«أوراق أفغانستان»: يوميات إمبراطورية مهزومة

الأربعاء 06 تشرين الأول 2021
عائلات عسكريين ومحاربين قدامى أمريكيين يشاهدون خطاب جو بايدن الذي أعلن فيه خروج جميع القوات الأمريكية من أفغانستان، في 31 آب 2021. تصوير آبو جومس. أ ف ب.

«الدروس المستفادة»

دخلت أمريكا أفغانستان دون خطة واضحة أو هدف محدد، وحاربت عدوًا لم تنجح من البداية في تعريفه: هل هو تنظيم القاعدة أم حركة طالبان أم «الإرهاب»، ثم خرجت منها دون أن تحقق هدفها أو تهزم عدوها. في كتاب «أوراق أفغانستان: تاريخ سري للحرب» نرى من خلال قراءة صحفية في الوثائق الرسمية الأمريكية بعضًا من فصول الهزيمة الأمريكية في أفغانستان. قد تتعلم أمريكا الدروس في حروبها القادمة؛ وبالفعل، فإن من ضمن الوثائق التي اعتمد عليها هذا الكتاب، سلسلة مقابلات بعنوان «الدروس المستفادة»، أجرتها هيئة رسمية أمريكية «كي لا تكرر الولايات المتحدة [نفس] الأخطاء في المرة القادمة التي تحتل فيها بلدًا [آخر]» (بحسب تعبير مؤلف الكتاب، كريغ وايتلوك، في مقال له في صحيفة الواشنطن بوست). لكن الدرس المستفاد لسائر العالم هو أن صورة أمريكا التي تنقلها لنا وثائقها الداخلية، تختلف تمامًا عن الصورة التي تعودنا عليها لأمريكا القادرة المهيمنة. نرى أمريكا، من خلال الوثائق والمقابلات والشهادات التي أدلى بها جنودها ومسؤولوها وحلفاؤهم وعملاؤهم، متخبطة وفاشلة، قبل أن نراها مهزومة ومدحورة.

مصادر الكتاب

في سنة 2008، أنشأت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية هيئة خاصة للرقابة على أدائها في أفغانستان، أسمتها «المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان». وفي سنة 2014، شرعت هذه الهيئة في إجراء لقاءات مع المشاركين في الأحداث في أفغانستان تحت عنوان «الدروس المستفادة». بعدها بعامين تنامى خبر هذه المقابلات إلى الصحفي بالواشنطن بوست حينها كريغ وايتلوك؛ ومن هنا بدأت معركة قضائية بين الواشنطن بوست وهذه الهيئة، انتهت بالإفراج عن «ما يزيد على ألفي صفحة من المقابلات التي لم تنشر من قبل، مع 428 من الذين لعبوا دورًا في هذه الحرب، جنرالات ودبلوماسيين وموظفي إغاثة ومسؤولين أفغان». أصبحت هذه الوثائق نواة لسلسلة مقالات نشرتها الواشنطن بوست ما بين عامي 2019 و2020، ثم أصبحت هذه المقالات بدورها نواة لهذا الكتاب الذي صدر في شهر آب الماضي.

اعتمد الكتاب أيضًا على المذكرات التي اعتاد المقبور دونالد رمسفيلد إملاءها على موظفيه عندما كان وزيرًا للدفاع، والتي تنقل شعور القيادة آنئذ بأنها لا تعرف كيف تربح هذه الحرب. واعتمد على مقابلات أجريت ضمن الجيش الأمريكي لأرشفة «التاريخ الشفهي للحرب العالمية على الإرهاب»، وكذلك على مقابلات أجرتها جهات مستقلة مثل جمعية الدراسات والتدريبات الدبلوماسية ومركز ميلي في جامعة فيرجينيا.

تنقل هذه المصادر المتنوعة والقريبة من مركز الأحداث، بشيء من الشفافية وكثير من الوضوح، حيرة الإدارة الأمريكية إزاء هذه الحرب، والتي عبر عنها دونالد رامسفيلد في مذكرة لمرؤوسيه: «ليس لدي رؤية بخصوص من هم الأشرار [the bad guys]. لدينا نقص مأساوي في الذكاء البشري» وفي مذكرة أخرى «ربما كنت نافد الصبر (..) [لكننا] لن نخرج الجيش الأمريكي أبدًا من أفغانستان إن لم (..) نحقق الاستقرار اللازم لكي نرحل. النجدة!».

الاستراتيجية الأمريكية (أو غيابها)

«لو كنت لأكتب كتابًا لكانت رسالته: أمريكا تذهب للحرب دون أن تعرف لماذا»، يقول أحد مسؤولي وزارة الدفاع الذين ظهرت شهادتهم في الكتاب. «لقد دخلنا [أفغانستان] كرد فعل تلقائي بعد 11 سبتمبر، دون أن نعرف ماذا كنا نحاول أن نحقق».

يتكرر كثيرًا في هذه الوثائق تعبير المسؤولين عن سخطهم إزاء غياب أي تعريف واضح للمهمة التي كانوا يحاولونها في أفغانستان، ويتكرر، بأكثر من شكل وعلى أكثر من لسان، سؤال «ما هو الشيء الذي إن حققناه نستطيع أن نقول أننا أدينا مهمتنا في أفغانستان؟».

في الأشهر الأولى من الحرب، كان هدف الولايات المتحدة حرمان تنظيم القاعدة من مأواه الآمن الذي وفرته حركة طالبان في أفغانستان، وإسقاط نظام الطالبان وطرد قواتها من المدن الكبرى. ولم يكن لديها رؤية لما ستفعله في اليوم التالي لتحقيق هذا الهدف. يقول أحد المسؤولين الأمريكيين الذين عملوا ضمن نطاق قوى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أفغانستان: «ماذا كنا نفعل في هذا البلد؟ ذهبنا بعد 11 سبتمبر لنهزم القاعدة في أفغانستان، لكن المهمة أصبحت مبهمة. وكذلك أصبحت أهدافنا مبهمة: ماذا كانت أهدافنا؟ بناء الدولة؟[1] حقوق النساء؟».

ظنّ بعض المسؤولين أن طالبان بعد أن تتفرق في الفيافي والجبال لن تعدو أن تكون مصدر إزعاج طفيف، لتكون المفاجأة بأن الحركة قد أعادت تجميع صفوفها في المناطق النائية وعلى الحدود الأفغانية، وأن الانسحاب الأمريكي يعني فتح الطريق لطالبان للعودة إلى كابل وإلى الحكم (وهو ما حدث بالفعل كما رأينا).

معالم الفشل

لم تُقَدِّر الولايات المتحدة الوضع الميداني. لم تفهم مثلًا أن خروج مسلحي طالبان من المدن لا يعني خروج الحركة من مجتمعها الأفغاني ولا من حاضنتها البشتونية، وهكذا لم تتمكن من توقع قدرتها على إعادة تنظيم صفوفها بالذات من القفار النائية عن سلطة الاحتلال وعملائه، وكذلك من الحدود الباكستانية.

فوجئت الولايات المتحدة كذلك بأن الحدود السياسية لن تعيق تحرك المجموعات المسلحة، بالذات التي تنتمي بالأساس إلى عرقية مثل البشتون تمتد قبائلها على طرفي الحدود الأفغانية الباكستانية. جعلت الطبيعة الجغرافية والاجتماعية من المناطق الحدودية الباكستانية ملاذًا لحركة طالبان، ووضعت الولايات المتحدة أمام تعقيدات ميدانية ودبلوماسية وقانونية تحد من قدرتها على شن هجمات ضد معاقل حركة طالبان في باكستان. طبعًا لم تردع هذه التعقيدات الولايات المتحدة عن شن العمليات الخاصة وعمليات الاغتيال والهجمات الجوية عن طريق الطائرات المسيرة من دون طيار ضد التجمعات المدنية في المناطق الباكستانية الحدودية، التي اشتبهوا بتواجد طالبان فيها، مما زاد من ضحايا الولايات المتحدة المدنيين ومن نقمة الأفغان والباكستانيين عليها.

فشلت الولايات المتحدة في تقدير مدى السخط الذي سينتج عن الاحتلال، وكانت تتعامل مع جرائمها كما لو كانت مجرد أخطاء تستطيع أن تعتذر عنها وينبغي للأفغان أن يتقبلوها ويتجاوزوا عنها.

أساءت الولايات المتحدة كذلك قراءة الموقف الباكستاني؛ ووصل غياب الرؤية لدى القيادة الأمريكية إلى أن مخابراتها فوجئت في العام 2003 بأن باكستان تلعب لعبة مزدوجة، تتحالف فيها مع الولايات المتحدة من ناحية وتدعمها وتسمح لها في بعض الأحيان بشن الهجمات الجوية داخل حدودها ضد ضحايا باكستانيين وأفغان، وتمد من الناحية الأخرى جسورًا بين مخابراتها وحركة طالبان. «ظل سؤال إلى أي جانب تقف باكستان يحير الأمريكيين على مدى عقدين، رغم أن أمريكا هي التي أعدت باكستان للعب هذا الدور منذ أيام الجهاد الأفغاني.

فشلت الولايات المتحدة كذلك في تقدير مدى السخط الذي سينتج عن الاحتلال، وكانت تتعامل مع جرائمها كما لو كانت مجرد أخطاء تستطيع أن تعتذر عنها وينبغي للأفغان أن يتقبلوها ويتجاوزوا عنها. فعندما قصفت الولايات المتحدة في الثالث من تشرين الأول 2015 مستشفى قندوز التابع لمنظمة أطباء بلا حدود وقتلت 42 شخصًا فيه، قدم الجيش الأمريكي وإدارة أوباما أعذارًا واهية تلوم «ضباب الحرب» و«الخطأ البشري» و«أعطال الأجهزة» (لم يقدم أي من المسؤولين عن هذه المجزرة إلى المحاكمة، وإن كان 16 منهم قد تلقوا «عقوبات إدارية» من وزارة الدفاع). وعندما تسربت مقاطع تصور جنود الاحتلال وهم يبولون على جثث قتلاهم الأفغان، اشتكى الأمريكيون (شكوى يشاركهم إياها وايتلوك) أن هذه الحادثة قد أصبحت فرصة دعائية لطالبان.

كانت النتيجة أن الكثيرين ممن لم يكونوا من الموالين لطالبان قد أصبحوا من أنصارها في حربها ضدّ الاحتلال، بل تعدى أثر ذلك إلى قيام عناصر الجيش والشرطة الأفغانيين بهجمات ضد زملائهم الأمريكيين، أحيانًا بعد أن تكون طالبان قد جندتهم، وأحيانًا بمبادرة فردية. وبحسب شهادات الأمريكيين فإن الأثر الأكبر لهذه الهجمات كان معنويًا إذ دمّر الثقة التي كان الاحتلال يحاول بناءها ما بين جنوده والعناصر الأمنية الأفغانية، وانعدم الشعور بالأمان لدى جنود الاحتلال الذين أصبحوا يترقبون في كل لحظة أن تأتيهم ضربة جديدة من صفوف من يُفترض أن يكونوا حلفاءهم.

وفي مقابل هذا الفشل الأمريكي، تظهر مقاومة طالبان للاحتلال الأمريكي أكثر حرفية ونجاحًا مما جعلها الإعلام تبدو. فعلى سبيل المثال، في عملية مثلت نجاحًا استخباراتيًا طالبانيًا حاول الإعلام الأمريكي أن يعتم عليه، رصدت الحركة وجود نائب الرئيس الأمريكي آنئذ ديك تشيني (الذي كان من المفترض أن يحاط بالسرية) في قاعدة باجرام العسكرية في 27 شباط 2007 واستهدفته بسيارة متفجرة. لم تنجح العملية في قتل تشيني، ولكنها أظهرت قدرة طالبان الاستخباراتية وفشل الأمريكيين في المقابل.

دولة الفساد

تسرد الوثائق بالتفصيل وقائع فشل الولايات المتحدة في بناء مؤسسات موالية لها في أفغانستان. لم تكن الولايات المتحدة تدري إن كانت تريد أن تبني في أفغانستان نظامًا عميلًا أو أن تهدم الدولة الأفغانية من أساسها فلا تدع لها نظامًا. فعمدت من ناحية إلى محاولة إنشاء نوع من «دولة المؤسسات» التي تستقل عن سلطة القبائل والعشائر والجماعات المسلحة، وأتت لهذا الغرض بحامد قرضاي الذي لم يكن زعيمًا عشائريًا ولا قائد ميليشيا (يذكر الكتاب عرضًا أن قرضاي كان قبل ذلك عميلًا -أو عنصرًا ذا قيمة (asset)- لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية). ومن ناحية أخرى تعاملت مع شبكة من أمراء الحرب السابقين المرتبطين بشبكات المخدرات والسلاح، فأنشأوا بذلك دولة متناقضة يقوم كل من ركنيها على تقويض الآخر. ولم يفطنوا إلى أن هذا النظام العشائري المرتبط بالشبكات «غير القانونية» له طرق خلفية تمتد في بعض الأحيان إلى حركة طالبان ومسلحي المقاومة.

هذه الشبكة كانت تأخذ في بعض الأحيان أشكالًا مباشرة تكاد -لولا قسوة الواقع- أن تكون مضحكة، مثل حكاية أخين أحدهما يمتلك شركة إنشاءات تتولى عقود الإعمار الأمريكية والآخر عضو في حركة طالبان، يتولى تفجير المنشآت التي يبنيها الأول كي تدفع له الولايات المتحدة مرة أخرى ليبني ما تهدم من جديد (في الوثيقة نفسها اتهام أخطر بأن القائمين على مشروعات البناء كانوا في بعض الأحيان يدفعون الأموال لحركة طالبان لتسمح لهم بالبناء في مناطق معينة).

يشكو الأمريكيون من أنهم قد أنفقوا ما يزيد على تريليون دولار في أفغانستان (في غياب إحصاء رسمي). وعدا عما أنفق على العمليات العسكرية، فقد صبّت الولايات المتحدة الأموال في أفغانستان لتمويل نظام فساد قائم على العمولات (التي انتهى بعضها في جيوب المتعاقدين الأجانب وبعضها في جيوب المسؤولين وأمراء الحرب الأفغان والكثير منها في حسابات بنكية في إمارة دبي)، والرشاوي والصفقات المشبوهة التي كانت تصب في الشبكات الخلفية التي تحدثنا عنها، والتي كانت طالبان تستفيد منها في بعض الأحيان (وفي بعض الأحيان يستفيد منها زارعو الأفيون وتجار المخدرات).

وعدا عن شبكات التجارة غير القانونية، فقد أصبح النظام السياسي الأفغاني الرسمي قائمًا لا على أي نشاط اقتصادي أو تدوير أموال داخلي ولكن على أموال تأتي من الخارج لتصب في شبكات الفساد والاستزلام، مما قطع الطريق على أي شكل من أشكال التنمية. يتشابك هذا السيناريو مع النقد المعتاد لمشاريع التنمية الغربية، التي لا تقدم سوى وهم التنمية، بينما تربط الحياة الاقتصادية للبلد المستهدف بالمركز الغربي الذي يتولى التمويل والتخطيط ومن ثم التربح (ولدينا في أوراق أفغانستان شهادات وشكاوى من القائمين على مشاريع التنمية تشكو من أن ما فعلوه لم يؤد إلى تنمية، وأن أولويتهم التي كانت الاستعراض أو إرضاء الجهات الممولة وصناع القرار في واشنطن لا تحقيق أي تنمية حقيقية على الأرض)؛ ولكنه كذلك يتخطاه إلى حالة نجد فيها إمعانًا في إفساد النظام السياسي والاقتصادي، حتى لم يعد المركز الإمبريالي قادرًا على الاستفادة منه لا اقتصاديًا ولا أمنيًا.

فقد فشل الأمريكيون حتى في خلق كيان متقزّم ذي اقتصاد تابع يخدم المركز الإمبراطوري، ولم يخلقوا سوى حالة سياسية واقتصادية مهترئة تعتمد بشكل كامل على التدفق المالي الأمريكي، انتهت بالفعل يوم انتهى هذا التدفق وهرب من رؤوس الأموال ما هرب إلى دبي. أما أمنيًا، فإن هذه الحالة المهترئة والفاسدة أصبحت عاجزة عن تحجيم الكيانات المناوئة لهذه الدولة، بل على العكس، سمحت لحركة طالبان بالتمدد عن طريق استفادتها، في بعض الأحيان، من شبكات التجارة الخلفية، وفي أحيان أخرى من ضجر الأفغان من هذه الحالة الأمريكية الفاسدة. لم ينجح الأمريكيون حتى في بناء دولة فاشلة يخدم فشلها المشروع الإمبريالي، ولا في تمكين عملاء قادرين على الصمود في أماكنهم، فانهار هذا النظام قبل حتى أن تتمم قوات الاحتلال انسحابها.

الاختباء من الحقيقة

طوال عقدين حاول المسؤولون الأمريكيون إخفاء وقائع هذا الفشل عن الشعب الأمريكي؛ لعل هذه هي الفكرة الرئيسية في هذا الكتاب.

وعدا عن الدور الدعائي للكذب، فإن وايتلوك يقول إن أحد أسباب تغييب الحقائق كانت انشغال المسؤولين والضباط والموظفين والمجندين بالترقي الوظيفي، مما جعلهم لا ينقلون الحقيقة كما هي، مما حال دون محاولة لنقد التجربة أو تقييمها، ما حال بدوره دون تصحيح الاحتلال لأخطائه أو تجنب تكرار عثراته. من هنا، بدا لي وأنا أقرأ الكتاب أن المسؤولين الأمريكيين مارسوا، على مستوى معين، نوعًا من الكذب على الذات.

يمكننا هنا أن نتأمل في نرجسية الإمبراطورية المهيمنة التي تظن أنها تستطيع تغيير الواقع فقط من خلال تخيله بشكل مختلف. يقول عالم النفس الأمريكي ديريك هوك بأن هناك نوع من الحديث «الفارغ» القائم على الخيال، والذي لا يهدف إلى نقل الحقيقة وإنما إلى تأكيد الذات؛ والطريف أنه حين يورد الأمثلة على هذا النوع من الحديث يلجأ إلى تصريحات رسمية وشبه رسمية أمريكية. ويبدو لي أن هذا الكلام ينطبق على حديث المسؤولين الأمريكيين عن حربهم في أفغانستان؛ أو بشكل أكثر تبسيطًا، فإنه يبدو أن المسؤولين الأمريكيين الذين اعتادوا أن يكونوا في موقع الهيمنة التي تسهل تطويع الواقع لأهوائهم (الشخصية والوطنية) قد تصرفوا إزاء هذه الحرب، في بعض الأحيان، بنرجسية طفل يظن أنه إن أمعن في الكذب فإن هذا سيطوّع الواقع ليصبح الكذب حقيقة.

فعندما كانت تتصاعد ضربات المقاومة الأفغانية، كان الأمريكيون يقنعون أنفسهم أن ازدياد المقاومة يعني أنهم في سبيلهم إلى تحقيق مهمتهم، ووصل الأمر إلى ادعائهم أن زيادة عدد قتلى الأمريكيين دليل نجاح لا فشل. وأمام كل أزمة، كان الأمريكيون يعلنون عن «استراتيجية جديدة» ويضيفون إليها بعض المصطلحات البراقة، دون أن يعني ذلك أي تغيير حقيقي في خطتهم وإدارتهم للحرب. وعندما وعد أوباما بإنهاء الوجود الأمريكي في أفغانستان (خلال 18 شهرًا بالتحديد، كأن الزمن والواقع الميداني وردود فعل الطرف الآخر تخضع كلها لأماني الرئيس الأمريكي ووعوده)، اكتشف أنه لا يستطيع إحراز نصر يمكّنه من الانسحاب، ولا من الانسحاب مهزومًا. تجاوز أوباما هذه المعضلة بإعلان انتهاء الحرب وتحقيق أهدافها (من دون تحديد هذه الأهداف التي تحققت) في احتفالية لقوات الاحتلال الأمريكي وحلف شمال الأطلسي في النادي الرياضي لإحدى القواعد العسكرية الأمريكية في أفغانستان بحضور عدد قليل من الجنود. لم يحضر أوباما وإنما أرسل كلمته مكتوبة «من هاواي حيث كان يستجم» (بتعبير وايتلوك)، ولم تتضمن هذه الاحتفالية أي إشارة للعدو أو استسلامه. طبعًا لم يعن هذا الانتصار -الذي أعلن من طرف واحد- أي شيء على المستوى الميداني. وبينما استمر الاحتلال الأمريكي، عمليًا، واستمرت المعارك التي يخوضها الجيش الأمريكي في أفغانستان، أعادت إدارة أوباما تعريف هذا الواقع ليصبح وجود الاحتلال الأمريكي هو محض دعم للنظام الأفغاني، ولتصبح مهام القوات الأمريكية «مهامًا غير قتالية» إلا في «حالات استثنائية»، مثل «العمليات المناوئة للإرهاب» أو «دعم القوات الأفغانية [الرسمية]». عمليًا لم يعن هذا سوى تقليص طفيف للعمليات العسكرية الأمريكية.

فشل الأمريكيون حتى في خلق كيان متقزّم ذي اقتصاد تابع يخدم المركز الإمبراطوري، ولم يخلقوا سوى حالة سياسية واقتصادية مهترئة تعتمد بشكل كامل على التدفق المالي الأمريكي.

وعندما جاء ترامب إلى الحكم (وبعد أن كان في أول الأمر يميل إلى الانسحاب من أفغانستان من دون تسويف قبل أن يقنعه جنرالاته بمد أمد الحرب)، أعلن أن القوات الأمريكية تحت إدارته -على العكس مما كان الوضع عليه في الإدارات السابقة- «ستحارب لتنتصر». انتقلت هذه النرجسية اللسانية لجنرالاته الذين أصبحوا يستخدمون عبارات تشير إلى العزم والقوة في حديثهم عن الحرب، علمًا منهم أن هذا الحديث يغوي ترامب.

وفي مرحلة بات واضحًا أن العد التنازلي للانسحاب الأمريكي قد بدأ، ظلّ المسؤولون الأمريكيون يحاولون تغيير حالة الحرب في خطابهم وخيالهم، فقال أحد الجنرالات في تصريح رسمي «رسالتنا للعدو هي أنكم لا تستطيعون أن تربحوا هذه الحرب. لقد آن الأوان لكي تضعوا أسلحتكم. فإن لم يفعلوا، فسيطويهم النسيان،[2] أو الموت. هذان هما الخياران أمامهم».

ثم ظنت إدارة ترامب أن التوسع في استخدام القوة المفرطة -دون تغيير حقيقي في الاستراتيجية- من شأنه تغيير الواقع في أفغانستان، «فزادت الهجمات الجوية إلى الضعف، وتضاعفت الذخائر التي استخدمتها القوات الأمريكية ثلاث مرات، عما كانت عليه في أواخر عهد أوباما». 

ولم تنتبه القيادة الأمريكية، في غمرة انشغالها بقوتها المفرطة، إلى الوضع الميداني الذي لم يكن من شأن الغارات الهمجية أن تغيره، ولا إلى نتائج هذه الغارات على الأرض وردة فعل الشعب الأفغاني على إصرار أمريكا أن تقتل المزيد من مدنييه. إذ ازداد عدد القتلى الأفغان المدنيين من جراء غارات ترامب إلى 1134 قتيل لكل عام من الأعوام الثلاثة الأولى لحكمه (وهو ضعف المتوسط السنوي للفترات السابقة).

المفارقة هي أن ترامب، النرجسي كطفل مدلل، يصدق أكاذيبه الخاصة بأكثر مما يصدق الواقع من حوله، وهو من مهّد الطريق للخروج من أفغانستان، إذ أعطى الأوامر ببدء المفاوضات المباشرة مع حركة طالبان على شروط الانسحاب الأمريكي في أيلول 2020 في الدوحة، قبل أن يأتي جوزيف بايدن ويعلن الانسحاب من دون تسويف.

رأى بعض المسؤولين الأمريكيين أن الحرب قد نجحت في شلّ قدرة تنظيم القاعدة على شنّ هجمات جديدة في الداخل الأمريكي (طبعًا تفتح هذه النقطة الباب لنقاش لا ينتهي عن الهدف من وراء هجمات 11 سبتمبر، وفيما إذا كانت الولايات المتحدة قد تمكنت من ردع مثل هذه الهجمات أم أنها بنشر قواتها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا قد جعلت نفسها أكثر عرضة لهذه الهجمات، وعن التكلفة البشرية والمادية والمعنوية لهذا الوجود أيضًا). ورأى الرئيس الأمريكي الحالي، جوزيف بايدن، في الخطاب الذي ألقاه في 14 نيسان من العام الجاري وأعلن فيه انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، أن الولايات المتحدة قد أنهت مهمتها هناك منذ زمن طويل، حين قتلت زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وأن وجودها بعد ذلك لم يكن إلا تَزَيُّدا. بينما يرى جيفري إيغرز، ضابط البحرية الأمريكية الذي كان عضوًا في مجلس الأمن القومي لإدارتي بوش وأوباما، أن بن لادن لو استطاع أن يرى ما أضاعته أمريكا من أموال في أفغانستان «لضحك من قبره المائي».

  • الهوامش

    [1]  يستخدم المسؤولون الأمريكيون مصطلح nation building أي بناء الأمة. المصطلح غير دقيق لأن ما حاولت أمريكا القيام به هو بناء مؤسسات الدولة لا جمع أطراف الأمة على مشروع وطني واحد؛ ولا يخفى كذلك ما في المصطلح من تعالٍ، كأن الأمة الأفغانية لم توجد قبل احتلال أمريكا لأفغانستان، وكأن أمريكا تخلق الأمة من العدم.

    [2] الجملة التي استخدمها هي «they’re going to be confined to irrelevance»، أي أنهم سيصبحون لا قيمة لهم وسيُلزَمون هذا الموقع الذي لا قيمة لهم فيه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية