فناء صغير وأسوار عالية: من يخنق الصين؟

الأربعاء 21 كانون الأول 2022
صناعة الشرائح في الصين
مصدر الصورة: موقع شترستوك

في خطابه حول استراتيجية الأمن القومي للتكنولوجيات المتقدمة والمنافسة مع الصين، صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان بأن السبب وراء اتخاذ بلاده مجموعة من الإجراءات والقوانين المرتبطة بصناعة الشرائح، أو أشباه الموصلات، التي تدخل في عدد كبير من الصناعات المختلفة ويمكن اعتبارها اللبنة الأساسية لكل التكنولوجيات المتقدمة، هو إنشاء «فناء صغير وأسوار عالية» لـ«حماية التقنيات الحيوية».

رغم تراجع حصتها من تصنيع الشرائح على مدار العقود الثلاثة الماضية، ما زالت الولايات المتحدة تتحكم ببعض مفاصل السلسلة الطويلة التي تحكم صناعة الشرائح العالمية. لكن طول وتعقيد هذه السلسلة يصعّب المساعي الأمريكية لـ«تسييجها» في فناء صغير، ففي كل مرحلة من هذه السلسلة تدخل عدة شركات من مجموعة دول بشكل يجعل الصورة أكثر تعقيدًا مما تبدو. إذ اتجهت الصناعة في السنوات الماضية أكثر فأكثر نحو التخصص الدقيق الاحتكاري أو شبه الاحتكاري، بدلًا من الإنتاج المتكامل من الألف إلى الياء في شركة واحدة، مما خلق اعتمادية عالية في القطاع تصعّب على أي شركة أن تنتج الشرائح الدقيقة بمفردها.

هناك ثلاث مراحل أساسية لصناعة الشرائح: أولًا، التصميم. هنا، تستخدم شركة لتصميم الشرائح برمجيات متقدمة لوضع خطة أو رسم يرسل بعدها لشركة أخرى للتنفيذ. تتصدر الولايات المتحدة هذا المجال، فمن بين أول 10 شركات تصميم شرائح من حيث الأرباح، هناك ست شركات أمريكية،[1] وشركتان من تايوان.[2] كما هناك عدة شركات صينية في هذا المجال، أهمها «هاي سيليكون» المملوكة لهواوي، لكن كل هذه الشركات تعتمد على برمجيات تنتجها  شركات أخرى، وتحتكر الولايات المتحدة هذا المجال تقريبًا، وتشكل من خلاله نقطة خنق أساسية في السلسلة.[3]

المرحلة الثانية هي التصنيع، حيث تنتقل التصاميم إلى الشركة المصنّعة. هنا، يوجد عدد كبير من الشركات المتفاوتة في مستوى دقة الشرائح التي تنتجها، وكلما كانت الشرائح أدق وأصغر يقل عدد الشركات القادرة على إنتاجها. شركة TSMC التايوانية هي أكبر شركة تصنيع في العالم، إذ تحتل أكثر من نصف السوق، تليها سامسونغ الكورية. وهناك عدة شركات صينية في هذا المجال، أكبرها SMIC [4] لكن معظم الشركات الصينية لم تتمكن بعد من إنتاج شرائح متقدمة.

تعتمد شركات التصنيع بدورها على قطاعين: أولًا، المواد المستخدمة في التصنيع، وعلى رأسها رقائق السيليكون الأولية، ومواد المعالجة ومقاومات الضوء. هنا، تمتلك اليابان أفضلية كبيرة، فمن بين أهم 20 من هذه المدخلات، تمتلك اليابان الحصة الأكبر في إنتاج 14 منها. ثانيًا، هناك شركات تصنيع آلات إنتاج أو طباعة الشرائح، التي تسمى آلات الطباعة الحجرية أو الليثوغرافية. الشركة الأكبر في هذا المجال هي ASML الهولندية، وتمتلك شبه احتكار في صناعة الآلات المتقدمة (EUV)، فهي الشركة الوحيدة في العالم لصناعة آلات إنتاج الشرائح بحجم 5 نانومتر فما دون (لكن يذكر أن هواوي حصلت مؤخرًا على براءة اختراع لآلة EUV خاصة بها، يمكن أن تستخدم لصناعة شرائحة بحجم 7 نانومتر أو أقل).

أما المرحلة الثالثة فهي التغليف والاختبار، حيث ترسل الشركات المصنعة الشرائح لشركات أخرى، للتجهيز النهائي والاختبار وتغليفها للتصدير. في هذا المجال، تتقدم الشركات التايوانية بـ44% من السوق، تليها الصين بـ20% ثم الولايات المتحدة بـ15%. تزداد الصورة تعقيدًا حين نرى أن الشركات المعنية في كل مرحلة تعتمد على كم كبير من المدخلات الخام والمصنعة التي لا يملك أي بلد تقريبًا اكتفاءً منها. فرغم أن اليابان تمتلك الحصة الأكبر من إنتاج الرقائق الأولية، فهي تعتمد بطبيعة الحال على السيليكون الخام الذي تحتل الصين الحصة الأكبر من إنتاجه واحتياطياته بـ68%. وبينما تحتكر شركة ASML الهولندية صناعة آلات تصنيع الشرائح المتقدمة، هناك 80 ألف مكون يدخل في صناعة آلاتها، لا تنتج هولندا سوى 8% منها.

منذ عام 2018، بذلت الولايات المتحدة كل ما في وسعها «لإيقاف» صناعة أشباه الموصلات الصينية، حيث حدت الإجراءات الأمريكية من تدفق الشرائح المتقدمة والتقنيات الخاصة بها إلى الصين. أدرجت الولايات المتحدة في «قائمة سوداء» قرابة 600 شركة صينية ومنعتها من استيراد البضائع والمواد الأمريكية دون ترخيص. وفرضت حظرًا موسعًا على هواوي منعتها بموجبه من شراء أي عناصر أمريكية أو غير أمريكية تم تصنيعها باستخدام المواد والتكنولوجيا الأمريكية من أي مكان في العالم. في تشرين الأول الماضي، وفي خطوة وصفت بأنها الأكثر عدوانية منذ نهاية الحرب الباردة، ووصفتها وزيرة خارجية سنغافورة بما يقارب «إعلان حرب تكنولوجية»، قررت الولايات المتحدة التعامل مع الصين ككل، بالطريقة التي تعاملت بها مع هواوي. كانت الخطوة امتدادًا لمحاولة الولايات المتحدة تشكيل تحالف استراتيجي للشرائح مع اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، إضافة إلى توفير 52 مليار دولار من الإعانات لمصنعي أشباه الموصلات لإعادة التصنيع للولايات المتحدة وزيادة تحكمها المباشر بأجزاء من السلسلة، وتقليل الاعتماد على «حلفائها» الذين تعتقد أن قدرتهم على المشاركة في تطويق الصين تضعف مع الوقت. يجب النظر إلى هذه الإجراءات كحزمة واحدة لفهم مساعي الولايات المتحدة لإعاقة تطور الصين الاقتصادي واستهداف نظامها الصناعي.

كي تبقى الصين في «مكانها المناسب»

من دون أي ذرائع كتلك التي اعتدنا على سماعها في حملاتها السابقة على الصين، مثل «إبادة» الإيغور أو «حقوق الإنسان»، يتحدث المسؤولون الأمريكيون بصراحة عن أن الهدف من الحظر الأخير هو إبطاء أو إعاقة تقدم الصين التكنولوجي والصناعي ومحاصرته بشكل يمنع تطور الصين أكثر ويخدم مصالح الولايات المتحدة. وعلى سبيل «طمأنة» الشعب الصيني، قالت وزيرة الخزانة جانيت إل يلين إن الحظر «ليس محاولة لشل الاقتصاد الصيني تمامًا»، وإن الصينيين بإمكانهم صنع شرائح منخفضة المستوى لأشياء مثل الغسالات أو الوسائد الهوائية للسيارات أو ما شابه، كما صرح وكيل وزارة التجارة الأمريكية آلان إستيفيز، بنفس إمبريالي مثير للاشمئزاز.

في جوهرها، تهدف «معركة الشرائح» لإرغام الصين على الرضوخ للتقسيم الدولي للعمل، بحيث تكون الصين مصنعًا ضخمًا للسلع الرخيصة التي تدعم استهلاك الأمريكيين وترفع هامش ربح شركاتهم. لكن، هل تستطيع الولايات المتحدة أن تضع سقفًا لتطور الصين وتنميتها بحبسها في أسفل ووسط السلسلة الصناعية؟ وما الذي يستدعي حالة الهستيريا الأمريكية هذه؟

هناك العديد من الفوارق بين الصين وغيرها من الدول الصناعية من ناحية القدرة على التحكم بواقعها الصناعي. فالصين، كما يشرح سمير أمين، ليست دولة صناعات متعاقدة من الباطن مع السوق الاقتصادي العالمي أو رأس المال الاحتكاري الذي يدير هذا السوق ويشكله، مثل إندونيسيا وتركيا وغيرهما من الدول التي تملك صناعات دون مشروع صناعي. ففي حالة تركيا مثلًا، يقول أمين إنها وإن كانت تمتلك العديد من الصناعات، فجميعها متعاقدة من الباطن بحكم الواقع مع ألمانيا. بالمقابل، يعتقد أمين أن الصين قدمت نموذجًا مختلفًا، فهي سعت منذ البداية لبناء نظام صناعي حديث ومتكامل، وما يميز هذا النظام هو أنه مخطط، ليس بأوامر من فوق، كما يروج البعض، بل بسياسة صناعية تقوم في أحد جوانبها على توطين التقنيات الرائدة في الصين والتطوير عليها. وهذا ما يميزها أيضًا عن بلدان أخرى مثل الهند، التي يمكن القول إنها تمتلك نظامًا صناعيًا كذلك، لكن من دون سياسة صناعية تديره وتوجهه بشكل منهجي. بالتالي، لا يعزو أمين نجاح الصين صناعيًا وتنمويًا إلى مجرد انتقالها للعولمة، بل إلى تحكمها في عملية الانتقال، وهو أمر مختلف كليًا، بحسبه، عن مجرد التكيف مع العولمة كما في حالة الهند.

تهدف «معركة الشرائح» لإرغام الصين على الرضوخ للتقسيم الدولي للعمل، بحيث تكون الصين مصنعًا ضخمًا للسلع الرخيصة التي تدعم استهلاك الأمريكيين وترفع هامش ربح شركاتهم.

كان جذب الاستثمار الأجنبي أحد الخيارات المحدودة المتاحة أمام الصين للحصول على التكنولوجيا وتوطينها والتطوير عليها. لكن الاستفادة من الاستثمار الأجنبي ليست عملية تلقائية يحركها السوق، فالسوق وحده لم يحوّل الهند إلى مصنع العالم. كان للصين ميزة أساسية هي ما ورثته من المرحلة الماوية من بنية تحتية ومؤسسية، وطبقة عاملة ماهرة ومتعلمة قادرة على زيادة إمكانات الاستيعاب المحلي للتكنولوجيا، إضافة إلى سياسة صناعية تقوم على المشاريع المشتركة الإلزامية بين القطاع الأجنبي والقطاع المحلي الخاص أو المملوك للدولة، واتفاقيات نقل التكنولوجيا وتوطينها وتطويرها محليًا. هذا فضلًا عن الحفاظ على أجزاء كبيرة من أرباح التصنيع في الداخل، والقدرة على خلق الأموال عن طريق البنوك العامة لتمويل تكوين رأس المال المحلي، بدلًا من السماح للبنوك وشركات السمسرة الأمريكية بتقديم تمويلها وسحب الفائض في شكل فوائد وأرباح. كل هذا أدى إلى نجاح الصين في تحويل قدراتها التكنولوجية والصناعية، والمضي في واحدة من أكثر عمليات التنمية والتحديث فرادةً في العالم. لا يحتاج المرء سوى للقليل من الإحساس بالتاريخ كي يدرك أنه لم يتم تحديث أي دولة كبيرة أخرى إلى هذا المستوى دون استعباد وغزو ونهب البلدان الأخرى.

اليوم، تستحوذ الصين على 29% من الإنتاج الصناعي العالمي، أي ما يعادل حصة الولايات المتحدة واليابان وألمانيا مجتمعين. وتحتل الصين المرتبة الأولى من حيث حصة الإنتاج العالمي في 16 من أصل 22 فئة تصنيعية بحسب تصنيف الأمم المتحدة، والمرتبة الثانية في الفئات الست الأخرى. باختصار، لقد قايض الشعب الصيني جهد وعرق أكثر من مليار شخص بالتكنولوجيا الغربية التي تم توطينها ودمجها محليًا والتطوير عليها بقوة الدولة ومشروعها السيادي. وعلى عكس اليابان وكوريا الجنوبية، اللتين استفادتا من «الجغرافيا السياسية المناهضة للشيوعية» وكانت الولايات المتحدة قوة تحديث أساسية فيهما مقابل أن يكونا جسرًا لها نحو شرق آسيا، امتلكت الصين مصيرها وغدت قوة اقتصادية كبرى تقوم على سلسلة صناعية شبه متكاملة، وتعمل بجد للوصول للمستويات العليا من عمليات التصنيع. بالنظر لطبيعة وحجم الاقتصاد الصيني، فإن هذا المسار يشكل تهديدًا أساسيًا لهيمنة الولايات المتحدة، فالصين كما يقول مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان هي «المنافس الوحيد الذي لديه النية والقدرة على إعادة تشكيل النظام الدولي». ومن أجل قطع الطريق عليها، تعمل الولايات المتحدة كل ما بوسعها لتطويق سلسلة الشرائح العالمية، ومنع الصين من إمكانيات تطويرها. لكن، لإنجاز مهمة بهذا الحجم، تحتاج الولايات المتحدة إلى التأكد من أن جميع «حلفائها» يجدفون في نفس الاتجاه، حتى لو كان اتجاهًا معاكسًا لمصالحهم.

الولايات المتحدة تعتاش على حلفائها

لا ينبغي النظر إلى سلسلة أشباه الموصلات العابرة للقارات من زاوية السوق وقواه «الذاتية»، فالتقسيم العالمي للعمل والصناعة كان دومًا في جوهره سياسيًا لخدمة أهداف القوى الغربية المهيمنة، ولتكريس قواعد رأس المال التي صيغت من قبلهم على مدى مئات السنين. فقد تمكنت اليابان وكوريا الجنوبية من تحقيق انطلاقة اقتصادية وإنشاء مراكز صناعية عبر تبنيهما لما تسميه الباحثة الصينية لين تشون نموذج «التنمية التابعة» للأهداف الاقتصادية والجيوسياسية للولايات المتحدة. لكن مشكلة هذا النموذج، تقول تشون، أن له سقفًا، وقد يتم إغلاقه من قبل الإمبراطورية الأمريكية في أي وقت. فالولايات المتحدة لا تتحكم بسلسلة الصناعة لأنها «الرائدة» في المجال، بل لأنها رسمت الخطوط الأساسية لسلسلة توريد وإنتاج وتصنيع القطاع بشكله الحالي في مجموعة من الدول «الحليفة» وأبقت شريان حياة كل منها بيدها. وأفضل مثال على ذلك هو انهيار صناعة أشباه الموصلات في اليابان خلال الثمانينيات.

في منتصف السبعينيات، وبعد عقدين من توفير الشرائح الأمريكية لليابان ونقل جزء من تقنيات صناعتها، بدأت الولايات المتحدة تنزعج من اختلال الميزان التجاري مع اليابان. فقد بلغت صناعات الشرائح اليابانية حينها مستوى متقدمًا، بفضل انخفاض الكلف، ورفع كفاءة استخدام الشرائح الأولية، وأتمتة عمليات الإنتاج، إلى حد باتت فيه شركات يابانية كبرى مثل توشيبا وهيتاتشي تتفوق على عمالقة أشباه الموصلات الأمريكية مثل إنتل وفيرتشايلد. في ذلك الوقت، لم تكن اليابان تصنع آلات الطباعة الحجرية الخاصة بها فحسب، بل احتلت الصدارة أيضًا في عدة مجالات رئيسية في الصناعة.[5]

لا تتحكم الولايات المتحدة بسلسلة صناعة الشرائح لأنها «الرائدة» في المجال، بل لأنها رسمت الخطوط الأساسية لسلسلة توريد وإنتاج وتصنيع القطاع بشكله الحالي في مجموعة من الدول «الحليفة» وأبقت شريان حياة كل منها بيدها

انقضّت الولايات المتحدة على الصناعة التي رعت بدايتها، مستخدمة ذرائع عديدة، مثل بيع توشيبا الاتحادَ السوفييتي تقنياتٍ استخدمت في صناعة الغواصات، و«سرقة» هيتاتشي لتقنيات أنتجتها IBM. فرضت الولايات المتحدة على اليابان اتفاقيات مذلة[6] ورفعت الرسوم الجمركية بنسبة 100% على شركات أشباه الموصلات اليابانية، والأهم من كل هذا، استدارت ودعمت خصومها. حين ولدت ASML الهولندية المنتجة لآلات الطباعة الحجرية عام 1984، قدمت الولايات المتحدة لها كل العون، كما دعمت نقل عمليات تصنيع الشرائح لكوريا الجنوبية وتايوان، ووقفت تراقب التنافس بينهما. في غضون سنوات قليلة، تناقصت حصة اليابان العالمية في صناعة الشرائح، ورغم أنها اليوم لا تزال لاعبًا مهمًا، إلا أن حصتها لا تتجاوز 6%.

ترسم الولايات المتحدة سلسلة تصنيع الشرائح وتعيد رسمها لإبقاء الصناعة واللاعبين فيها تحت السيطرة، والاحتفاظ بالطريق الأقصر لنفسها. فمن خلال تجزئة الصناعة على سلسلة طويلة منتشرة جغرافيًا والتحكم بها واحتكار الأجزاء الأكثر قيمة فيها، وفرت الولايات المتحدة على نفسها الكثير من الاستثمار، وتجنبت الكثير من المخاطر التي تفرضها طبيعة صناعة الشرائح نفسها، تحديدًا في بلد تم تجويف التصنيع فيه لصالح أمولة الاقتصاد. فعمليات صناعة الشرائح تتطلب من الدولة قدرًا هائلًا من الإنفاق الرأسمالي المتزايد مع الوقت، إذ تعتمد على التحسين المستمر لـ«الأداء»، كأنها إبحار ضد التيار؛ إذا لم تتقدم ستتراجع، مما يجعلها «بالوعة» لا نهائية للموارد والأموال.[7]

اليوم، تحضّر الولايات المتحدة حلفاءها لترتيبات جديدة، تعيد عبرها رسم خطوط السلسلة من جديد، وقد لا تملك الشركات الهولندية والتايوانية والكورية سوى الامتثال لهذه الترتيبات لتجنب مصير الشركات اليابانية في ثمانينيات القرن الماضي. فرغم أن الامتثال يعني خسارة مصالح كبرى لهذه الشركات في الصين، إلا أن الامتناع قد يعني حصارًا مطبقًا يجعل الاستمرار في العمل مستحيلًا.

في حالة ASML الهولندية، كان حظر بيع آلات صناعة الشرائح المتقدمة (EUV) للصين بموجب العقوبات الأمريكية أمرًا واقعًا، نظرًا لاحتوائها على قطع أمريكية الصنع. لكن الولايات المتحدة ضغطت كذلك باتجاه منع بيع الآلات الأقل تطورًا (DUV)، وهو ما وصفه مطلعون على المحادثات بين الطرفين بـ«التنمر». وبالطريقة نفسها، تحثّ الولايات المتحدة بلا خجل كوريا الجنوبية يوميًا للتخلي عن الصين، التي تعد أكبر سوق لأشباه الموصلات في العالم، وهو ما يعتبر انتحارًا لكبرى الشركات الكورية التي تصنع قسمًا كبيرًا من منتجاتها في الصين، فمصنع واحد في شيان الصينية ينتج 40% من شرائح الذاكرة الوميضية (NAND) التي تستخدمها سامسونج في منتجاتها، بينما ينتج مصنع آخر في يوشي نصف شرائح الذاكرة العشوائية الديناميكية (DRAM) التي تستخدمها شركة إس كي هاينكس الكورية.

لكن المثال الأوضح لتناقض الامتثال للولايات المتحدة مع مصالح حلفائها هو شركة TSMC التايوانية، التي بدأت تحت الضغط بنقل جزء من إنتاجها المتقدم إلى الولايات المتحدة بكلف أعلى بـ50% من التصنيع المحلي، وهو ما قد يفقد تايوان ميزة اقتصادية واستراتيجية هامة. أثيرت ضجة كبيرة في تايوان عقب أنباء عن نية TSMC إنتاج شرائح ثلاثة نانومترات متقدمة في الولايات المتحدة، فرغم أن الشركة باتت ترسل مهندسيها للعمل برواتب أقل ولساعات عمل أطول من نظرائهم الأمريكيين، وتدرب الشركة في تايوان المهندسين الأمريكيين الذين يسميهم نظراؤهم التايوانيون «الأطفال الكبار» لما يحصلون عليه من امتيازات، لسد نقص الكفاءات في السوق الأمريكي، إلا أن مؤسس الشركة موريس تشانغ اعتبر نقل بعض عمليات التصنيع المتقدمة خطوة «مهمة جدًا للولايات المتحدة»، معترفًا أنها جاءت «بإلحاح» منها. بعد عقود من الافتخار بالشركة التي اعتبرت «درع السيليكون» الذي يحمي تايوان، بات كثيرون في الجزيرة يشعرون أن المصلحة الأمريكية تأتي أولًا.

ليس من أجل الصين وحدها

في العام نفسه الذي صدر فيه البيان الشيوعي، علق ماركس بأنه لا عجب في أن من لا يفهم كيف يمكن لأمة أن تثرى على حساب أخرى لن يفهم كيف يمكن لطبقة أن تثرى على حساب أخرى في البلد نفسه. عند الحديث عن الصين، يهوى العديد من اليساريين القفز عن مسألة التقسيم الدولي للعمل، المنظم وفقًا للتسلسل الهرمي الطبقي العالمي، والاكتفاء بتحليلات، عادة ما تكون مختزلة، حول الصراع الاجتماعي داخل الصين، دون أي ربط بينهما. ففي حالة الصين وغيرها من الدول، استبدل اليسار التحليل الماركسي بخطابات تحرر شعبوية تختزل الصراع باعتباره قائمًا بين فقراء العالم وأقلية من الرأسماليين، أو بين «الشعب» و«السلطة». لتصبح الصين في هذا التحليل جحيمًا للطبقة العاملة بسبب تزايد فجوة اللامساواة، دون أن يتساءل أحد عن السبب في أنه رغم تزايد اللامساواة، لم يتزايد الفقر، بل تراجع بشكل لا مثيل له في تاريخ الصين منذ 200 سنة، منذ أن غزتها الدول الغربية وفرضت عليها تقسيمًا عالميًا للعمل أشبه بعلاقة العبيد بالأسياد.

ومع اختزال الماركسية لنموذج اقتصادي، تسيطر قراءات العلاقات الدولية والتحليلات الجيوسياسية المتأثرة بمصارعة الثيران على المشهد الدولي بقوة. لكن هذا لا يمنع الكثيرين من إدراك أن الصراع من أجل تغيير التقسيم الدولي للعمل، وكسر الاحتكار الغربي للتكنولوجيا العالية التي تراكمت نتيجة قرون من الهيمنة والاستغلال المنظم، هو صراع شرعي ومهم ليس للصين أو دول العالم الثالث فحسب، بل أيضًا لصياغة مستقبل بديل.

أدى صعود الدول «الناشئة» وعلى رأسها الصين، إلى قطع سلسلة الأرباح الاحتكارية للغرب، وحصول العديد من دول العالم على تقنيات جديدة وبأسعار أرخص. فكر مثلًا بالألواح الشمسية التي أغرقت الصين العالم بها بأرخص الأسعار، وكانت هناك شكاوى من أنها رخيصة لدرجة تقوض الشركات المصنعة الأمريكية، لكن تلك الألواح الرخيصة أتاحت جزءًا من الانتقال العالمي إلى الطاقة النظيفة. خذ أيضًا القطارات عالية السرعة، التي جلست اليابان وبضعة دول أوروبية على عرشها لعقود. قبل أسابيع، افتُتح تجريبيًا أول قطار عالي السرعة في جنوب شرق آسيا، نفذته الصين ومولته، ويصل بين جاكرتا وباندونغ الإندونيسيتين، ليختصر الرحلة بينهما من ثلاث إلى خمس ساعات لتصبح 36 دقيقة.[8] رغم أن اليابان كانت صاحبة العرض الأول للمشروع، إلا أن كلفته المقترحة فاقت كلفة مقترح الصين، فضلًا عن أن الصين لم تطلب أي ضمانات للتمويل، ومولت 75% من كلفة المشروع بقرض من بنك الصين للتنمية، مدته 40 سنة مع 10 سنوات سماح.

لا داعي للتذكير بأن الصين ليست جمعية خيرية، لكن مشروعها الاقتصادي ونموذج عملها قادر على أن يتيح للكثير من دول العالم الثالث ما لا يمكن أن تقدمه لها الدول الغربية ومن يدور في فلكها. علق سفيان جليل، وزير التنمية والتخطيط الإندونيسي على منح الصين عطاء القطار عالي السرعة قائلًا: «إن نموذج عمل اليابان وقوانينها جعلا من المستحيل منح الامتياز لشركات يابانية».[9] لا شك أن الصين تسعى لتعزيز مصالحها الاقتصادية عبر مثل هذه الاستثمارات، لكن عددًا متزايدًا من الدول بات قادرًا على رؤية المصلحة المتبادلة مع الصين في هذه المشاريع. هذا ما تظهره استطلاعات الرأي التي تجريها المؤسسات الغربية في أفريقيا وأماكن أخرى، لقياس شعبية الصين فيها مقارنة بالدول الغربية. كل ذلك يؤشر إلى إن معركة كسر الاحتكار التكنولوجي ليست معركة خالصة بين الصين والولايات المتحدة تقف تأثيراتها على حدود الدولتين.

كثيرًا ما وفرت العقوبات وحالات المنع والاحتكار بيئة مواتية للصين لتسريع عملية التطوير والاعتماد على الذات. فبعد أن احتكرت الولايات المتحدة أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية، وأنظمة الدفع الكهرومغناطيسي المستخدمة في إقلاع الطائرات من حاملاتها، ومحركات الطائرات وغيرها، استخدمت الصين قوة الدولة بأكملها لتصبح معتمدة على نفسها وتطوير إنتاجها الخاص من كل ذلك. وحين منعت الولايات المتحدة ناسا من التعاون مع الصين، أنشأت الصين محطتها الخاصة التي أَطلق نموذجُها الأول أولى رحلاته المأهولة بعد سنة واحدة فقط على المنع.[10] 

سيصبح الاستبدال المحلي للشرائح المتقدمة بمثابة جبل شاهق يتعين على الصين تسلقه. لن يكون الأمر سهلًا، لكن لدى الصين كل ما يلزمها: المال، والخبرات، والسوق، والحافز، والقاعدة الصناعية، وأفضل جامعات العالم في الهندسة والذكاء الاصطناعيكل ما تحتاجه هو المزيد من الوقت، وهذا الوقت ينفد بالنسبة للولايات المتحدة.

  • الهوامش

    [1] كوالكوم وبرودكوم وإنفيديا وAMD وزيلنكس ومارفل.

    [2] ميديا تك وريل تك.

    [3] مثل أنيسيس وكايدنس وكيسايت.

    [4] تبلغ حصة SMIC في سوق تصنيع الشرائح العالمية 4.7%.

    [5] بفضل انخفاض سعر الين حينها، كانت اليابان قادرة على تصدير منتجاتها بأسعار لم تستطع الكثير من الشركات الأمريكية منافستها. بين عامي 1980 و1981، تضاعف الفائض التجاري لصالح اليابان في سنة واحدة ليبلغ 13.4 مليار دولار. في ذلك الحين، كانت شركة كاسيو تنتج 80% من الحاسبات المستهلكة أمريكيًا، بينما كانت 30% من التلفزيونات الملونة في الولايات المتحدة يابانية.

    [6] ألزمت الولايات المتحدة اليابان باستيراد 20% من أشباه الموصلات المستهلكة في سوقها من الولايات المتحدة، وأجبرت توشيبا على إغلاق مصانعها في الولايات المتحدة، وفرضت عليها غرامات بمبالغ طائلة، ومنعتها من تصدير الشرائح إلى الولايات المتحدة لمدة خمس سنوات، ومن تصدير منتجاتها إلى مجموعة من الدول لمدة عام. وفرضت في اتفاق آخر رفع سعر الين، لتتراجع تنافسية منتجات اليابان سريعًا، ويدخل اقتصادها ركودًا عانت منه لعقود.

    [7] يجب أن يؤتي الاستثمار في صناعة الشرائح ثماره في فترة زمنية قصيرة جدًا، لأنه في غضون سنوات قليلة، سيتم تجاوز الشرائح التي أنتجتها بأموال طائلة بنموذج أكثر تقدمًا، الأمر الذي سيتطلب معدات وهندسة وإجراءات جديدة تمامًا.

    [8] يتوقع أن ينقل القطار 44 ألف راكب يوميًا بسرعة 200-350 كم في الساعة.

    [9] بلغت كلفة مقترح اليابان 6.2 مليار دولار، مقابل 5.5 في المقترح الصيني. لكن بمعزل عن السعر، كان نموذج العمل الصيني هو ما حسم قرار إندونيسيا، فبينما اقترحت اليابان أن تمول الحكومة الإندونيسية المشروع مع قرض مخفض الفائدة من اليابان، لم تطلب الصين أي ضمانات أو تمويل حكومي إندونيسي.

    [10] قبل أيام، عاد فريق «شنزو 14» من محطة تيانقونغ بنسختها الثالثة والنهائية بعد ستة أشهر في الفضاء، ليهبط بسلام وسط صحراء غوبي شمال الصين.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية