اتفاق أبراهام

تحالفات الحرب: في إمكانية ناتو عربي؟

من توقيع اتفاقات أبراهام في البيت الأبيض عام 2020

تحالفات الحرب: في إمكانية ناتو عربي؟

الخميس 07 تموز 2022

اتفاقات أبراهام وإمكانياتها الكامنة

منذ توقيع اتفاقات أبراهام، والحديث يدور عن آليات وطرق تعزيزها، بل يمكن القول إن الجولات المكوكية في المنطقة، بما فيها زيارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن القادمة، واللقاءات والتصريحات المتضاربة حول تحويل التطبيع إلى حلف عسكري يشابه من حيث المبدأ حلف شمال الأطلسي (الناتو) كلها تدور في فلك تحويل تلك الاتفاقيات لإجراءات عملية على الأرض.

صيغت اتفاقات أبراهام في ظل ضعفٍ وقبولٍ فلسطيني رسمي، وفي فترة وهن شعبي عربي عقب احتواء الثورات العربية، وما نتج عنها من أزمات اقتصادية وحروب أهلية طالت العديد من الدول العربية. أي في ظل جسد عربي شعبي منهك ومأزوم بتناقضاته الدموية الداخلية. كما أنها صعدت كتعبير عن شعور الطبقات الحاكمة في العالم العربي بأن الولايات المتحدة لم تعد ضمانة جيوسياسية واستراتيجية كافية لحماية أمنها على المدى الطويل، وبالتالي مثّلت تلك الاتفاقيات بحث تلك النخب عن آليات حماية إقليمية. 

جاء الحديث عن تحالف عسكري عربي يشبه الناتو كمحاولة إسرائيلية أمريكية لاختبار مدى عمق التهديد الذي تشعر به الطبقة الحاكمة العربية ومدى قدرة الولايات المتحدة صياغةَ تحالف عسكري في المنطقة تشير سهامه إلى طهران، وخلفها بكين وموسكو.

بدت هذه الاتفاقات وكأنها أطلقت إلى العلن ما كان قائمًا بالسر، لكنها إلى الآن لم تترجم علانية كل ما تحمله من إمكانيات على المستويات الاقتصادية والعسكرية والسياسية. ورسميًا لم تتجاوز السعي لخلق جغرافيات اقتصادية جديدة قائمة على التبادل التجاري والاستثمار المشترك والبنى التحتية الإقليمية بما تتضمّنه من مشاريعَ استراتيجية كخطوط النقل والاستثمار المشترك والتعاون في ملفات استخبارية وأمنية، ترمي جميعها إلى ربط دولة الاحتلال باقتصادات النفط العربي بالخليج.

ولكن المجال الأهم الذي انشغلت به تلك النخب الحاكمة بعد توقيع الاتفاقات كان شنّ حربٍ على الوعي تسعى إلى توطين وتطبيع دولة الاحتلال في قلوب المجتمعات العربية وعقولها، من خلال تأثيرها الواسع على الوسائط الإعلامية والصحفية والثقافية والأكاديمية والرياضية. ولا يمكن إغفال هذه النقطة لأنها جزء أساسي من العلاقة التبادلية المترجمة للاتفاقيات، أي أنها جزء أصيل من الاتفاق نفسه. وكأن هذه النخب الحاكمة تقول: «يمكن لنا توفير سلام حميمي لكم، بل يمكننا بناء سلام شعوب وتصالح شبه تام مع وجودكم في المنطقة». وبهذا كان اتفاقات أبراهام متقدمة حتى على تلك التي وُقّعت مع مصر والأردن سابقًا. 

هدفت حرب الوعي هذه إلى خلق بيئة سياسيّة مواتية وقاعدةٍ تنطلق منها الدول العربية لبناء علاقتها مع دولة الاحتلال. ويمكن القول، كما تؤكد غالبية التحليلات، إن بناء طوق عسكري واقتصادي موحّد في مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة يبقى الهدف الاساس. إلّا أن شكل ونوع وطبيعة هذا الطوق والمنطق الناظم له وأساساته واللاعبين المختلفين في تشكليه، بل وحتى طبيعة المسؤوليات المنوطة بكل طرف من أطرافه تبقى مُبهَمة بل هائمة، ما يعبّر عن مصالح متضاربة، وأزمات داخلية، وتسابقٍ وتنافسٍ ضمن المعسكر نفسه. 

زمن إعادة ترميم التحالفات

يفترض مُنظِّر العلاقات الدولية ستيڤن والت أن النظام الدولي فوضوي أناركي، تقاتل فيه كل دولة في سبيل نجاتها وأمنها، وبالتالي فإن ما يحكم تفكير الدول بالتحالفات، عند والت، إنما هو نظرة الدولة لعمق ومدى التهديدات التي تحيط بها، مستبدلًا مفهوم «توازن القوة» بمفهوم «توازن التهديدات». وفي هذا الصدد، فإنه من المعروف أن النخب العربية الحاكمة ترى في إيران عدوًا شبه مطلق لها، فيما تشجع الولايات المتحدة و«إسرائيل» هذه النظرة التي تخدم مصالحهما المتمثّلة في رهن المنطقة لخيار واحد أساسه التخلي عن مصالح الأمة، مع ما يصاحب هذا من تعزيز للعلاقات العربية الإسرائيلية والعربية الأمريكية. 

ما يجعل نظرية والت تحديدًا ذات أهمية في نقاشنا هو أنها تعكس أمرين؛ قيامها بالأساس على تاريخ التحالفات في الشرق الأوسط، ولم يكن هذا الانتقاء محض صدفة في كتابه، بل أتى ليبيّن كيف تجتمع قوىً لا تشترك بالقيم والثقافة بل حتى في الكثير من السياقات التاريخية في بنية الاقتصاد الرأسمالي، ولكنها رغم ذلك قادرة على صياغة تحالفات سياسية وعسكرية. والأمر الثاني هو أن جزءًا كبيرًا من عمل الإمبراطورية ينبع من فهمها للتناقضات في الأقاليم المختلفة، وفي قدرتها على التدخل الفاعل بحيث تخلق تحالفات اقتصادية وعسكرية وسياسية تخدم تنافسها مع الدول التي تشكل بالنسبة لها إمّا منافسًا نظيرًا أو مشروع هيمنة إقليمي. 

كان للحرب الباردة دور بارز في بناء أهم تحالفات القرن العشرين. وما بين تنافس أيديولوجي ومصالح مادية وعسكرية توزع العالم بين قطبين، السوڤيتي والأمريكي، رغم محاولات عدّة لبناء منظومة عدم انحياز وسطية بين القطبين. ولكن ما إن انتهت الحرب الباردة، وبدا للولايات المتحدة أنها في موقع قوّة يمنحها قدرة التمتع بمزايا الإمبراطورية دون تحديات سياسية وعسكرية كثيرة، حتى بدأت عجلة الساعة التاريخية تدق باتجاه صعود قوى جديدة. فعقب انهيار الاتحاد السوفيتي استطاعت أمريكا احتواء العديد من خصوم الأمس واكتملت العديد من المشاريع التي بُنيت على تحويل هؤلاء الخصوم إلى حلفاء اليوم كما حصل في شرق أوروبا التي دُمِجَت بشكل شبه تام في منظومة الناتو والاتحاد الأوروبي وغيرها من أنظمة التحالف الرسمي وغير الرسمي. 

وقد انشغل الساسة وصناع القرار في الولايات المتحدة بصياغة مفاهيم جديدة حول صراع الحضارات، أو الحرب الاستباقية والتدخل العسكري «الإنساني»، أو حتى على إعادة صياغة العالم السياسي على شكل القالب الأمريكي الليبرالي الديمقراطي كما حاول المحافظون الجدد في العراق. وفي ظل هذا الانشغال كانت قوى أخرى تستعيد عافيتها الاقتصادية والعسكرية، وتعيد بناء قوّتها في ظلّ ترنّح النظام الدولي الأمريكي، وأبرز هذه القوى اليوم هي الصين وروسيا. 

من بحر الصين الجنوبي، مرورًا بوسط آسيا والهند، ووصولًا إلى أوراسيا هناك إعادة ضبط للتحالفات وإعادة بناء وترميم للبعض الآخر منها ومحاولات مضنية لتعزيزها ونشرها.

منذ عقد، بدأت ملامح قوة الصين تحديدًا تُهدّد الولايات المتحدة وتعيد إلى الواجهة نظريات لم يعد لها الكثير من الزخم بعد انتهاء الحرب الباردة، نظريات كالواقعية الدفاعية والهجومية، والواقعية البنيوية، وعادت إلى الواجهة أهمية صياغة وتعزيز التحالفات بعد سنين من التراخي في تلك المنظومات. وبالتالي بتنا نشهد عملية صياغة تحالفات وتعزيزها على المستوى العالمي وليس فقط على مستوى العالم العربي؛ من بحر الصين الجنوبي، مرورًا بوسط آسيا والهند، ووصولًا إلى أوراسيا هناك إعادة ضبط للتحالفات وإعادة بناء وترميم للبعض الآخر منها ومحاولات مضنية لتعزيزها ونشرها. 

هناك سباق محموم إن صح التعبير يتمثل في بناء تحالفٍ واسع يصل حدود التحالف العسكري في مواجهة الصين الصاعدة اقتصاديًا وعسكريًا، تحالف يضم عددًا من الدول التي تحيط بالصين والتي تحاول الولايات المتحدة زجّها في تحالفات عسكرية تمكن عملية احتوائها. فمثلًا هناك ضغوطات هائلة على الهند للانضمام إلى حلفٍ مضادّ للصين، بينما تحاول الماكينة الأمريكية العملَ على ترميم حلف شمال الأطلسي، وتطالب الدول الأوروبية برفع ميزانياتها العسكرية وزيادة القوة الأوروبية العسكرية عمومًا. وهو ما شهدناه في الحرب الأوكرانية، من سعي الناتو لضم كلٍ من السويد وفنلندا، ورفع ألمانيا ميزانيتها العسكرية. ما ترمي إليه الولايات المتحدة لا يتعدى خلق جغرافيات عسكرية حليفة تحدّ من التوسع الصيني الجغرافي والاقتصادي والعسكري.

لهذا لا يمكن فصل مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العام 2018 لتأسيس ناتو عربي ولا حتى اتفاقات أبراهام نفسها عن عنصريْن تدفع بهم الولايات المتحدة؛ دور أكبر ولكن محدود لحلفائها في صياغة قوة عسكرية مشتركة بما يشتمل عليه هذا من انفاق عسكري أكبر وبناء للجيوش واستعداد للحرب، وثانيًا بناء منظومات تحالف تصل بين شمال الأطلسي وجنوب شرق آسيا. تحتوي أربع قوى أساسية هي الصين وكوريا الشمالية وإيران وروسيا.

لهذا جاء الحديث عن تحالف عسكري عربي يشبه الناتو كمحاولة إسرائيلية أمريكية لاختبار المدى الذي يمكن لدول المنطقة الذهاب إليه. أي اختبار مدى عمق التهديد الذي تشعر به الطبقة الحاكمة العربية ومدى قدرة الولايات المتحدة صياغةَ تحالف عسكري جاد في المنطقة، لا تشير سهامه إلى طهران فقط، بل في خلفيته أيضًا التفكير بالصراع مع موسكو وبكين من خلال طهران. 

بالفعل تقود الولايات المتحدة الامريكية إعادة بناء أدوات التحالف الخاصة بها على مستوى العالم برمته، إن كان في أوروبا عبر حلف الناتو وتوسعته وتعظيم المدخلات العسكرية للدول الشريكة فيها، أو في المنطقة العربية من خلال استكشاف إمكانية تحويل اتفاقات أبراهام إلى تحالف عسكري يساهم في احتواء إيران، ولكن الأهم يساهم أيضًا في خلق تكتل عسكري عربي يعوّل على الحماية العسكرية الإسرائيلية. 

هزائم متلاحقة وقلق متعاظم 

لم يكن العقد الأخير بالنسبة للنخب العربية الحاكمة عقدًا هادئًا. بدأ العقد بحدث تاريخي تمثل بظهور القوة الكامنة للشعوب العربية، وانتهى بهزائم عسكرية نسبية لقوى الخليج العربي ارتسمت باليمن وسوريا تحديدًا. وتخلل العقد حديثٌ متعاظمٌ عن عدم استعدادية الولايات المتحدة الكاملة لدخول حروب في المنطقة، وانسحابها التدريجي والمحدود بالآن نفسه، بل استعداديتها في بعض المواقف للتخلي عن بعض حلفائها كما حصل مع الرئيس المصري السابق حسني مبارك.

في ظل هذا الظرف التاريخي؛ ثورات عربية شعبية وصعود إيراني، كان للنخب العربية خيارات محدودة تضمّنت اختبار قدراتها العسكرية الدفاعية والهجومية خاصة في اليمن. لهذا لم تكن حرب اليمن مجرد حرب هامشية لنخب الخليج العربي، وإنما حربًا مفصليةً على مستوى اختبار تلك النخب لمدى استعداد جيوشها خوض حروب وإحراز نتائج سياسية مواتية.

أدت الحرب إلى فشل نسبي تمثّل بعدم القدرة على حسم المعركة في عدن وتعز، بل تخللتها ضربات طالت العمق السعودي والإماراتي ما جعل الحرب تتجه نحو اتفاق هدنة طويل الأمد يبدو أنه سيكون نهاية الحرب اليمنية الطويلة في فصلها هذا. ويمكن القول إن هذا الفشل النسبي في اختبار المعركة ساهم إلى حد بعيد بتعزيز تصوّر بنى الدول القائمة أنها لا يمكن لها النجاة دون تحالفات عسكرية من خارج المنطقة وممّن يقبع داخلها ولكنه نسبيًا خارجها، أي «إسرائيل». وفي ظل تزايد هذا القلق العربي الخليجي كانت الولايات المتحدة تمُهّد لأن يأخذ الأخطبوط الإسرائيلي دوره الفاعل كقاعدة عسكرية واقتصادية متقدمة في المنطقة، قاعدة ترتسم من خلالها رؤية الدول العربية لعنوان يستطيع أن يوفر بعض التوازن في ظل ميزان من التهديدات يمشي عكس رغباتها.

البرنامج النووي الإيراني يصل مرحلة حرجة

منذ أكثر من أربعة عقود والحديث يطول حول المشروع النووي الإيراني والتحدي الذي يمثله لهيمنة نووية أحادية في المنطقة، هيمنة ساهمت القوى العالمية الفاعلة في المنطقة، وعلى مدى سبعين عامًا، في ابقائها إسرائيلية، ما شكّل لها بوليصة تأمين إضافية في وجه دول وقوى المقاومة. سلاح يلوّح به بشكل مُبهَم على أنه الخيار الأخير عندما تفشلُ كل الخيارات العسكرية الأخرى، وبالتالي سلاح يهدد المنطقة ويساهم في ابتزازها على قاعدة إما أن «تكون إسرائيل وتبقى» أو لا يكون أحد.

يشكل المشروع النووي الإيراني هاجسًا إسرائيليًا وأمريكيًا، وقلقًا للعديد من النخب العربية الحاكمة، والتي ترى في أي إخلال بالتوازن الموجود في المنطقة، فضلًا عن إمالة كفّته لصالح قوّة جغرافية تاريخية أصيلة مثل إيران تهديدًا لبقاء تلك النخب على عرشها السياسي والاقتصادي، وبالتالي إعادة صياغة المنطقة على أسس جديدة.

وفي هذا الصدد تحديدًا، لا يمكن قراءة المشروع النووي الإيراني بمعزل عن امتلاك دولة الاحتلال السلاح النووي، فكما يقول كينيث والتز (Kenneth Waltz) إن سعي إيران لامتلاك سلاح النووي أو إمكانيات نووية هو محاولة منها لموازنة القوة في ظل هيمنة أحادية على هذا السلاح من قبل «إسرائيل». بل يستغرب والتز أن هيمنة إسرائيل على السلاح النووي استمرت لأكثر من سبعين عامًا دون منافس نظير في المنطقة العربية. 

مثّلت حرب اليمن اختبارًا مفصليًا لنخب الخليج العربي، لناحية استعداد جيوشها لخوض الحروب وإحراز نتائج سياسية مواتية.

في مقال قصير ومكثّف يعلل والتز بالقول إن امتلاك إيران للسلاح النووي يعيد التوازن بين القوى المتناحرة في المنطقة، ويجعل كلًا من «إسرائيل» وإيران أكثر «أمنًا»، لأن القوتين تمتلكان ضمانة متمثلة بالسلاح النووي، وخاصة في حال امتلكتا قدرات الضربة الثانية، وبالتالي فإن هذا التوازن النووي مبني على معادلات عقلانية أساسها جنون توظيف السلاح نفسه، بل إنه يخدم توازن القوى في المنطقة ويجعلها أكثر استقرارًا وأقل قابلية لصدامات مباشرة دموية. 

أزعج هذا المقال العديد من داعمي «إسرائيل» في الولايات المتحدة لأنه كان يقترح على المؤسسة الأمريكية الصانعة للسياسات الخارجية أن تتخفّف من رفضها امتلاك إيران قدرات نووية، وأظهر أن مصالح الولايات المتحدة لا تتماثل كليًا مع طفلها المدلل في المنطقة «إسرائيل». وما كان من أصدقاء «إسرائيل» سوى الحديث عن لاعقلانية صانع القرار الإيراني، وعن كون إيران فضاءً استشراقيًا يقع خارج الحسابات الواقعية، أي أن إيران لن تعقلن الجنون، بل هي بالفعل مجنونة. 

اليوم، وصل البرنامج النووي الإيراني فعلًا إلى محطة مفصلية، وقد بدأت القوى الفاعلة في المنطقة تهيئ نفسها لخيار الحرب. فمن جهة؛ إيران على أعتاب امتلاك كميات من المواد النووية المخصّبة تمنحها قدرات بناء سلاح نووي. وفي الوقت نفسه خيار التفاوض مربك وفيه العديد من العقبات الكبرى، خاصة وأن إيران لم تعد تثق بقدرة أي إدارة أمريكية على عقد اتفاق والالتزام به في حال تغيرت تلك الإدارة. هناك مصالح مشتركة في عقد هكذا اتفاق، فمن زاوية نظر إيرانية هي تعني إعادة سيرورة الأموال النفطية إلى جعبتها، بينما من زاوية نظر أمريكية فهي تستطيع الحفاظ على توازن قوى في المنطقة دون أن تشعل حربًا إقليميةً يمكن لها إعادة صياغة المنطقة. وبالفعل، قد أخذت المواجهة تحتدم في العديد من نقاط التماس المختلفة بين مناطق النفوذ والهيمنة الإيرانية-الأمريكية في المنطقة؛ من أذربيجان شمالًا إلى جزيرة سوقطرة جنوبًا، ومن شرق المتوسط إلى الخليج العربي.

وقد أطلقت أمريكا سراح «إسرائيل» في مواجهة إيران ضمن سياسة تسعى إلى اختبار قوة الأخيرة واختبار سياسات الصبر الاستراتيجي التي تنتهجها إيران في محاولتها وصول العتبة النووية دون حرب تؤخر مشروعها. هناك جانبان هامّان لهذا الاشتباك: أولًا اتخاذه شكلًا منخفض الوتيرة ولكن متصاعدًا، وثانيًا أنه يشير إلى أن خيار الحرب لم يعد خيارًا يلوح في الأفق وإنما بات إمكانية حاضرة، خاصةً وأن دولة الاحتلال وحكام المنطقة والولايات المتحدة أمام قرارات مفصلية تتعلق إمّا باختيار التعايش مع إيران النووية أو السعي لمنع تحوّلها قوة نووية وإنهاكها بضربة عسكرية. 

وبالفعل بدأت إسرائيل بتكثيف ضرباتها العسكرية ضد إيران، ضربات تمثّلت بالاغتيالات وعمليات السايبر وعمليات التخريب المتعددة التي تقوم بها في داخل الإيراني، ويمثّل هذا التوجه أداة ضغط على إيران للعودة إلى المفاوضات من وجه نظر أمريكية، كما أنه يمتحن نوع وشكل الرد الإيراني.

إشكالية الناتو العربي-الإسرائيلي: دول ضعيفة في مركبة إسرائيلية

هناك إشكاليات كبرى ترتبط ببناء تحالف عسكري عربي، الأول والأهم، أن الدول التي يتم الإشارة لها -مصر والسعودية والأردن والإمارات والبحرين وقطر والسودان- لا تمتلك موقفًا واحد ولا موقفًا متجانسًا من بعضها البعض، ولا تمتلك الرؤية نفسها لمدى عمق «الخطر الإيراني» عليها. بل إن غالبيتها تسعى في سياساتها لإيجاد فسحة من الاشتباك والارتباط مع الجانب الإيراني، ثانيًا، تحالف عربي رادع لإيران يعني أيضًا توحيد سياسات مشتركة ستهيمن عليها بطبيعة الحال دول كبرى كالسعودية ومصر وتترك تلك الصغرى في مهب مصالح أوسع منها، بمعنى أن الدول الصغيرة تخاف من عدم التوازن في القوة ما بينها وبين القوى الأكبر.

كما أن تلك الدول لا تمتلك قدرات عسكرية أو إرادة قتال، وإن كان لديها بعض الموارد والمقدرات العسكرية. لذلك فإن طرح الناتو العربي دون وجود إسرائيلي علني أو تفاهم عربي-إسرائيلي غير معلن ولكن معمق هو محض فانتازيا. ما يجعل تحالفًا مثل هذا ذا معنى هو أن يضم التحالف تلك الدول التي تستطيع توفير جغرافيا القتال والحرب، أي قواعد عسكرية، ومقدّرات اقتصادية وبعض الوحدات القتالية والقدرات الاستخباراتية والتي تخدم المواجهة مع إيران. ولكن مرّة أخرى ماذا يعني تحالف علنيٌّ مع «إسرائيل» عسكريًا إذا دخل الاحتلال مواجهةً مع غزة، أو ماذا يعني هذا التحالف إذا ما كانت الحرب في لبنان فقط، أو في حال قررت دولة الاحتلال دخول حرب مع إيران حول البرنامج النووي، حرب تشكل مصلحة إسرائيلية قومية ذات أهمية قصوى لها، ولكنها ذات أهمية أقل لقوى المنطقة الأخرى. 

من زاوية نظر عربية رسمية تعد العلاقة مع «إسرائيل» بمثابة ضمانة إضافية، ومحاولة لخلق توازن في المنطقة، لكن هل هناك قرار حاسم بدخول حرب مشتركة؟ 

باعتقادي، فإن خلق تحالف عربي-إسرائيلي دون النية الجادة لإمكانية الاشتراك المباشر في الحرب لا يضفي شيئًا على ما هو موجود أساسًا. وما ترمي إليه النخب الحاكمة هو استيراد أدوات دفاعية تحصنها، وتوظيف قوة «إسرائيل» العسكرية في خلق توازن قوى يجعل القوى الأخرى لا تلتفت إليها، ولكنه بالتأكيد لا يصل حد المخاطرة بمواجهة مفتوحة مباشرة.

وعلى هذه الأسس يمكن القول إن الناتو العربي ولِد ميتًا، ولا يمكن له أن يتحول إلى حقيقة. وما يتم بناؤه بالفعل في المنطقة إنما هو عرب في مركبة إسرائيلية ولكنهم بالتأكيد سيخرجون منها إذا خرجت المركبة عن السيطرة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية