انتخابات وهلع: بن غفير والكارثة القادمة

الأحد 11 كانون الأول 2022
مواجهات في فلسطين
متظاهرون فلسطينيون يرشقون الحجارة خلال مواجهات مع قوات الاحتلال بالقرب من مستوطنة بيت إيل في 5 تشرين الثاني 2022. تصوير عباس مومني. أ ف ب.

هلع كبير خلقته نتائج انتخابات الاحتلال الأخيرة، خاصةً عند المحلل السياسي العربي والفلسطيني. فقد جاء انتصار اليمين العقائدي الصهيوني بقيادة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش بمثابة خروجٍ علني لكلام صهيوني عادة ما يظل مكبوتًا، ولا يُنطق به على الملأ، وإنما يعبّر عنه في تعابير مثل «السلام الاقتصادي» و«تقليص الصراع»، وغيرها من المفاهيم التي تصوغها دولة الاحتلال، أمّا تطبيقه على الأرض فتمكن رؤيته عبر ممارسات الكيان اليومية، من قبل مختلف قياداته، والساعية إلى خلق أمرٍ واقع لإحلال المستوطن مكان الفلسطيني. 

وبالتالي، يُمكِن القول إن الحركات العقائدية اليمينية تُجسّد العقل الباطني للحركة الصهيونية بكافة اختلافاتها النرجسية الصغيرة، والذي يرى في الفلسطيني مادة للإخفاء والتحويل من ذات تاريخية فاعلة إلى شيء تَستقي الحركة الصهيونية نقاءَها الدينيّ والسياسيّ من خلال محوه. بل يمكن القول إن الحركة الصهيونية تستمد شرعيتها التاريخية من خلال خطابات الانتصار على الفلسطيني والعربي وحسم الصراع معه.

بكلمات أخرى، فإن عقلية الحركة الصهيونية بكافة اختلافاتها وتبايناتها ترى في الفلسطيني مادة للمحو وللانتصار عليه، أي أن الفلسطيني يلعب دورًا وسيطًا متلاشيًا يمنح الصهيوني حقًا بالأرض من خلال نفيه، وترى هذه العقلية في الانتصار شرعيةً سياسية. 

أين الصراع الإسرائيلي إذًا؟

الصراع اليوم في الداخل الصهيوني لا يدور أبدًا في فلك الخطابات العلنية التي تُصدّرها تلك الحركات تجاه الفلسطيني ووجوده، وإنما يدور حول دور وطبيعة التحولات التي من الممكن أن تفرضها هذه الحركات اليمينية العقائدية على الدولة ومؤسساتها. وهذا الصراع الداخلي يدور في فلك شرعية المنتصِر عند الجميع، أمّا الاختلاف فيدور على تعريف النقاء الصهيوني المرجوّ، وهل تستمد الدولة الصهيونية شرعيتها من السماء، أم من العالم الإمبريالي الأوسع (الديمقراطية والليبرالية والحداثة والتقنية)، أم من التفوق العرقي وغيرها من الشرعيات والمسوّغات الممكنة. أم يستعيد الجيش الإسرائيلي روح المليشيا، فيتحلل من عقد «القانون» وادعاءات طهارة السلاح، ويعود لأصوله كجيش أعد للقيام بالمجزرة والتهجير.

تشبه تصريحات بن غفير وسموتريش المناظرات السياسية التي سبقت النكبة بين زئيف جابوتنسكي وبين قادة الحركة الصهيونية من حزب العمال، وبالأخص قائد الحركة الصهيونية الفعلي دافيد بن غوريون. فقد حاول جابوتنسكي تذكير قادة الكيان في حينه أن إنشاء دولة لليهود يعني القضاء على الوجود العربي، وبناء جدار حديدي يساهم في إخضاع الشعوب العربية لإرادة الحركة الصهيونية، بحيث تتلاشى فلسطين وأمل استعادتها، ويحلّ مكانها موقفٌ أكثر براغماتية عند العرب بعد ارتطام رؤوسهم بجدار الكيان الحديدي، فتصبح سياسة العربي هي المناورة في فضاء القبول بدولة الاحتلال. مرّة أخرى، الانتصار والتفوق العسكري كأساس للشرعية والحق السياسي.

لا يتمحور الصراع الدائر اليوم في الداخل الصهيوني في فلك الخطابات العلنية التي تُصدّرها الحركات اليمينية الإسرائيلية تجاه الفلسطيني ووجوده، وإنما على دور وطبيعة التحولات التي من الممكن أن تفرضها هذه الحركات على الدولة ومؤسساتها.

ورغم أن جابوتنسكي لم يكن قائد الحركة الصهيونية إلا أن تصوّراته حول ضرورة القوة لم تكن إلا السياسة الناظمة لكافة أركان الحركة الصهيونية مع بعض الاستثناءات التي لا تكاد تذكر. بكلمات أخرى، لا يمكننا في الحقيقة الفصلُ فصلًا جادًّا بين أطراف الحركة الصهيونية بنظرتها للعلاقة مع الفلسطيني -خاصّةً في الضفة الغربية- عبر مختلف أقطاب المشروع الصهيوني اليوم، وبين بن غفير وسموتريش وخطاباتهما السياسية حول مصير الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وحتى في الداخل الفلسطيني المحتل. 

هذه التيارات التي تشكل رأس حربة المشروع الاستيطاني اليوم ليست استثناءات، وليست تجاوزًا، وليست تعدّيًا على أركان الحركة الصهيونية، بل هي في صلب نظرتها لطبيعة المعركة مع الفلسطيني على قاعدة صِفريّة نستطيع تلخيصها بمنطق ظاهر في الخطاب السياسي والممارسات العامة للكيان بكافة أشكاله، والذي يدور حول إمّا هم وإمّا نحن. ولذا لم يكن غريبًا أن حكومة لابيد-بينيت ساهمت في بناء وحدات استيطانية بشكل يفوق حتى حكومات نتنياهو.

وبطبيعة الحال تنطلق هذه التيارات من منظور أن الدور الوظيفي لها، وهي التي تُقدّم نفسها على أنها الأكثر نقاء وتدينًا وأصالة، إنما هو استكمال ما لم يستكمله الصهيوني الأول، أي تهجير الفلسطيني بقدر يحافظ على التفوق الديموغرافي اليهودي. وثانيًا بناء «إسرائيل» اليهودية الدينية على قاعدة أن دولة لليهود هي دولة يهودية تطبّق الشرائع الدينية. وثالثًا التخلص من المعالِم الإسلامية والمسيحية في البلاد وإحلال البناء المعماري الديني اليهودي مكانها، لتصبح «إسرائيل» فضاءً يهوديًا خالصًا، خاليًا من العرب، ومن الحكاية السياسية العربية. لهذا أيضًا يشكل الصراع على السيطرة على المؤسسة التي تنظم الحياة اليومية في الضفة الغربية، وعلى المسجد الأقصى، وعلى إضعاف السلطة الفلسطينية ونزع صفة الفلسطينية عنها، وعلى محو الخط الأخضر في العقلية الصهيونية بحيث تصبح مستوطنة كريات أربعة بنفس مكانة تل أبيب، أساس البرنامج السياسي الحالي لهذه الأحزاب.

الفروقات والمشتركات

لكن عملية التحليل البنيوية هذه، والقائمة على فهم النسق المشترك بين ما يسمى بيسار الوسط وقادة المؤسسات الأمنية والاقتصادية (الشبكات النخبوية الأمنية)، وبين الحركات الصهيونية الدينية، تعاني أحيانًا من كونها نظرة أحادية، تلغي الفروقات بين التيارات الصهيونية المختلفة، وتعلي من المشتركات بينها. فالمحو والإلغاء في الحالة الاستعمارية الاستيطانية لا يعني بالضرورة شيئًا واحدًا بالنسبة لأقطاب الحركة الصهيونية بمختلف أركانها، كما أن سرعة الإلغاء والمحو، أو ضرورته الآنية أو علنيته، ليست متماثلة في كافة أقطاب الحركة الصهيونية.

ما يقوم به بن غفير وسموتريش هو إخراج ما في جارور الحركة الصهيونية ووضعه أمام العالم علنًا. فحربهم السياسية الأولى والأهم هي فتح الجارور والتخلص من الغبار المُتراكِم على أوراق وُضِعت في الماضي تتحدث عمّا يجب القيام به في الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني المحتل حين تجيء لحظة التهجير، أي التهجير كاحتمال قائم وكسعي سياسي تقدمه هذه الحركات علانية. وإن افترضنا أنه لا وجود لمخطط كهذا، فتلك الحركات تسعى لصياغة هذه الخطط وتفعيلها بأقرب فرصة ممكنة.

ما وفّرته نتائج الانتخابات هو فرصة بناء ائتلاف سياسي يخوض حرب مواقع داخل الدولة، ويحاول فيها السيطرة على المؤسسات المرتبطة بشكل مباشر بعمليات الاستيطان والإدارة الأمنية في الضفة الغربية.

لم يكن مستغربًا مثلًا أن ديفيد بن غوريون، الذي حارب بشدة الحركات السياسية التابعة لأفكار جابوتنسكي (الأب الروحي لحزب الليكود)، خطّطَ أيضًا لتهجير الفلسطيني على قاعدة أقرب للغمزة بتوجيهاته العسكرية للقادة الميدانيين في حرب العام 1948 قائلًا: «أنتم تعرفون ما عليكم أن تفعلوه». ولم يخيّب القادة الميدانيون أملَ قائدهم، وبالفعل قامت الحركة الصهيونية بعمليات التطهير العرقي في وضح النهار في منتصف القرن العشرين. بمعنى آخر، ما الفرق بين بن غفير وبن غوريون؟ لربما الكثير، ولكن لربما أيضًا لا شيء، وتحديدًا عندما يرتبط الأمر بالفلسطينيين.

بالتالي، ما وفّرته نتائج الانتخابات هو فرصة بناء ائتلاف سياسي يخوض حرب مواقع داخل الدولة، يحاول فيها السيطرة على المؤسسات المرتبطة بشكل مباشر بعمليات الاستيطان والإدارة الأمنية في الضفة الغربية. بمعنى لم يعد شبيبة التلال يجولون في جبال الضفة فقط، حاملين التوراة والحقد ومقدمين خدمات للإدارة العسكرية والأمنية، بل أصبحوا اليوم يدخلون المؤسسة الرسمية محاولين تجييرها بشكل مباشر لخدمة الميليشيا الاستيطانية. وبذا باتت اليوم الميليشيا التي سبق أن خدمت الدولة من خارجها، في موقع يخوّلها محاولة السيطرة على بعض مفاصل الدولة الأساسية. هذا صراع لإعادة خلق دولة الاحتلال في لحظة نشأتها، بما يعنيه ذلك من استعداد لفعل ما يجب فعله، عندما تحين لحظة التهجير/ المجزرة.

لطالما سادت نظرة لدولة الاحتلال على أنها جيش يملك دولة، أو دولة تملك قشرة ديمقراطية خارجية، وتغافَلنا في التحليل عن حقيقة أن الاحتلال يمتلك دولة وجيشًا وميليشيا، وأن الميليشيا صارت تدير دفة السفينة، مستغلّة حاجة نتنياهو لها للتخلص من المحاكمات المرتبطة بقضايا الفساد، ومتغلغلة في المواقع المؤسساتية الأكثر ارتباطًا بالسياسات الناظمة لدولة الاحتلال في الضفة الغربية. وهنا يتعاظم الصراع بين الشبكات الأمنية ونخبها المباشرة وبين المليشيا التي تريد أن تصبح الدولة وجيشها في خدمة الميليشيا، أو أن يتحول الجيش إلى الميلشيا المتحررة من قبضة قوانين وعوالم التحقيق الداخلي التي تقوّض عودة الروح المتحرّرة من خطايا ارتكاب المجزرة.

تحالفات طارئة 

دَفعت التحوّلات الديموغرافية في دولة الاحتلال، وأعداد المهاجرين الخارجين منها، وصعود شرائح اجتماعية تسعى لمزيد من صَهينة الدين اليهودي وتهويد الصهيونية وتصاعد نفوذها داخل الدولة، خاصة في ظل استعدادية هذه الشرائح للخدمة في الوحدات الأكثر تطلبًا للتضحية في الأجهزة الأمنية والعسكرية، والتي هي الأكثر تصديرًا للقادة السياسيين، دفعت كل هذه الأسباب التيارات العلمانية واليسارية والليبرالية المقابلة للتيارات الدينية الصهيونية، والتي استقرت في الغالب على الساحل الفلسطيني، وتقضي أوقاتها بين شركات الهاي تيك والبحر وبين الخدمة في دوائر الجيش التقنية، وترى نفسها جزءًا من العالم الغربي الديمقراطي الرأسمالي، إلى الشعور بالقلق على دولة تل أبيب الصغيرة، وما يحيط بها من حياة تمتاز بالليبرالية الفردية، وروح حياة تؤكد على أهمية اللذّات والحقوق الفردية والجنسية وغيرها.

إن التهديد بالكارثة بشكل علني من بعض أبواق الحركة الصهيونية عليه بالضرورة أن يعيد بناء هيكل جديد ومتجدد للوعي السياسي الفلسطيني، حتى لو لم تتحقق الكارثة

وبالتالي، يمكن القول إن الصراع على شكل ونوع القانون الناظم للدولة في مجالات متعددة تتضمن العائلة وتنظيمها، ومصادر التشريعات، وتعريف الدولة لنفسها وموقع العربي وغير اليهودي فيها، جزءٌ رئيس من الصراع الداخلي في «إسرائيل» اليوم. وفي ظل توافقٍ عامٍ على العلاقة مع الفلسطيني، هناك صراع يضع الدين في مواجهة العلمانية، ويتمحور حول فضاء إعادة بناء أعمدة القانون في المجتمع الصهيوني. 

ولهذا سارعت العديد من الأحزاب الصهيونية لإنشاء تفاهمات مع فلسطينيي الداخل لأجل لعب دور أكثر حيوية في التوصية على الحكومات الصهيونية، ما يتيح لها بناء أغلبية في «الصراع» على روح الدولة الداخلية، وعلى موقع الشبكات الأمنية النخبوية في داخله. ولكن من المهم الالتفات إلى أن هذا النمط من التحالف لم يكن قائمًا، ولن يكون، إلّا على انتزاع تلك القوائم التي تقوم بعملية التوصية نفسها من دائرة الوطنية الفلسطينية والقبول بموقع ثانوي صغير في تحالف طارئ تُوظّف فيه بالصراع الداخلي مع الأطراف الداخلية الأخرى.

قد تحصّل تلك القوائم بعض الاستثمارات في المجالس المحلية العربية، وتحظى بموقع الوسيط بين الدولة والمجتمع العربي في الداخل، ما يمنحها قوّة في تسيير مصالح يومية للمجتمع الفلسطيني، ولكن يبقى هذا التحالف طارئًا واستثناءً تحتاجه نخب الأمن ونخب تل أبيب للإبقاء على كتلة سياسيّة في مواجهة تعاظم الحضور الاجتماعي والسياسي للدين في قلب الدولة. ولهذا لم يكن مستغربًا محاولة استبعاد قائمة التجمع، إذ لا مكان في الانتخابات حتى لخطاب سياسي يقبل بالممارسة ضمن دولة الاحتلال، ولكن ما زال يلوّح بفلسطينيّته وعروبته. 

السلطة الفلسطينية وأزمة الاتكال عليها

من المنظور الصهيوني هناك أزمة بوجود السلطة الفلسطينية، أزمة تعايشَ معها الكيان لثلاثين عامًا تقريبًا، فهو من ناحية استطاع تدجين الحركة الوطنية الفلسطينية، ولكنه من ناحية أخرى يعوّل عليها في عملية إدارة توسعه الاستعماري في الضفة الغربية بعد فشله في احتواء الانتفاضة الأولى. وقد انتهت الانتفاضة الثانية فقط بتقوية تلك السلطة التي أصرّ الاحتلال على إعادة إنشائها بعد تدميرها، ولكن بنسخة جديدة. 

هذه الأزمة هي في جوهر ما يطالب به المستوطنون في الضفة، أي ضرورة العمل على التخلص من حاجة دولة الاحتلال لمتعاونٍ محلي، متعاون ما زال يصرّ بالظاهر على إعلاء العلم الفلسطيني. ففي عقلية التيارات الدينية والاستيطانية فإن قبول الدولة، وخاصة المؤسسة الأمنية، بهذه الاتكالية، حتى لو كانت اتكالية قائمةً على صيغة تعاون أحادي يصبّ في مصلحة المشروع الاستيطاني هو بحد ذاته مرفوض. ولهذا ستسعى في سياساتها إلى زيادة احتكاك قوات الاحتلال مع المجتمع الفلسطيني، وإلى تقويض الأدوار التي تقوم بها السلطة في هذا الصدد، واضعة نصب عينيها أيضًا التحلل من الاتكال على المتعاون المحلي، وتحويل شكله إلى متعاون دون رايات سياسية، ودون رمزيات يوظفها في بناء شرعية استمرار التفاهمات الأمنية مع الاحتلال. 

ما هو واقعي في تصورات هذه التيارات هو بالحد الأدنى إدارة فلسطينية ذاتية في الضفة الغربية دون ادعاء القائمين عليها بأي وطنية. ولكنها تضع نصب عينيها أيضًا التخلص من الحاجة لها، إمّا من خلال التهجير، أو من خلال إخضاع الفلسطيني وتحويله إلى مجتمع غير يهودي في دولة «إسرائيل» دون ادعاءات سياسية أو أحلام سياسية، مجتمع يقبل العيش دون هوية سياسية.

هل علينا الشعور بالهلع؟

هل يمكن للهلع والقلق أن يولّدا تغيرًا في السياسات التي ينتهجها من يقبع خلف أسوار المقاطعة في رام الله والبيرة؟ أم أنه اكتفى بتطمينات رؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بأن وجود هذا التكتل اليميني لن يغيّر شيئًا بمعادلة الضفة الغربية القائمة على اتكالية وتبادلية الأمن والاقتصاد. الجيش سيبقى في دفة القيادة ولن يسمح بتغييرات جذرية وسريعة على الأرض، وسيبقي على معادلة التوسع الاستيطاني البطيء نسبيًا، وعلى العلاقة نفسها مع السلطة الفلسطينية. 

من جهة، فإن الهلع طاقة إنتاجية، إذ يضعنا أمام هول الكارثة القادمة. حيث يمكن للوعي بكارثة التهجير أن يعيد صياغة المجتمع الفلسطيني وسبل وحدته أمام إمكانيات محوه المادي من على الأرض، وحدةٌ في مواجهة النفي. ولكن كما يمكن للكارثة القادمة أن تُظهِر لنا أفق الكل الفلسطيني، فهي أيضًا تحيل عند البعض لضرورة التشبّث بالتعاون والاشتباك السياسي لضمان البقاء، أي أنها تحيل إلى مقولة خفية ولكن نجدها في العديد من الخطابات السياسية الفلسطينية، مقولة تنص على أن فلسطين قضية خاسرة، وبالتالي من الضروري التعاون الأوسع والأعمق مع دولة الاحتلال على قاعدة القبول بها وبسياستها والتفاؤل بأن ذلك سيحمي الوجود المادي للإنسان غير اليهودي.

إن التهديد بالكارثة بشكل علني من بعض أبواق الحركة الصهيونية عليه بالضرورة أن يعيد بناء هيكل جديد ومتجدد للوعي السياسي الفلسطيني، حتى لو لم تتحقق الكارثة. بكلمات أخرى، الكارثة هي أفقٌ لظهور الفلسطيني المنظّم والواعي من جديد، ظهوره كذات واعية وفاعلة تسعى إلى استعادة العالم، ونفي ترنّحها بين الموت والحياة. 

وبقدر ما تكون الكارثة القادمة لحظةً لبناء أفق الوعي الكلي بجماعة فلسطينية فاعلة، فإنها تضعنا أيضًا في خوف دائم من «فقدان كل شيء». في هذا السياق، يصبح أفق الكارثة لا دعوة لبناء هيكل جديد للوعي الفلسطيني، بل ابتزازًا لاستدامة اللحظة الراهنة، يجعلنا نركّز على الحفاظ على ما لدينا، مستبعدًا أي تغيير حقيقي، وأي وسيلة للتفكير حقًا بشكل مختلف.

هناك ما يشبه القنبلة الذرية في الأفق المستقبلي الفلسطيني. يمكن للفلسطيني اختيار تدمير نفسه من خلال قبوله بالاستمرار بتقويض إمكانيات المقاومة من خلال ما يسمى التنسيق الامني؛ وسيكون هذا التدمير جذريًا أكثر لو تم تدمير الفلسطيني بشيء من خارجه. والنتيجة النهائية هي: إما أن يختفي الفلسطيني أو أن يُغيّر نفسه. هذا التحول لن يكون فقط لنظام مؤسسي أو اجتماعي على أهمية هذه التغيرات، ما هو مطلوب هو تغيير في مجمل الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين وشتاتها. هذا التغيير يكمن في وضع الكارثة كاحتمال قد يطال الكل الفلسطيني، خاصة لمن يظن أن هوية زرقاء تحميه، وهو أيضًا في أفق فلسطينيي الشتات، أو الذي سلّم بأن الصراع على فلسطين يحدث فقط من داخلها، خاصة بعد عودة منظمة التحرير، أو من يعتقد أن تعاونه مع الحركة الصهيونية سيجنّبه ألم الخروج. علينا أن نحدق في عين اليأس حتى ندرك هول القادم، والهوة التي تفصل بين الحياة اليومية المُعاشة في فلسطين وتحديات اللحظة السياسية القادمة في القرن الحالي.

نعيش في الكارثة مع أو دون أحفاد كاهانا، ونحن بالفعل في قلب العاصفة منذ أن نشأت الحركة الصهيونية على أرضنا. ومَن ظنّ أنه خارج المعادلة واهم، حتى من خدم ويخدم في جيش الاحتلال. في دولة اليهود لا مكان لمن هو مغاير.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية