جملون

جملون: قصة انهيار «أكبر متجر كتب عربي»

تصميم محمد شحادة.

جملون: قصة انهيار «أكبر متجر كتب عربي»

السبت 07 كانون الثاني 2023

قبل أكثر من عامٍ طلب السعودي عبد العزيز كتبًا بقيمة 64 دولارًا من متجر الكتب الإلكتروني «جملون»، لكنه لم يستلم أيًا منها حتى اللحظة، ولم يسترد بعدُ المبلغ الذي أنفقه. أما الزبون السابق الكويتي محمد الشمّري فوصلته من جملون قبل نحو عامٍ كتب لم يطلبها، وعند تواصله مع الشركة قالوا له أن يعتبر الكتب هدية من الموقع.

منذ أوائل العام 2021 لمس بعض زبائن جملون تراجعًا في جودة خدماتها، حيث اشتكى عدد كبير من تأخر الكتب التي اشتروها من الموقع، وتواصل عدد منهم حينها مع الشركة فردّت بأن المشكلة ستُحل قريبًا. وخلال النصف الأول من 2022 عبّر بعض الزبائن على وسائل التواصل الاجتماعي عن استيائهم من الشركة وصعوبة التواصل معها، ثم ما إن حلّ النصف الثاني من العام حتى كان موقع جملون قد اختفى عن الإنترنت. وما يزال زبائنُ بانتظار استرداد أموالهم بعد عام أو أكثر من المطالبات.

كان ينبغي لجملون أن تكون نسخة عربية عن أمازون، وقد توجهت أنظار المستثمرين إلى المشروع الريادي الأردني بشغفٍ لعشر سنوات، خصوصًا أنه وصل إلى عدد كبير من القراء العرب في فترة قصيرة. لكن، بعد سنوات من التوسع والصعود، توقف الموقع عن تقديم خدماته وانهارت الشركة، فما الذي حصل مع جملون موقع الكتب العربي الأشهر؟  

جولات الصعود: من جبل الجوفة إلى جبل علي

يلجأ بعض روّاد الأعمال للحصول على استثمارٍ أو تمويل خارجيّ من أجل بدء أو توسيع شركاتهم الناشئة. وفي مثل هذه الحالات، عادةً ما تركّز الشركة في البداية على توسيع قاعدة عملائها وتقديم منتجها الجديد والتعريف به في الأسواق، فيما يغطي التمويل الخارجي النفقات، والخسائر أحيانًا، أملًا في نجاح الشركة وتحقيقها أرباحًا على المدى الأبعد.

وتتلقى هذه الشركات تمويلها عبر محطاتٍ تسمى الواحدة منها «جولة تمويل استثماري»، تبدأ بتمويل «مُسبقٍ» صغيرٍ (Pre-Seed) يُجمع عادةً من المعارف أو الأصدقاء من أجل بدء المشروع وتحضير المنتج وتكوين فريق العمل. يتبعها جولة ثانية لتطوير المشروع عبر تمويل «أولي» من مستثمرين يلقبون بالـ«المستثمرين الملائكة» (Seed/ Angel Round) وعادة ما يصير هؤلاء شركاء مساهمين في الشركة الناشئة. وبعد أن تقدم الشركة أداءً مميزًا لفترة معينة يمكنها الدخول في جولة ثالثة من التمويل، غالبًا ما يكون كبيرًا تصل قيمته إلى الملايين، لتساعد الشركة على ملاءمة منتجاتها للسوق وتوسعها في أسواق أخرى، وتنقسم هذه الجولة إلى سلاسل (Series) تُصنف أبجديًا (Series A, B, C, D, E)، حيث تزداد قيمة التمويل وحجم العمل في كل فئة منها. سارت جملون على هذا النموذج من الأعمال، لكنها لم تستكمله، إذ تعثّرت قبل أن تبلغ منتصف الجولة الثالثة.

توجهت أنظار المستثمرين إلى المشروع الريادي الأردني بشغفٍ، خصوصًا أنه وصل إلى عدد كبير من القراء العرب في فترة قصيرة. لكن، بعد سنوات من التوسع والصعود، توقف الموقع عن تقديم خدماته وانهارت الشركة.

تبدأ قصة جملون من عودة شابٍ اسمه علاء السلال من جامعة أثينا لتكنولوجيا المعلومات إلى عمّان عام 2010، وكان عازمًا على تأسيس مشروعٍ لخدمات الشراء عبر الإنترنت في المنطقة العربية. فأنشأ مع إخوته عامر ومحمد، وهما متخصصان في تكنولوجيا المعلومات أيضًا، موقعًا إلكترونيًا -صمموه بأنفسهم- لتوصيل الكتب الورقية من دور النشر إلى القراء. يقول عامر لـ«حبر» إن أفراد عائلته كانوا يحبون المطالعة ويعرفون صعوبة الحصول على كتب منشورة خارج الأردن إلا من معرض الكتاب السنوي، «كنا حابين نعمل إشي من الشغلات اللي بنشوفها على مستوى العالم، كيف الناس بشتروا من البيت، كان بدنا إشي نعمله يكون مش موجود بالمنطقة اللي نحن فيها ونحل مشكلة».

ولمّا لم تكن أوضاعهم المادية تسمح باستئجار مكتب وتوظيف فريقٍ للعمل، بدأوا العمل من منزل العائلة في جبل الجوفة في عمّان؛ يتواصل علاء مع دور نشر أردنية للحصول على عناوين كتبهم ويرفعها إلى الموقع، يشتري الأخ الأصغر معتز الكتب المطلوبة من دور النشر في وسط البلد ويعود بها في المواصلات العامة إلى المنزل، ثم يوزّع عامر الكتب على الزبائن. سار العمل بهذه الطريقة حتى أواخر عام 2010 عندما تعاقدوا مع شركة أرامكس من أجل توصيل الطلبات محليًا.

رأى ناشرون في علاء شابًا عصاميًا، ووجدوا في جملون مبادرةً مثابرة، فاشتغلوا معها. يقول فتحي البس، مدير عام دار الشروق في الأردن، إن طلبات الكتب كانت تصلهم من جملون عبر الإيميل، فيجهّزون الطلب مع الفاتورة لمندوبها: «يعني بيع على المضمون»، مضيفًا أنهم بدأوا العمل مع جملون منذ 2011 عندما أخبرهم علاء أن مشروعه حصل على تمويله الأول.

كانت جملون أواخر 2010 قد تلقّت بالفعل أول استثمار صغير بقيمة 15 ألف دولار من رجل الأعمال فادي غندور وشركة مينا فنتشرز التي تقدم رأسمال تأسيسي للشركات الناشئة، وغندور شريك مؤسس فيها، كما أنه شريك مؤسس ورئيس لشركات أخرى منها أرامكس وومضة كابيتال. وكان علاء قد تعرّف على غندور عندما كان الأول طالبًا متطوعًا في مؤسسة روّاد التنمية التي أسسها غندور، الذي ستستمر علاقته بجملون حتى لحظاتها الأخيرة. وقبل أن يحلّ منتصف عام 2011 حصلت جملون على دعمٍ من حاضنة الأعمال «أويسس 500»،[1] إذ قدمت لها تمويلًا صغيرًا قيمته حوالي 30 ألف دولار، بالإضافة إلى مكتب مجاني لمدة عام في مجمع الحسين للأعمال.

في البداية، كانت طلبات الكتب محلية ومحدودة، يقول عامر إنهم بدأوا الترويج لجملون عبر صفحات الأصدقاء: «وواحد من الشباب على الفيسبوك دعمنا ببوست، وقتها إجا أول طلب عن طريق هاي الصفحة»، من هنا انتبه الأخوة إلى أهمية التسويق، ليس من أجل جذب الزبائن فحسب، وإنما المستثمرين كذلك. ومنذ العام الأول قُدمت جملون باعتبارها أكبر متجر كتب عربي.

لم ينتهِ عام 2011 إلا وجملون قد حصلت على جولة استثمار «ملائكي»[2] بقيمة 400 ألف دولار. يقول سليمان العساف، أحد المستثمرين والمساهمين في جملون لأربع سنوات عبر شركته منافع الاستثمار للبرمجيات الإلكترونية، إنه التقى بعلاء عام 2011 طارحًا عليه فكرة الاستثمار في جملون: «أعجبْني شغفه وإيمانه في الفكرة». مضيفًا أن هدف المستثمر الملاك هو مساعدة روّاد الأعمال عبر رأسمال مخاطر؛ بدون ضمانات على نجاح الشركة أو تحقيق الأرباح، وإن كان يهدف إلى الربح مستقبلًا: «أنا مش جمعية خيرية، توقعت من الشركة تكون أمازون الشرق الأوسط».

علاء السلال في مكتب جملون عام 2013. عن موقع Morocco News.

مكّنت هذه الجولة جملون من الانتقال إلى مكتبٍ ومخزن كتب صغير نسبيًا في جبل اللويبدة في عمّان، وزيادة عدد الموظفين ودور النشر التي تتعامل معها، كما حصلت في عامها الثاني على طلباتٍ من دول الخليج، وجعلت شحن الكتب مجانيًا داخل الأردن تحفيزًا للقراء وتوسيعًا لقاعدة الزبائن، فضلًا عن زيادة عدد العناوين على الموقع إذ أعلنت جملون في عامها الثالث عن احتوائها على تسعة ملايين عنوان.

يُذكر أن جملون كثيرًا ما كانت تجمع من دور النشر معلوماتٍ عن كلّ إصداراتها من الكتب وترفعها على الموقع، أي أن وجود الكتاب على الموقع لا يعني بالضرورة وجوده ورقيًا في مخازن جملون، وأحيانًا قد لا يكون متوفرًا حتى لدى دور النشر نفسها إذا كانت قد توقفت عن طباعته. بالمقابل، كانت جملون تشتري كميات كبيرة من الكتب حديثة النشر التي يُتوقع لها انتشار كبير، ما مكّن قراءها من الحصول على نسخ منها بفترة قصيرة.

في 2014 بدأ توسع جملون خارجيًا بعد اتفاقها مع بعض الناشرين العرب على الشراء منهم عبر حسابات ذممٍ شهرية؛ بحيث تسدّد ما عليها من مطالبات مالية خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر بحدّ أقصى. لكن التوصيل والشحن الدولي شكل تحديًا رئيسيًا لها نظرًا لارتفاع أسعاره. وقد أشار موظفون سابقون في جملون -فضّلوا عدم نشر أسمائهم-[3] إلى إشكالية أخرى تتعلق بالشحن هي البيانات الخاطئة عن أوزان الكتب على الموقع، «يعني ممكن يكون وزن الكتاب خمسة كيلو، بتلاقيه على الموقع نص كيلو، فالسيستم بحسب تكلفة الشحن للزبون أقل من اللي بندفعها لأرامكس»، يقول أحد الموظفين، مضيفًا أن «الإدارة يحكوا معلش، صحة على قلب اللي أخذ شحن رخيص». أما عامر السلال فيقول إن أسعار الشحن «كانت من الشغلات اللي كتير مؤلمة، بس ما بنقدرش نوقفها»، في إشارة إلى أهمية الشحن الدولي بالنسبة لجملون للوصول إلى السوق الخليجي.

حدثت لجملون نقلة نوعية في آب 2015، وذلك عندما حصلت على استثمار كبير (Series A) بقيمة 3.7 مليون دولار من شركتي أرامكس وومضة كابيتال؛ أسس فادي غندور الأولى ويرأس الثانية، وبلغت حصة أرامكس من هذا التمويل مليون دولار كاستثمارٍ عينيّ عبر تقديم خدمات الشحن والتوصيل. وبحسب تصريحٍ لـ«حبر» من المكتب الإعلامي لومضة كابيتال فإن الشركة حرصت على الاستثمار في جملون في مراحل مبكرة جدًا إدراكًا منهم لواقع الكتب العربية وعدم وجود مصادر كافية في الأسواق المحلية لتلبية طلب القراء العرب، وكانت جملون في نظرهم من أوائل الشركات التي توصّلت لحل هذه الإشكالية من خلال توفير حلفة وصلٍ بين دور النشر والمشترين.

علاء السلال وفريق جملون في معرض عمان للكتاب 2016. عن موقع Entrepreneur.

بعد هذا التمويل، أعلنت جملون عن حملة شحن مجاني لكل أنحاء العالم،[4] استمرّت لعامين تقريبًا. يصف عامر حجم النمو في المبيعات حينها بالخرافي «لمرحلة إنه نحن مش قادرين نسيطر ع الطلبات اللي بتيجي، بنحكي عن أكثر من خمس أضعاف عدد الطلبات اللي كنا نطلعها». لكن هذا النمو لم ينعكس أرباحًا، بل استمرت الخسائر بسبب تحمّل جملون تكاليفَ الشحن المرتفعة، «بغض النظر قديش عم نخسر فلوس، بس إحنا عنا مهمة واضحة (..) بدنا نكبّر قاعدة الزباين، المهم جملون يكون رقم واحد في موضوع الكتب»، يقول عامر.

يتوافق كلام عامر مع بيان أصدرته جملون مؤخرًا على موقعها، قالت فيه إن الشركة تحمّلت نسبة كبيرة من تكاليف الشحن لتزيد المبيعات من الكتب، وتنخفض بالتالي تكلفة الشحن أملًا بالوصول إلى نقطة تعادل بحيث تصبح تكلفة الشحن مقارنة مع تكلفة الكتاب نسبة مقدورًا عليها بالنسبة للقارئ العربي. مضيفة أن نموذج العمل هذا كلفها ملايين الدولارات من الاستثمارات والجهود التسويقية والعملياتية.

في 2016، تسلّم عامر إدارة الشركة من الأردن، فيما أدار علاء عمليات الشركة من مكتب استأجره في دبي، وهناك استخدم من تمويل ومضة كابيتال ما لا يقل عن نصف مليون دولار -بحسب تقديرات موظفين سابقين- لتأسيس مطبعةٍ تطبع الكتب فوريًا عند طلبها من الزبائن (print-on-demand)، وذلك من أجل تقليل الاعتماد على تخزين الكتب وشحنها دوليًا، واختار جبل علي في الإمارات مكانًا لها نظرًا للدعم المتوفر للمناطق الحرة فيها ولأن تكلفة الشحن منها إلى أي دولة عربية كانت الأمثل كما يصف بيان الشركة.

الانحدار وصولًا إلى التصفية 

من خلال متابعة حملات جملون الإعلانية، وأخبارها على الإنترنت، يمكن الوصول إلى نتيجة مفادها سعي الشركة المستمر لتقديم نفسها باستخدام صيغ التفضيل؛ مثل «أكبر متجر عربي إلكتروني»، و«أكثر من تسعة ملايين كتاب»، وغيرها. ترافق هذا السعي مع توسّع مستمر، فزاد عدد الموظفين تدريجيًا من 25 موظفًا في 2015 إلى 85 في 2018، وانتقلت الشركة في 2017 إلى مكاتب أوسع في منطقة المقابلين في عمّان مع مخزن كتب أكبر. كما استطاعت جملون خلال سنوات قليلة بناء علاقات موسّعة مع دور النشر في لبنان ومصر ودول الخليج، وزاد سحبها من الكتب تدريجيًا، فيما توسّعت منذ 2014 قاعدة زبائنها في الخليج حتى صارت مبيعات السعودية تشكل حوالي 80% من مجمل المبيعات، بحسب تقديرات موظفين سابقين.

يرى المستثمر سليمان العساف أن الأفكار الشبيهة لجملون قد لا تكون مربحة، لكن احتمالية شرائها من شركة كبُرى مرتفع ومجدٍ، مضيفًا أنه نصح جملون بالتواؤم مع معايير شركة أمازون استعدادًا لقدومها للمنطقة. وقد كان متداولًا منذ 2015 أن أمازون تسعى للاستحواذ على متجر إلكتروني في الشرق الأوسط. ويؤكد عامر سعيهم للتوسع من أجل جذب مشترٍ كبير كأمازون.

في تشرين الثاني 2016 كانت جملون قد اقتربت خطوات من الاستحواذ عليها، إذ حصل علاء على فرصة تقديم جملون لمؤسس أمازون جيف بيزوس، وكان قد أخبر الموظفين بأمله في بيع جملون بعد الاجتماع. كانت المنافسة مشتعلة آنذاك بين جملون وموقع سوق.كوم. وفي آذار 2017 استحوذت أمازون على موقع سوق.

أصابت إدارةَ جملون والمستثمرين فيها خيبةُ أمل، وبحسب بيان الشركة الأخير فقد زاد الاستحواذ على موقع سوق الصعوبات التي واجهتها جملون في جذب المزيد من الاستثمارات، لكن ظل لدى المؤسسين والمستثمرين أمل في جذب أمازون إليهم مرة أخرى بعد أن تستقر في المنطقة.

سعيًا وراء هذا الأمل، اتخذت جملون مسارًا مختلفًا، إذ قرر علاء في 2017 الحصول من معرض جدة الدولي للكتاب على 25-30 ألف كتاب دفعة واحدة بخصوماتٍ وبرسم البيع، ملأ بها مخازن جملون المستأجرة من أرامكس في السعودية.[5] دار حينها جدال بين علاء وشقيقه عامر الذي كان مسؤول المبيعات آنذاك، إذ حاول الأخير إقناع الأول بالاكتفاء بجلب الكتب من دور النشر المشهورة فقط لأن مبيعاتها ستكون أكبر، فيما رأى علاء أنه يمكن عبر التسويق بيع كل الكتب التي حصلوا عليها من أغلب دور النشر المشاركة.  

جناح جملون في معرض الرياض الدولي 2019. عن صفحة جملون على فيسبوك.

هكذا بدأت جملون بالتحول من العمل وفقًا للطلب المضمون على الكتب، إلى شراء كميات كبيرة منها بغض النظر عن رواجها، ووضعها في مخازنها في السعودية والإمارات ولبنان. لكن هذه السحوبات الكبيرة أحدثت تعقيدات في علاقة جملون مع الناشرين، فبعد التزامها بتسديد المطالبات المالية بحقها خلال شهرين أو ثلاثة بحسب الاتفاق مع دور النشر، صارت تتأخر في السداد إلى ما يزيد عن ستة أشهر، خصوصًا في حالات الشحن الدولي. ويقول موظفون سابقون إن نفقات الشركة خلال تلك الفترة كانت مرتفعة جدًا من نواحي التسويق والشحن المجاني وأعداد الموظفين والكتب المكدّسة في المخازن، «بـ2018 بلشت دور النشر تضجر، كان علينا مطالبات مالية كبيرة»، يقول موظف سابق.

لكن الحال انقلب في آذار 2019، أو هكذا بدا الأمر: جملون تحصل على أكبر جولة استثمارية في تاريخها (Series B) بقيمة 10 ملايين دولار من قبل عدد من المستثمرين في مقدمتهم ومضة كابيتال، ثم أرامكس، وغيرها،[6] على أن تحصل جملون على خمسة ملايين في المرحلة الأولى من الاستثمار، تليها خمسة أخرى تتلقاها بعد أقل من عام.

بعد تلقي الدفعة الأولى، سدّدت جملون ديونها لدور النشر، ثم أعلنت عن إنشاء موقع إلكتروني وتطبيق جديدين باسم جملون إكسبرس من أجل خدمة الزبائن في السعودية. رأى بعض الموظفين في ذلك إهدارًا للاستثمار، لكن جملون، بحسب عامر، كانت تستهدف تخفيف نفقات الشحن الدولي، حيث أن الكتب المتوفرة على جملون إكسبرس هي فقط تلك الموجودة في مخازن السعودية، «كان اللي بنطلب من إكسبرس بطلع شحن بنفس اليوم وتاني يوم بيوصلك»، يقول عامر.

وبعد مضيّ سبعة أشهر على الدفعة الأولى، وقبل انتهاء المدة المحددة لتلقي الدفعة الثانية، أخبر علاء المستثمرين أن الملايين الخمسة الأولى أُنفقت على المزيد من التوسع وتسديد الديون ومصاريف الشركة المرتفعة، طالبًا منهم الملايين الخمسة المتبقية، لكن المستثمرين تفاجأوا بإنفاق جملون للدفعة الأولى بهذه السرعة، فامتنعوا عن تقديم الدفعة الثانية.[7]

في تصريحها لـ«حبر»، تقول ومضة كابيتال إن جملون شهدت في 2019 بوادر إيجابية تشير إلى قدرتها على تحقيق الربحية وإن كان ببطء، لكنها احتاجت مزيدًا من التمويل للقيام بذلك، وبذلت جهودًا حثيثة للعثور على شركاء استراتيجيين مهتمين بالعمل في مجال النشر وبيع الكتب في السعودية، لكن هذه الجهود باءت في الفشل لسبب أو لآخر.

أما جملون فرمتْ بالكرة إلى ملعب المستثمرين قائلةً في بيانها أن نظرة الشركات الاستثمارية للشركات الناشئة في العالم تغيرت في النصف الثاني من 2019، وأصبحت تطالبها بنماذج عمل ربحية، ما أثّر على جذب الاستثمارات للشركات الناشئة، ودفع جملون لاتخاذ إجراءات تصحيحية لتقليل خسائرها وتسريع التوجه نحو الربحية. 

بعد توقف الاستثمار في جملون، بدأت ديونها بالتراكم مجددًا، ولم ينفع معها تقليص النفقات. استقبلت الإدارة الجديدة اتصالات يومية من ناشرين يطالبون بأموالهم. 

مع أواخر 2019 طلب مجلس إدارة جملون[8] إغلاق مكتب الشركة في دبي بسبب تكلفته العالية بحسب عامر، الذي تقدم باستقالته من الشركة مطلع عام 2020، تبعه في ذلك شقيقه محمد الذي كان مسؤولًا عن قسم تطوير البرمجيات. تزامن هذا مع جائحة كورونا وما رافقها من حظر وإغلاق للمطارات، ما زاد من الصعوبات التي واجهت جملون، «حيث أصبح توريد الكتب أبطأ، وتكاليف الشحن ارتفعت أكثر، هذه العوامل حالت دون إمكانية حصولنا على تمويل إضافي (..) ما اضطرنا إلى إعادة هيكلة الشركة»، بحسب بيان جملون.

وهو ما حصل بالفعل في شباط 2021، إذ تغيّرت إدارة جملون بعد استقالة علاء هذه المرة، مع احتفاظه بما لا يقل عن 50% من حصص الشركة، لتنتقل الإدارة إلى هيئة مديرين؛ رئيسها قادمٌ من ومضة كابيتال، ونائبه موظف في جملون. تلا ذلك تخفيض النفقات عبر إجراءات منها تقليل عدد الموظفين من 85 إلى 11، وتخفيض الإنفاق على التسويق، وانتقال الشركة إلى أحد مكاتب أرامكس تخفيفًا من تكاليف الإيجار، وبيع الأثاث الزائد عن الحاجة، بالإضافة إلى تخفيض تكاليف التخزين عبر الانتقال إلى مستودعات أقل تكلفة، فضلًا عن تخفيض خدمات تخزين بيانات الموقع في سيرفرات أمازون.

أما مشروع الطباعة عند الطلب في دبي، فكانت جملون قد وقّعت اتفاقيات مع شركات عالمية في هذا المجال، لكن لم يلاحظ الموظفون أي مؤشرات تدل على نجاحه، وأوضح بعضهم أن كلفة تشغيل الطابعة وصيانتها كانت مرتفعة جدًا بالمقارنة مع حجم مبيعاتها. ليس واضحًا بدقةٍ ما حلّ بالطابعة اليوم، وإن كانت جملون أشارت إلى إخفاق المشروع، ملقيةً باللائمة على سوق النشر في ذلك، إذ قالت في بيانها إن العقبة التي واجهتها «هي عدم نضوج سوق النشر في العالم العربي للتأقلم مع نموذج العمل هذا، حيث أغلب دور النشر العربية ما زالت حتى الآن تنتهج الطباعة التقليدية للكتب، مع قلة الاستثمارات في هذا القطاع وقلة عدد العقود التي حصلنا عليها من دور النشر في هذا المجال»، مضيفةً أنها لم تتمكن من توفير هذا الحل في بقية الدول العربية، لتكلفته التي تصل إلى مليون دولار لكل دولة.

بعد توقف الاستثمار في جملون، بدأت ديونها بالتراكم مجددًا، ولم ينفع معها تقليص النفقات. استقبلت الإدارة الجديدة اتصالات يومية من ناشرين يطالبون بأموالهم. من بين هؤلاء دار مُلهمون للتوزيع والنشر في الإمارات، والتي بدأت تعاملها مع جملون منذ 2017/2018 بناء على اتفاق يقضي بدفع الذمم المستحقة على جملون كل ثلاثة أشهر. يقول مدير الدار محمد قنديل إن جملون استمرّت بالسداد حتى 2020 عندما توقفت عن الدفع لحوالي ثمانية أشهر، ثم وصلهم إيميل من جملون في آذار 2021 مضمونه أن الشركة تمر بأزمة اقتصادية تمنعها من دفع المطالبة المالية، وهي بحسب تقديرات قنديل تتراوح بين 3-4 آلاف دولار.

عرضت جملون على بعض الناشرين تسوية مطالباتهم المالية مقابل إرجاع كتبهم، وقد رفض بعضهم ذلك معترضين على الضرر الذي أصابهم بسبب احتفاظ جملون بكتبهم لمدةٍ تتجاوز السنتين أحيانًا، فضلًا عن ارتفاع أعداد الكتب المسترجعة[9]. لكن ناشرين آخرين وافقوا على التسوية، ومن بينهم الناشر الأردني محمد صافي، مدير مركز الكتاب الأكاديمي، الذي كانت لديه مطالبة بقيمة ستة آلاف دولار، فاسترجع جزءًا من كتبه لدى جملون، وحصل كذلك على أجهزة كمبيوتر كانت الشركة تعرضها للبيع. ينسحب الأمر تقريبًا على دار رسلان للطباعة والنشر والتوزيع في سوريا، إذ سبق وزوّدت جملون عام 2016 بكتبٍ قيمتها بعد الخصم حوالي خمسة آلاف دولار على أساس تسديد ثمنها خلال عام واحد، لكن الدار حتى أيلول الماضي لم تستلم مستحقاتها، فوافقت عندئذ على استرجاع ما قيمته ألفي دولار من كتبها، وأوكلت محاميًا لتحصيل باقي مطالباتها، بحسب مدير الدار رسلان علاء الدين.

كانت معظم دور النشر بين 2020 و2021 قد توقفت تباعًا عن تزويد جملون بكتب جديدة، فيما استمرّت عمليات الشراء الإلكترونية عبر الموقع حيث تظهر الكتب متوفرة عليه، لكن دون تلبية هذه الطلبات: «حدا بشتري من الموقع، ما بيوصله الطلب، لإنه ما في دور نشر عم تعطي كتب، فالمصاري هاي بتنعطى فيها رواتب للموظفين»، يقول أحد الموظفين السابقين.

قبل أشهرٍ من الآن أغلقت أمازون، التي تزود الموقع بخدمة الاستضافة (hosting)، موقع جملون لأنه ترتّب عليها مبلغ خمسة آلاف دولار تقريبًا. وفي أواسط 2022 اجتمع فادي غندور، رئيس ومضة كابيتال، مع من تبقى من الموظفين، ثم أخبرهم أن الشركة ستغلق مكاتبها. وقد استحوذت أرامكس على الكتب الموجودة بمخازن جملون في دبي والسعودية.[10]

حاول نائب رئيس هيئة المديرين في جملون إقناع غندور بضخ مبلغ مالي لتسديد ديون الشركة وإنعاشها من جديد، لكنه لم يوافق على ذلك، بحسب شهادة موظفين. وهو ما ينسجم مع تصريح ومضة كابيتال لـ«حبر» الذي قالت فيه إن جائحة كورونا وما ترتب عليها من إغلاقات وتوقفٍ للأعمال تسبب بـ«تعطّل نموذج جملون بأكمله»، وأن جملون لم تتمكن من جمع التمويل وخفض التكاليف بسرعة كافية، «ولم يرغب المستثمرون القدامى في الاستثمار أكثر، ولم يُبدِ أي مستثمر جديد استعداده للاستثمار، لذلك للأسف كان على الشركة إيقاف عملياتها».

وتؤكد جملون ذلك بالقول إن المشاكل استمرت رغم إعادة هيكلة الشركة، وأن جهودها للتحالف مع شركاء لضمان استمرار الشركة لم تؤت أي نتائج، وحيث لم تتمكن من الحصول على التمويل اللازم للاستمرار، فقد توقفت عمليات الشركة في آذار 2022.

يدافع موظف سابق في جملون عنها، قائلًا إن اتخاذها قرارات توسعية أكثر من اللازم هو -برأيه- شأن دفع به المستثمرون بهدف بيع جملون لأمازون، وأن تأثيرهم هو ما دفع لاتخاذ قراراتٍ إدارية أدّت إلى إغلاق الشركة، مضيفًا أنه يعرف أن علاء لم يؤسس جملون بهدف بيعها، لكنه تأثر بأهداف المستثمرين كما يقول.

تقول جملون في بيانها إنه لم تُوزّع أي أرباحٍ طيلة فترة عملها، «حيث أن الشركة كانت تستثمر كل العوائد المالية في دعم نموذج عمل الشركة وبنيتها التحتية حتى تصل لنقطة التعادل التي اقتربنا منها لكنها لم تتحقق».

مع أن جملون ما تزال حتى اليوم شركةً قائمة بحسب دائرة مراقبة الشركات، لكن ومضة كابيتال تؤكد لـ«حبر» أنه يجري حاليًا تصفية الشركة، والتواصل مع جميع المورّدين، أو سيتمّ التواصل معهم، لإيجاد الطرق المناسبة لإدارة الديون. أما بالنسبة للعملاء الذين دفعوا ثمن كتب ولم تصلهم فستردّ إليهم المبالغ المدفوعة بحسب الآلية المبيّنة في الموقع الإلكتروني للشركة. علمًا بأن هذه الآلية ليست موضحةً فعلًا على الموقع الذي لا يظهر عليه اليوم إلا بيان يدعو العملاء للتواصل مع جملون إذا كان لديهم أية «استفسارات».

  • الهوامش

    [1] أويسس 500 هي مسرّعة أعمال تأسست في الأردن عام 2010، أطلقت أول صندوق استثماري لها بقيمة 8 ملايين دولار باسم «صندوق الواحة للمشاريع الأولى»، تستثمر في الشركات الناشئة عبر توفير التمويل والإشراف التقني والتوجيه وبناء العلاقات والخدمات الإدارية بما في ذلك المساحات المكتبية والمحاسبة والدعم القانوني.

    [2] بعد حصول جملون على هذا التمويل الملائكي، أضيفت الأسماء التالية إلى الشركاء المساهمين في جملون، بحسب دائرة مراقبة الشركات: فادي غندور، طارق محمد خليل الحموري (وزير الصناعة والتجارة لاحقًا)، شركة منافع الاستثمار للبرمجيات الإلكترونية، شركة رنوة للتكنولوجيا، سمر أديب حبايب، وشركة الواحة للمشاريع الأولى (علما بأن شركة مينا فنتشرز وشركة تطوير المشاريع الريادية والاستثمارية «أويسس 500» من بين المساهمين في شركة الواحة).

    [3] لغايات إعداد هذا التقرير قابلنا عددًا من الموظفين السابقين في جملون، لكنهم فضلوا عدم نشر أسمائهم.

    [4] للكتب التي يزيد سعرها عن 20 دولارا.

    [5] بحسب موظفين فقد بدأت جملون باستئجار مخازنها في دبي وبيروت ولندن منذ 2015/2016. ويقول عامر السلال أنهم في 2018 استأجروا أكبر مستودعاتهم للكتب في السعودية.

    [6] من بين المستثمرين الجدد في هذه الجولة شركات أنوفا إنفستمنتس، و500 فالكونز، وبوسانوفا إنفستمنت، وإنديفور كاتاليست.

    [7] بحسب شهادات متطابقة لعدد من الموظفين السابقين في جملون.

    [8] بحسب عامر السلال، كان مجلس إدارة جملون يضم في 2019 عددًا من المقاعد للمستثمرين في الشركة من بينهم ومضة كابيتال وأرامكس وأنوفا إنفستمتس وغيرهم.

    [9] كان الاتفاق الاعتيادي بين جملون وبعض دور النشر يقضي بأن لا تزيد الكتب المرتجعة إلى الدور عن 25% من الكتب التي زودوا جملون بها. لكن التسوية كانت تقتضي إعادة كتب تتجاوز هذه النسبة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية