بها أربع مضخات قادرة على ضخ 140 مليون متر مكعب سنويًا.[20] في مقابل ذلك، فإن الأردن ولسبب غير مفهوم لا يمتلك أي منشأة أو معدات لاستخدام المياه التي تفيض عن السد التحويلي في أشهر الشتاء.

صورة جوية للسد عام 1999.

لذا، كانت محصلة المحادثات والدبلوماسية والسلام بالنسبة للأردن هي كميات مياه أقل من تلك التي كان يحصل عليها في سنوات الحرب عندما لم تكن البنى التحتية المائية الجديدة موجودة. فبحسب الأرقام المتاحة، كان الأردن يحصل بالمعدل على 125 مليون متر مكعب سنويًا من مياه اليرموك بين عامي 1961 و1999.[21] لكن هذا المعدل انخفض إلى 71.5 مليونًا ما بين عامي 1999 و2018، أي بعد بناء سد العدسية التحويلي. كما أن كمية المياه هذه تشمل ما معدله 25 مليون متر مكعب سنويًا من مياه آبار المخيبة التي حُفرت على الضفة الأردنية من نهر اليرموك في بداية الثمانينيات،[22] مما يعني أن كمية المياه التي يحصل عليها الأردن فعليًا من نهر اليرموك لا تتجاوز 47 مليون متر مكعب سنويًا.

أما آبار المخيبة، فستظل تشكل «لغزًا» بسبب المآل الذي آلت إليه. فبعد دراسة هيدرولوجية أظهرت وجود كميات واعدة من المياه الجوفية في قرية المخيبة الفوقا (الحمة الأردنية)، قرر الأردن حفر ثلاثة آبار على أطراف اليرموك، أملًا في حل مشكلة توفير المياه لمحافظة إربد. لكن بفعل قوة الضغط، تفجرت المياه من باطن الأرض وسالت باتجاه النهر ورفعت منسوبه، مما دفع الحكومة للمسارعة ببناء قناة مائية خرسانية بطول 12 كم، لإيصال مياه الآبار مباشرة إلى قناة الملك عبد الله، منعًا لـ«إسرائيل» من تقاسمها.[23]

رأى المزارعون في القناة الجديدة، التي سميت قناة المخيبة، فرصة للاتجاه نحو مزروعات تدر دخلًا أكبر وتستهلك مياه أكثر، مثل أشجار الحمضيات والجوافة بدلًا من الخضروات والمزروعات الحقلية.[24] لكن في الوقت الذي كان استثمارهم على وشك أن يؤتي أكله بعد سنوات، وُقعت معاهدة وادي عربة، لتقرر سلطة وادي الأردن تحويل مياه آبار المخيبة بعيدًا عن القناة الجديدة وتجعلها تسيل باتجاه النهر، بلا تفسير أو تعليل، رغم أن ملحق المعاهدة الخاص بالمياه لا ينص على ذلك. لتصبح مياه الآبار بذلك مهدرة في النهر وفي متناول «إسرائيل». أما قناة المخيبة، فهي اليوم عبارة عن كتلة أسمنتية تشق مجموعة من الأراضي الزراعية، تحتوي بدل الماء القمامة والمهملات وبقايا المزروعات، وكأنها شاهد آخر على مآل السياسة المائية الأردنية.

أخيرًا، لم تقتصر تأثيرات معاهدة وادي عربة على مياه اليرموك فقط، بل طالت ضفافه. فمنذ نهاية الثمانينيات، تحول نهر اليرموك ورقعة متسعة من الأراضي المحيطة به إلى منطقة عسكرية مغلقة. ليصبح مرور المزارعين إلى أراضيهم المحاذية للنهر غير ممكن إلا بعد الحصول على تصريح من الجيش، يقتصر على الذكور منهم. كما أن المنطقة باتت مكتظة بأبراج المراقبة العسكرية التي تنتصب عليها مختلف أنواع الأجهزة والمعدات الموجودة لمراقبة ورصد كل التحركات التي تجري في المنطقة.[25] ليصبح النهر مراقبًا ومقيدًا ومعسكرًا على نحو لم يكن عليه طوال سنوات الصراع مع «إسرائيل»، حتى في السنوات التي كان فيها نقطة للاشتباك.

بالنتيجة، لم تكن البنى التحتية المائية التي أنشئت إثر معاهدة السلام سوى هياكل مادية رسخت معادلة غير متساوية تجري فيها المياه نحو الطرف الأقوى اقتصاديًا وسياسيًا. فعلى مدى عقود، ورغم العلاقة الوطيدة مع الولايات المتحدة، أعاقت «إسرائيل» إنشاء بنى تضمن أكبر استفادة ممكنة للأردن من مياه اليرموك، الذي أصبح أهم مورد مائي له بعد سيطرة «إسرائيل» على مياه نهر الأردن. وفي حين جعلت الولايات المتحدة قضية المياه مدخلًا للمفاوضات، قاد في النهاية إلى علاقة مباشرة بين الأردن و«إسرائيل»، إلا أن هذه العلاقة لم تعمل إلا على تعميق التفاوت في القدرة والنفوذ بين الطرفين.

  • الهوامش

    [1] Sosland, Jeffrey K., Cooperating Rivals: The riparian politics of the Jordan River Basin, (Albany: State University of New York Press, 2007) P.98

    [2] Haddadin, Munther J. Diplomacy on the Jordan: International conflict and negotiated resolution, (New York: Springer Science+Business Media, 2002) P.214

    [3] Sosland, Cooperating Rivals: The riparian politics of the Jordan River Basin, P. 101

    [4] UEA (2019). Hydropolitical Baseline of the Yarmouk Tributary of the Jordan River. P. 22

    [5] UN-ESCWA and BGR (United Nations Economic and Social Commission for Western Asia; Bundesanstalt für Geowissenschaften und Rohstoffe). 2013. Inventory of Shared Water Resources in Western Asia. Beirut. P. 196

    [6] بطاطو، حنا (2014). فلاحو سورية «أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم»، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات). ص161

    [7] Haddadin, Diplomacy on the Jordan: International conflict and negotiated resolution, P.219

    [8] Sosland, Cooperating Rivals: The riparian politics of the Jordan River Basin, P. 101

    [9] Aaron T. Wolf and Joshua T. Newton, Case Study of Transboundary Dispute Resolution: the Jordan River Johnston Negotiations 1953-1955; Yarmuk Mediations 1980s, P. 6  

    [10] Haddadin, Diplomacy on the Jordan: International conflict and negotiated resolution, P. 224

    [11] Swyngedouw, E., The Political Economy and Political Ecology of the Hydro-Social Cycle. Journal of Contemporary Water Research & Education, 142, (2009) P. 56-60

    [12] Haddadin, Diplomacy on the Jordan: International conflict and negotiated resolution, P.225-226

    [13] Ibid. P. 245

    [14] Ibid. P. 248

    [15] Sosland, Cooperating Rivals: The riparian politics of the Jordan River Basin, P. 116

    [16] Haddadin, Diplomacy on the Jordan: International conflict and negotiated resolution, P. 259

    تمت تلك اللقاءات تحت مظلة «لجنة الهدنة المشتركة» (Mixed Armistice Commission)، وبالتأكيد تحت الرعاية المستمرة من قبل الولايات المتحدة. أما مسمى «محادثات طاولة النزهة» (Picnic Table Talks)، فيبدو أنه جاء لأن المكان الذي عقدت به المحادثات كان أشبه بمكان للتنزه، فكما وصفها مسؤول أردني شارك فيها: «تواجد الأشجار الطويلة على الضفة الأردنية وفر ظلًا لطيفًا مناسبًا لعقد الاجتماعات. وكانت تحتوي على لوح أسمنتي مسبق الصنع، تم جلبه من إحدى قرى وادي الأردن الأوسط. وقد قام هذا اللوح الاسمنتي بمهمة طاولة اجتماعات».

    [17] UEA (2019). QUALITATIVE ANNEX A for Hydropolitical Baseline of the Yarmouk Tributary of the Jordan River. P. A10

    [18] Zeitoun, et al., The Yarmouk tributary to the Jordan River I: Agreements impeding equitable transboundary water arrangements,

    [19] Yarmoukim Reservoir.

    [20] Ibid.

    [21] Courcier, R.; Venot, J.-P.; Molle, F. 2005. Historical transformations of the lower Jordan river basin (in Jordan): Changes in water use and projections (1950-2025). Colombo, Sri Lanka: International Water Management Institute. 91p. (Comprehensive Assessment of Water Management in Agriculture Research Report 9). P. 162

    [22] Zeitoun, et al., The Yarmouk tributary to the Jordan River I: Agreements impeding equitable transboundary water arrangements,

    [23] حدادين، منذر. سلام على اليرموك: المواجهات والمفاوضات 1967-2000. ص80، ص83.

    [25] للمزيد حول التقييدات المفروضة على المزارعين، يرجى العودة إلى الدراسة الإثنوغرافية التي وثقت شهادات مجموعة من سكان المنطقة، ومجموعة من المزارعين.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية